التفاسير

< >
عرض

ٱلطَّلَٰقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَٰنٍ وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّآ آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَن يَخَافَآ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ ٱللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ ٱللَّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا ٱفْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ ٱللَّهِ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلظَّٰلِمُونَ
٢٢٩
فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىٰ تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَآ أَن يَتَرَاجَعَآ إِن ظَنَّآ أَن يُقِيمَا حُدُودَ ٱللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ
٢٣٠
-البقرة

مختصر تفسير ابن كثير

هذه الآية الكريمة رافعة لما كان عليه الأمر في ابتداء الإسلام، من أن الرجل كان أحق برجعة امرأته وإن طلقها مائة مرة ما دامت في العدة، فلما كان هذا فيه ضرر على الزوجات قصرهم الله إلى ثلاث طلقات، وأباح الرجعة في المرة والثنتين، وأبانها بالكلية في الثالثة، فقال: { ٱلطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } قال أبو داود عن ابن عباس: { { وَٱلْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوۤءٍ وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ ٱللَّهُ فِيۤ أَرْحَامِهِنَّ } [البقرة: 228] الآية وذلك أن الرجل كان إذا طلق امرأته فهو أحق برجعتها وإن طلقها ثلاثاً، فنسخ ذلك فقال: { ٱلطَّلاَقُ مَرَّتَانِ } الآية.
وعن (هشام بن عروة) عن أبيه أن رجلاً قال لامرأته: لا أطلقك أبداً ولا آويك أبداً، قالت: وكيف ذلك؟ قال: أطلق حتى إذا دنا أجلك راجعتك، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فأنزل الله عزّ وجلّ: { ٱلطَّلاَقُ مَرَّتَانِ }.
وعن عائشة قالت: لم يكن للطلاق وقت، يطلق الرجل امرأته ثم يراجعها ما لم تنقض العدة، وكان بين رجل من الأنصار وبين أهله بعض ما يكون بين الناس قال: والله لأتركنك لا أيِّماً ولا ذات زوج، فجعل يطلقها حتى إذا كادت العدة أن تنقضي راجعها، ففعل ذلك مراراً فأنزل الله عزّ وجلّ: { ٱلطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } فوقَّت الطلاق ثلاثاً لا رجعة فيه بعد الثالثة حتى تنكح زوجاً غيره، وقوله: { فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } أي إذا طلقتها واحدة أو اثنتين، فأنت مخير فيها ما دامت عدتها باقية، بين أن تردها إليك ناوياً الإصلاح بها والإحسان إليها، وبين أن تتركها حتى تنقضي عدتها فتبين منك، وتطلق سراحها محسناً إليها لا تظلمها من حقها شيئاً ولا تُضارَّ بها. وعن ابن عباس قال: إذا طلق الرجل امرأته تطليقتين فليتق الله في ذلك، أي في الثالثة فإما أن يمسكها بمعروف فيحسن صحابتها، أو يسرحها بإحسان فلا يظلمها من حقها شيئاً، وعن أنس بن مالك قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله: ذكر الله الطلاق مرتين فأين الثالثة؟ قال: { فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ }.
