التفاسير

< >
عرض

يُثَبِّتُ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ بِٱلْقَوْلِ ٱلثَّابِتِ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَفِي ٱلآخِرَةِ وَيُضِلُّ ٱللَّهُ ٱلظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ ٱللَّهُ مَا يَشَآءُ
٢٧
-إبراهيم

مختصر تفسير ابن كثير

روى البخاري، عن البراء بن عازب رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "المسلم إذا سئل في القبر شهد أن لا إلٰه إلا الله وأن محمداً رسول الله، فذلك قوله: { يُثَبِّتُ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ بِٱلْقَوْلِ ٱلثَّابِتِ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَفِي ٱلآخِرَةِ }" . وقال الإمام أحمد، عن البراء بن عازب قال: "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة رجل من الأنصار، فانتهينا إلى القبر ولما يلحد، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلسنا حوله كأن على رؤوسنا الطير، وفي يده عود ينكت به الأرض فرفع رأسه فقال: استعيذوا بالله من عذاب القبر مرتين أو ثلاثاً، ثم قال: إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع في الدنيا وإقبال من الآخرة، نزل إليه ملائكة من السماء بيض الوجوه، كأن وجوههم الشمس، معهم كفن من أكفان الجنة وحنوط من حنوط الجنة حتى يجلسوا منه مد البصر، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه، فيقول أيتها النفس الطيبة اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان - قال فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من في السقاء فيأخذها، فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين، حتى يأخذوها فيجعلوها في ذلك الكفن وفي ذلك الحنوط، ويخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض، فيصعدون بها، فلا يمرون بها يعني على ملأ من الملائكة إلا قالوا ما هذه الروح الطيبة؟ فيقولون: فلان بن فلانَ بأحسن أسمائه التي كانوا يسمونه بها في الدنيا حتى ينتهوا به إلى السماء الدنيا فيستفتحون له فيفتح له، فيشيعه من كل سماء مقربوها إلى السماء التي تليها، حتى ينتهي بها إلى السماء السابعة، فيقول الله: اكتبوا كتاب عبدي في عليين، وأعيدوه إلى الأرض، فإني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أُخرى، قال: فتعاد روحه في جسده، فيأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له: من ربك؟ فيقول: ربي الله، فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام، فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هو رسول الله، فيقولان له: وما علمك؟ فيقول: قرأت كتاب الله فآمنت به وصدقت، فينادي منادٍ من السماء أن صدق عبدي فأفرشوه من الجنة، وألبسوه من الجنة، وافتحوا له باباً إلى الجنة، قال: فيأتيه من روحها وطيبها، ويفسح له في قبره مد بصره، ويأتيه رجل حسن الوجه حسن الثياب طيب الريح فيقول: أبشر بالذي كنت يسرك، هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول له: من أنت فوجهك الوجه الذي يأتي بالخير؟ فيقول: أنا عملك الصالح، فيقول: رب أقم الساعة، رب أقم الساعة، حتى أرجع إلى أهلي ومالي.
قال: وإن العبد الكافر إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة، نزل إليه ملائكة من السماء سود الوجه معهم المسوح فجلسوا منه مد البصر، ثم يجيء ملك الموت، فيجلس عند رأسه فيقول: أيتها النفس الخبيثة، اخرجي إلى سخط من الله وغضب - قال - فتفرق في جسده فينتزعه كما ينتزع السفود من الصوف المبلول، فيأخذها، فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يجعلوها في تلك المسوح، فيخرج منها كأنتن ريح جيفة وجدت في وجه الأرض، فيصعدون بها فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذه الروح الخبيثة؟ فيقولون: فلان بن فلان بأقبح أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا، حتى ينتهي بها إلى السماء الدنيا فيستفتح له فلا يفتح له، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: { لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ ٱلسَّمَآءِ وَلاَ يَدْخُلُونَ ٱلْجَنَّةَ حَتَّىٰ يَلِجَ ٱلْجَمَلُ فِي سَمِّ ٱلْخِيَاطِ }، فيقول: الله: اكتبوا كتابه في سجين في الأرض السفلى، فتطرح روحه طرحاً - ثم قرأ: { وَمَن يُشْرِكْ بِٱللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ ٱلسَّمَآءِ فَتَخْطَفُهُ ٱلطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ ٱلرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيق }، فتعاد روحه في جسده، ويأتيه ملكان فيجلسانه ويقولان له من ربك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري، فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري، فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هاه هاه لا أدري. فينادي منادٍ من السماء: أن كذب عبدي، فأفرشوه من النار وافتحوا له باباً إلى النار، فيأتيه من حرها وسمومها ويضيق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه، ويأتيه رجل قبيح الوجه قبيح الثياب منتن الريح فيقول: أبشر بالذي يسوؤك، هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول: ومن أنت فوجهك الوجه يجيء بالشر؟ فيقول: أنا عملك الخبيث، فيقول: رب لا تقم الساعة"
