التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِٱلْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ ٱلأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي ٱلصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ ٱللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ
١
يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ ٱللَّهِ وَلاَ ٱلشَّهْرَ ٱلْحَرَامَ وَلاَ ٱلْهَدْيَ وَلاَ ٱلْقَلاۤئِدَ وَلاۤ آمِّينَ ٱلْبَيْتَ ٱلْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَاناً وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَٱصْطَادُواْ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلْبرِّ وَٱلتَّقْوَىٰ وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلإِثْمِ وَٱلْعُدْوَانِ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ
٢
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ ٱلْمَيْتَةُ وَٱلْدَّمُ وَلَحْمُ ٱلْخِنْزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ ٱللَّهِ بِهِ وَٱلْمُنْخَنِقَةُ وَٱلْمَوْقُوذَةُ وَٱلْمُتَرَدِّيَةُ وَٱلنَّطِيحَةُ وَمَآ أَكَلَ ٱلسَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى ٱلنُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بِٱلأَزْلاَمِ ذٰلِكُمْ فِسْقٌ ٱلْيَوْمَ يَئِسَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَٱخْشَوْنِ ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلإِسْلٰمَ دِيناً فَمَنِ ٱضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
٣
يَسْأَلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ ٱلطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِّنَ ٱلْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ ٱللَّهُ فَكُلُواْ مِمَّآ أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَٱذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ عَلَيْهِ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ
٤
ٱلْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ ٱلطَّيّبَـٰتُ وَطَعَامُ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَـٰبَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ وَٱلْمُحْصَنَـٰتُ مِنَ ٱلْمُؤْمِنَـٰتِ وَٱلْمُحْصَنَـٰتُ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَـٰبَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا ءاتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَٰفِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِيۤ أَخْدَانٍ وَمَن يَكْفُرْ بِٱلإِيمَٰنِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي ٱلآخِرَةِ مِنَ ٱلْخَٰسِرِينَ
٥
يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى ٱلصَّلاةِ فٱغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى ٱلْمَرَافِقِ وَٱمْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى ٱلْكَعْبَينِ وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَٱطَّهَّرُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَىۤ أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّنَ ٱلْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فَٱمْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِّنْهُ مَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَـٰكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
٦
وَٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ ٱلَّذِي وَاثَقَكُم بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ
٧
يَا أَيُّهَآ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ للَّهِ شُهَدَآءَ بِٱلْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىۤ أَلاَّ تَعْدِلُواْ ٱعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ
٨
وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ
٩
وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ أُوْلَـۤئِكَ أَصْحَابُ ٱلْجَحِيمِ
١٠
-المائدة

صفوة التفاسير

اللغَة: { ٱلْعُقُودِ } أصل العقد في اللغة: الربط تقول عقدتُ الحبل بالحبل ثم استعير للمعاني قال الزمخشري: العقد العهدُ الموثّق شبّه بعقد الحبل قال الحطيئة:

قومٌ إِذا عقدوا عقداً لجارهم شدّوا العناج وشدّوا فوقه الكَرَبا

{ بَهِيمَةُ ٱلأَنْعَامِ } البهيمة ما لا نطق له لما في صوته من الإِبهام والأنعام جمع نَعَم وهي الإِبل والبقر والغنم { ٱلْقَلاۤئِدَ } جمع قلادة وهي ما يقلد به الهدي من لحاء الشجر ليُعلم أنه هدي { يَجْرِمَنَّكُمْ } يكسبنكم يقال: جرم ذنباً أي كسبه وأجرم اكتسب الإِثم { شَنَآنُ } الشنآن: البغض { ٱلْمَوْقُوذَةُ } الوقذ: ضرب الشيء حتى يسترخي ويشرف على الموت { ٱلنُّصُبِ } صنمٌ وحجر كانت الجاهلية تنصبه وتذبح عنده وجمعه أنصاب كذا في اللسان { ٱلأَزْلاَمِ } القداح جمع زَلَم كان أحدهم إِذا أراد سفراً أو غزواً أو تجارة ضرب بالقداح وهو الاستقسام بالأزلام { مَخْمَصَةٍ } مجاعة لأن البطون فيها تُخمص أي تضمر والخمص ضمور البطن { ٱلْجَوَارِحِ } الكواسب من سباع البهائم والطير كالكلب والفهد والصقر والشاهين.