وقوله تعالى: { وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّآ آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً } أي لا يحل لكم أن تضاجروهن وتضيقوا عليهن، ليفتدين منكم بما أعطيتموهن من الأصدقة أو ببعضه كما قال تعالى:
{ { وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَآ آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ } [النساء: 19] فأما إن وهبته المرأة شيئاً عن طيب نفسٍ منها فقد قال تعالى: { { فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً } [النساء: 4] وأما إذا تشاقق الزوجان ولم تقم المرأة بحقوق الرجل وأبغضته ولم تقدر على معاشرته، فلها أن تفتدي منه بما أعطاها ولا حرج عليها في بذلها له ولا حرج عليه في قبول ذلك منها، ولهذا قال تعالى: { وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّآ آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَن يَخَافَآ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ ٱللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ ٱللَّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا ٱفْتَدَتْ بِهِ } الآية، فأما إذا لم يكن لها عذر وسألت الافتداء منه فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيما امرأة سألت زوجها طلاقها في غير ما بأس فحرام عليها رائحة الجنة" ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المختلعات هن المنافقات" (حديث آخر)، وقال الإمام أحمد: عن النبي صلى الله عليه وسلم: "المختلعات والمنتزعات هن المنافقات" . وعن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تسأل امرأة زوجها الطلاق في غير كنهه فتجد ريح الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاماً" . ثم قد قال طائفة كثيرة من السلف وأئمة الخلف إنه لا يجوز الخلع إلا أن يكون الشقاق والنشوز من جانب المرأة، فيجوز للرجل حينئذ قبول الفدية، واحتجوا بقوله تعالى: { وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّآ آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَن يَخَافَآ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ ٱللَّهِ }، قالوا: فلم يشرع الخلع إلا في هذه الحالة، فلا يجوز في غيرها إلا بدليل، والأصل عدمه، وممن ذهب إلى هذا ابن عباس وعطاء والحسن والجمهور حتى قال مالك والأوزاعي: لو أخذ منها شيئاً وهو مضار لها وجب رده إليها وكان الطلاق رجعياً، قال مالك: وهو الأمر الذي أدركت الناس عليه، وذهب الشافعيرحمه الله إلى أنه يجوز الخلع في حال الشقاق وعند الاتفاق بطريق الأولى والأحرى، وهذا قول جميع أصحابه قاطبة، وقد ذكر ابن جريررحمه الله أن هذه الآية نزلت في شأن (ثابت ابن قيس بن شماس) وامرأته (حبيبة بنت عبد الله بن أبي ابن سلول).
قال البخاري: عن ابن عباس أن امرأة ثابت بن قيس بن شماس أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله: ما أعيب عليه في خلق ولا دين ولكن أكره الكفر في الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" أتردين عليه حديقته؟ قالت: نعم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أقبل الحديقة وطلقها تطليقة" ، وهكذا رواه البخاري أيضاً من طرق عن عكرمة عن ابن عباس وفي بعضها أنها قالت: لا أطيقه يعني بغضاً. وفي رواية عن ابن عباس أن جميلة بنت سلول أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: والله ما أعتب على (ثابت بن قيس) في دين ولا خلق، ولكنني أكره الكفر في الإسلام لا أطيقه بغضاً، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: " تردِّينَ عليه حديقته؟ قالت: نعم، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يأخذ ما ساق ولا يزداد" . وقال ابن جرير: عن عبد الله بن رباح عن جميلة بنت عبد الله بن أبي ابن سلول أنها كانت تحت ثابت بن قيس فنشزت عليه فأرسل إليها النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " يا جميلة ما كرهت من ثابت؟ قالت: والله ما كرهت منه ديناً ولا خلقاً إلا أني كرهت دمامته، فقال لها: أتردين عليه الحديقة؟ قالت: نعم، فردت الحديقة وفرق بينهما" .
وأول خلع كان في الإسلام في أخت (عبد الله بن أُبي) أنها أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: "يا رسول الله، لا يجمع رأسي ورأسه شيء أبداً، إني رفعت جانب الخباء فرأيته قد أقبل في عدة فإذا هو أشدهم سواداً وأقصرهم قامة وأقبحهم وجهاً، فقال زوجها: يا رسول الله، إني قد أعطيتها أفضل مالي حديقة لي فإن ردت عليَّ حديقتي، قال: ماذا تقولين؟ قالت: نعم وإن شاء زدته، قال: ففرق بينهما" .
وقد اختلف الأئمة رحمهم الله في أنه هل يجوز للرجل أن يفاديها بأكثر مما أعطاها؟ فذهب الجمهور إلى جواز ذلك لعموم قوله تعالى: { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا ٱفْتَدَتْ بِهِ }. وعن كثير مولى ابن سمرة أن عمر أتي بامرأة ناشز فأمر بها إلى بيت كثير الزبل، ثم دعا بها فقال: كيف وجدت؟ فقالت: ما وجدت راحةً منذ كنت عنده إلا هذه الليلة التي كنت حبستني، فقال لزوجها: اخلعها ولو من قرطها. وقال البخاري: وأجاز عثمان الخلع دون عقاص رأسها لحديث الربيع بنت معوذ قالت: كان لي زوج يُقلُّ عليَّ الخير إذا حضرني، ويحرمني إذا غاب عني، قالت: فكانت مني زلة يوماً فقلت: أختلع منك بكل شيء أملكه، قال: نعم، قالت: ففعلت فخاصم عمي (معاذ بن عفراء) إلى عثمان بن عفان فأجاز الخلع، وأمره أن يأخذ عقاص رأسي فما دونه، أو قالت: ما دون عقاص الرأس. ومعنى هذا أنه يجوز أن يأخذ منها كل ما بيدها من قليل وكثير، ولا يترك لها سوى عقاص شعرها، وبه يقول ابن عمر وابن عباس ومجاهد، وهذا مذهب مالك والشافعي واختاره ابن جرير.
