التفاسير

< >
عرض

فَلَمَّآ أَحَسَّ عِيسَىٰ مِنْهُمُ ٱلْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِيۤ إِلَى ٱللَّهِ قَالَ ٱلْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ ٱللَّهِ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَٱشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ
٥٢
رَبَّنَآ آمَنَّا بِمَآ أَنزَلَتَ وَٱتَّبَعْنَا ٱلرَّسُولَ فَٱكْتُبْنَا مَعَ ٱلشَّٰهِدِينَ
٥٣
وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ ٱللَّهُ وَٱللَّهُ خَيْرُ ٱلْمَاكِرِينَ
٥٤
إِذْ قَالَ ٱللَّهُ يٰعِيسَىٰ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَجَاعِلُ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوكَ فَوْقَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ
٥٥
فَأَمَّا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فِي ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ
٥٦
وَأَمَّا ٱلَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَٱللَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلظَّالِمِينَ
٥٧
ذٰلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآيَاتِ وَٱلذِّكْرِ ٱلْحَكِيمِ
٥٨
إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ ٱللَّهِ كَمَثَلِ ءَادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ
٥٩
ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُنْ مِّن ٱلْمُمْتَرِينَ
٦٠
فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ ٱلْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَآءَنَا وَأَبْنَآءَكُمْ وَنِسَآءَنَا وَنِسَآءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ ٱللَّهِ عَلَى ٱلْكَاذِبِينَ
٦١
إِنَّ هَـٰذَا لَهُوَ ٱلْقَصَصُ ٱلْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَـٰهٍ إِلاَّ ٱللَّهُ وَإِنَّ ٱللَّهَ لَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ
٦٢
فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ بِٱلْمُفْسِدِينَ
٦٣
-آل عمران

صفوة التفاسير

المنَاسَبَة: لا تزال الآيات تتحدث عن قصة المسيح عيسى بن مريم عليه السلام، وقد ذكر تعالى في الآيات السابقة بشارة مريم بالسيد المسيح، ثم أعقبها بذكر معجزاته وكلها براهين ساطعة تدل على نبوته عليه السلام، ومع كل البراهين والمعجزات التي أيده الله بها فإِنَّ الكثيرين من بني إِسرائيل لم يؤمنوا به وقد عزم أعداء الله "اليهود" على قتله فنجّاه الله من شرهم ورفعه إِلى السماء.
اللغَة: { أَحَسَّ } عرف وتحقق وأصله من الإِحساس وهو الإِدراك ببعض الحواس الخمس { ٱلْحَوَارِيُّونَ } جمع حواري وهو صفوة الرجل وخاصته ومنه قيل للحضريات حواريات لخلوص ألوانهن وبياضهن قال الشاعر:

