التفاسير

< >
عرض

وَٱتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ٱبْنَيْ ءَادَمَ بِٱلْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ ٱلآخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ ٱللَّهُ مِنَ ٱلْمُتَّقِينَ
٢٧
لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَآ أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّيۤ أَخَافُ ٱللَّهَ رَبَّ ٱلْعَالَمِينَ
٢٨
إِنِّيۤ أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ ٱلنَّارِ وَذَلِكَ جَزَآءُ ٱلظَّالِمِينَ
٢٩
فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ ٱلْخَاسِرِينَ
٣٠
فَبَعَثَ ٱللَّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي ٱلأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَاوَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَـٰذَا ٱلْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ ٱلنَّادِمِينَ
٣١
مِنْ أَجْلِ ذٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي ٱلأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ ٱلنَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جَآءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِٱلّبَيِّنَٰتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ بَعْدَ ذٰلِكَ فِي ٱلأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ
٣٢
إِنَّمَا جَزَآءُ ٱلَّذِينَ يُحَارِبُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي ٱلأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُوۤاْ أَوْ يُصَلَّبُوۤاْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ ٱلأَرْضِ ذٰلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي ٱلدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ
٣٣
إِلاَّ ٱلَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ فَٱعْلَمُواْ أَنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
٣٤
يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱبْتَغُوۤاْ إِلَيهِ ٱلْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُواْ فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ
٣٥
إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُواْ بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
٣٦
يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ ٱلنَّارِ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ
٣٧
وَٱلسَّارِقُ وَٱلسَّارِقَةُ فَٱقْطَعُوۤاْ أَيْدِيَهُمَا جَزَآءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
٣٨
فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ ٱللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
٣٩
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ ٱللَّهَ لَهُ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ يُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
٤٠
-المائدة

