التفاسير

< >
عرض

لاَّ يُحِبُّ ٱللَّهُ ٱلْجَهْرَ بِٱلسُّوۤءِ مِنَ ٱلْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ وَكَانَ ٱللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً
١٤٨
إِن تُبْدُواْ خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُواْ عَن سُوۤءٍ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً
١٤٩
إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ ٱللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذٰلِكَ سَبِيلاً
١٥٠
أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْكَافِرُونَ حَقّاً وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً
١٥١
وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُواْ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ أُوْلَـٰئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً
١٥٢
يَسْأَلُكَ أَهْلُ ٱلْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَىٰ أَكْبَرَ مِن ذٰلِكَ فَقَالُوۤاْ أَرِنَا ٱللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ ٱلصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ ٱتَّخَذُواْ ٱلْعِجْلَ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ ٱلْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَن ذٰلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَىٰ سُلْطَاناً مُّبِيناً
١٥٣
وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ ٱلطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ٱدْخُلُواْ ٱلْبَابَ سُجَّداً وَقُلْنَا لَهُمْ لاَ تَعْدُواْ فِي ٱلسَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِّيثَاقاً غَلِيظاً
١٥٤
فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بَآيَاتِ ٱللَّهِ وَقَتْلِهِمُ ٱلأَنْبِيَآءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ ٱللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً
١٥٥
وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَىٰ مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً
١٥٦
وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا ٱلْمَسِيحَ عِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ ٱللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَـٰكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ ٱلَّذِينَ ٱخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ ٱتِّبَاعَ ٱلظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً
١٥٧
بَل رَّفَعَهُ ٱللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ ٱللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً
١٥٨
وَإِن مِّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً
١٥٩
فَبِظُلْمٍ مِّنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ كَثِيراً
١٦٠
وَأَخْذِهِمُ ٱلرِّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ ٱلنَّاسِ بِٱلْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً
١٦١
لَّـٰكِنِ ٱلرَّاسِخُونَ فِي ٱلْعِلْمِ مِنْهُمْ وَٱلْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَٱلْمُقِيمِينَ ٱلصَّلاَةَ وَٱلْمُؤْتُونَ ٱلزَّكَاةَ وَٱلْمُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ أُوْلَـٰئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً
١٦٢
-النساء

صفوة التفاسير

المنَاسَبَة: لما ذكر تعالى المنافقين وفضحهم في الآيات السابقة، ذكر هنا أنه لا يحب إِظهار الفضائح والقبائح، إِلا في حق من زاد ضررُه وعظُم خطرُه، فلا عجب أن يكشف الله عن المنافقين الستر، ثم تحدث عن اليهود وعدَّد بعض جرائمهم الشنيعة مثل طلبهم لرؤية الله، وعبادتهم للعجل وادعائهم صلب المسيح، واتهامهم مريم البتول بالفاحشة إلى غير ما هنالك من قبائح وجرائم شنيعة.
اللغَة: { جَهْرَةً } عياناً { بُهْتَاناً } البهتان: الكذب الذي يُتحير فيه من شدته وعظمته { شُبِّهَ } وقع الشَّبه بين عيسى والمقتول الذي صلبوه { وَأَعْتَدْنَا } هيأنا { ٱلرَّاسِخُونَ } المتمكنون من العلم.
سَبَبُ النّزول: روي أن كعب بن الأشرف وجماعة من اليهود قالوا يا محمد: إِن كنت نبياً فأتنا بكتاب من السماء جملةً كما أتى موسى بالتوراة جملة فأنزل الله { يَسْأَلُكَ أَهْلُ ٱلْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ... } الآية.
