التفاسير

< >
عرض

وَمِنَ ٱلأَعْرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ ٱلدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ ٱلسَّوْءِ وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
٩٨
وَمِنَ ٱلأَعْرَابِ مَن يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِندَ ٱللَّهِ وَصَلَوَاتِ ٱلرَّسُولِ أَلاۤ إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَّهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ ٱللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
٩٩
وَٱلسَّابِقُونَ ٱلأَوَّلُونَ مِنَ ٱلْمُهَاجِرِينَ وَٱلأَنْصَارِ وَٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ ٱللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً ذٰلِكَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ
١٠٠
-التوبة

تيسير التفسير

{ وَمِنَ الأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ } يعد ويصير { مَا يُنْفِقُ } يصرفه فى سبيل الله من نفقة وعلف ودابة وآلة القتال ومن زكاة وصدقة { مَغْرَماً } مصدر ميمى أَى غرماً أَى خسراناً لا يرجو له ثواباً، لأَنه لا يؤمن بالبعث، ولو آمن لم يطمئِن قلبه بالثواب لضعف إِيمانه فما ينفق إِلا رياءً أَو خوفاً من النبى صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أَن يفعلوا بهم ما يفعلون بالمشركين ويذموهم، وهم بنو أسد وغطفان وذلك فى الآية مشعر بعدم الإِيمان، فاكتفى عن ذكره وكأَنه قيل: ومن الأَعراب من لا يؤمن بالله ورسوله واليوم الآخر ويتخذ ما ينفق مغرما، وقيل مغرماً من الغرم وهو نزول نائبة بالمال من غير جناية كما قيل لكل من المتداينين غريم { وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ } المصيبات التى نحيط بالشخص ولا يجد خلاصاً عنها كموت عام وغلبة سلطان كقيصر، وهرقل. يستريحون من الإِنفاق والأَسفار فى الغزو ومن الذل والخوف { عَلَيْهِمْ دَائِرَةَ السَّوْءِ } إِخبار من الله عز وجل بأَنه يصيبهم من السوءِ ما تمنوه على المؤمنين أَو نحوه، وينجو المؤمنون منه، أَو دعاءٌ بمعنى ادعوا عليهم بذلك أَو تَمنٍّ أَى ارغبوا فى حصول ذلك عليهم والله لا يدعو، إِنما يدعو العاجز المحتاج الذى الأَمر بيد غيره والله بخلاف ذلك. والدائرة اسم فاعل تغلبت عليه الاسمية أَو مصدر بوزن فاعل أَى يتربص بكم دوران المصائِب عليكم، والدائِرة تختص بالشر فإِضافتها للسوءِ مبالغة { وَاللهُ سَمِيعٌ } بما يقولون عند الإِنفاق سراً بينهم أَو فى انفراد مثل أَن يقولوا هذه غرامة أَوردها الله إِلينا من المؤمنين { عَلِيمٌ } بما أَضمروه، أَو سميع لأَقوال الخلق عليم بما يضمرونه عموماً فيدخل فيهم هؤلاءِ أَولا، قال ابن سيرين من قرأَ: ومن الأَعراب من يتخذ إِلخ فليقرأْ معها قوله تعالى:
{ وَمِنَ الأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الاخِرِ } كمزينة وجهينة وعبدالله ذى البجادين هو من مزينة، قيل نزلت فى أَسلم وغفار وجهينة، وقيل التى قبلها فى أَسد وغطفان وبنى تميم، وهذه فى ذى البجادين، وعن مجاهدهم بنو مقرن من مزينة، وقال الكلبى: أَسلم وغفار وجهينة، وفى البخارى ومسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"أَرأَيتم إِن كان جهينة ومزينة وأَسلم وغفار خيراً من بنى تميم وبنى أَسد وبنى عبدالله بن غطفان، ومن بنى عامر بن صعصعة؟" فقال رجل: خابوا وخسروا: قال: "نعم، هم خير من بنى تميم وبنى أَسد وبنى عبدالله بن غطفان ومن بنى عامر بن صعصعة" . وفى رواية أَن الأَقرع بن حابس قال للنبى صلى الله عليه وسلم: إِنما تابعك سراق الحجيج من أَسلم وغفار ومزينة، وأَحسبه قال: وجهينة، فقال النبى صلى الله عليه وسلم: "أَرأَيت إِن كان أَسلم وغفار ومزينة، وأَحسبه قال: وجهينة، خيراً من بنى تميم وبنى عامر وأَسد وغطفان" ، قال: خابوا وخسروا. قال: "نعم" . وفيهما عن أَبى هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أَسلم سالمها الله، وغفار غفر الله لها" . وفى رواية لمسلم: " أَما أَنا لم أَقلها لكن الله قالها" ، وفيها عن أَبى هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:" "قريش والأَنصار وجهينة ومزينة وأَسلم وأَشجع وغفار موالى ليس لهم مولى دون الله ورسوله" { وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللهِ } أَى سبب قربات عند الله { وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ } عطف على قربات أَى وسبب صلوات الرسول أَى دعائه لهم فإِنه كان صلى الله عليه وسلم يدعو للمنفق فى سبيل الله، وللمنفق على المحتاجين أَو لبيت المال ولمؤدى الزكاة، فالدعاءُ لهؤُلاءِ سنة بعده لكن بغير مادة صلاة لأَن الدعاءَ بها لغير نبى مختص بالنبى صلى الله عليه وسلم يتفضل بها على من شاءَ كما قال: اللهم صل على آل أَبى أَوفى. ويسلم على الأَحياء الحاضرين وعلى أَهل القبور إِذا زورو، كما ورد: سلام عليكم دار قوم مؤمنين. ولا يجوز قال فلان عليه السلام ونحو هذا الإِيهام النبوة، ولا سيما أَن طائفة من الشيعة يقصدون الإِمام علياً بالنبوة، بل يدعى على الغائِب بالرضى والمغفرة ولا خلاف فى السلام على الأَنبياءِ والملائكة ولو بطريق الغيبة، وأَجازه الحنابلة على الغائب مطلقاً كالمخاطب، ويجوز السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين بلا إِشكال لوروده، وقيل: يجوز لنا أَن نصلى على غير الأَنبياء، وقيل مكروه، وقيل يجوز بالعطف اللهم صلى على سيدنا محمد وأَبى بكر، ولا خلاف فى جواز عطف الآل، وقيل تجوز على الملائِكة، وقيل لا تجوز على الأَنبياء بل تختص بالنبى صلى الله عليه وسلم. وعند نعت لقربات أَو متعلق بيتخذ أَو بقربة ومعناها التقرب وليس هنا، مفرده قربة بإِسكان الراءِ ولو أَمكن فى الجملة لأَنه ذكر بعد الغم فى قوله { أَلاَ إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَّهُمْ } بضم الراءِ ومن قرأَ بإِسكان رائِه أَمكن أَن يكون قربات جمعه اتبعت عينه فاءَه فى الضم، وأَن يكون جمع قربة بالضم وهو الأَصل لكون الضم فيه أَصلا، وأَكد الله تقربهم بأَلا الاستفتاحية وأَن والجملة الاسمية التى الخبر فيها غير وصف ولا فعلى، وأَما زيد قام فلا فرق بينه وبين قام زيد فى عدم التأَكيد فلا تهم، قال صلى الله عليه وسلم: "اللهم صلى على آل أَبى أَوفى" ، أَخرجه أَصحاب السنن غير الترمذى، وأَبو أَوفى هو عقبة الأَسلمى من أَصحاب بيعة الرضوان وهو آخر، وفى رواية نسبت للبخارى ومسلم