التفاسير

< >
عرض

يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُل لاَّ تَعْتَذِرُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا ٱللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى ٱللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ
٩٤
سَيَحْلِفُونَ بِٱللَّهِ لَكُمْ إِذَا ٱنْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُواْ عَنْهُمْ فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ
٩٥
يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِن تَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَرْضَىٰ عَنِ ٱلْقَوْمِ ٱلْفَاسِقِينَ
٩٦
ٱلأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ
٩٧
وَمِنَ ٱلأَعْرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ ٱلدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ ٱلسَّوْءِ وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
٩٨
وَمِنَ ٱلأَعْرَابِ مَن يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِندَ ٱللَّهِ وَصَلَوَاتِ ٱلرَّسُولِ أَلاۤ إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَّهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ ٱللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
٩٩
وَٱلسَّابِقُونَ ٱلأَوَّلُونَ مِنَ ٱلْمُهَاجِرِينَ وَٱلأَنْصَارِ وَٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ ٱللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً ذٰلِكَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ
١٠٠
وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِّنَ ٱلأَعْرَابِ مُنَٰفِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ ٱلْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى ٱلنِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَىٰ عَذَابٍ عَظِيمٍ
١٠١
وَآخَرُونَ ٱعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى ٱللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
١٠٢
خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَٰوتَك سَكَنٌ لَّهُمْ وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
١٠٣
أَلَمْ يَعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ ٱلتَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ ٱلصَّدَقَاتِ وَأَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ
١٠٤
وَقُلِ ٱعْمَلُواْ فَسَيَرَى ٱللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَٱلْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ
١٠٥
وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ ٱللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ
١٠٦
وَٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَاداً لِّمَنْ حَارَبَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ ٱلْحُسْنَىٰ وَٱللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ
١٠٧
لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى ٱلتَّقْوَىٰ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلْمُطَّهِّرِينَ
١٠٨
أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ تَقْوَىٰ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَٱنْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلظَّالِمِينَ
١٠٩
لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ ٱلَّذِي بَنَوْاْ رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ
١١٠
-التوبة

صفوة التفاسير

المنَاسَبَة: لا تزال الآيات تتحدث عن المنافقين، الذين تخلفوا عن الجهاد وجاءوا يؤكدون تلك الأعذار بالأيمان الكاذبة، وقد ذكر تعالى من مكائد المنافقين "مسجد الضرار" الذي بنوه ليكون وكراً للتآمر على الإِسلام والمسلمين، وحذر نبيه صلى الله عليه وسلم من الصلاة فيه، لأنه لم يشيد على أساس من التقوى، وإِنما بني ليكون مركزاً لأهل الشقاق والنفاق، ولتفريق وحدة المسلمين، وقد اشتهر باسم مسجد الضرار.
اللغَة: { ٱنْقَلَبْتُمْ } رجعتم { رِجْسٌ } الرجس: الشيء الخبيث المستقذر، وقد يطلق على النجس { وَمَأْوَاهُمْ } قال الجوهري: المأوى كل مكان يأوي إِليه ليلاً أو نهاراً { ٱلأَعْرَابُ } جمع أعرابي قال أهل اللغة: يقال رجل عربي إِذا كان نسبه في العرب وجمعه العرب، ورجل أعرابي إِذا كان بدوياً يطلب مساقط الغيث والكلأ، سواء كان من العرب أو من مواليهم، فمن استوطن القرى العربية فهم عرب، ومن نزل البادية فهم أعراب { أَجْدَرُ } أولى وأحق { مََغْرَماً } المغرم: الغرم والخسران وأصله من الغرام وهو لزوم الشيء { مَرَدُواْ } ثبتوا واستمروا وأصل الكلمة من اللين والملامسة والتجرد فكأنهم تجردوا للنفاق، ومنه رملة مرداء لا نبت فيها، وغصن أمرد لا ورق عليه، وغلام أمرد لا لحية له { مُرْجَوْنَ } الإِرجاء: التأخير يقال: ارجأته أي أخرته ومنه المرجئة لأنهم أخروا العمل { ضِرَاراً } الضرار: محاولة الضر وفي الحديث
"لا ضرر ولا ضرار" { إِرْصَاداً } الإِرصاد: الترقب والانتظار يقال أرصدت له كذا إِذا أعددته مرتقباً له به { شَفَا } الشفا: الحرف والشفير ومنه أشفى على كذا إذا دنا منه { جُرُفٍ }: ما تجرفه السيول من الأودية ويبقى على الأطراف طين مشرف على السقوط وأصله من الجرف وهو اقتلاع الشيء من أصله { هَارٍ } ساقط يقال: تهور البناء إِذا سقط وأصله هائر.