التفسِير: { لاَّ يُحِبُّ ٱللَّهُ ٱلْجَهْرَ بِٱلسُّوۤءِ مِنَ ٱلْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ } أي لا يحب الله الفُحْش في القول والإِيذاء باللسان إِلا المظلوم فإِنه يباح له أن يجهر بالدعاء على ظالمه وأن يذكره بما فيه من السوء قال ابن عباس: المعنى لا يحب الله أن يدعو أحد على أحد إِلا أن يكون مظلوماً { وَكَانَ ٱللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً } أي سميعاً لدعاء المظلوم عليماً بالظالم { إِن تُبْدُواْ خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُواْ عَن سُوۤءٍ } أي إِن أظهرتم أيها الناس عمل الخير أو أخفيتموه أو عفيتم عمن أساء إِليكم { فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً } أي كان مبالغاً في العفو مع كمال قدرته على المؤاخذة، قال الحسن: يعفو عن الجانين مع قدرته على الانتقام فعليكم أن تقتدوا بسنة الله تعالى حثّ تعالى على العفو وأشار إِلى أنه عفوٌّ مع قدرته فكيف لا تعفون مع ضعفكم وعجزكم؟! { إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِ } الآية في اليهود والنصارى لأنهم آمنوا بأنبيائهم وكفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم وغيره، جعل كفرهم ببعض الرسل كفراً بجميع الرسل، وكفرَهُم بالرسل كفراً بالله تعالى { وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ ٱللَّهِ وَرُسُلِهِ } التفريقُ بين الله ورسله أن يؤمنوا بالله ويكفروا برسله، وكذلك التفريق بين الرسل هو الكفر ببعضهم والإِيمان ببعضهم وقد فسره تعالى بقوله بعده { وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ } أي نؤمن ببعض الرسل ونكفر ببعض قال قتادة: أولئك أعداء الله اليهود والنصارى، آمنت اليهود بالتوراة وموسى وكفروا بالإِنجيل وعيسى، وآمنت النصارى بالإِنجيل وعيسى وكفروا بالقرآن وبمحمد صلى الله عليه وسلم وتركوا الإِسلام دين الله الذي بعث به رسله { وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذٰلِكَ سَبِيلاً } أي طريقاً وسطاً بين الكفر والإِيمان ولا واسطة بينهما { أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْكَافِرُونَ حَقّاً } أي هؤلاء الموصوفون بالصفات القبيحة هم الكافرون يقيناً ولو ادعوا الإِيمان { وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً } أي هيأنا لهم عذاباً شديداً مع الإِهانة والخلود في نار جهنم { وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُواْ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ } أي صدّقوا الله وأقروا بجميع الرسل وهم المؤمنون أتباع محمد صلى الله عليه وسلم لم يفرقوا بين أحد من رسله بل آمنوا بجميعهم { أُوْلَـٰئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ } أي سنعطيهم ثوابهم الكامل على الإِيمان بالله ورسله { وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً } أي غفوراً لما سلف منهم من المعاصي والآثام متفضلاً عليهم بأنواع الإِنعام { يَسْأَلُكَ أَهْلُ ٱلْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ } نزلت في أحبار اليهود حين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم إِن كنت نبياً فأتنا بكتاب من السماء جملة كما أتى به موسى جملة، وإِنما طلبوا ذلك على وجه التعنت والعناد، فذكر تعالى سؤالهم ما هو أفظع وأشنع تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم للتأسي بالرسل فقال { فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَىٰ أَكْبَرَ مِن ذٰلِكَ فَقَالُوۤاْ أَرِنَا ٱللَّهَ جَهْرَةً } أي سألوا موسى رؤية الله عز وجل عياناً { فَأَخَذَتْهُمُ ٱلصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ } أي جاءتهم من السماء نار فأهلكتهم بسبب ظلمهم { ثُمَّ ٱتَّخَذُواْ ٱلْعِجْلَ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ ٱلْبَيِّنَاتُ } أي ثم اتخذوا العجل إِلهاً وعبدوه من بعد ما جاءتهم المعجزات والحجج الباهرات من العصا واليد وفلق البحر وغيرها قال أبو السعود: وهذه المسألة - وهي طلب رؤية الله - وإِن صدرت عن أسلافهم لكنهم لما كانوا مقتدين بهم في كل ما يأتون ويذرون أسندت إِليهم { فَعَفَوْنَا عَن ذٰلِكَ } أي عفونا عما ارتكبوه مع عظم جريمتهم وخيانتهم { وَآتَيْنَا مُوسَىٰ سُلْطَاناً مُّبِيناً } أي حجة ظاهرة تظهر صدقه وصحة نبوته قال الطبري: وتلك الحجة هي الآيات البينات التي آتاه الله إِياها { وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ ٱلطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ } أي رفعنا الجبل فوقهم لما امتنعوا عن قبول شريعة التوراة بسبب الميثاق ليقبلوه { وَقُلْنَا لَهُمُ ٱدْخُلُواْ ٱلْبَابَ سُجَّداً } أي ادخلوا باب بيت المقدس مطأطئين رءوسكم خضوعاً لله فخالفوا ما أُمروا به ودخلوا يزحفون على أستاههم وهم يقولون حنطة في شعرة استهزاءً { وَقُلْنَا لَهُمْ لاَ تَعْدُواْ فِي ٱلسَّبْتِ } أي لا تعتدوا باصطياد الحيتان يوم السبت فخالفوا واصطادوا { وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِّيثَاقاً غَلِيظاً } أي عهداً وثيقاً مؤكداً { فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ } أي فبسبب نقضهم الميثاق لعنّاهم وأذللناهم و { مَا } لتأكيد المعنى { وَكُفْرِهِم بَآيَاتِ ٱللَّهِ } أي وبجحودهم بالقرآن العظيم { وَقَتْلِهِمُ ٱلأَنْبِيَآءَ بِغَيْرِ حَقٍّ } كزكريا ويحيى عليه السلام { وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ } أي قولهم للنبي صلى الله عليه وسلم قلوبنا مغشّاة بأغشية لا تعي ما تقوله يا محمد، قال تعالى رداً عليهم { بَلْ طَبَعَ ٱللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً } أي بل ختم تعالى عليها بسبب الكفر والضلال فلا يؤمن منهم إِلا القليل كعبد الله بن سلام وأصحابه { وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَىٰ مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً } أي وبكفرهم بعيسى عليه السلام أيضاً ورميهم مريم بالزنى وقد فضلها الله على نساء العالمين { وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا ٱلْمَسِيحَ عِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ ٱللَّهِ } أي قتلنا هذا الذي يزعم أنه رسول الله، وهذا إِنما قالوه على سبيل "التهكم والاستهزاء" كقول فرعون
{ { إِنَّ رَسُولَكُمُ ٱلَّذِيۤ أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ } [الشعراء: 27] وإِلاّ فهم يزعمون أن عيسى ابن زنى وأمه زانية ولا يعتقدون أنه رسول الله قال تعالى { وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَـٰكِن شُبِّهَ لَهُمْ } أي وما قتلوا عيسى ولا صلبوه ولكن قتلوا وصلبوا من أُلقي عليه شَبَهُه قال البيضاوي: روي أن رجلاً كان ينافق لعيسى فخرج ليدل عليه فألقى الله عليه شبهه فأُخذ وصُلب وهم يظنون أنه عيسى { وَإِنَّ ٱلَّذِينَ ٱخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ } أي وإِن الذين اختلفوا في شأن عيسى لفي شك من قتله، روي أنه لما رُفع عيسى وأُلقي شبهه على غيره فقتلوه قالوا: إِن كان هذا المقتول عيسى فأين صاحبنا؟ وإِن كان هذا صاحبنا فأين عيسى؟ فاختلفوا فقال بعضهم هو عيسى وقال بعضهم ليس هو عيسى بل هو غيره، فأجمعوا أن شخصاً قد قتل واختلفوا من كان { مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ ٱتِّبَاعَ ٱلظَّنِّ } أي ما لهم بقتله علم حقيقي ولكنهم يتبعون فيه الظنَّ الذي تخيَّلوه { وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً بَل رَّفَعَهُ ٱللَّهُ إِلَيْهِ } أي وما قتلوه متيقنين أنه هو بل شاكين متوهمين ونجّاه الله من شرهم فرفعه إِلى السماء حياً بجسده وروحه كما دلت على ذلك الأحاديث الصحيحة { وَكَانَ ٱللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً } أي عزيزاً في ملكه حكيماً في صنعه { وَإِن مِّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ } أي ليس أحد من اليهود والنصارى إِلا ليؤمننَّ قبل موته بعيسى وبأنه عبد الله ورسوله حين يعاين ملائكة الموت ولكن لا ينفعه إِيمانه قال ابن عباس: لا يموت يهودي حتى يؤمن بعيسى قيل له: أرأيت إِن ضرُبت عُنق أحدهم؟ قال: يلجلج بها لسانه وكذا صحّ عن مجاهد وعكرمة وابن سيرين { وَيَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً } أي يشهد عيسى على اليهود بأنهم كذبوه وعلى النصارى بأنهم دعوه ابن الله { فَبِظُلْمٍ مِّنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ } أي بسبب ظلم اليهود وما ارتكبوه من الذنوب العظيمة حرمنا عليهم أنواعاً من الطيبات التي كانت محلّلة لهم { وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ كَثِيراً } أي وبمنعهم كثيراً من الناس عن الدخول في دين الله قال مجاهد: صدوا أنفسهم وغيرهم عن الحق { وَأَخْذِهِمُ ٱلرِّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ } أي تعاطيهم الربا وقد حرمه الله عليهم في التوراة { وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ ٱلنَّاسِ بِٱلْبَاطِلِ } أي بالرشوة وسائر الوجوه المحرمة { وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } أي وهيأنا لمن كفر من هؤلاء اليهود العذاب المؤلم الموجع { لَّـٰكِنِ ٱلرَّاسِخُونَ فِي ٱلْعِلْمِ مِنْهُمْ } أي لكن المتمكنون في العلم منهم والثابتون فيه كعبد الله بن سلام وجماعته { وَٱلْمُؤْمِنُونَ } أي من المهاجرين والأنصار أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من غير أهل الكتاب { يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ } أي يؤمنون بالكتب والأنبياء { وَٱلْمُقِيمِينَ ٱلصَّلاَةَ } أي أمدح المقيمين الصلاة فهو نصبٌ على المدح { وَٱلْمُؤْتُونَ ٱلزَّكَاةَ } أي المعطون زكاة أموالهم { وَٱلْمُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ } أي والمؤمنون بوحدانية الله وبالبعث بعد الموت { أُوْلَـٰئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً } أي هؤلاء الموصوفون بالأوصاف الجليلة سنعطيهم ثواباً جزيلاً على طاعتهم وهو الخلود في الجنة.