سَبَبُ النّزول: عن ابن عباس أن المشركين كانوا يحجون البيت ويهدون الهدايا ويعظّمون الشعائر وينحرون، فأراد المسلمون أن يغيروا عليهم فنزلت { يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ ٱللَّهِ.. } الآية.
التفسِير: { يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِٱلْعُقُودِ } الخطاب بلفظ الإِيمان للتكريم والتعظيم أي يا معشر المؤمنين أوفوا بالعقود وهو لفظ يشمل كل عقدٍ وعهد بين الإِنسان وربه وبين الإِنسان والإِنسان قال ابن عباس: العقود العهود وهي ما أحلَّ الله وما حرّم وما فرض في القرآن كله من التكاليف والأحكام { أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ ٱلأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ } أي أُبيح لكم أكل الأنعام وهي الإِبل والبقر والغنم بعد ذبحها إِلا ما حُرّم عليكم في هذه السورة وهي الميتة والدم ولحم الخنزير الخ { غَيْرَ مُحِلِّي ٱلصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } أي أُحلت لكم هذه الأشياء من غير أن تستحلوا الصيد وأنتم محرمون { إِنَّ ٱللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ } أي يقضي في خلقه بما يشاء لأنه الحكيم في أمره ونهيه { يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ ٱللَّهِ } أي لا تستحلوا حُرمات الله ولا تعتدوا حدوده قال الحسن: يعني شرائعه التي حدها لعباده وقال ابن عباس: ما حرّم عليكم في حال الإِحرام { وَلاَ ٱلشَّهْرَ ٱلْحَرَامَ وَلاَ ٱلْهَدْيَ وَلاَ ٱلْقَلاۤئِدَ } أي ولا تستحلوا الشهر الحرام بالقتال فيه، ولا ما أُهدي إِلى البيت أو قُلّد بقلادة ليعرف أنه هدي بالتعرض له ولأصحابه { وَلاۤ آمِّينَ ٱلْبَيْتَ ٱلْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَاناً } أي ولا تستحلوا قتال القاصدين إِلى بيت الله الحرام لحج أو عمرة، نهى تعالى عن الإِغارة عليهم أو صدهم عن البيت كما كان أهل الجاهلية يفعلون { وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَٱصْطَادُواْ } أي إِذا تحللتم من الإِحرام فقد أُبيح لكم الصيد { وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ } أي لا يحملنكم بغضُ قوم كانوا قد صدوكم عن المسجد الحرام على أن تعتدوا عليهم { وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلْبرِّ وَٱلتَّقْوَىٰ وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلإِثْمِ وَٱلْعُدْوَانِ } أي تعاونوا على فعل الخيرات وترك المنكرات، وعلى كلْ ما يقرب إِلى الله { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ } أي خافوا عقابه فإِنه تعالى شديد العقاب لمن عصاه { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ ٱلْمَيْتَةُ وَٱلْدَّمُ وَلَحْمُ ٱلْخِنْزِيرِ } أي حُرّم عليكم أيها المؤمنون أكل الميتة وهي ما مات حتف أنفه من غير ذكاة والدم المسفوح ولحم الخنزير قال الزمخشري: كان أهل الجاهلية يأكلون هذه المحرمات: البهيمة التي تموت حتف أنفها والفصيد وهو الدم في الأمعاء يشوونه ويقولون لم يحرم من فُزد - أي فصد - له وإِنما ذكر لحم الخنزير ليبيّن أنه حرام بعينه حتى ولو ذبح بالطريق الشرعي { وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ ٱللَّهِ بِهِ } أي ما ذكر عليه غير اسم الله أو ذبح لغير الله كقولهم باسم اللات والعزّى { وَٱلْمُنْخَنِقَةُ } هي التي تُخنق بحبلٍ وشبهه { وَٱلْمَوْقُوذَةُ } هي المضروبة بعصا أو حجر { وَٱلْمُتَرَدِّيَةُ } هي التي تسقط من جبل ونحوه { وَٱلنَّطِيحَةُ } هي التي نطحتها بهيمة أُخرى فماتت بالنطح { وَمَآ أَكَلَ ٱلسَّبُعُ } أي أكل بعضَه السبع فمات { إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ } أي إِلا ما أدركتم فيه الروح من هذه الأشياء فذبحتموه الذبح الشرعي قبل الموت قال الطبري معناه: إِلاّ ما طهرتموه بالذبح الذي جعله الله طهوراً { وَمَا ذُبِحَ عَلَى ٱلنُّصُبِ } أي وما ذُبح على الأحجار المنصوبة قال قتادة: النُّصبُ حجارةٌ كان أهل