وقال أصحاب أبي حنيفة: إن كان الإضرار من قبلها جاز أن يأخذ منها ما أعطاها، ولا يجوز الزيادة عليه، فإن ازداد جاز في القضاء، وإن كان الإضرار من جهته لم يجز أن يأخذ منها شيئاً فإن أخذ جاز في القضاء، وقال الإمام أحمد: لا يجوز أن يأخذ أكثر مما أعطاها وهذا قول سعيد بن المسيب وعطاء، وقال معمر: كان علي يقول: لا يأخذ من المختلعة فوق ما أعطاها. (قلت): ويستدل لهذا القول بما تقدم من رواية ابن عباس في قصة (ثابت بن قيس) فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأخذ منها الحديقة ولا يزداد، وبما روي عن عطاء عن النبي صلى الله عليه وسلم كره أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها يعني المختلعة، وحملوا معنى الآية على معنى { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا ٱفْتَدَتْ بِهِ } أي من الذي أعطاها لتقدم قوله: { وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّآ آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً } ولهذا قال بعده: { تِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ ٱللَّهِ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلظَّالِمُونَ }.
فصل
قال الشافعي: اختلف أصحابنا في الخلع، فعن عكرمة قال: كل شيء أجازه المال فليس بطلاق، وروي عن ابن عباس أن إبراهيم بن سعد بن أبي وقاص سأله فقال: رجل طلق امرأته تطليقتين ثم اختلعت منه أيتزوجها؟ قال: نعم ليس الخلع بطلاق، ذكر الله الطلاق في أول الآية وآخرها، والخلع فيما بين ذلك فليس الخلع بشيء، ثم قرأ: { ٱلطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ }، وهذا الذي ذهب إليه ابن عباس رواية عن عثمان وابن عمر وبه يقول أحمد وهو مذهب الشافعي في القديم، وهو ظاهر الآية الكريمة، والقول الثاني في الخلع إنه (طلاق بائن) إلا أن ينوي أكثر من ذلك وإليه ذهب مالك وأبو حنيفة والشافعي في الجديد، غير أن الحنفية عندهم أنه متى نوى المخالع بخلعه تطليقة أو اثنتين أو أطلق فهو واحدة بائنة، وإن نوى ثلاثاً فثلاث، وللشافعي قول آخر في الخلع وهو أنه متى لم يكن بلفظ الطلاق وعري عن البينة فليس بشيء بالكلية.
مسألة
وليس للمخالع أن يراجع المختلعة في العدة بغير رضاها عند الأئمة الأربعة وجمهور العلماء، لأنها قد ملكت نفسها بما بذلت له من العطاء، وقال سفيان الثوري: إن كان الخلع بغير لفظ الطلاق فهو فرقة ولا سبيل له عليها؟ وإن كان يسمى طلاقاً فهو أملك لرجعتها ما دامت في العدة وبه يقول داود الظاهري، واتفق الجميع على أن للمختلع أن يتزوجها في العدة، وحكى ابن عبد البر عن فرقة أنه لا يجوز له ذلك كما لا يجوز لغيره، وهو قول شاذ مردود.
مسألة
وهل له أن يوقع عليها طلاقاً آخر في العدة؟ فيه ثلاثة أقوال للعلماء. (أحدها): ليس له ذلك لأنها قد ملكت نفسها وبانت منه، وبه قال الشافعي وأحمد بن حنبل. (والثاني): قال مالك: إن أتبع الخلع طلاقاً من غير سكوت بينهما وقع، وإن سكت بينهما لم يقع قال ابن عبد البر: وهذا يشبه ما روي عن عثمان رضي الله عنه. (والثالث) أنه يقع عليها الطلاق بكل حال ما دامت في العدة، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه والثوري والأوزاعي.