وأَبى داود عن عبد الله بن أَبى أَوفى قال: كان أَبى من أَصحاب الشجرة وكان النبى صلى الله عليه وسلم إِذا أَتاه قوم بصدقتهم، قال: "اللهم صَلِّ على آل فلان" فأَتاه أَبى بصدقته، فقال: " اللهم صلى على آل أَبى أَوفى" . وفى الكلام حذف تقديره أَلا إِنها قربة لهم، وصلاة الرسول، يدل عليه وصلوات الرسول والضمير فى أَنها عائِد إِلى ما لأَنه تضمن معنى نفقات أَو كأَنه قيل: يتخذ النفقات التى ينفق. أَو إِلى النفقة المعلومة من ينفق، وقيل الضمير للقربات وقيل للصلوات وذلك تصديق لرجائِهم وبينه بقوله { سَيُدْخِلُهُمُ اللهُ فِى رَحْمَتِهِ } فى موضع رحمته التامة الدائِمة، وقرر ذلك بقوله { إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } لهم، أَو المراد العموم فيدخلون أَولا وبالذات، ومنهم عبدالله ذو البجادين ـ بكسر الباءِ ـ لقب به لأَنه قطعت أُمه بجادا أَى ثوبا فاتزر بنصف وارتدى بنصف ومات فى عصره صلى الله عليه وسلم ودفنه بنفسه، وقال: اللهم إِنى أَمسيت راضيا عنه فارض عنه، فقال عبدالله بن مسعود رضى الله عنه ليتنى كنت صاحب الحفيرة، ولما بين فضيلة طائِفة من المؤمنين وثوابهم بين فضائِل أَشراف المسلمين الذين فوقهم بقوله:
{ وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَّضِىَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } السابقون مبتدأٌ خبره رضى الله عنهم، وهو إِخبار لا دعاءٌ لأَن الله لا يدعو كما أَن رضوا عنه إِخبار لا دعاءٌ فلا تهم، وليس تعليما للدعاءِ على معنى قولوا رضى الله عنهم على الدعاءِ، لأَنه خلاف الأَصل بلا داع إِليه ولأَنه لا يليق برضوا عنه. أَو الخبر هو الأَولون ورضى إِلخ مستأْنف، أَو خبر ثان أَو الخبر من المهاجرين، ورضى إِلخ خبر ثان مستأْنف، والمراد السابقون إِلى الجنة العالون درجة هم الأَولون فى الهجرة أو فى الإسلام، لأَن فى الأَنصار مؤمنين بالنبى صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة، وهذا على أَن الأَولون خبر، وإِما على أَن الخبر من المهاجرين وأَن السابقين بعض المهاجرين والأَنصار والبعض الآخر سابقون بالنسبة إِلى من بعدهم، وبعض الأَنصار أَيضا سبق بعضا فى النصرة والباقون تابعون بإِحسان إِلى قيام الساعة، أَو السابقون من صلوا إِلى الكعبة وبيت المقدس، فإِما على أَنه صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة يجعل الكعبة بينه وبين المقدس فقد وحدوا قبل الهجرة، وإِما أَنه أُريد من صلى إِلى القدس بعد الهجرة ثم نسخ بالكعبة ستة عشر شهرا فيكونون أَولين بالنسبة لمن بعد، أَو السابقون أَهل بدر سبقوا فى الفضل أَو من شهدوا بيعة الرضوان، والذين اتبعوهم بإِحسان على العموم، وبيعة الرضوان كانت بالحديبية. وقيل الصحابة، وعن محمد بن كعب القرظى هم جميع الصحابة، غفر الله لمحسنهم ومسيئِهم وأَول من أَسلم خديجة، وبعدها على وهو ابن ثمانى سنين أَو عشر. وعن إِسلام الصغير إِذعانه أَو كان التكليف بالتمييز، ثم نسخ بالبلوغ، أَو هو بالغ حينئذ والصحيح الأَول، وقال ابن عباس بعدها الصديق، وعن عروة بعدها زيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويجمع بأَن أَول من أَسلم من النساءِ خديجة ومن الرجال الصديق ومن الأَطفال