التفاسير

< >
عرض

إِنَّ ٱلصَّفَا وَٱلْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ ٱللَّهِ فَمَنْ حَجَّ ٱلْبَيْتَ أَوِ ٱعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ ٱللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ
١٥٨
إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلْنَا مِنَ ٱلْبَيِّنَاتِ وَٱلْهُدَىٰ مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي ٱلْكِتَابِ أُولَـٰئِكَ يَلعَنُهُمُ ٱللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ ٱللاَّعِنُونَ
١٥٩
إِلاَّ ٱلَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَـئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ
١٦٠
إِن الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ ٱللَّهِ وَٱلْمَلاۤئِكَةِ وَٱلنَّاسِ أَجْمَعِينَ
١٦١
خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ ٱلْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنْظَرُونَ
١٦٢
-البقرة

صفوة التفاسير

المنَاسَبَة: لما أمر تعالى بذكره وشكره ودعا المؤمنين إِلى الاستعانة بالصبر والصلاة، أعقب ذلك ببيان أهمية الحج وأنه من شعائر دين الله، ثم نبّه تعالى على وجوب نشر العلم وعدم كتمانه، وذكر خطر كتمان ما أنزل الله من البيّنات والهدى، كما فعل اليهود والنصارى في كتبهم فاستحقوا اللعنة والغضب والدمار.
اللغَة: { شَعَآئِرِ ٱللَّهِ } جمع شعيرة وهي في اللغة: العلامة ومنه الشِّعار، وأشعر الهَدْي جعل له علامة ليعرف بها، والشعائر: كلُّ ما تعبّدنا الله به من أمور الدين كالطواف والسعي والأذان ونحوه. { حَجَّ } الحجُّ في اللغة: القصد، وفي الشرع: قصد البيت العتيق لأداء المناسك من الطواف والسعي { ٱعْتَمَرَ } العمرة في اللغة: الزيارة ثم صار علماً لزيارة البيت للنُّسك { جُنَاحَ } الجُناح: الميل إِلى الإِثم وقيل: هو الإِثم نفسه سمي به لأنه ميل إِلى الباطل يقال: جنح إِلى كذا إِذا مال قال ابن الأثير وأينما ورد فمعناه الإِثم والميل { يَكْتُمُونَ } الكتمان: الإِخفاء والستر { يُنْظَرُونَ } يُمهلون.
التفسِيْر: { إِنَّ ٱلصَّفَا وَٱلْمَرْوَةَ } اسم لجبلين بمقربة من البيت الحرام { مِن شَعَآئِرِ ٱللَّهِ } أي من أعلام دينه ومناسكه التي تعبَّدنا الله بها { فَمَنْ حَجَّ ٱلْبَيْتَ أَوِ ٱعْتَمَرَ } أي من قصد بيت الله للحج أو قصده للزيارة بأحد النسكين "الحج" أو "العمرة" { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا } أي لا حرج ولا إِثم عليه أن يسعى بينهما، فإِذا كان المشركون يسعون بينهما ويتمسحون بالأصنام، فاسعوا أنتم لله رب العالمين، ولا تتركوا الطواف بينهما خشية التشبه بالمشركين { وَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً } أي من تطوّع بالحج والعمرة بعد قضاء حجته المفروضة عليه، أو فعل خيراً فرضاً كان أو نفلاً { فَإِنَّ ٱللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ } أي إِنه سبحانه شاكرٌ له طاعته ومجازيه عليها خير الجزاء، لأنه عليم بكل ما يصدر من عباده من الأعمال فلا يضيع عنده أجر المحسنين { إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلْنَا مِنَ ٱلْبَيِّنَاتِ وَٱلْهُدَىٰ } أي يخفون ما أنزلناه من الآيات البينات، والدلائل الواضحات التي تدل على صدق محمد صلى الله عليه وسلم { مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي ٱلْكِتَابِ } أي من بعد توضيحه لهم في التوراة أو في الكتب السماوية كقوله تعالى
{ { ٱلَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي ٱلتَّوْرَاةِ وَٱلإِنْجِيلِ } [الأعراف: 157] { أُولَـٰئِكَ يَلعَنُهُمُ ٱللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ ٱللاَّعِنُونَ } أي أولئك الموصوفون بقبيح الأعمال، الكاتمون لأوصاف الرسول، المحرّفون لأحكام التوراة يلعنهم الله فيبعدهم من رحمته، وتلعنهم الملائكة والمؤمنون { إِلاَّ ٱلَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَـئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ } أي إِلا الذين ندموا على ما صنعوا، وأصلحوا ما أفسدوه بالكتمان، وبينوا للناس حقيقة ما أنزل الله فأولئك يقبل الله توبتهم ويشملهم برحمته { وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } أي كثير التوبة على عبادي، واسع الرحمة بهم، أصفح عما فرط منهم من السيئات { إِن الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ } أي كفروا بالله واستمرّوا على الكفر حتى داهمهم الموت وهم على تلك الحالة { أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ ٱللَّهِ وَٱلْمَلاۤئِكَةِ وَٱلنَّاسِ أَجْمَعِينَ } أي يلعنهم الله وملائكته وأهل الأرض جميعاً، حتى الكفار فإنهم يوم القيامة يلعن بعضهم بعضاً { خَالِدِينَ فِيهَا } أي خالدين في النار - وفي إِضمارها تفخيم لشأنها - { لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ ٱلْعَذَابُ } أي إن عذابهم في جهنم دائم لا ينقطع لا يخف عنهم طرفة عين { { لاَ يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ } [الزخرف: 75] { وَلاَ هُمْ يُنْظَرُونَ } أي ولا يمهلون أو يؤجلون بل يلاقيهم العذاب حال مفارقة الحياة الدنيا.
سَبَبُ النّزول: عن أنسٍ رضي الله عنه أنه سئل عن الصفا والمروة فقال: كنا نرى أنهما من أمر الجاهلية، فلما جاء الإِسلام أمسكنا عنهما فأنزل الله { إِنَّ ٱلصَّفَا وَٱلْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ ٱللَّهِ }.
البَلاَغَة: 1- { مِن شَعَآئِرِ ٱللَّهِ } أي من شعائر دين الله ففيه إِيجاز بالحذف.
2- { شَاكِرٌ عَلِيمٌ } أي يثيب على الطاعة قال أبو السعود: عبّر عن ذلك بالشكر مبالغة في الإِحسان على العباد فأطلق الشكر وأراد به الجزاء بطريق المجاز.
3- { يَلعَنُهُمُ ٱللَّهُ } فيه التفات من ضمير المتكلم إلى الغيبة إذ الأصل "نلعنهم" ولكن في إظهار الاسم الجليل { يَلعَنُهُمُ ٱللَّهُ } إِلقاء الروعة والمهابة في القلب.
4- { يَلْعَنُهُمُ ٱللاَّعِنُونَ } فيه جناس الاشتقاق. وهو من المحسنات البديعية.
5- { خَالِدِينَ فِيهَا } أي في اللعنة أو في النار وأضمرت النار تفخيماً لشأنها وتهويلاً لأمرها.
6- { وَلاَ هُمْ يُنْظَرُونَ } إيثار الجملة الإِسمية لإِفادة دوام النفي واستمراره.
الفوَائِد: الأولى: كان على الصفا صنم يقال له "إِساف" وعلى المروة صنم يقال له "نائلة" فكان المشركون إِذا طافوا تمسحوا بهما فخشي المسلمون أن يتشبهوا بأهل الجاهلية ولذلك تحرجوا من الطواف لهذا السبب فنزلت الآية تبيّن أنهما من شعائر الله وأنه لا حرج عليهم في السعي بينهما فالمسلمون يسعون لله لا للأصنام.
الثانية: الشكر معناه مقابلة النعمة والإِحسان بالثناء والعرفان، وهذا المعنى محالٌ على الله إِذ ليس لأحد عنده يدٌ ونعمة حتى يشكره عليها ولهذا حمله العلماء على الثواب والجزاء أي أنه تعالى يثيبه ولا يضيع أجر العاملين أقول: والصحيح ما عليه السلف من إثبات الصفات كما وردت، فهو شكر يليق بجلاله وكماله.