سَبَبُ النّزول:
"روي أن أبا عامر الراهب قد تنصر في الجاهلية وترهب، فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عاداه لأنه ذهبت رياسته وقال: لا أجد قوماً يقاتلونك إِلا قاتلتك معهم - وسماه النبي صلى الله عليه وسلم أبا عامر الفاسق - فلما انهزمت هوازن في حنين خرج إِلى الشام، وأرسل إِلى المنافقين أن استعدوا بما استطعتم من قوة وسلاح، وابنو لي مسجداً فإِني ذاهب إِلى قيصر فآتي بجند الروم فأُخرج محمداً وأصحابه، فبنوا مسجداً إِلى جانب مسجد قباء، وأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: إِنا بنينا مسجداً لذي العِلة، والحاجة، والليلة المطيرة، وإِنا نحب أن تأتينا فتصلي لنا فيه، فدعا بثوبه ليلبسه فيأتيهم فنزل عليه القرآن، وأخبر الله رسوله خبر مسجد الضرار وما هموا به، فدعا صلى الله عليه وسلم بعض الصحابة وقال لهم: انطلقوا إِلى هذا المسجد الظالم أهله واحرقوه، فذهبوا إِليه فحرقوه وهدموه وتفرق عنه أهله، وفيه نزلت { وَٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مَسْجِداً ضِرَاراً.. }" الآية.
التفسِيْر: { يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ } أي يعتذر إِليكم هؤلاء المتخلفون عن غزوة تبوك إِذا رجعتم إِليهم من سفركم وجهادكم { قُل لاَّ تَعْتَذِرُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ } أي قل لهم لا تعتذروا فلن نصدقكم فيما تقولون { قَدْ نَبَّأَنَا ٱللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ } أي قد أخبرنا الله بأحوالكم وما في ضمائركم من الخبث والنفاق { وَسَيَرَى ٱللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ } أي وسيرى الله ورسوله عملكم فيما بعد، أتتوبون من نفاقكم أم تقيمون عليه؟ { ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَادَةِ } أي ثم ترجعون بعد مماتكم إِلى الله تعالى الذي يعلم السر والعلانية، ولا تخفى عليه خافية { فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } أي فيخبركم عند وقوفكم بين يديه بأعمالكم كلها، ويجازيكم عليها الجزاء العادل { سَيَحْلِفُونَ بِٱللَّهِ لَكُمْ } أي سيحلف لكم بالله هؤلاء المنافقون { إِذَا ٱنْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ } أي إِذا رجعتم إِليهم من تبوك معتذرين بالأعذار الكاذبة { لِتُعْرِضُواْ عَنْهُمْ } أي لتصفحوا عنهم ولتعرضوا عن ذمهم { فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ } أي فأعرضوا عنهم إِعراض مقتٍ واجتناب، وخلُّوهم وما اختاروا لأنفسهم من الكفر والنفاق قال ابن عباس: يريد ترك الكلام والسلام ثم ذكر تعالى العلة فقال: { إِنَّهُمْ رِجْسٌ } أي لأنهم كالقذر لخبث باطنهم { وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ } أي مصيرهم إِلى جهنم هي مسكنهم ومأواهم { جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } أي جزاءً لهم على نفاقهم في الدنيا، وما اكتسبوه من الآثام { يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْاْ عَنْهُمْ } كرره لبيان كذبهم وللتحذير من الاغترار بمعاذيرهم الكاذبة، أي يحلفون لكم بأعظم الأيمان لينالوا رضاكم { فَإِن تَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَرْضَىٰ عَنِ ٱلْقَوْمِ ٱلْفَاسِقِينَ } أي فإِن رضيتم عنهم فإِن رضاكم لا ينفعهم لأن الله ساخط عليهم قال أبو السعود: ووضع الفاسقين موضع الضمير للتسجيل عليهم بالفسق والخروج عن الطاعة { ٱلأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً } الأعراب - أهل البدو - أشد كفراً