التفاسير

< >
عرض

وَمِنْهُمْ مَّنْ عَاهَدَ ٱللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلصَّالِحِينَ
٧٥
فَلَمَّآ آتَاهُمْ مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُمْ مُّعْرِضُونَ
٧٦
فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَىٰ يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَآ أَخْلَفُواْ ٱللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ
٧٧
أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ ٱللَّهَ عَلاَّمُ ٱلْغُيُوبِ
٧٨
ٱلَّذِينَ يَلْمِزُونَ ٱلْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ ٱللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
٧٩
ٱسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ ٱللَّهُ لَهُمْ ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْفَاسِقِينَ
٨٠
فَرِحَ ٱلْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ ٱللَّهِ وَكَرِهُوۤاْ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي ٱلْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ
٨١
فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيراً جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ
٨٢
فَإِن رَّجَعَكَ ٱللَّهُ إِلَىٰ طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ فَٱسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَداً وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوّاً إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِٱلْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَٱقْعُدُواْ مَعَ ٱلْخَالِفِينَ
٨٣
وَلاَ تُصَلِّ عَلَىٰ أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً وَلاَ تَقُمْ عَلَىٰ قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ
٨٤
وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَٰلُهُمْ وَأَوْلَـٰدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي ٱلدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَٰفِرُونَ
٨٥
وَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُواْ بِٱللَّهِ وَجَاهِدُواْ مَعَ رَسُولِهِ ٱسْتَأْذَنَكَ أُوْلُواْ ٱلطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُواْ ذَرْنَا نَكُنْ مَّعَ ٱلْقَاعِدِينَ
٨٦
رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ ٱلْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ
٨٧
لَـٰكِنِ ٱلرَّسُولُ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ جَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُوْلَـٰئِكَ لَهُمُ ٱلْخَيْرَاتُ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ
٨٨
أَعَدَّ ٱللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذٰلِكَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ
٨٩
وَجَآءَ ٱلْمُعَذِّرُونَ مِنَ ٱلأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ ٱلَّذِينَ كَذَبُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
٩٠
لَّيْسَ عَلَى ٱلضُّعَفَآءِ وَلاَ عَلَىٰ ٱلْمَرْضَىٰ وَلاَ عَلَى ٱلَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى ٱلْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
٩١
وَلاَ عَلَى ٱلَّذِينَ إِذَا مَآ أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَآ أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ ٱلدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنْفِقُونَ
٩٢
إِنَّمَا ٱلسَّبِيلُ عَلَى ٱلَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَآءُ رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ ٱلْخَوَالِفِ وَطَبَعَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ
٩٣
-التوبة

صفوة التفاسير

المنَاسَبَة: لا تزال الآيات الكريمة تتحدث عن المنافقين، وتفضح أسرارهم، وتكشف أحوالهم، باعتبار خطرهم الداهم على الإِسلام والمسلمين.
اللغَةَ: { أَعْقَبَهُمْ } قال الليث: يقال أعقبت فلاناً ندامة إِذا صارت عاقبة أمره ذلك، ويقال: أكل أكلة أعقبته سقماً أي حصل له بها السقم قال الهذلي:

أودى بني وأعقبوني حسرةبعد الرقاد وعبرة لا تقلع

{ سِرَّهُمْ } السر: ما ينطوي عليه الصدر { نَجْوَاهُمْ } النجوى: ما يكون بين شخصين أو أكثر من الحديث مأخوذ من النجوة وهو الكلام الخفي، كأن المتناجيين منعا إِدخال غيرهما معهما { يَلْمِزُونَ } يعيبون واللمز: العيب { ٱلْمُخَلَّفُونَ } المخلف، المتروك الذي تخلف عن الجهاد { ٱلطَّوْلِ } الغنى { ٱلْمُعَذِّرُونَ } جمع معذر كمقصِّر وهو الذي يعتذر بغير عذر قال الجوهري: هو الذي يعتذر بالكذب وأصله من العذر وفي الأمثال "أُعذر من أنذر" أي بالغ في العذر من تقدم إِليك فأنذرك.