البَلاَغَة: تضمنت الآيات أنواعاً من الفصاحة والبديع نوجزها فيما يلي:
1- الطباق بين { تُبْدُواْ.. أَوْ تُخْفُوهُ } وبين { نُؤْمِنُ.. وَنَكْفُرُ }.
2- التعريض والتهكم في { قَتَلْنَا ٱلْمَسِيحَ عِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ ٱللَّهِ } قالوه على سبيل التهكم والاستهزاء لأنهم لا يؤمنون برسالته.
3- زيادة الحرف لمعنى التأكيد { فَبِمَا نَقْضِهِم } أي فبنقضهم.
4- الاستعارة في { ٱلرَّاسِخُونَ فِي ٱلْعِلْمِ } استعار الرسوخ للثبوت في العلم والتمكن فيه وكذلك الاستعارة في { قُلُوبُنَا غُلْفٌ } استعار الغلاف بمعنى الغطاء لعدم الفهم والإِدراك أي لا يتوصل إِليها شيء من الذكر والموعظة.
5- الاعتراض في { بَلْ طَبَعَ ٱللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ } رداً لمزاعمهم الفاسدة.
6- الإِلتفات في { أُوْلَـٰئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً } والأصل سيؤتيهم وتنكير الأجر للتفخيم.
7- المجاز المرسل في { وَقَتْلَهُمُ ٱلأَنبِيَاءَ } حيث أُطلق الكل وأُريد البعض وكذلك في { كُفْرِهِم بَآيَاتِ ٱللَّهِ } لأنهم كفروا بالقرآن والإِنجيل ولم يكفروا بغيرهما.
الفوَائِد: قال في التسهيل: إِن قيل كيف قالوا فيه رسول الله وهم يكفرون به ويسبونه؟ فالجواب من ثلاثة أوجه: أحدها: أنهم قالوا ذلك على وجه التهكم والاستهزاء، والثاني: أنهم قالوه على حسب اعتقاد المسلمين فيه كأنهم قالوا: رسولُ الله عندكم أو بزعمكم والثالث: أنه من قول الله لا من قولهم فيوقف قبله وفائدته تعظيم ذنبهم وتقبيح قولهم إِنا قتلناه وقوله تعالى { وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ } ردٌّ على اليهود وتكذيبٌ لهم وردٌ على النصارى في قولهم إِنه صلب حتى عبدوا الصليب من أجل ذلك، والعجب كل العجب من تناقضهم في قولهم إِنه إِلهٌ أو ابن إِله ثم يقولون إِنه صلب.
تنبيه: دلَّ قوله تعالى { وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَـٰكِن شُبِّهَ لَهُمْ } على أن الله تعالى نجّى رسوله عيسى من شر اليهود الخبثاء فلم يُقتل ولم يصلب وإِنما صلبوا شخصاً غيره ظنوه عيسى وهو الذي ألقى الله الشبه عليه فقتلوه وهم يحسبونه عيسى، وهذا هو الاعتقاد الحق الذي يتفق مع العقل والنقل، وأما النصارى فيعتقدون أنه صلب وأن اليهود أهانوه ووضعوا الشوك على رأسه وأنه تضرّع وبكى مع زعمهم أنه هو "الله" أو "ابن الله" وأنه جاء ليخلّص البشرية من أوزارها إِلى غير ما هنالك من التناقض العجيب الغريب ولقد أحسن من قال:

عجباً للمسيح بين النصارى وإِلى أي والدٍ نسبوه!
أسلموه إِلى اليهود وقالوا إِنهم بعد ضربه صلبوه
فإِذا كان ما يقولون حقاًوصحيحاً فأين كان أبوه؟
حين خلّى ابنه رهين الأعادي أتراهم أرضوه أم أغضبوه؟
فلئن كان راضياً بأذاهم فاحمدوهم لأنهم عذبوه
ولئن كان ساخطاً فاتركوه واعبدوهم لأنهم غلبوه