وأعظم نفاقاً من أهل الحضر، لجفائهم وقسوة قلوبهم، وقلة مشاهدتهم لأهل الخير والصلاح { وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ } أي وهم أولى بألا يعلموا ما أنزل الله على رسوله من الأحكام والشرائع قال في البحر: وإِنما كانوا أشد كفراً ونفاقاً لفخرهم وطيشهم وتربيتهم بلا سائس ولا مؤدب، فقد نشأوا كما شاءوا، ولبعدهم عن مشاهدة العلماء ومعرفة كتاب الله وسنة رسوله، فكانوا أطلق لساناً بالكفر من منافقي المدينة { وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } أي عليم بخلقه حكيم في صنعه { وَمِنَ ٱلأَعْرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَماً } أي ومن هؤلاء الأعراب الجهلاء من يعدُّ ما يصرفه في سبيل الله ويتصدق به غرامة وخسراناً، لأنه لا ينفقه احتساباً فلا يرجو له ثواباً { وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ ٱلدَّوَائِرَ } أي ينتظر بكم مصائب الدنيا ليتخلص من أعباء النفقة { عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ ٱلسَّوْءِ } جملة اعتراضية للدعاء عليهم أي عليهم يدور العذاب والهلاك { وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } أي سميع لأقوالهم عليم بأفعالهم { وَمِنَ ٱلأَعْرَابِ مَن يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ } أي ومن الأعراب من يصدِّق بوحدانية الله وبالبعث بعد الموت على عكس أولئك المنافقين { وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِندَ ٱللَّهِ } أي ويتخذ ما ينفق في سبيل الله ما يقربه من رضا الله ومحبته { وَصَلَوَاتِ ٱلرَّسُولِ } أي دعاء الرسول واستغفاره له { أَلاۤ إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَّهُمْ } { أَلاۤ } أداة استفتاح للتنبيه على الاعتناء بالأمر أي ألا إِن هذا الإِنفاق قربة عظيمة تقربهم لرضا ربهم حيث أنفقوها مخلصين { سَيُدْخِلُهُمُ ٱللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ } أي سيدخلهم الله في جنته التي أعدها للمتقين { إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } أي غفور لأهل طاعته رحيم بهم حيث وفقهم للطاعة { وَٱلسَّابِقُونَ ٱلأَوَّلُونَ مِنَ ٱلْمُهَاجِرِينَ وَٱلأَنْصَارِ } أي والسابقون الأولون في الهجرة والنصرة، الذين سبقوا إِلى الإِيمان من الصحابة { وَٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ } أي سلكوا طريقهم واقتدوا بهم في سيرتهم الحسنة، وهم التابعون ومن سار على نهجهم إِلى يوم القيامة { رَّضِيَ ٱللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ } وعدٌ بالغفران والرضوان أي رضي الله عنهم وأرضاهم، وهذا أرقى المراتب التي يسعى إِليها المؤمنون، ويتنافس فيها المتنافسون أن يرضى الله تعالى عنهم ويرضيهم قال الطبري: رضي الله عنهم لطاعتهم إِياه وإِجابتهم نبيه، ورضوا عنه لما أجزل لهم من الثواب على الطاعة والإِيمان { وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا ٱلأَنْهَارُ } أي وأعد لهم في الآخرة جنات تجري من تحت أشجارها وقصورها الأنهار { خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً } أي مقيمين فيها من غير انتهاء { ذٰلِكَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ } أي ذلك هو الفوز الذي لا فوز وراءه قال في البحر: لما بيّن تعالى فضائل الأعراب المؤمنين، بيّن حال هؤلاء السابقين، ولكن شتان ما بين الثناءين فهناك قال { أَلاۤ إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَّهُمْ } وهنا قال { وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا ٱلأَنْهَارُ } وهناك ختم { إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } وهنا ختم { ذٰلِكَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ } { وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِّنَ ٱلأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ } أي وممن حولكم يا أهل المدينة منافقون من الأعراب منازلهم قريبة من منازلكم { وَمِنْ أَهْلِ ٱلْمَدِينَةِ } أي ومن أهل المدينة منافقون أيضاً { مَرَدُواْ عَلَى ٱلنِّفَاقِ } أي لجوا في النفاق واستمروا عليه قال ابن عباس: مرنوا عليه وثبتوا منهم ابن سلول، والجلاس، وأبو عامر الراهب { لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ } أي لا تعلمهم أنت يا محمد لمهارتهم في النفاق بحيث يخفى أمرهم على كثيرين، ولكن نحن نعلمهم ونخبرك عن أحوالهم { سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ } أي في الدنيا بالقتل والأسر، وعند الموت بعذاب القبر { ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَىٰ عَذَابٍ عَظِيمٍ } أي ثم في الآخرة يردون إِلى عذاب النار، الذي أعده الله للكفار والفجار { وَآخَرُونَ ٱعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ } أي وقوم آخرون أقروا بذنوبهم ولم يعتذروا عن تخلفهم بالمعاذير الكاذبة قال الرازي: هم قوم من المسلمين تخلفوا عن غزوة تبوك لا لنفاقهم بل لكسلهم، ثم ندموا على ما فعلوا وتابوا { خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً } أي خلطوا جهادهم السابق وخروجهم مع الرسول لسائر الغزوات بالعمل السيء وهو تخلفهم عن غزوة تبوك هذه المرة { عَسَى ٱللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ } أي لعل الله يتوب عليهم قال الطبري: وعسى من الله واجب ومعناه: سيتوب الله عليهم، ولكنه في كلام العرب بمعنى الترجي على ما وصفت { إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } أي ذو عفوٍ لمن تاب، عظيم الرحمة لمن أناب { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا } أي خذ يا محمد من هؤلاء الذين اعترفوا بذنوبهم صدقة تطهرهم بها من الذنوب والأوضار، وتنمي بتلك الصدقة حسناتهم حتى يرتفعوا بها إِلى مراتب المخلصين الأبرار { وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَٰوتَك سَكَنٌ لَّهُمْ } أي وادع لهم بالمغفرة فإِن دعاءك واستغفارك طمأنينة لهم قال ابن عباس: { سَكَنٌ لَّهُمْ } رحمة لهم { وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } أي سميع لقولهم عليم بنياتهم { أَلَمْ يَعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ ٱلتَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ } الاستفهام للتقرير أي ألم يعلم أولئك التائبون أن الله تعالى هو الذي يقبل توبة من تاب من عباده، { وَيَأْخُذُ ٱلصَّدَقَاتِ } أي يتقبلها ممن أخلص النية { وَأَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ } أي وأن الله وحده المستأثر بقبول التوبة والرحمة، لقوله