فقلْ للحواريات يَبْكينَ غيرنا ولا تَبْكنا إِلا الكلابُ النوابحُ

والحواريون أتباع عيسى كالصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم سمّوا حواريين لصفاء قلوبهم ونقاء سرائرهم { مَكَرُواْ } المكر: الخداع وأصله السعي بالفساد في خفية قال الزجاج: يقال مكر الليل وأمكر إِذا أظلم، ومكرُ الله استدراجه لعباده من حيث لا يعلمون حكي عن الفراء وغيره { نَبْتَهِلْ } نتضرع في الدعاء، وأصل الابتهال: الاجتهاد في الدعاء باللعن، والبهلةُ اللعنة.
سَبَبُ النّزول: لما قدم وفد نصارى نجران، وجادلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر عيسى، قالوا للرسول صلى الله عليه وسلم: مالك تشتِم صاحبنا؟ قال: وما أقول؟ قالوا: تقول إِنه عبد قال: أجل إِنه عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إِلى العذراء البتول، فغضبوا وقالوا: هل رأيت إِنساناً قط من غير أب؟ فإِن كنت صادقاً فأرنا مثله فأنزل الله { إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ ٱللَّهِ كَمَثَلِ ءَادَمَ } الآية وروي أنه عليه السلام لما دعاهم إِلى الإِسلام قالوا: قد كنا مسلمين قبلك، فقال: كذبتم يمنعكم من الإِسلام ثلاث: قولكم اتخذ الله ولداً، وأكلكم الخنزير، وسجودكم للصليب فقالوا: فمن أبوه فأنزل الله { إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ .. إلى قوله ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ ٱللَّهِ عَلَى ٱلْكَاذِبِينَ } فدعاهم النبي صلى الله عليه وسلم إِِلى المباهلة، فقال بعضهم لبعض: إِن فعلتم اضطرم الوادي عليكم ناراً فقالوا أما تعرض علينا سوى هذا؟ فقال: الإِسلام أو الجزية أو الحرب فأقروا بالجزية.
التفسِير: { فَلَمَّآ أَحَسَّ عِيسَىٰ مِنْهُمُ ٱلْكُفْرَ } أي استشعر من اليهود التصميم على الكفر والاستمرار على الضلال وإِرادتهم قتله { قَالَ مَنْ أَنصَارِيۤ إِلَى ٱللَّهِ } أي من أنصاري في الدعوة إِلى الله قال مجاهد: أي من يتبعني إِلى الله { قَالَ ٱلْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ ٱللَّهِ } أي قال المؤمنون الأصفياء من أتباعه نحن أنصار دين الله { آمَنَّا بِٱللَّهِ وَٱشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } أي صدقنا بالله وبما جئتنا به واشهد بأننا منقادون لرسالتك مخلصون في نصرتك { رَبَّنَآ آمَنَّا بِمَآ أَنزَلَتَ وَٱتَّبَعْنَا ٱلرَّسُولَ فَٱكْتُبْنَا مَعَ ٱلشَّاهِدِين } أي آمنا بآياتك واتبعنا رسولك عيسى فاكتبنا مع من شهد لك بالوحدانية ولرسولك بالصدق، ثم أخبر تعالى عن اليهود المتآمرين الذين أرادوا قتل عيسى فقال { وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ ٱللَّهُ } أي أرادوا قتله فنجّاه الله من شرهم ورفعه إِلى السماء دون أن يمسَّ بأذى وألقى شبهه على ذلك الخائن "يهوذا" وسمّي مكراً من باب المشاكلة ولهذا قال { وَٱللَّهُ خَيْرُ ٱلْمَاكِرِينَ } أي أقواهم مكراً بحيث جعل تدميرهم في تدبيرهم وفي الحديث
"اللهمَّ امكرْ لي ولا تمكر عليَّ" { إِذْ قَالَ ٱللَّهُ يٰعِيسَىٰ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ } أي إِني رافعك إِلى السماء ثم مميتك بعد استيفائك كامل أجلك والمقصود بشارته بنجاته من اليهود ورفعه إِلى السماء سالماً دون أذى قال قتادة: هذا من المقدم والمؤخر تقديره إِني رافعك إِليَّ ثم متوفيك بعد ذلك، وقد ذكره الطبري فقال: وقال آخرون معنى ذلك: إِذ قال الله يا عيسى إِني رافعك إِليَّ ومطهرك من الذين كفروا، ومتوفيك بعد إِنزالي إِيّاك إِلى الدنيا { وَمُطَهِّرُكَ مِنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } أي مخلصك من شر الأشرار الذين أرادوا قتلك قال الحسن: طهّره من اليهود والنصارى والمجوس ومن كفار قومه { وَجَاعِلُ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوكَ فَوْقَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ } أي جاعل أتباعك الذين آمنوا بك فوق الذين جحدوا نبوتك ظاهرين على من ناوأهم إِلى يوم القيامة وقال في تفسير الجلالين: { ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوكَ } أي صدقوا بنبوتك من المسلمين والنصارى { فَوْقَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } وهم اليهود يعلونهم بالحجة والسيف { ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } أي ثم مصيركم إِلى الله فأقضي بين جميعكم بالحق فيما كنتم تختلفون فيه من أمر عيسى { فَأَمَّا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فِي ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ } أي أما الكافرون بنبوتك المخالفون لملتك فإِني معذبهم عذاباً شديداً في الدنيا بالقتل والسبي، وبالآخرة بنار جهنم { وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ } أي ليس لهم ناصر يمنع عنهم عذاب الله { وَأَمَّا ٱلَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ } أي وأما المؤمنون فيعطيهم جزاء أعمالهم الصالحة كاملةً غير منقوصة { وَٱللَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلظَّالِمِينَ } أي لا يحب من كان ظالماً فكيف يظلم عباده؟ { ذٰلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ } أي هذه الأنباء التي نقصها عليك يا محمد { مِنَ الآيَاتِ وَٱلذِّكْرِ ٱلْحَكِيمِ } أي من آيات القرآن الكريم المحكم، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه { إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ ٱللَّهِ كَمَثَلِ ءَادَمَ } أي إِن شأن عيسى إِذ خلقه بلا أب - وهو في بابه غريب - كشأن آدم { خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } أي خلقَ آدم من غير أب ولا أم ثم قال له كن فكان، فليس أمر عيسى بأعجب من أمر آدم { ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُنْ مِّن ٱلْمُمْتَرِينَ } أي هذا هو القول الحق في عيسى فلا تكن من الشاكين { فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ ٱلْعِلْمِ } أي من جادلك في أمر عيسى بعدما وضح لك الحق واستبان { فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَآءَكُمْ وَنِسَآءَنَا وَنِسَآءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وأَنْفُسَكُمْ } أي هلمّوا نجتمع ويدعو كل منا ومنكم أبناءه ونساءه ونفسه إِلى المباهلة وفي صحيح مسلم لما نزلت هذه الآية دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة وحسناً وحُسيناً فقال: اللهم هؤلاء أهلي { ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ ٱللَّهِ عَلَى ٱلْكَاذِبِينَ } أي نتضرع إِلى الله فنقول: اللهم العن الكاذب منا في شأن عيسى، فلما دعاهم إِلى المباهلة امتنعوا وقبلوا بالجزية عن ابن عباس أنه قال "لو خرج الذين يباهلون رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجعوا لا يجدون أهلاً ولا مالاً" قال أبو حيان: "وفي ترك النصارى الملاعنة لعلمهم بصدقه شاهد عظيم على صحة نبوته" ثم قال تعالى { إِنَّ هَـٰذَا لَهُوَ ٱلْقَصَصُ ٱلْحَقُّ } أي هذا الذي قصصناه عليك يا محمد في شأن عيسى هو الحق الذي لا شك فيه { وَمَا مِنْ إِلَـٰهٍ إِلاَّ ٱللَّهُ } أي لا يوجد إِله غير الله، وفيه ردٌّ على النصارى في قولهم بالتثليث { وَإِنَّ ٱللَّهَ لَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ } أي هو جل شأنه العزيز في ملكه الحكيم في صنعه { فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ بِٱلْمُفْسِدِينَ } أي إِن أعرضوا عن الإِقرار بالتوحيد فإِنهم مفسدون والله عليم بهم وسيجازيهم على ذلك شر الجزاء.
البَلاَغَة: 1- { فَلَمَّآ أَحَسَّ } قال أبو حيان: فيها استعارة إِذ الكفر ليس بمحسوس وإِنما يُعلم ويفطن به فإِطلاق الحسّ عليه من نوع الاستعارة.
2- { وَٱللَّهُ خَيْرُ ٱلْمَاكِرِينَ } بين لفظ مكروا والماكرين جناس الاشتقاق وهو من باب المشاكلة.
3- { فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ } فيه التفات من ضمير التكلم إِلى ضمير الغيبة للتنوع في الفصاحة.
4- { ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ } التعرض لعنوان الربوبية مع الإِضافة إِلى الرسول لتشريفه عليه الصلاة والسلام.
5- { فَلاَ تَكُنْ مِّن ٱلْمُمْتَرِينَ } هو من باب الإِلهاب والتهييج لزيادة التثبيت أفاده أبو السعود.
لطيفَة: قال صاحب البحر المحيط: سأل رجل الجنيد فقال: كيف رضي الله سبحانه لنفسه المكر وقد عاب به غيره، فقال: لا أدري ما تقول ولكن أنشدني فلان الظهراني:

ويقبح من سواك الفعل عندي فتفعله فيحسن منك ذاكا

ثم قال له: قد أجبتك إِن كنت تعقل.