على ومن الموالى زيد، وأَسلم على يد الصديق عثمان والزبير وعبد الرحمن ابن عوف وسعد بن أَبى وقاص وطلحة بن عبيد الله، وفى الأَنصار مراتب ثلاث: أَهل بيعة العقبة الأُولى وكانوا سبعة، سعد بن زرارة وعوف بن مالك ورافع بن مالك بن العجلان وخطبة بن عامر وجابر ابن عبدالله بن رباب، وأَهل العقبة الثانية وكانوا اثنى عشر، وأَهل العقبة الثالثة، وكانوا سبعين رجلا وامرأَتين ومنهم البراءُ بن معرور وعبدالله بن عمرو بن حرام أَبو جابر وسعد بن عبادة وسعد بن الربيع وعبدالله بن رواحة، وأَما الذين أَسلموا حين جاءَهم منه صلى الله عليه وسلم أَبو زرارة مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف فجاء مع أَهل العقبة الثانية يقرئُهم القرآن ويفقههم فى الدين، ورضى الله قبول طاعتهم، ورضاهم عنه عبادتهم أَو فرحهم بما نالوا من خير الدارين، ومعنى تحتها ومن تحتها واحد، فإِن الماء الآتى إِلى جنتهم يجرى تحتها ويجرى من تحتها إِلى ما بعدها، ويجوز أَن يكون الأَكثر ينبع من تحتها ويجرى لما بعدها، والأَقل يجرى تحتها آتيا مما قبلها ولذلك كان مرة واحدة فى القرآن والعلم عند الله عز وجل، ولكل واحد من أَهل الجنة النوعان معا، وخص بتسميتهم الأَوس والخروج ومن معهم أَنصار مع اَن المهاجرين أَيضا نصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم لأَنهم لما هاجروا نصروهم، فيسمى كل بما عامل به أَخاه، هاجروا إِلى أَهل المدينة ونصرهم أَهل المدينة، وروى أَنه صلى الله عليه وسلم قسم فىءَ حنين فى أَهل مكة من قريش وغيرهم فغضب الأَنصار فقال لهم كما مر:
"إِنما أَعطيتهم لأُؤَلفهم يا معشر الأَنصار، أَلم يمن الله عليكم بالإِسلام وسماكم أَنصار الله وأَنصار رسوله، ولولا الهجرة لكنت امرءا من الأَنصار، ولو سلك الناس واديا غير واديكم لسلكت واديكم، يذهب الناس بالشاة والبعير وتذهبون برسول الله" ، فقالوا: رضينا يا رسول الله، قال: "أَجيبوا كلامى هذا" . فقالوا: أَخرجنا الله بك من الظلمة إِلى النور، وأَنقذتنا من شفا حفرة من النار وهديتنا من ضلال، رضينا بالله ربا وبالإِسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا، فقال: "لو قلتم: طردت فآويناك، وكذبت فصدقناك، وخذلت فنصرناك لصدقتم" . فقالوا: لله ورسوله المنة علينا. والآية كلها فى الصحابة. ولا يصح ما قيل إِن الذين اتبعوهم بإِحسان، هم التابعون الذين هم غير صحابة فى زمانه وبعده، لأَن غير الصحابى لا يساوى الصحابى ولا يزيد عليه، وجاءَ فى الأَثر عنه صلى الله عليه وسلم تفضيل من تمسك بدينه فى آخر الزمان على الصحابة، لأَنه لا يجد على الخير أَعوانا، وأَما حديث "لا تسيئُوا أَصحابى، فلو أَن أَحدكم أَنفق مثل أُحد ذهبا ما بلغ مد أَحدهم ولا نصيفه" ، فلا دليل فيه لأَنه فى منافقين مع الصحابة أَو فى صحابة مع الصحابة الكبار. وأَما قوله: أُمتى كالمطر لا يدرى أَوله خير أَو آخره فمحمول على الأَولين بعد الصحابة، وقيل مبالغة، وفى البخارى ومسلم عن عمران ابن حصين عنه صلى الله عليه وسلم: "خير الناس قرنى ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم" . قال عمران: لا أَدرى أَذكر بعد قرنه قرنين أَم ثلاثة، والقرن من عشر إِلى عشرين أَو من مائة إِلى مائة وعشرين.