.
وفي "صحيح مسلم" عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: إذا خرجت روح العبد المؤمن تلقاها ملكان يصعدان بها قال حماد: فذكر من طيب ريحها وذكر المسك - قال - ويقول أهل السماء: روح طيبة جاءة من قبل الأرض، صلى الله عليك وعلى جسد كنت تعمرينه، فينطلق به إلى ربه عزّ وجلّ فيقول: انطلقوا به إلى آخر الأجل. وإن كان الكافر إذا خرجت روحه - قال حماد - وذكر من نتنها وذكر مقتاً ويقول أهل السماء روح خبيثة جاءت من قبل الأرض، فيقال: انطلقوا به إلى آخر الأجل. قال أبو هريرة: فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم ريطة كانت عليه على أنفه هكذا. وقال ابن حبان في "صحيحه"، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن المؤمن إذا قبض أتته ملائكة الرحمة بحريرة بيضاء فيقولون: اخرجي إلى روح الله، فتخرج كأطيب ريح مسك، حتى أنه ليتناوله بعضهم بعضاً يشمونه حتى يأتوا به باب السماء فيقولون: ما هذه الريح الطيبة التي جاءت من قبل الأرض؟ ولا يأتون سماء إلا قالوا مثل ذلك حتى يأتوا به أرواح المؤمنين، فلهم أشد فرحاً به من أهل الغائب بغائبهم، فيقولون: ما فعل فلان، فيقولون: دعوه حتى يستريح، فإنه كان في غم، فيقول: قد مات أما أتاكم، فيقولون: ذهب إلى أمه الهاوية، وأما الكافر فيأتيه ملائكة العذاب بمسح فيقولون: اخرجي إلى غضب الله، فتخرج كأنتن ريح جيفة، فيذهب به إلى الأرض" .
وروى العوفي، عن ابن عباس رضي الله عنهما في هذه الآية قال: إن المؤمن إذا حضره الموت شهدته الملائكة فسلموا عليه وبشروه بالجنة، فإذا مات مشوا مع جنازته، ثم صلوا عليه مع الناس، فإذا دفن أجلس في قبره فيقال له: من ربك؟ فيقول: ربي الله، فيقال له: من رسولك؟ فيقول: محمد صلى الله عليه وسلم فيقال له: ما شهادتك؟ فيقول: أشهد أن لا إلٰه إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، فيوسع له في قبره مد بصره. وأما الكافر فتنزل عليه الملائكة فيبسطون أيديهم، والبسط هو الضرب { { يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ } [الأنفال: 50] عند الموت، فإذا أدخل قبره أقعد، فقيل له: من ربك؟ فلم يرجع إليهم شيئاً، وأنساه الله ذكر ذلك، وإذا قيل: من الرسول الذي بعث إليك؟ لم يهتد له ولم يرجع إليهم شيئاً { وَيُضِلُّ ٱللَّهُ ٱلظَّالِمِينَ }. وقال ابن أبي حاتم، عن أبي قتادة الأنصاري في قوله تعالى: { يُثَبِّتُ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ بِٱلْقَوْلِ ٱلثَّابِتِ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَفِي ٱلآخِرَةِ } الآية، قال: إن المؤمن إذا مات أجلس في قبره، فيقال له: من ربك؟ فيقول: الله، فيقال له: من نبيك؟ فيقول: محمد بن عبد الله، فيقال له: ذلك مرات ثم يفتح له باب إلى النار، فيقال له: أنظر إلى منزلك من النار لو زغت، ثم يفتح له باب إلى الجنة فيقال له: انظر إلى منزلك من الجنة إذا ثبت. وإذا مات الكافر أجلس في قبره فيقال له: من ربك؟ من نبيك؟ فيقول: لا أدري، كنت أسمع الناس يقولون، فيقال له: لا دريت، ثم يفتح له باب إلى الجنة، فيقال له: انظر إلى منزلك إذا ثبت، ثم يفتح له باب إلى النار، فيقال له: انظر إلى منزلك إذ زغت، فذلك قوله تعالى: { يُثَبِّتُ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ بِٱلْقَوْلِ ٱلثَّابِتِ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَفِي ٱلآخِرَةِ }. وقال عبد الرزاق: عن معمر عن ابن طاووس عن أبيه: { يُثَبِّتُ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ بِٱلْقَوْلِ ٱلثَّابِتِ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا } قال: لا إلٰه إلا الله { وَفِي ٱلآخِرَةِ }: المسألة في القبر، وقال قتادة أما الحياة الدنيا فيثبتهم بالخير والعمل الصالح { وَفِي ٱلآخِرَةِ }: في القبر. وكذا روي عن غير واحد من السلف، وعن عثمان رضي الله عنه قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من دفن الرجل وقف عليه وقال: استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت، فإنه الآن يسأل" .