التفاسير

< >
عرض

فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ ٱلرَّوْعُ وَجَآءَتْهُ ٱلْبُشْرَىٰ يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ
٧٤
إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ
٧٥
يَٰإِبْرَٰهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَـٰذَآ إِنَّهُ قَدْ جَآءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ
٧٦
وَلَمَّا جَآءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِيۤءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقَالَ هَـٰذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ
٧٧
وَجَآءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِن قَبْلُ كَانُواْ يَعْمَلُونَ ٱلسَّيِّئَاتِ قَالَ يٰقَوْمِ هَـٰؤُلاۤءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُواْ اللًّهَ وَلاَ تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ
٧٨
قَالُواْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ
٧٩
قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِيۤ إِلَىٰ رُكْنٍ شَدِيدٍ
٨٠
قَالُواْ يٰلُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُوۤاْ إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ ٱلْلَّيْلِ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ ٱمْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَآ أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ ٱلصُّبْحُ أَلَيْسَ ٱلصُّبْحُ بِقَرِيبٍ
٨١
فَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنْضُودٍ
٨٢
مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ ٱلظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ
٨٣
وَإِلَىٰ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يٰقَوْمِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُ وَلاَ تَنقُصُواْ ٱلْمِكْيَالَ وَٱلْمِيزَانَ إِنِّيۤ أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّيۤ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ
٨٤
وَيٰقَوْمِ أَوْفُواْ ٱلْمِكْيَالَ وَٱلْمِيزَانَ بِٱلْقِسْطِ وَلاَ تَبْخَسُواْ ٱلنَّاسَ أَشْيَآءَهُمْ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي ٱلأَرْضِ مُفْسِدِينَ
٨٥
بَقِيَّتُ ٱللَّهِ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ
٨٦
قَالُواْ يٰشُعَيْبُ أَصَلَٰوتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ ءابَاؤُنَآ أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِيۤ أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لأَنتَ ٱلْحَلِيمُ ٱلرَّشِيدُ
٨٧
قَالَ يٰقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَىٰ مَآ أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ ٱلإِصْلاَحَ مَا ٱسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِيۤ إِلاَّ بِٱللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ
٨٨
وَيٰقَوْمِ لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِيۤ أَن يُصِيبَكُم مِّثْلُ مَآ أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ
٨٩
وَٱسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوۤاْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ
٩٠
قَالُواْ يٰشُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِّمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَآ أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ
٩١
قَالَ يٰقَوْمِ أَرَهْطِيۤ أَعَزُّ عَلَيْكُم مِّنَ ٱللَّهِ وَٱتَّخَذْتُمُوهُ وَرَآءَكُمْ ظِهْرِيّاً إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ
٩٢
وَيٰقَوْمِ ٱعْمَلُواْ عَلَىٰ مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَٰمِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَٰذِبٌ وَٱرْتَقِبُوۤاْ إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ
٩٣
وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْباً وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَأَخَذَتِ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ
٩٤
كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَآ أَلاَ بُعْداً لِّمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ
٩٥
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ
٩٦
إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَٱتَّبَعُوۤاْ أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَآ أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ
٩٧
يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ ٱلنَّارَ وَبِئْسَ ٱلْوِرْدُ ٱلْمَوْرُودُ
٩٨
وَأُتْبِعُواْ فِي هَـٰذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ بِئْسَ ٱلرِّفْدُ ٱلْمَرْفُودُ
٩٩
-هود

صفوة التفاسير

المنَاسَبَة: لا تزال الآيات تتحدث عن قصة ضيوف إِبراهيم، وهم الملائكة الذين مروا عليه وهم بطريقهم لإِهلاك قوم لوط، وبشروه بالبشارة السارة بولادة غلام له، وقد ذكرت الآيات مرورهم على لوط وما حلَّ بقومه من النكال والدمار، وهي القصة الخامسة، ثم ذكرت قصة شعيب مع أهل مدين، وقصة موسى مع فرعون، وفي جميع هذه القصص عبرٌ وعظات.