سَبَبُ النّزول: أ - روي
" أن رجلاً يسمى ثعلبة جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله: ادع الله أن يرزقني مالاً فقال: ويحك يا ثعلبة قليل تؤدي شكره، خير من كثير، لا تطيقه، فقال: والذي بعثك بالحق لئن دعوت الله أن يرزقني مالاً لأعطين كل ذي حق حقه، فلم يزل يراجعه حتى دعا له، فاتخذ غنماً فنمَت كما ينمو الدود، فضاقت عليه المدينة فتنحى عنها فنزل وادياً من أوديتها حتى جعل يصلي الظهر والعصر في جماعة ويترك ما سواهما، ثم نمت وكثرت حتى ترك الجمعة والجماعة، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه فأخبروه يخبره فقال: يا ويح ثعلبة ثلاثاً، فأنزل الله { وَمِنْهُمْ مَّنْ عَاهَدَ ٱللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ.. } الآية" فهلك في خلافة عثمان.
ب - عن ابن عمر قال:
"لما توفي عبد الله بن أبي جاء ابنه الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله أن يعطيه قميصه يكفن فيه أباه فأعطاه، ثم سأله أن يصلي عليه فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه، فقام عمر فقال يا رسول الله: أعلى عدو الله تصلي؟ فقال: أخر عني يا عمر إِني خُيرت فاخترت فقيل لي { ٱسْتَغْفِرْ لَهُمْ } الآية ولو أعلم أني لو زدت على السبعين غفر له لزدت، ثم صلى عليه ومشى معه وقام على قبره فما كان إِلا يسيراً حتى أنزل الله { وَلاَ تُصَلِّ عَلَىٰ أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً.. }" الآية.
التفسِير: { وَمِنْهُمْ مَّنْ عَاهَدَ ٱللَّهَ } أي ومن المنافقين من أعطى الله عهده وميثاقه { لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ } أي لئن أعطانا الله من فضله ووسع علينا في الرزق { لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلصَّالِحِينَ } أي لنصدقن على الفقراء والمساكين، ولنعملن فيها بعمل أهل الخير والصلاح { فَلَمَّآ آتَاهُمْ مِّن فَضْلِهِ } أي فلما رزقهم الله وأغناهم من فضله { بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُمْ مُّعْرِضُونَ } أي بخلوا بالإِنفاق ونقضوا العهد وأعرضوا عن طاعة الله ورسوله { فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَىٰ يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ } أي جعل الله عاقبتهم رسوخ النفاق في قلوبهم إِلى يوم لقاء الله { بِمَآ أَخْلَفُواْ ٱللَّهَ مَا وَعَدُوهُ } أي بسبب إِخلافهم ما عاهدوا الله عليه من التصدق والصلاح { وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ } أي وبسبب كذبهم في دعوى الإِيمان والإِحسان { أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ } الاستفهام للتوبيخ والتقريع أي ألم يعلم هؤلاء المنافقون أن الله يعلم أسرارهم وأحوالهم, ما يخفونه في صدورهم، وما يتحدثون به بينهم؟ { وَأَنَّ ٱللَّهَ عَلاَّمُ ٱلْغُيُوبِ } أي لا يخفى عليه شيء مما غاب عن الأسماع والأبصار والحواس؟ { ٱلَّذِينَ يَلْمِزُونَ ٱلْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ } أي يعيبون المتطوعين المتبرعين من المؤمنين في صدقاتهم { وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ } أي ويعيبون الذين لا يجدون إِلا طاقتهم فيهزءون منهم روى الطبري عن ابن عباس قال: جاء عبد الرحمن بن عوف بأربعين أوقية من ذهب إِلى النبي صلى الله عليه وسلم، وجاء رجل من الأنصار بصاعٍ من تمر، فقال بعض المنافقين: والله ما جاء عبد الرحمن بما جاء به إِلا رياءٌ، وإِن كان الله ورسوله لغنيين عن هذا الصاع فنزلت { سَخِرَ ٱللَّهُ مِنْهُمْ } أي جازاهم على سخريتهم وهو من باب المشاكلة { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي عذاب موجع، هو عذاب الآخرة المقيم { ٱسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ } أمر ومعناه الخبر أي سواء يا محمد استغفرت لهؤلاء المنافقين أم لم تستغفر لهم فلن يغفر الله لهم { إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ ٱللَّهُ لَهُمْ } قال الزمخشري: والسبعون