الجاهلية يعبدونها ويذبحون لها فنهى الله عن ذلك قال الزمخشري: كانت لهم حجارة منصوبة حول البيت يذبحون عليها ويشرحون اللحم عليها، يعظمونها بذلك ويتقربون به إِليها فنهى الله المؤمنين عن هذا الصنيع { وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بِٱلأَزْلاَمِ } أي وحُرّم عليكم الاستقسام بالأزلام أي طلب معرفة ما قُسم له من الخير والشر بواسطة ضرب القداح قال في الكشاف: كان أحدهم إِذا أراد سفراً أو غزواً أو تجارة أو نكاحاً أو أمراً من معاظم الأمور ضرب بالقداح وهي مكتوب على بعضها: نهاني ربي، وعلى بعضها أمرني ربي، وبعضُها غُفْلٌ فإِن خرج الآمر مضى لغرضه وإِن خرج الناهي أمسك وإِن خرج الغفل أعاد { ذٰلِكُمْ فِسْقٌ } أي تعاطيه فسقٌ وخروجٌ عن طاعة الله لأنه دخولٌ في علم الغيب الذي استأثر الله به علاّم الغيوب { ٱلْيَوْمَ يَئِسَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ } أي انقطع طمع الكافرين منكم ويئسوا أن ترجعوا عن دينكم قال ابن عباس: يئسوا أن ترجعوا إِلى دينهم أبداً { فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَٱخْشَوْنِ } أي لا تخافوا المشركين ولا تهابوهم وخافون أنصركم عليهم وأجعلكم فوقهم في الدنيا والآخرة { ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } أي أكملت لكم الشريعة ببيان الحلال والحرام { وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي } بالهداية والتوفيق إِلى أقوم طريق { وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلإِسْلٰمَ دِيناً } أي اخترت لكم الإِسلام ديناً من بين الأديان وهو الدين المرضي الذي لا يقبل الله ديناً سواه
{ { وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ ٱلإِسْلاَمِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ } [آل عمران: 85] { فَمَنِ ٱضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } أي فمن ألجأته الضرورة إِلى تناول شيء من المحرمات المذكورة، في مجاعةٍ حال كونه غير مائل إِلى الإِثم ولا متعمد لذلك، فإِن الله لا يؤاخذه بأكله، لأن الضرورات تُبيح المحظورات { يَسْأَلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ } أي يسألونك يا محمد ما الذي أُحل لهم من المطاعم والمآكل؟ { قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ ٱلطَّيِّبَاتُ } أي قل لهم أُبيح لكم المستلذات وما ليس منها بخبيث، وحُرّم كل مستقذر كالخنافس والفئران وأشباهها { وَمَا عَلَّمْتُمْ مِّنَ ٱلْجَوَارِحِ } أي وأُحل لكم صيد ما علمتم من الجوارح وهي الكلاب ونحوها مما يُصطاد به { مُكَلِّبِينَ } أي مُعلمين للكلاب الاصطياد قال الزمخشري: المكلِّب مؤدبُ الجوارح ورائضها واشتقاقه من الكَلَب لأن التأديب أكثر ما يكون في الكلاب { تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ ٱللَّهُ } أي تعلمونهنَّ طرق الاصطياد وكيفية تحصيل الصيد، وهذا جزءٌ مما علّمه الله للإِنسان { فَكُلُواْ مِمَّآ أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ } أي فكلوا مما أمسكن لكم من الصيد إِذا لم تأكل منه، فإِن أكلت فلا يحل أكله لحديث "إِذا أرسلتَ كلبَك المُعلَّم فقتل فكلْ، وإِذا أكل فلا تأكل فإِنما أمسكه على نفسه" وعلامة المعلَّم أن يسترسل إِذا أُرسل، وينزجر إِذا زُجر، وأن يُمسك الصيد فلا يأكل منه، وأن يذكر اسم الله عند إِرساله فهذه أربع شروط لصحة الأكل من صيد الكلب المعلَّم { وَٱذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ عَلَيْهِ } أي عند إِرساله { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ } أي راقبوا الله في أعمالكم فإِنه سريع المجازاة للعباد { ٱلْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ ٱلطَّيِّبَاتُ } أي أبيح لكم المستلذات من الذبائح وغيرها { وَطَعَامُ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ } أي ذبائح اليهود والنصارى حلالٌ لكم { وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ } أي ذبائحكم حلالٌ لهم فلا حرج أن تُطعموهم وتبيعوه لهم { وَٱلْمُحْصَنَاتُ مِنَ ٱلْمُؤْمِنَاتِ } أي وأُبيح لكم أيها المؤمنون زواج الحرائر العفيفات من المؤمنات { وَٱلْمُحْصَنَاتُ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ } أي وزواج الحرائر من الكتابيات (يهوديات أو نصرانيات) وهذا رأي الجمهور وقال عطاء: قد أكثر الله المسلمات وإِنما رخص لهم يومئذٍ { إِذَآ آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } أي إِذا دفعتم لهن مهورهن { مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ } أي حال كونكم أعفاء بالنكاح غير مجاهرين بالزنى { وَلاَ مُتَّخِذِيۤ أَخْدَانٍ } أي وغير متخذين عشيقات وصديقات تزنون بهن سراً قال الطبري: المعنى ولا منفرداً ببغية قد خادنها وخادنته واتخذها لنفسه صديقةً يفجر بها { وَمَن يَكْفُرْ بِٱلإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي ٱلآخِرَةِ مِنَ ٱلْخَاسِرِينَ } أي ومن يرتد عن الدين ويكفر بشرائع الإِيمان فقد بطل عمله وهو من الهالكين، ثم أمر تعالى بإِسباغ الوضوء عند الصلاة فقال { يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى ٱلصَّلاةِ } أي إِذا أردتم القيام إِلى الصلاة وأنتم محدثون { فٱغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى ٱلْمَرَافِقِ } أي اغسلوا الوجوه والأيدي مع المرافق { وَٱمْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى ٱلْكَعْبَينِ } أي امسحوا رءوسكم واغسلوا أرجلكم إِلى الكعبين أي معهما قال الزمخشري: وفائدة المجيء بالغاية { إِلَى ٱلْكَعْبَينِ } لدفع ظن من يحسبها ممسوحة لأن المسح لم تُضرب له غاية في الشريعة وفي الحديث "ويلٌ للأعقاب من النار" وهذا الحديث يردُّ على الإِمامية الذين يقولون بأن الرجلين فرضهما المسحُ لا الغسل، والآية صريحة لأنها جاءت بالنصب { وَأَرْجُلَكُمْ } فهي معطوفة على المغسول وجيء بالمسح بين المغسولات لإِفادة الترتيب { وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَٱطَّهَّرُواْ } أي إِن كنتم في حالة جنابة فتطهروا بغسل جميع البدن { وَإِن كُنتُم مَّرْضَىۤ أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ } أي إِن كنتم مرضى ويضركم الماء، أو كنتم مسافرين ولم تجدوا الماء { أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّنَ ٱلْغَائِطِ } أي أتى من مكان البراز { أَوْ لاَمَسْتُمُ ٱلنِّسَآءَ } أي جامعتموهنَّ { فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً } أي ولم تجدوا الماء بعد طلبه فاقصدوا التراب الطاهر للتيمم به { فَٱمْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِّنْهُ } أي امسحوا وجوهكم وأيديكم بالتراب بضربتين كما وضّحت السنة النبوية { مَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ } أي ما يُريد بما فرض عليكم من الوضوء والغسل والتيمم تضييقاً عليكم { وَلَـٰكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } أي يطهركم من الذنوب وأدناس الخطايا بالوضوء والتيمم، وليتم نعمته عليكم ببيان شرائع الإِسلام ولتشكروه على نعمه التي لا تحصى { وَٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ ٱلَّذِي وَاثَقَكُم بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا } الخطاب للمؤمنين والنعمةُ هنا الإِسلام وما صاروا إِليه من اجتماع الكلمة والعزة أي اذكروا يا أيها المؤمنون نعمة الله العظمى عليكم بالإِسلام وعهده الذي عاهدكم عليه رسوله حين بايعتموه على السمع والطاعة في العسر واليسر، والمنشط والمكره { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ } أي اتقوا الله فإِنه عالم بخفايا نفوسكم فيجازيكم عليها { يَا أَيُّهَآ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ للَّهِ } أي كونوا مبالغين في الإِستقامة بشهادتكم لله وصيغة قوّام للمبالغة { شُهَدَآءَ بِٱلْقِسْطِ } أي تشهدون بالعدل { وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىۤ أَلاَّ تَعْدِلُواْ } أي لا يحملنكم شدة بغضكم للأعداء على ترك العدل فيهم والاعتداء عليهم { ٱعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ } أي العدل مع من تبغضونهم أقرب لتقواكم لله { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } أي مطلع على أعمالكم ومجازيكم عليها قال الزمخشري: وفي هذا تنبيه عظيم على أن العدل إِذا كان واجباً مع الكفار الذين هم أعداء الله وكان بهذه الصفة من القوة، فما الظن بوجوبه مع المؤمنين الذين هم أولياؤه وأحباؤه؟! { وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ } أي وعد الله المؤمنين المطيعين { لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ } أي لهم في الآخرة مغفرة للذنوب وثواب عظيم وهو الجنة { وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ أُوْلَـۤئِكَ أَصْحَابُ ٱلْجَحِيمِ } لما ذكر مآل المؤمنين المتقين وعاقبتهم ذكر مآل الكافرين المجرمين وأنهم في دركات الجحيم دائمون في العذاب قال أبو حيان: وقد جاءت الجملة فعلية بالنسبة للمؤمنين متضمنة الوعد بالماضي الذي هو الدليل على الوقوع، وفي الكافرين جاءت الجملة إِسمية دالة على ثبوت هذا الحكم لهم وأنهم أصحاب النار فهم دائمون في عذاب الجحيم.
البَلاَغَة: 1- { لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ ٱللَّهِ } فيه استعارة استعار الشعيرة وهي العلامة للمتعبدات التي تعبَّد الله بها العباد من الحلال والحرام.
2- { وَلاَ ٱلْقَلاۤئِدَ } أي ذوات القلائد وهي من باب عطف الخاص على العام لأنها أشرف الهدي كقوله
{ { مَن كَانَ عَدُوّاً للَّهِ وَمَلاۤئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ } [البقرة: 98].
3- { وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلْبرِّ وَٱلتَّقْوَىٰ وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلإِثْمِ وَٱلْعُدْوَانِ } فيه من المحسنات البديعية ما يسمى بالمقابلة.
4- { وَطَعَامُ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ } أطلق العام وأراد به الخاص وهو الذبائح.
5- { مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ } بينهما طباق لأن معنى محصنين أي أعفاء ومسافحين أي زناة.
6- { إِذَا قُمْتُمْ إِلَى ٱلصَّلاةِ } أي إِذا أردتم القيام إِلى الصلاة فعبّر عن إِرادة الفعل بالفعل وأقام المسبّب مقام السبب للملابسة بينهما، وفي الآية إِيجاز بالحذف أيضاً إِذا قمتم إِلى الصلاة وأنتم محدثون.
الفَوائِد: الأولى: يحكى أن أصحاب الكِنْدِيّ - الفيلسوف - قال له أصحابه: أيها الحكيم إِعمل لنا مثل هذا القرآن فقال: نعم أعمل مثل بعضه، فاحتجب أياماً كثيرة ثم خرج فقال: والله ما أقدر ولا يطيق هذا أحد، إِني فتحتُ المصحف فخرجت سورة المائدة فنظرت فإِذا هو قد نطق بالوفاء، ونهى عن النكث، وحلّل تحليلاً عامّاً، ثم استثنى استثناءً، ثم أخبر عن قدرته وحكمته في سطرين ولا يقدر أحدٌ أن يأتي بهذا إِلا في مجلدات.
الثانية: جرت سنة الجاهلية على مبدأ العصبية العمياء الذي عبّر عنه الشاعر الجاهلي بقوله:

وهل أنا إِلا من غُزيّة إِن غوتْ غويتُ وأن ترشد غُزية أرشد

وجاء الإِسلام بهذا المبدأ الإِنساني الكريم { وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلْبرِّ وَٱلتَّقْوَىٰ وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلإِثْمِ وَٱلْعُدْوَانِ } وشتّان بين المبدأين.
الثالثة: روي أن رجلاً من اليهود جاء إِلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال يا أمير المؤمنين: آيةٌ في كتابكم تقرءونها لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيداً! قال أيَّ آية تعني؟ قال { ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } الآية فقال عمر: والله إِني لأعلم اليوم الذي نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه، والساعة التي نزلت فيها، نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم عشية عرفة في يوم جمعة.