{ { غَافِرِ ٱلذَّنبِ وَقَابِلِ ٱلتَّوْبِ } [غافر: 3] { وَقُلِ ٱعْمَلُواْ فَسَيَرَى ٱللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَٱلْمُؤْمِنُونَ } صيغة أمر متضمنة للوعيد أي اعملوا ما شئتم من الأعمال فأعمالكم لا تخفى على الله، وستعرض يوم الحساب على الرسول والمؤمنين { وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَادَةِ } أي وستردُّون إِلى الله الذي لا تخفى عليه خافية { فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } أي فيجازيكم على أعمالكم إِن خيراً فخير، وإِن شراً فشر { وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ ٱللَّهِ } أي وآخرون من المتخلفين مؤخرون إِلى أن يظهر أمر الله فيهم قال ابن عباس: هم كعب بن مالك، ومرارة بن الربيع، وهلال بن أمية، لم يسارعوا إِلى التوبة والاعتذار، وكانوا من أصحاب بدر، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن كلامهم والسلام عليهم، فصاروا مرجئين لأمره تعالى إلى أن يتجاوز عن سيئاتهم، فهو تعالى وحده الذي يقبل التوبة ويتوب على العبد دون غيره { إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ } أي إِما أن يعذبهم إِن لم يتوبوا، وإِما أن يوفقهم للتوبة ويغفر لهم { وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } أي عليم بأحوالهم حكيم فيما يفعله بهم، وهؤلاء الثلاثة المذكورون في قوله تعالى { { وَعَلَى ٱلثَّلاَثَةِ ٱلَّذِينَ خُلِّفُواْ } [التوبة: 118] وقد وقف أمرهم خمسين ليلة وهجرهم الناس حتى نزلت توبتهم بعد { وَٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مَسْجِداً ضِرَاراً } أي ومن المنافقين جماعة بالغوا في الإِجرام حتى ابتنوا مجمعاً يدبرون فيه الشر، وسموه مسجداً مضارة للمؤمنين، وقد اشتهر باسم "مسجد الضرار" { وَكُفْراً } أي نصرة للكفر الذي يخفونه { وَتَفْرِيقاً بَيْنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } أي يفرقون بواسطته جماعة المؤمنين، ويصرفونهم عن مسجد قباء { وَإِرْصَاداً لِّمَنْ حَارَبَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ } أي ترقباً وانتظاراً لقدوم أبي عامر الفاسق الذي قال لرسول الله: لا أجد قوماً يقاتلونك إِلا قاتلتك معهم، وهو الذي أمرهم ببناء المسجد ليكون معقلاً له قال الطبري في رواية الضحاك: هم ناس من المنافقين بنوا مسجداً بقباء يضارون به نبي الله والمسلمين وكانوا يقولون: إِذا رجع أبو عامر صلى فيه، وإِذا قدم ظهر على محمد وتغلب عليه { وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ ٱلْحُسْنَىٰ } أي وليقسمن ما أردنا ببنائه إِلا الخير والإِحسان، من الرفق بالمسكين، والتوسعة على المصلين { وَٱللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } أي والله يعلم كذبهم في ذلك الحلف، وأتى بإِن واللام لزيادة التأكيد، ثم نهى تعالى رسوله عن الصلاة في مسجد الضرار فقال { لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَداً } أي لا تصل فيه يا محمد أبداً لأنه لم يُبْنَ إِلا ليكون معقلاً لأهل النفاق { لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى ٱلتَّقْوَىٰ } اللام لام القسم أي لمسجد قباء الذي بني على تقوى الله وطاعته { مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ } أي من أول يوم ابتدئ في بنائه { أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ } أي أولى وأجدر بأن تصلي فيه من مسجد الضرار { فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ } أي في هذا المسجد رجال أتقياء - وهم الأنصار - يحبون أن يتطهروا من الذنوب والمعاصي { وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلْمُطَّهِّرِينَ } أي المبالغين في الطهارة الظاهرة والباطنة، ثم أشار تعالى إِلى فضل مسجد التقوى على مسجد الضرار فقال: { أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ تَقْوَىٰ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ } الاستفهام للإِنكار والمعنى: هل من أسس بنيانه على تقوى وخوف من الله تعالى وطلبٍ لمرضاته بالطاعة { خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ } أي هل ذاك خير أم هذا الذي أسس بنيانه على طرف واد متصدع مشرف على السقوط؟ { فَٱنْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ } أي فسقط به البناء في نار جهنم { وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلظَّالِمِينَ } أي لا يوفق الظالمين إِلى السداد، ولا يهديهم سبيل الرشاد، والآية الكريمة على سبيل التشبيه والتمثيل لعمل أهل الإِخلاص، والإِيمان، وعمل أهل النفاق والضلال، والمعنى هل من أسس بنيان دينه على التقوى والإِخلاص كمن أسسه على الباطل والنفاق الذي يشبه طرف الوادي أو الجبل الذي أشفى على السقوط؟ { لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ ٱلَّذِي بَنَوْاْ رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ } أي لا يزال في قلوب أهل مسجد الضرار شكٌ ونفاقٌ، وغيظ وارتياب بسبب هدمه، يحسبون أنهم كانوا في بنائه محسنين، روي أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث إِلى ذلك المسجد من هدمه وحرقه وأمر بإِلقاء الجيف والنتن والقمامة فيه إِهانة لأهله، فلذلك اشتد غيظ المنافقين وحقدهم { إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ } أي لا يزالون في ارتياب وغيظ إِلا أن تتصدع قلوبهم فيموتوا { وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } أي والله سبحانه عليم بأحوال المنافقين، حكيم في تدبيره إِياهم ومجازاتهم بسوء نياتهم.
البَلاَغَة: 1- { ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَادَةِ } بين الكلمتين طباق.
2- { لاَ يَرْضَىٰ عَنِ ٱلْقَوْمِ ٱلْفَاسِقِينَ } الإِظهار في موضع الإِضمار لزيادة التشنيع والتقبيح وأصله لا يرضى عنهم.
3- { سَيُدْخِلُهُمُ ٱللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ } فيه مجاز مرسل أي يدخلهم في جنته التي هي محل الرحمة وهو من إِطلاق الحال وإِرادة المحل.
4- { عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً } بين { صَالِحاً وسَيِّئاً } طباق.
5- { إِنَّ صَلَٰوتَك سَكَنٌ لَّهُمْ } فيه تشبيه بليغ حيث جعل الصلاة نفس السكن والاطمئنان مبالغة وأصله كالسكن حذفت أداة التشبيه ووجه الشبه فأصبح بليغاً.
6- { هَارٍ فَٱنْهَارَ } بينهما جناس ناقص وهو من المحسنات البديعية.
7- { أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ تَقْوَىٰ } في الكلام استعارة مكنية حيث شبهت التقوى والرضوان بأرض صلبة يعتمد عليها البنيان وطوي ذكر المشبه به ورمز له بشيء من لوازمه وهو التأسيس.
تنبيه: كلمة "عسى" من الله واجب قال الإِمام الرازي: وتحقيق القول فيه أن القرآن نزل على عرف الناس في الكلام، والسلطان العظيم إِذا التمس المحتاج منه شيئاً فإِنه لا يجيبه إِلا على سبيل الترجي مع كلمة "عسى" أو "لعل" تنبيهاً على أنه ليس لأحدٍ أن يلزمه بشيء، بل كل ما يفعله فإِنما هو على سبيل التفضل والتطول، وفيه فائدة أخرى وهو أن يكون المكلف على الطمع والإِشفاق لأنه أبعد من الإِتكال والإِهمال.
لطيفَة: روى الأعمش أن أعرابياً جلس إِلى "زيد بن صوحان" وهو يحدث أصحابه - وكانت يده أصيبت يوم نهاوند، فقال الأعرابي: والله إِن حديثك ليعجبني، وإِن يدك لتريبني! فقال زيد: ما يريبك من يدي إِنها الشمال، فقال الأعرابي: والله ما أدري اليمين يقطعون أم الشمال فقال زيد: صدق الله { ٱلأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ.. } الآية، معنى تريبني أي تدخل إِلى قلبي الشك هل قطعت في سرقة وهذا من جهل الأعرابي.