اللغَة: { ٱلرَّوْعُ } الخوف والفزع { مُّنِيبٌ } الإِنابة: الرجوع والتوبة { عَصِيبٌ } شديد في الشر قال الشاعر:

وإِنك إِلاّ تُرض بكرَ بن وائلٍ يكنْ لك يومٌ بالعراق عصيب

{ يُهْرَعُونَ } يسرعون قال الفراء: الإِهراع الإِسراع مع رِعدة يقال أُهرع الرجل إهراعاً أي أسرع في رعدة من برد أو غضب { تُخْزُونِ } أخزاه: أهانه وأذله قال حسان:

فأخزاكَ ربي يا عُتَيْبَ بن مالكٍ ولقَّاك قبل الموتِ إِحدى الصَّواعق

{ سِجِّيلٍ } السّجيل والسّجين: الشديد من الحجر قاله أبو عبيدة، وقال الفراء: طينٌ طبخ حتى صار كالآجر { مَّنْضُودٍ } متتابع بعضه فوق بعض في النزول { مُّسَوَّمَةً } معلَّمة من السيما وهي العلامة { شِقَاقِيۤ } الشقاق: العداوة قال الشاعر:

ألاَ من مبلغٌ عني رسولاً فكيف وجدتم طعم الشقاق

{ رَهْطُكَ } رهط الرجل: عشيرته التي يتقوى بهم { ٱلْوِرْدُ } المدخل { ٱلرِّفْدُ } العطاء والإِعانة.
التفِسير: { فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ ٱلرَّوْعُ } أي فلما ذهب عن إبراهيم الخوفُ الذي أوجسه في نفسه، واطمأن قلبُه لضيوفه حين علم أنهم ملائكة { وَجَآءَتْهُ ٱلْبُشْرَىٰ } أي جاءته البشارة بالولد { يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ } أي أخذ يجادل ملائكتنا في شأن إهلاك قوم لوط، وغرضُه تأخير العذاب عنهم لعلهم يؤمنون قال المفسرون: لما قالت الملائكة:
{ { إِنَّا مُهْلِكُوۤ أَهْلِ هَـٰذِهِ ٱلْقَرْيَةِ } [العنكبوت: 31] قال لهم: أرأيتم إن كان فيها خمسون من المسلمين أتهلكونهم؟ قالوا: لا، قال: فأربعون؟ قالوا: لا فما زال يتنزّل معهم حتى قال لهم: أرأستم إن كان فيها رجل واحد مسلم أتهلكونهم؟ قالوا لا فقال لهم { { إِنَّ فِيهَا لُوطاً قَالُواْ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ ٱمْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ ٱلْغَابِرِينَ } [العنكبوت: 32] { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ } أي غير عجولٍ في الانتقام من المسيء إِليه { أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ } أي كثير التأوه والتأسف على الناس لرقة قلبه، منيب رجّاعٌ إِلى طاعة الله { يَٰإِبْرَٰهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَـٰذَآ } أي قالت الملائكة: يا إِبراهيم دع عنك الجدال في قوم لوط فقد نفذ القضاء بعذابهم { إِنَّهُ قَدْ جَآءَ أَمْرُ رَبَّكَ } أي جاء أمر الله بإِهلاكهم { وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ } أي نازلٌ بهم عذابٌ غير مصروفٍ عنهم ولا مدفوع { وَلَمَّا جَآءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِيۤءَ بِهِمْ } أي ولما جاءت الملائكة لوطاً أصابه سوء وضجر، لأنه ظهر أنهم من البشر فخاف عليهم من قومه { وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً } أي ضاق صدره بمجيئهم خشيةً عليهم من قومه الأشرار { وَقَالَ هَـٰذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ } أي شديد في الشر { وَجَآءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ } أي جاء قومه يسرعون إِليه لطلب الفاحشة بالضيوف كأنهم يدفعون إِلى ذلك دفعاً { وَمِن قَبْلُ كَانُواْ يَعْمَلُونَ ٱلسَّيِّئَاتِ } أي ومن قبل ذلك الحين كانت عادتهم إِتيان الرجال وعمل الفاحشة فلذلك لم يستحيوا حين جاءوا يهرعون لها مجاهرين قال القرطبي: وكان سبب إِسراعهم أن امرأة لوط الكافرة لما رأت الأضياف وجمالهم، خرجت حتى أتت مجلس قومها فقالت لهم: إِن لوطاً قد أضاف الليلة فتيةً ما رأيت مثلهم جمالاً فحينئذٍ جاءوا يُهرعون إِليه { قَالَ يٰقَوْمِ هَـٰؤُلاۤءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ } أي قال لهم لوط: هؤلاء نساء البلدة أُزوِّجكم بهن فذلك أطهر لكم وأفضل، وإِنما قال بناتي لأن كل نبيٍّ أبٌ لأمته في الشفقة والتربية { فَاتَّقُواْ اللًّهَ وَلاَ تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي } أي اخشوا عذاب الله ولا تفضحوني وتهينوني في ضيوفي { أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ } أي استفهام توبيخ أي أليس فيكم رجل عاقل يمنع عن القبيح؟ { قَالُواْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ } أي قال له قومه: لقد علمت يا لوط ما لنا في النساء من أرب. وليس لنا رغبة فيهن { وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ } أي وأنت تعلم غرضنا وهو إِتيان الذكور، صرّحوا له بغرضهم الخبيث قبّحهم الله { قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً } أي لو كان لي قوة أستطيع أن أدفع أذاكم بها { أَوْ آوِيۤ إِلَىٰ رُكْنٍ شَدِيدٍ } أي ألجأ إِلى عشيرة وأنصار تنصرني عليكم، وجواب "لو" محذوف تقديره لبطشتُ بكم وفي الحديث "رحم الله أخي لوطاً لقد كان يأوي إِلى ركنٍ شديد" يريد صلى الله عليه وسلم أن الله كان ناصره ومؤيده، فهو ركنه الشديد وسنده القوي قال قتادة: وذُكر لنا أن الله تعالى لم يبعث نبياً بعد لوط إِلا في منعة من عشيرته، وحين سمع رسل الله تعالى تحسر لوط على ضعفه وانقطاعه من الأنصار { قَالُواْ يٰلُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُوۤاْ إِلَيْكَ } أي قالت الملائكة للوط: إِنا رسلُ ربك أُرسلنا لإِهلاكهم وإِنهم لن يصلوا إِليك بضرر ولا مكروه { فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ ٱلْلَّيْلِ } أي اخرج بهم بطائفةٍ من الليل قال الطبري: أي اخرج من بين أظهرهم أنت وأهلك ببقية من الليل { وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ ٱمْرَأَتَكَ } أي لا ينظر أحدٌ منكم وراءه إِلا امرأتَك فإِنها ستهلك كما هلكوا، نُهوا عن الالتفات لئلا تتفطر أكبادهم على قريتهم قال القرطبي: إِن امرأة لوط لمّا سمعت هدَّة العذاب التفتت وقالت: واقوماه! فأدركها حجر فقتلها { إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَآ أَصَابَهُمْ } أي إِنه يصيب امرأتك من العذاب ما أصاب قومك { إِنَّ مَوْعِدَهُمُ ٱلصُّبْحُ } أي موعد عذابهم وهلاكهم الصبحُ { أَلَيْسَ ٱلصُّبْحُ بِقَرِيبٍ } استعجلهم بالعذاب لغيظه على قومه فقالوا له: أليس وقت الصبح قريباً؟ قال المفسرون: إِن قوم لوط لما سمعوا بالضيوف هرعوا نحوه، فأغلق بابه وأخذ يجادل قومه عنهم من وراء الباب، فتسوروا الجدار، فلما رأت الملائكة ما بلوطٍ من الكرب قالوا يا لوط: افتح الباب ودعنا وإِيّاهم، ففتح الباب فضربهم جبريل بجناحه فطمس أعينهم وعموا، وانصرفوا على أعقابهم يقولون: النجاءَ، النجاء كما قال تعالى { { وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَن ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَآ أَعْيُنَهُمْ } [القمر: 37] ثم إِن لوطاً سرى بمن معه قبل الفجر، ولما حان وقت عذابهم أمر الله جبريل فاقتلع مَدائن قوم لوط - وهي خمسٌ - من تخوم الأرض حتى أدناها من السماء بما فيها، حتى سمع أهل السماء صراخ الديكة، ونباح الكلاب، ثم أرسلها مقلوبة وأتبعهم الله بالحجارة ولهذا قال تعالى { فَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا } أي فلما جاء وقت العذاب قلبنا بهم القرى فجعلنا العالي سافلاً { وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ } أي أرسلنا على أهل تلك المدن حجارة صلبة شديدة من نارٍ وطين، شبّهها بالمطر لكثرتها وشدتها { مَّنْضُودٍ } أي متتابعة، بعضُها في إِثر بعض { مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ } أي معلَّمة بعلامة قال الربيع: قد كتب على كل حجر اسم من يُرمى به قال القرطبي: وقوله { عِندَ رَبِّكَ } دليلٌ على أنها ليست من حجارة الأرض { وَمَا هِيَ مِنَ ٱلظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ } أي ما هذه القرى المهلكة ببعيدة عن قومك "كفار قريش" فإِنهم يمرون عليها في أسفارهم أفلا يعتبرون؟ قال المفسرون: وقد صار موضع تلك المدن بحراً أُجاجاً يعرف بـ "البحر الميت" لأن مياهه لا تغذي شيئاً من الحيوان وقد اشتهر باسم "بحيرة لوط" والأرض التي تليها قاحلة لا تنبتُ شيئاً { وَإِلَىٰ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً } هذه هي القصة السادسة من القصص المذكورة في هذه السورة أي وأرسلنا إِلى قبيلة مدين أخاهم شعيباً، وقد كان شعيب من نفس القبيلة ولهذا قال "أخاهم" { قَالَ يٰقَوْمِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُ } أي اعبدوا الله وحده فليس لكم ربٌ سواه { وَلاَ تَنقُصُواْ ٱلْمِكْيَالَ وَٱلْمِيزَانَ } أي لا تنقصوا الناس حقوقهم في المكيال والميزان، وقد اشتهروا بتطفيف الكيل والوزن { إِنِّيۤ أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ } أي إِني أراكم في سعةٍ تغنيكم عن نقص الكيل والميزان قال القرطبي: أي في سعة من الرزق، وكثرةٍ من النعم { وَإِنِّيۤ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ } أي إِني أخاف عليكم إِن لم تؤمنوا عذاب يومٍ مهلك، لا يفلت منه أحد، والمراد به عذاب يوم القيامة { وَيٰقَوْمِ أَوْفُواْ ٱلْمِكْيَالَ وَٱلْمِيزَانَ بِٱلْقِسْطِ } أي أتموا الكيل والوزن للناس بالعدل { وَلاَ تَبْخَسُواْ ٱلنَّاسَ أَشْيَآءَهُمْ } أي لا تُنْقصوهم من حقوقهم شيئاً { وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي ٱلأَرْضِ مُفْسِدِينَ } أي ولا تسعوا بالفساد في الأرض، والعثيُّ أشد الفساد { بَقِيَّةُ ٱللَّهِ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } أي ما أبقاه الله لكم من الحلال خيرٌ مما تجمعونه من الحرام، إِن كنتم مصدّقين بوعد الله ووعيده وقال مجاهد: أي طاعة الله خير لكم { وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ } أي ولستُ برقيب أحفظ عليكم أعمالكم وأجازيكم بها وإِنما أنا ناصح مبلّغ، وقد أعذر من أنذر { قَالُواْ يٰشُعَيْبُ أَصَلَٰوتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ ءابَاؤُنَآ } لما أمرهم شعيب عليه السلام بعبادة الله تعالى وترك عبادة الأوثان، وبإِيفاء الكيل والميزان، ردّوا عليه على سبيل السخرية والاستهزاء فقالوا: أصلاتك تدعوك لأن تأمرنا بترك عبادة الأصنام التي عبدها آباؤنا؟ إِن هذا لا يصدر عن عاقل { أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِيۤ أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ } أي وتأمرك بأن نترك تطفيف الكيل والميزان. قال الإِمام الفخر: إِن شعيباً أمرهم بشيئين: بالتوحيد، وترك البخس، فأنكروا عليه أمره بهذين النوعين فقوله { مَا يَعْبُدُ ءابَاؤُنَآ } إِشارة إِلى التوحيد، { نَّفْعَلَ فِيۤ أَمْوَالِنَا } إِشارة إِلى ترك البخس، وقد يراد بالصلاة الدينُ والمعنى: دينُك يأمرك بذلك؟ وأطلق عليه الصلاة لأنها أظهر شعار الدين، وروي أن شعيباً كان كثير الصلاة وكان قومه إِذا رأوه يصلي تغامزوا وتضاحكوا، فقصدوا بقولهم { أَصَلَٰوتُكَ تَأْمُرُكَ } السخرية والهزء، كما إِذا رأيت معتوهاً يطالع كتباً ثم يذكر كلاماً فاسداً فتقول: هذا من مطالعة تلك الكتب؟ { إِنَّكَ لأَنتَ ٱلْحَلِيمُ ٱلرَّشِيدُ } أي إِنك لأنت العاقل المتصف بالحلم والرشد؟ قال الطبري: يستهزئون به فإِنهم أعداء الله قالوا له ذلك استهزاءً، وإِنما سفّهوه وجهّلوه بهذا الكلام { قَالَ يٰقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي } أي قال لهم شعيب: أخبروني إِن كنت على برهان من ربي وهو الهداية والنبوة { وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً } أي أعطاني المال الحلال، فقد كان عليه السلام كثير المال قال الزمخشري: والجواب محذوف دل عليه المعنى أي أخبروني إِن كنت على حجة واضحة، ويقينٍ من ربي، وكنتُ نبياً على الحقيقة أيصح لي أن لا آمركم بترك عبادة الأوثان، والكف عن المعاصي؟ والأنبياء لا يُبعثون إِلا لذلك { وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَىٰ مَآ أَنْهَاكُمْ عَنْهُ } أي لست أنهاكم عن شيء وأرتكبه وإِنما آمركم بما آمر به نفسي { إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ ٱلإِصْلاَحَ مَا ٱسْتَطَعْتُ } أي لا أُريد فيما آمركم به وأنهاكم عنه إِلا إِصلاحكم وإِصلاح أمركم بقدر استطاعتي { وَمَا تَوْفِيقِيۤ إِلاَّ بِٱللَّهِ } أي ليس التوفيق إِلى الخير إِلا بتأييده سبحانه ومعونته { عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } أي على الله سبحانه اعتمدت في جميع أموري، وإِليه تعالى أرجع بالتوبة والإِنابة { وَيٰقَوْمِ لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِيۤ } أي لا يكسبنكم عداوتي { أَن يُصِيبَكُم مِّثْلُ مَآ أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ } أي يصيبكم العذابُ كما أصاب قوم نوح بالغرق، وقوم هود بالريح، وقوم صالح بالرجفة وقال الحسن المعنى: لا يحملنكم معاداتي على ترك الإِيمان فيصيبكم ما أصاب الكفار { وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ } أي وما ديار الظالمين من قوم لوطٍ بمكان بعيد، أفلا تتعظون وتعتبرون!؟ { وَٱسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوۤاْ إِلَيْهِ } أي استغفروا ربكم من جميع الذنوب، ثم توبوا إِليه توبةً نصوحاً { إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ } أي إِنه جل وعلا عظيم الرحمة، كثير الود والمحبة لمن تاب وأناب { قَالُواْ يٰشُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِّمَّا تَقُولُ } أي قالوا لنبيّهم شعيب على وجه الاستهانة: ما نفهم كثيراً مما تحدثنا به قال الألوسي: جعلوا كلامه المشتمل على فنون الحِكَم والمواعظ، وأنواع العلوم والمعارف، من قبيل التخليط والهذيان الذي لا يُفهم معناه، ولا يدرك فحواه مع أنه كما ورد في الحديث الشريف (خطيب الأنبياء) { وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً } أي لا قوة لك ولا عزَّ فيما بيننا { وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ } أي ولولا جماعتك لقتلناك رمياً بالأحجار { وَمَآ أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ } أي لستَ عندنا بمكرَّم ولا محترم حتى نمتنع من رجمك { قَالَ يٰقَوْمِ أَرَهْطِيۤ أَعَزُّ عَلَيْكُم مِّنَ ٱللَّهِ }؟ هذا توبيخ لهم أي أتتركوني لأجل قومي ولا تتركوني إعظاماً لجناب الرب تبارك وتعالى؟ فهل عشيرتي أعزّ عندكم من الله وأكرم؟ قال ابن عباس: إِن قوم شعيب ورهطه كانوا أعزَّ عليهم من الله وصغُر شأنُ الله عندهم، عزَّ ربنا وجلَّ ثناؤه { وَٱتَّخَذْتُمُوهُ وَرَآءَكُمْ ظِهْرِيّاً } أي جعلتم الله خلف ظهوركم لا تطيعونه ولا تعظمونه كالشيء المنبوذ وراء الظهر لا يُعبأ به، وهذا مثلٌ قال الطبري: يقال للرجل إذا لم يقض حاجة الرجل: نبذ حاجته وراء ظهره أي تركها ولم يلتفت إليها { إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ } أي إنه جل وعلا قد أحاط علماً بأعمالكم السيئة وسيجازيكم عليها { وَيٰقَوْمِ ٱعْمَلُواْ عَلَىٰ مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ } تهديدٌ شديد أي اعملوا على طريقتكم إني عاملٌ على طريقتي كأنه يقول: اثبتوا على ما أنتم عليه من الكفر والعداوة، فأنا ثابت على الإِسلام والمصابرة { سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ } أي سوف تعلمون الذي يأتيه عذاب يذله ويهينه { وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ } أي وتعلمون من هو الكاذب { وَٱرْتَقِبُوۤاْ إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ } أي انتظروا عاقبة أمركم إنني منتظر معكم { وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْباً وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا } أي ولما جاء أمرنا بإِهلاكهم نجينا شعيباً والمؤمنين معه بسبب رحمة عظيمة منا لهم { وَأَخَذَتِ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ } أي وأخذ أولئك الظالمين صيحةُ العذاب قال القرطبي: صاح بهم جبريل صيحةً فخرجت أرواحهم من أجسادهم { فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ } أي موتى هامدين لا حراك بهم قال ابن كثير: وذكر هٰهنا أنه أتتهم صيحة، وفي الأعراف رجفة، وفي الشعراء عذاب يوم الظلة، وهم أمةٌ واحدة اجتمع عليهم يوم عذابهم