صفوة التفاسير

المنَاسَبَة: لمّا ذكر تعالى تمرد بني إِسرائيل وعصيانهم لأمر الله في قتال الجبارين، ذكر قصة ابني آدم وعصيان "قابيل" أمر الله وإِقدامه على قتل النفس البريئة التي حرمها الله، فاليهود اقتفوا في العصيان أوَّل عاصٍ لله في الأرض، فطبيعةُ الشر فيهم مستقاةٌ من ولد آدم الأول، فاشتبهت القصتان من حيث التمرد والعصيان، ثم ذكر تعالى عقوبة قُطّاع الطريق والسُرَّاق الخارجين على أمن الدولة والمفسدين في الأرض.
اللغَة: { قُرْبَاناً } القُربان ما يُتقرب به إِلى الله { تَبُوءَ } ترجع يقال: باء إِذا رجع إِلى المباءة وهي المنزل { فَطَوَّعَتْ } سوَّلت وسهَّلت يقال: طاع الشيءُ إِذا سهل وانقاد وطوَّعه له أي سهّله { يَبْحَثُ } يفتش وينقّب { سَوْءَةَ } السوأة: العورة { يَاوَيْلَتَا } كلمة تحسر وتلهف قال سيبويه: كلمةٌ تقال عند الهلكة { يُنفَوْاْ } نفاه: طرده وأصله الإِهلاك ومنه النّفاية لرديء المتاع { خِزْيٌ } الخزي: الفضيحة والذل يقال أخزاه الله أي فضحه وأذله { ٱلْوَسِيلَةَ } كل ما يتوسل به إِلى الله { نَكَالاً } عقوبة.
سَبَبُ النّزول: عن أنسٍ أن رهطاً من عُرينة قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجتووا المدينة - استوخموها - فبعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلى إِبل الصدقة وأمرهم أن يشربوا من ألبانها وأبوالها، فلما صحُّوا قتلوا راعي النبي صلى الله عليه وسلم واستاقوا النَّعَم فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم في آثارهم فجيء بهم فأمر بهم فقطعت أيديهم وأرجلهم وسُمِرت أعينهم وألقوا في الحرة حتى ماتوا فنزلت { إِنَّمَا جَزَآءُ ٱلَّذِينَ يُحَارِبُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ.. } الآية.
التفسِير: { وَٱتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ٱبْنَيْ ءَادَمَ بِٱلْحَقِّ } أي اقرأ يا محمد على هؤلاء الحسدة من اليهود وأشباههم خبر "قابيل وهابيل" ابنيْ آدم ملتبسةً بالحق والصِّدق وذكّرهم بهذه القصة فهي قصة حق { إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ ٱلآخَرِ } أي حين قرَّب كلٌ منهما قرباناً فتُقبل من هابيل ولم يُتقبل من قابيل قال المفسرون: سبب هذا القربان أن حوّاء كانت تلد في كل بطنٍ ذكراً وأنثى وكان يزوّج الذكر من هذا البطن الأنثى من البطن الآخر فلما أراد آدم أن يزوّج قابيلَ أخت هابيل ويزوّج هابيل أخت قابيل رضي هابيل وأبى قابيل لأن توأمته كانت أجمل فقال لهما آدم: قرّبا قرباناً فمن أيكما تُقبل تزوجها، وكان قابيل صاحب زرع فقرّب أرذل زرعه وكان هابيل صاحب غنم فقرّب أحسن كبشٍ عنده فقبل قربانُ هابيل بأن نزلت نارٌ فأكلته فازداد قابيل حسداً وسخطاً وتوعّده بالقتل { قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ } أي قال قابيل لأخيه هابيل لأقتلنك قال: لمَ؟ قال لأنه تقبل قربانك ولم يتقبل قرباني قال: وما ذنبي؟ { قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ ٱللَّهُ مِنَ ٱلْمُتَّقِينَ } أي إِنما يتقبل ممن اتقى ربه وأخلص نيته قال البيضاوي: توعّده بالقتل لفرط الحسد له على تقبل قربانه فأجابه بأنك أُتيت من قِبَل نفسك بترك التقوى لا من قِبَلي وفيه إِشارة إِلى أن الطاعة لا تُقبل إِلا من مؤمن متّقٍ لله { لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَآ أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ } أي لئن مددتَ إِليَّ يدك ظلماً لأجل قتلي ما كنتُ لأقابلك بالمثل قال ابن عباس المعنى: ما أنا بمنتصر لنفسي { إِنِّيۤ أَخَافُ ٱللَّهَ رَبَّ ٱلْعَالَمِينَ } أي لا أمدُّ يدي إِليك لأني أخاف ربَّ العالمين قال الزمخشري: قيل: كان هابيل أقوى من القاتل ولكنه تحرّج عن قتل أخيه خوفاً من الله { إِنِّيۤ أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ ٱلنَّارِ } أي إِن قتلتني فذاك أحبُّ إِليَّ من أن أقتلك قال أبو حيان: المعنى إِن سبق بذلك قَدَرٌ فاختياري أن أكون مظلوماً ينتصر الله لي لا ظالماً وقال ابن عباس: المعنى لا أبدؤك بالقتل لترجع بإِثم قتلي إِن قتلتني، وإِثمك الذي كان منك قبل قتلي