جارٍ مجرى المثل في كلامهم للتكثير والمعنى مهما أكثرت من الاستغفار لهم وبالغت فيه فلن يغفر الله لهم أبداً { ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ } أي عدم المغفرة لهم بسبب كفرهم بالله ورسوله كفراً شنيعاً حيث أظهروا الإِيمان وأبطنوا الكفر { وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْفَاسِقِينَ } أي لا يوفق للإِيمان الخارجين عن طاعته، ولا يهديهم إِلى سبيل السعادة { فَرِحَ ٱلْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ ٱللَّهِ } أي فرح المنافقون الذين تخلفوا عن رسول الله في غزوة تبوك بقعودهم بعد خروج الرسول صلى الله عليه وسلم مخالفة له حين سار وأقاموا { وَكَرِهُوۤاْ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ } أي وكرهوا الخروج إِلى الجهاد إِيثاراً للراحة وخوف إِتلاف النفس والمال لما في قلوبهم من الكفر والنفاق { وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي ٱلْحَرِّ } أي قال بعضهم لبعض: لا تخرجوا إِلى الجهاد في وقت الحر، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم استنفرهم إِلى هذه الغزوة في حر شديد، قال أبو السعود: وإِنما قال { وَكَرِهُوۤاْ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ } على قوله "وكرهوا أن يخرجوا إِلى الغزو" إِيذاناً بأن الجهاد في سبيل الله مع كونه من أجلِّ الرغائب، وأشرف المطالب، التي يجب ان يتنافس فيها المتنافسون قد كرهوه، كما فرحوا بأقبح القبائح الذي هو القعود خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا لإِخوانهم تواصياً فيما بينهم بالشر والفساد لا تنفروا في الحر، فقد جمعوا ثلاث خصال من الكفر والضلال: الفرح بالقعود، وكراهية الجهاد، ونهي الغير عن ذلك، قال تعالى رداً عليهم { قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً } أي قل لهم يا محمد: نار جهنم التي تصيرون إِليها بتثاقلكم عن الجهاد أشد حراً مما تحذرون من الحر المعهود، فإِن حر الدنيا يزول ولا يبقى، وحر جهنم دائم لا يفتر، فما لكم لا تحذرون نار جهنم؟ قال الزمخشري: وهذا استجهال لهم، لأن من تصوَّن من مشقة ساعة، فوقع بذلك التصون في مشقة الأبد كان أجهل من كل جاهل { لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ } أي لو كانوا يفهمون لنفروا مع الرسول صلى الله عليه وسلم في الحر، ليتقوا به حر جهنم الذي هو أضعاف أضعاف هذا ولكنهم "كالمستجير من الرمضاء بالنار" { فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيراً } أمر يراد به الخبر معناه: فسيضحكون قليلاً، وسيبكون كثيراً، قال ابن عباس: الدنيا قليل فليضحكوا فيها ما شاءوا، فإِذا انقطعت الدنيا وصاروا إِلى الله عز وجل استأنفوا بكاءً لا ينقطع أبداً { جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } أي جزاءً لهم على ما اجترحوا من فنون المعاصي { فَإِن رَّجَعَكَ ٱللَّهُ إِلَىٰ طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ } أي فإِن ردك الله من غزوة تبوك إِلى طائفة من المنافقين الذين تخلفوا بغير عذر { فَٱسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ } أي طلبوا الخروج معك لغزوة أخرى { فَقُلْ لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَداً } أي قل لهم لن تخرجوا معي للجهاد أبداً { وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوّاً } أي لن يكون لكم شرف القتال معي لأعداء الله، وهو خبر معناه النهي للمبالغة، جارٍ مجرى الذم لهم لإِظهار نفاقهم { إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِٱلْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ } أي قعدتم عن الخروج معي أول مرة حين لم تخرجوا إِلى تبوك { فَٱقْعُدُواْ مَعَ ٱلْخَالِفِينَ } أي فاقعدوا مع المتخلفين عن الغزو من النساء والصبيان { وَلاَ تُصَلِّ عَلَىٰ أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً } أي لا تصل يا محمد على أحدٍ من هؤلاء المنافقين إِذا مات، لأن صلاتك