التفاسير

< >
عرض

فَسِيحُواْ فِي ٱلأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي ٱللَّهِ وَأَنَّ ٱللَّهَ مُخْزِي ٱلْكَافِرِينَ
٢
-التوبة

تيسير التفسير

{ فَسِيحُوا فِى الأَرْضِ } قل لهم: سيحوا. والأَولى أَن يحكى مع ما بعده ببراءَة لأَن فيها معنى القول، وأَصل السيح جريان الماءِ وانبساطه، والأَمر بالسياحة إِباحة بإِزالة الخوف من القتل والأَسر وهو فى معنى الإِطلاق بعد الحصر لأَنهم كانوا خائفين، وإِخافتهم كالمنع من السير والسياحة السير حيث شاءَ وأولوا ببعد عن العمران { أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ } تسمى أَشهر المدة فى أَمن وبعدها الحرب والقتل والأَسر والسبى إِلا إِن أَسلمتم، والمدة لأَن يتفكروا ويراعوا الأَصلح إِذا لم يبق إِلا التشديد ولئلا ينسبوا المسلمين إِلى الغدر. لو كانت البراءَة متصلة بالحرب بعدها، يتوهمون الغدر قبلها بالاستعداد، وليعلموا أَن المؤمنين غير مكترثين بهم وباستعدادهم فى الأَشهر، نزلت براءَة فى شوال وبلغت البراءَة والنقض فى اليوم العاشر من ذى الحجة وابتداء الأَشهر منه وتمامها العاشر من ربيع الثانى، فيكون سمى عدد الأَيام شهرا ولو لم تكن من شهر واحد، بعث صلى الله عليه وسلم عليا أَن يؤدى، فقيل: هلا أَمرت الصديق، وهو أَمير الحج فى ذلك العام، فقال: لا يؤدى عنى إِلا رجل منى، ويروى: لا ينبغى لأَحد أَن يبلغ هذا إِلا رجل من أَهلى، يعنى العهد ونقضه على عادة العرب لا بوحى فيهما أَن يتولاهما لرجل هو من أَهله، وأَما غيرهما فكثيرا ما يرسل صلى الله عليه وسلم فيه من ليس من أَهله، وقيل: نزلت فى عاشر ذى القعدة، وبلغت فى عاشر ذى الحجة، وابتداء الأَشهر من عاشر ذى الحجة، سافر على إِلى مكة للتبليغ على العضباءِ ناقة له صلى الله عليه وسلم، وليست عضباءَ، أَى مشقوقة الأُذن، ولكن لقبت بذلك، ولما سمع الصديق رغاءَها وقف فقال: هذا رغاء ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال لعلى: أَمير أَو مأمور، فقال: مأمور، وخطب الصديق اليوم الثامن وعلمهم المناسك.. وفيه تلويح إِلى خلافته لعظم شأن الحج، ولا سيما فى هذه الواقعة، وأَنه استخلفه صلى الله عليه وسلم فى صلوات آخر أَمره، وقال على يوم النحر عند جمرة العقبة، يا أَيها الناس، إِنى رسول رسول الله إِليكم، فقالوا: بماذا؟ فقرأَ أَربعين أَو ثلاثين آية من أَول السورة، ثم قال: أمرت بأَربع: أَلا يقرب البيت بعد هذا العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ولا يدخل الجنة إِلا كل نفس مؤمنة، وأَن يتم إلى كل ذى عهد عهده. وذكر الأَمر بالأَربع فى مكة وعرفة أَيضا بأَمره صلى الله عليه وسلم فى صوت عال، ولو بلغ عنه أَجنب لربما لم يقبلوا، ولما بلغ على قالوا: أَبلغ ابن عمك أَنا قد نبذنا العهد وراءَ ظهرنا، وأَنه ليس بيننا وبينه إِلا طعن بالرماح وضرب بالسيوف، فتح مكة عام ثمانية، وكان التبليغ عام تسعة، أَراد الحج عام تسعة، فقيل له: إِن المشركين يطوفون عراة، فأَمر الصديق على الحج، وأَلحقه عليا للتبليغ. وذكرت الفتح وسببه مبسوطا فى شرح النونية، وفى سنة تسع عاد الحج إِلى ذى الحجة بالنسئِ، وقال: أَلا إِن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق ا لله السماوات والأرض. وعاهد يوم الحديبية قريشا على وضع الحرب عشر سنين، ودخلت خزاعة فى عهده صلى الله عليه وسلم، وبنو بكر فى عهد قريش، فغدرت بنو بكر وأَعانتهم قريش بالسلاح، فقال عمرو بن سالم الخزاعى على باب المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم مع الصحابة فى المسجد:

يـا رب إِنـى ناشـــد محمـدا حلــف أَبينا وأَبيـه الأَتلــدا
قـد كنتـم ولـدا وكنـا ولـدا ثمت أَسلمنا ولم ننـزع يــدا
فانصرهداك الله نصرًا أَيـدا وادع عباد الله يأتــوا مـددا
فيهم رسول الله قـد تجـردا إِن سيم خسفا وجهه تربــدا
إِن قريشا أَخلفوك الموعدا ونقضوا ميثاقــك المؤكــــدا
وجعلوا إِلـى كـداءَ رصـدا وزعموا أَن لست أَدعو أَحدا
وهــم أَذل وأَقـــل عــــددا هــم بيتونــا بالوتيــر هجـــدا
وقتلونـا ركعــا وســجـدا

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نصرت يا عمرو بن سالم" ، وعرضت له سحابة. وقال: إِن هذه السحابة لتستهل بنصر بنى كعب، وأَمر أَن يتجهزوا لفتح مكة. وقال: "لا نصرت إِن لم أَنصرك" .. ففتح مكة فى عامه عام ثمانية، وحج فى العاشر حجة الوداع، لما قيل له عام تسع: إِن المشركين يطوفون عراة، فترك الحج إِلى العاشر، ولحق علىٌّ الصديق قريبا من المدينة، فرجع الصديق فقال: يا رسول الله بأَبى أَنت وأمى، هل نزل فىَّ شئ، قال صلى الله عليه وسلم: "لا.. ولكن لا ينبغى لأَحد أَن يبلغ هذا إِلا رجل من أَهلى، أَما ترضى أَنك معى فى الغار، وأَنك معى على الحوض" ؟ فقال: بلى.. يا رسول الله، وقيل: لحقه على فى العرج.. - بفتح فكسر - ويدل له " { فإِذا انسلخ الأَشهر الحرم } " [التوبة: 5] جعل شوالا من الحرم تغليبا - قرية جامعة بينها وبين المدينة ستة وسبعون ميلا، ويبعد أَن يرجع الصديق منها، فلعله قال: هل نزل فىَّ شئ، وبلغ على فقال: أَمرنى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأَنه من كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فهو إِلى مدته، أَى ولو كانت أَقل من أَربعة أَشهر أَو أَكثر، ومن لم يكن له عهد فأَجله أَربعة أَشهر، رواه يزيد ابن تبيع عن على، وهذا رد لقول مجاهد أَنه من كان عهده أَقل أَو أَكثر، أَو بلا مدة أَولا عهد له فأَربعة كمن له أَربعة، ويناسب قوله " { فأَتموا إِليهم عهدهم } " [التوبة: 4] والسنة أَلاَّ يجاوز المسلمون الأَربعة الأَشهر لهذه الآية، وإِذا ضعفوا فلا يجاوزوا عشرة أَعوام لقصة الحديبية، وأَجيب بأَن لهم عهدهم المذكور فى الآية، وقال الكلبى: من له أَقل من الأَربعة فأَربعة، ومن له ما فوق فله ما فوق، وقيل: ابتداء الأَشهر من شوال وآخرها آخر المحرم، ويدل له فإِذا انسلخ الأَشهر الحرم وجعل شوال من الحرم تغليبا، وقيل: من عاشر ذى القعدة فآخرها عشرة ربيع الأَول { وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِى اللهِ } غير فائتيه بعذاب الدنيا بالأَسر والقتل وغيره، ولا عذاب الآخرة، فلا تغتروا بإِمهاله ولسياحتكم واستعدادكم { وَأَنَّ اللهَ مُخْزِى الْكَافِرِينَ } مذلهم فى قلوبهم فلا يعتقدون عزة لأَنفسهم، أَو هذه فى القتل والأَسر وما قبله فى عذاب الآخرة، وأَعاد لفظ الجلالة ولم يضمر لتربية المهابة، ولم يضمر للكافرين للفاصلة، وتعليق الحكم بالكفر، وإِن أريد بالكافرين الجنس المعهودون فالإِظهار هو مقتضى الظاهر، ويدخل المعهودون بالأُولى.