هذه النقم كلّها، وإِنما ذكر في كل سياقٍ ما يناسبه { كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَآ } أي كأن لم يعيشوا ويقيموا في ديارهم قبل ذلك { أَلاَ بُعْداً لِّمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ } قال الطبري: أي ألا أبعد الله مدين من رحمته بإِحلال نقمته، كما بعدت من قبلهم ثمود من رحمته بإِنزال سخطه بهم { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ } هذه هي القصة السابعة وهي آخر القصص في هذه السورة والمعنى: لقد أرسلنا موسى بشرائع وأحكام وتكاليف إِلهية، وأيدناه بمعجزاتٍ قاهرة، وبينات باهرة، كالعصا واليد { إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ } أي إِلى فرعون وأشراف قومه { فَٱتَّبَعُوۤاْ أَمْرَ فِرْعَوْنَ } أي فأطاعوا أمر فرعون وعصوا أمر الله { وَمَآ أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ } أي وما أمر فرعون بسديد لأنه ليس فيه رشد ولا هدى، وإنما هو جهل وضلال { يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ } أي يتقدم أمامهم إِلى النار يوم القيامة كما كان يتقدمهم في الدنيا { فَأَوْرَدَهُمُ ٱلنَّارَ } أي أدخلهم نار جهنم { وَبِئْسَ ٱلْوِرْدُ ٱلْمَوْرُودُ } أي بئس المدخل المدخول هي. { وَأُتْبِعُواْ فِي هَـٰذِهِ لَعْنَةً } أي أُلحقوا فوق العذاب الذي عجله الله لهم لعنةً في الدنيا { وَيَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ } أي وأُردفوا بلعنةٍ أخرى يوم القيامة { بِئْسَ ٱلرِّفْدُ ٱلْمَرْفُودُ } أي بئس العونُ الُمعان والعطاء المُعْطى لهم، وهي اللعنة في الدارين.
البَلاَغَة: 1- { ذَهَبَ الرَّوْعُ.. وَجَآءَتْهُ } بينهما طباقٌ وهو من المحسنات البديعية.
2- { جَآءَ أَمْرُ رَبَّكَ } كناية عن العذاب الذي قضاه الله لهم.
3- { أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ } الاستفهام للتعجب والتوبيخ.
4- { أَوْ آوِيۤ إِلَىٰ رُكْنٍ شَدِيدٍ } قال الشريف الرضي: وهذه استعارة والمراد بها قومه وعشيرته، جعلهم ركناً له لأن الإِنسان يلجأ إِلى قبيلته، ويستند إِلى أعوانه كما يستند إِلى ركن البناء الرصين، وجاء جواب "لو" محذوفاً تقديره: لحلت بينكم وبين ما هممتم به من الفساد، والحذف هٰهنا أبلغ لأنه يوهم بعظيم الجزاء وغليظ النكال.
5- { عَالِيَهَا سَافِلَهَا } بينهما طباقٌ.
6- { عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ } فيه مجاز عقلي أسند الإِحاطة لليوم مع أن اليوم ليس بجسم باعتبار أن العذاب يكون فيه، فهو إِسنادٌ للزمان.
7- { وَٱتَّخَذْتُمُوهُ وَرَآءَكُمْ ظِهْرِيّاً } فيه استعارة تمثيلية كالشيء الذي يلقى وراء الظهر ولا يكترث به.
8- { فَأَوْرَدَهُمُ ٱلنَّارَ } فيه استعارة مكنية لأن الورود في الأصل يقال للمرور على الماء للاستسقاء منه، فشبّه النار بماءٍ يورد وحذف ذكر المشبه به ورمز له بشيء من لوازمه وهو الورود، وشبّه فرعون في تقدمه على قومه بمنزلة من يتقدم على الواردين إِلى الماء ليكسر العطش وقوله { وَبِئْسَ ٱلْوِرْدُ ٱلْمَوْرُودُ } تأكيد له لأن الورد إنما يورد لتسكين العطش وتبريد الأكباد وفي النار إلهابٌ للعطش وتقطيع للأكباد، نعوذ بالله من نار جهنم.