رحمة، وهم ليسوا أهلاً للرحمة { وَلاَ تَقُمْ عَلَىٰ قَبْرِهِ } أي لا تقف على قبره للدفن، أو للزيارة والدعاء { إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ } أي لأنهم كانوا في حياتهم منافقين يظهرون الإِيمان ويبطنون الكفر { وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ } أي وماتوا وهم على نفاقهم خارجون من الإِسلام متمردون في العصيان، نزلت في ابن سلول { وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلاَدُهُمْ } أي لا تستحسن ما أنعمنا به عليهم من الأموال والأولاد { إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي ٱلدُّنْيَا } أي لا يريد بهم الخير إِنما يريد أن يعذبهم بها في الدنيا بالمصائب والنكبات { وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ } أي تخرج أرواحهم ويموتوا على الكفر منشغلين بالتمتع بالأموال والأولاد عن النظر والتدبر في العواقب { وَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ } التنكير للتفخيم أي وإِذا أنزلت سورة جليلة الشأن { أَنْ آمِنُواْ بِٱللَّهِ وَجَاهِدُواْ مَعَ رَسُولِهِ } أي بأن آمنوا بالله بصدقٍ ويقين، وجاهدوا مع الرسول لنصرة الحق وإِعزاز الدين { ٱسْتَأْذَنَكَ أُوْلُواْ ٱلطَّوْلِ مِنْهُمْ } أي استأذنك في التخلف أُولوا الغنى والمال الكثير { وَقَالُواْذَرْنَا نَكُنْ مَّعَ ٱلْقَاعِدِينَ } أي دعنا نكن مع الذين لم يخرجوا للغزو وقعدوا لعذر، قال تعالى تقبيحاً لهم وذماً { رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ ٱلْخَوَالِفِ } أي رضوا بأن يكونوا مع النساء والمرضى والعجزة الذين تخلفوا في البيوت { وَطُبِعَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ } أي ختم عليها { فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ } أي فهم لا يفهمون ما في الجهاد وطاعة الرسول من السعادة، وما في التخلف عنه من الشقاوة { لَـٰكِنِ ٱلرَّسُولُ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ جَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ } قال الرازي: لما شرح حال المنافقين، بيّن حال الرسول والمؤمنين بالضد منه، حيث بذلوا المال والنفس في طلب رضوان الله والتقرب إِليه والمعنى: إِن تخلف هؤلاء ولم يجاهدوا، فقد جاهد من هو خير منهم وأخلص نية واعتقاداً { وَأُوْلَـٰئِكَ لَهُمُ ٱلْخَيْرَاتُ } أي لهم منافع الدارين: النصر والغنيمة في الدنيا، والجنة والكرامة في الآخرة { وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } أي الفائزون بالمطلوب { أَعَدَّ ٱللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ } أي أعد الله لهم على إِيمانهم وجهادهم بساتين تجري من تحت قصورها الأنهار { خَالِدِينَ فِيهَا } أي لابثين في الجنة أبداً { ذٰلِكَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ } أي ذلك هو الظفر العظيم الذي لا فوز وراءه { وَجَآءَ ٱلْمُعَذِّرُونَ مِنَ ٱلأَعْرَابِ } أي جاء المعتذرون من الأعراب الذين انتحلوا الأعذار وتخلفوا عن الجهاد { لِيُؤْذَنَ لَهُمْ } أي في ترك الجهاد، وهذا بيان لأحوال المنافقين من الأعراب بعد بيان أحوال المنافقين من أهل المدينة، قال البيضاوي: هم "أسد" و "غطفان" استأذنوا في التخلف معتذرين بالجهد وكثرة العيال { وَقَعَدَ ٱلَّذِينَ كَذَبُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ } أي وقعد عن الجهاد الذين كذبوا الله ورسوله في دعوى الإِيمان، وهم قوم لم يجاهدوا ولم يعتذروا عن تخلفهم { سَيُصِيبُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } وعيد لهم شديد أي سينال هؤلاء المتخلفين الكاذبين في دعوى الإِيمان عذاب أليم بالقتل والأسر في الدنيا، والنار في الآخرة { لَّيْسَ عَلَى ٱلضُّعَفَآءِ وَلاَ عَلَىٰ ٱلْمَرْضَىٰ } أي ليس على الشيوخ المسنين، ولا على المرضى العاجزين الذين لا يستطيعون الجهاد لعجزهم أو مرضهم { وَلاَ عَلَى ٱلَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ } أي الفقراء الذين