فتصير من أهل النار { وَذَلِكَ جَزَآءُ ٱلظَّالِمِينَ } أي عقاب من تعدّى وعصى أمر الله { فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ ٱلْخَاسِرِينَ } أي زيّنت له نفسه وسهّلت له قتل أخيه فقتله فخسر وشقي قال ابن عباس: خوّفه بالنار فلم ينته ولم ينزجر { فَبَعَثَ ٱللَّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي ٱلأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ } أي أرسل الله غراباً يحفر بمنقاره ورجله الأرض ليُري القاتل كيف يستر جسد أخيه قال مجاهد: بعث الله غرابين فاقتتلا حتى قتل أحدهما صاحبه ثم حفر له فدفنه، وكان ابن آدم هذا أول من قُتِل، وروي أنه لما قتله تركه بالعراء ولم يدر كيف يدفنه حتى رأى الغراب يدفن صاحبه فلما رآه { قَالَ يَاوَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَـٰذَا ٱلْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي } أي قال قابيل متحسراً يا ويلي ويا هلاكي أضعفتُ أن أكون مثل هذا الطير فأستر جسد أخي في التراب كما فعل هذا الغراب؟ { فَأَصْبَحَ مِنَ ٱلنَّادِمِينَ } أي صار نادماً على عدم الاهتداء إِلى دفن أخيه لا على قتله قال ابن عباس: ولو كانت ندامته على قتله لكانت الندامة توبةً له { مِنْ أَجْلِ ذٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي ٱلأَرْض } أي من أجل حادثة "قابيل وهابيل" وبسبب قتله لأخيه ظلماً فرضنا وحكمنا على بني إِسرائيل أن من قتل منهم نفساً ظلماً بغير أن يقتل نفساً فيستحق القصاص وبغير فسادٍ يوجب إِهدار الدم كالردّة وقطع الطريق { فَكَأَنَّمَا قَتَلَ ٱلنَّاسَ جَمِيعاً } أي فكأنه قتل جميع الناس قال البيضاوي: من حيث انه هتك حرمة الدماء وسنَّ القتل وجرأ الناس عليه، والمقصود منه تعظيم قتل النفس وإِحيائها في القلوب ترهيباً عن التعرض لها وترغيباً في المحاماة عليها { وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً } أي ومن تسبَّب لبقاء حياتها واستنقذها من الهَلَكة فكأنه أحيا جميع الناس قال ابن عباس في تفسير الآية: من قتل نفساً واحدةً حرّمها الله فهو مثلُ من قتل الناس جميعاً ومن امتنع عن قتل نفسٍ حرمها الله وصان حرمتها خوفاً من الله فهو كمن أحيا الناس جميعاً { وَلَقَدْ جَآءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِٱلّبَيِّنَٰتِ } أي بعدما كتبنا على بني إِسرائيل هذا التشديد العظيم وجاءتهم رسلنا بالمعجزات الساطعات والآيات الواضحات { ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ بَعْدَ ذٰلِكَ فِي ٱلأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ } أي ثم إِنهم بعد تلك الزواجر كلها يسرفون في القتل ولا يبالون بعظمته قال ابن كثير: هذا تقريعٌ لهم وتوبيخ على ارتكابهم المحارم بعد علمهم بها وقال الرازي: إِن اليهود مع علمهم بهذه المبالغة العظيمة أقدموا على قتل الأنبياء والرسل وذلك يدل على غاية قساوة قلوبهم ونهاية بعدهم عن طاعة الله تعالى، ولما كان الغرض من ذكر هذه القصص تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم لأنهم عزموا على الفتك به وبأصحابه كان تخصيص بني إِسرائيل بهذه المبالغة العظيمة مناسباً للكلام ومؤكداً للمقصود، ثم ذكر تعالى عقوبة قُطّاع الطريق فقال { إِنَّمَا جَزَآءُ ٱلَّذِينَ يُحَارِبُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ } أي يحاربون شريعة الله ودينه وأولياءه ويحاربون رسوله { وَيَسْعَوْنَ فِي ٱلأَرْضِ فَسَاداً } أي يفسدون في الأرض بالمعاصي وسفك الدماء { أَن يُقَتَّلُوۤاْ } أي يُقتلوا جزاء بغيهم { أَوْ يُصَلَّبُوۤاْ } أي يُقتلوا ويُصلبوا زجراً لغيرهم، والصيغةُ للتكثير { أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ } معناه أن تُقطع أيديهم اليمنى وأرجلهم اليسرى { أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ ٱلأَرْضِ } أي يُطردوا ويُبعدوا من بلدٍ إِلى بلد آخر { ذٰلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي ٱلدُّنْيَا } أي ذلك الجزاء المذكور ذلٌ لهم وفضيحة في الدنيا { وَلَهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ } هو عذاب النار، قال بعض العلماء: الإِمام بالخيار إِن شاء قتل، وإِن شاء صلب، وإِن شاء قطع الأيدي والأرجل، وإِن شاء نفى وهو مذهب مالك. وقال ابن عباس: لكلّ رتبةٍ من الحِرَابة رتبةٌ من العقاب فمن قَتَل قُتل، ومن قتل وأخذ المال قُتل وصُلب، ومن اقتصر على أخذ المال قطعت يده ورجله من خلاف، ومن أخاف فقط نُفي من الأرض، وهذا قول الجمهور { إِلاَّ ٱلَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ } أي لكن الذين تابوا من المحاربين وقُطّاع الطريق قبل القدرة على أخذهم وعقوبتهم { فَٱعْلَمُواْ أَنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } أي واسع المغفرة والرحمة لمن تاب وأناب يقبل توبته ويغفر زلّته، ثم أمر تعالى المؤمنين بالتقوى والعمل الصالح فقال { يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱبْتَغُوۤاْ إِلَيهِ ٱلْوَسِيلَةَ } أي خافوا عقابه واطلبوا ما يقربكم إِليه من طاعته وعبادته قال قتادة: تقربوا إِليه بطاعته والعمل بما يرضيه { وَجَاهِدُواْ فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } أي جاهدوا لإِعلاء دينه لتفوزوا بنعيم الأبد { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ } أي لو كان لكل كافر جميع ما في الأرض من خيرات وأموال ومثله معه { لِيَفْتَدُواْ بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي وأراد أن يفتدي بها نفسه من عذاب الله ما نفعه ذلك وله عذاب مؤلم موجع { يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ ٱلنَّارِ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ } أي دائم لا ينقطع وفي الحديث
"يُجاء بالكافر يوم القيامة فيقال له: أرأيتَ لو كان لك ملء الأرض ذهباً أكنتَ تفتدي به؟ فيقول نعم فيقال له: قد كنتَ سُئلتَ ما هو أيسرُ من ذلك ألاّ تشرك بي فأبيت فيؤمر به إِلى النار" ثم ذكر تعالى عقوبة السارق فقال { وَٱلسَّارِقُ وَٱلسَّارِقَةُ فَٱقْطَعُوۤاْ أَيْدِيَهُمَا } أي كل من سرق رجلاً كان أو امرأة فاقطعوا يده { جَزَآءً بِمَا كَسَبَا } أي مجازاة لهما على فعلهما القبيح { نَكَالاً مِّنَ ٱللَّهِ } أي عقوبة من الله { وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } أي حكيم في شرعه فلا يأمر بقطع اليد ظلماً { فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ } أي رجع عن السرقة { وَأَصْلَحَ } أي أصلح سيرته وعمله { فَإِنَّ ٱللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ } أي يقبل توبته فلا يعذبه في الآخرة { إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } أي مبالغ في المغفرة والرحمة، ثم نبّه تعالى على واسع ملكه وأنه لا معقّب لحكمه فقال { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ ٱللَّهَ لَهُ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } أي ألم تعلم أيها المخاطب أن الله تعالى له السلطان القاهر والملك الباهر وبيده ملكوت السماوات والأرض والاستفهام للتقرير { يُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } أي يعذّب من يشاء تعذيبه ويغفر لمن يشاء غفران ذنبه وهو القادر على كل شيء الذي لا يعجزه شيء.
البَلاَغَة: 1- الطباق بين كلمة { قَتَلَ... وأَحْيَا } وهو من المحسنات البديعية وكذلك بين { يُعَذِّبُ.. وَيَغْفِرُ }.
2- { يُحَارِبُونَ ٱللَّهَ } هو على حذف مضاف أي يحاربون أولياء الله لأن الله لا يُحارب ولا يُغالب فالكلام على سبيل المجاز.
3- الاستعارة { وَمَنْ أَحْيَاهَا } لأن المراد استبقاها ولم يتعرض لقتلها، وإِحياء النفس بعد موتها لا يقدر عليه إِلا الله تعالى.
4- { لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُواْ بِهِ } قال الزمخشري: هذا تمثيلٌ للزوم العذاب لهم وأنه لا سبيل لهم إِلى النجاة منه بوجهٍ من الوجوه.
5- طباق السلب { لَئِن بَسَطتَ.. مَآ أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ }.
الفوَائِد: الأولى: النفي من الأرض كما يكون بالطرد والإِبعاد يكون بالحبس ولهذا قال مالكرحمه الله : النفيُ: السجنُ ينفى من سعة الدنيا إِلى ضيقها قال الشاعر وهو في السجن:

خرجنا عن الدنيا وعن وصل أهلهافلسنا من الأحيا ولسنا من الموتى
إِذا جاءنا السّجان يوماً لحاجةٍ عجبنا وقلنا: جاء هذا من الدنيا

الثانية: السرُّ في تقديم السارق على السارقة هنا وتقديم الزانية على الزاني في قوله { { ٱلزَّانِيَةُ وَٱلزَّانِي فَٱجْلِدُواْ } [النور: 2] أن الرجل على السرقة أجرأ، والزنى من المرأة أشنع وأقبح فناسب ذكر كلٍ منهما المقام.
الثالثة: قال الأصمعي: قرأتُ يوماً هذه الآية { وَٱلسَّارِقُ وَٱلسَّارِقَةُ } وإِلى جنبي أعرابي فقلت
{ { وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [البقرة: 218] سهواً فقال الأعرابي: كلامُ من هذا؟ قلت: كلام الله قال: ليس هذا بكلام الله أعِدْ فأعدت وتنبهتُ فقلت { وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } فقال: نعم هذا كلام الله فقلت: أتقرأ القرآن؟ قال: لا. قلت: فمن أين علمتَ أني أخطأتُ؟ فقال يا هذا: عزَّ فحكم فقطع، ولو غفر ورحم لما قطع.
الرابعة: اعترض بعض الملحدين على الشريعة الغراء في قطع يد السارق بالقليل من المال ونظم ذلك شعراً فقال:

يدٌ بخمسِ مئين عسجدٍ وُديتْ ما بالُها قُطعتْ في رُبْع دينار؟
تحكّمٌ مالنا إِلا السكوتُ لهوأن نعوذَ بمولانا من النّار

فأجابه بعض العلماء بقوله:

عزُّ الأمانة أغلاها وأرخصَها ذلُّ الخيانةِ فافهم حكمةَ الباري

أي لمّا كانت أمينة كانت ثمينة، فلما خانت هانت، ويا له من قول سديد.
"كلمة وجيزة حول قطع يد السارق"
يعيب بعض الغربيين على الشريعة الإِسلامية قطع يد السارق ويزعمون أن هذه العقوبة صارمة لا تليق بمجتمع متحضر ويقولون: يكفي في عقوبته السجن ردعاً له، وكان من أثر هذه الفلسفة التي لا تستند على منطقٍ سليم أن زادت الجرائم وكثرت العصابات وأصبحت السجون ممتلئة بالمجرمين وقطاع الطريق الذين يهدّدون الأمن والاستقرار، يسرق السارق وهو آمن مطمئن لا يخشى شيئاً اللهم إِلا ذلك السجن الذي يُطعم ويُكسى فيه فيقضي مدة العقوبة التي فرضها عليه القانون الوضعي ثم يخرج منه وهو إِلى الإِجرام أميل وعلى الشر أقدر، يؤكد هذا ما نقرؤه ونسمعه عن تعداد الجرائم وزيادتها يوماً بعد يوم، وذلك لقصور العقل البشري عن الوصول إلى الدواء الناجع والشفاء النافع لمعالجة مثل هذه الأمراض الخطيرة، أما الإِسلام فقد استطاع أن يقتلع الشر من جذوره ويدٌ واحدة تقطع كافية لردع المجرمين فيا له من تشريع حكيم!!