لا يجدون نفقة للجهاد { حَرَجٌ } أي إِثم في القعود { إِذَا نَصَحُواْ للَّهِ وَرَسُولِهِ } أي أخلصوا الإِيمان والعمل الصالح، فلم يرجفوا بالناس ولم يثبطوهم، ولم يثيروا الفتن، فليس على هؤلاء حرج إِذا تركوا الغزو لأنهم أصحاب أعذار { مَا عَلَى ٱلْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ } أي ليس عليهم جناح ولا إِلى معاتبتهم سبيل قال في التسهيل: وصفهم بالمحسنين لأنهم نصحوا لله ورسوله، ورفع عنهم العقوبة والتعنيف واللوم، وهذا من بليغ الكلام لأن معناه: لا سبيل لعاتب عليهم، وهو جارٍ مجرى المثل { وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } أي عظيم المغفرة والرحمة حيث وسع على أهل الأعذار { وَلاَ عَلَى ٱلَّذِينَ إِذَا مَآ أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ } نزلت في البكائين الذين أرادوا الغزو مع رسول الله ولم يجد الرسول صلى الله عليه وسلم ما يحملهم عليه قال البيضاوي: هم البكاءون سبعة من الأنصار أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: قد نذرنا الخروج فاحملنا نغزو معك، فقال عليه السلام: لا أجد ما أحملكم عليه فتولوا وهم يبكون { قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَآ أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ } أي ليس عندي ما أحملكم عليه من الدواب { تَوَلَّوْا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ ٱلدَّمْعِ حَزَناً } أي انصرفوا وأعينهم تسيل دمعاً من شدة الحزن { أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنْفِقُونَ } أي لأنهم لم يجدوا ما ينفقونه لغزوهم، ولم يكن عند الرسول ما يحملهم عليه { إِنَّمَا ٱلسَّبِيلُ عَلَى ٱلَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَآءُ } أي إِنما الإِثم والحرج على الذين يستأذنونك في التخلف وهم قادرون على الجهاد وعلى الإِنفاق لغناهم { رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ ٱلْخَوَالِفِ } أي رضوا بأن يكونوا مع النساء والمرضى والعجزة { وَطَبَعَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } أي ختم عليها فهم لذلك لا يهتدون.
البَلاَغَة: 1- { يَعْلَمُ.. وعَلاَّمُ ٱلْغُيُوبِ } بين يعلم وعلام جناس الاشتقاق.
2- { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } التنوين في عذابٌ للتهويل والتفخيم.
3- { ٱسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ } بينهما طباق السلب، وقد خرج الأمر عن حقيقته إِلى التسوية.
4- { فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيراً } فيه من المحسنات البديعية ما يسمى بالمقابلة.
5- { رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ ٱلْخَوَالِفِ } الخوالف: النساء المقيمات في دار الحي بعد رحيل الرجال ففيه استعارة، وإِنما سمي النساء خوالف تشبيهاً لهن بالخوالف وهي الأعمدة تكون في أواخر بيوت الحي فشبههن لكثرة لزوم البيوت بالخوالف التي تكون في البيوت.
6- { وَلاَ عَلَى ٱلَّذِينَ إِذَا مَآ أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ } هو من عطف الخاص على العام اعتناءً بشأنهم أفاده الألوسي.
فَائِدَة: قال الزمخشري عند قوله تعالى { إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً } لفظ السبعين جارٍ مجرى المثل في كلام العرب للتكثير قال علي بن أبي طالب:

لأصبحن العاص وابن العاصيسبعين ألفاً عاقدي النواصي

فذكرها ليس لتحديد العدد، وإِنما هو للمبالغة جرياً على أساليب العرب.
تنبيهْ: إِنما منع صلى الله عليه وسلم من الصلاة على المنافقين، لأن الصلاة على الميت دعاء واستغفار واستشفاع له، والكافر ليس بأهل لذلك.
لطيفَة:
"اشتهر حذيفة بن اليمان بأنه صاحب سر الرسول صلى الله عليه وسلم وقد قال له صلى الله عليه وسلم: إِني مسرٌ إليك سراً فلا تذكره لأحد، إني نهيت أن أصلي على فلان وفلان، لرهط ذوي عدد من المنافقين، ولذلك كان عمر رضي الله عنه يأتيه فيقول: أسألك باللهِ هل عدَّني رسول الله من المنافقين؟!" .