وقوله تعالى: { تِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ ٱللَّهِ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلظَّالِمُونَ } أي هذه الشرائع التي شرعها لكم هي حدوده فلا تتجاوزوها كما ثبت في الحديث الصحيح:
"إن الله حد حدوداً فلا تعتدوها، وفرض فرائض فلا تضيعوها، وحرم محارم فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة لكم غير نسيان فلا تسألوا عنها" ، وقد يستدل بهذه الآية من ذهب إلى أن جمع الطلقات الثلاث بكلمة واحدة حرام كما هو مذهب المالكية ومن وافقهم، وإنما السنة عندهم أن يطلق واحدة لقوله: { ٱلطَّلاَقُ مَرَّتَانِ }، ثم قال: { تِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا } الآية "أُخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رجل طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعاً فقام غضبان ثم قال: أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم حتى قام رجل فقال: يا رسول الله ألا أقتله؟" .
وقوله تعالى: { فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىٰ تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ } أي أنه إذا طلق الرجل امرأته طلقة ثالثة بعدما أرسل عليها الطلاق مرتين، فإنها تحرم عليه حتى تنكح زوجاً غيره، أي حتى يطأها زوج آخر، في نكاح صحيح، فلو وطئها واطىء في غير نكاح ولو في ملك اليمين لم تحل للأول، لأنه ليس بزوج، وهكذا لو تزوجت ولكن لم يدخل بها الزوج لم تحل للأول، لحديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم "في الرجل يتزوج المرأة فيطلقها قبل أن يدخل بها البتة، فيتزوجها زوج آخر فيطلقها قبل أن يدخل بها أترجع إلى الأول؟ قال: لا حتى تذوق عسيلته ويذوق عسيلتها" . عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "سئل عن رجل كانت تحته امرأة فطلقها ثلاثاً، فتزوجت بعده رجلاً فطلقها قبل أن يدخل بها أتحل لزوجها الأول؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا حتى يكون الآخر قد ذاق من عسيلتها وذاقت من عسيلته" . قال مسلم في صحيحه: عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "سئل عن المرأة يتزوجها الرجل فيطلقها فتتزوج رجلاً آخر فيطلقها قبل أن يدخل بها أتحل لزوجها الأول قال: لا، حتى يذوق عسيلتها" . وعن عائشة "أن رفاعة القرظي تزوج امرأة ثم طلقها، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت له أنه لا يأتيها، وأنه ليس معه إلا مثل هدبة الثوب، فقال: لا، حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك" .
وقال الإمام أحمد عن عائشة قالت: "دخلت امرأة رفاعة القرظي وأنا وأبو بكر عند النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إن رفاعة طلقني البتة، وإن عبد الرحمٰن بن الزبير تزوجني، وإنما عنده مثل الهدبة، وأخذت هدبة من جلبابها - وخالد بن سعيد بن العاص بالباب لم يؤذن له - فقال: يا أبا بكر ألا تنهى هذه عما تجهر به بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فما زاد رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التبسم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كأنك تريدين أن ترجعي إلى رفاعة، لا، حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك" .
فصل
والمقصود من الزوج الثاني أن يكون راغباً في المرأة، قاصداً لدوام عشرتها كما هو المشروع من التزويج، واشترط الإمام مالك مع ذلك أن يطأها الثاني وطأ مباحاً، فلو وطئها وهي مُحْرمة أو صائمة أو معتكفة أو حائض أو نفساء، أو الزوج صائم أو محرم أو معتكف، لم تحل للأول بهذا الوطء، وكذا لو كان الزوج الثاني ذمياً لم تحل للمسلم بنكاحه، لأن أنكحة الكفار باطلة عنده، فأما إذا كان الثاني إنما قصده أن يحلها للأول، فهذا هو (المحلل) الذي وردت الأحاديث بذمه ولعنه، ومتى صرح بمقصوده في العقد بطل النكاح عند جمهور الأئمة.
ذكر الأحاديث الواردة في ذلك
الحديث الأول: عن ابن مسعود رضي الله عنه قال:
"لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: الواشمة والمستوشمة والواصلة والمستوصلة والمحلِّل والمحلَّل له، وآكل الربا وموكله" .
الحديث الثاني: عن علي رضي الله عنه قال: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه والواشمة والمستوشمة للحسن ومانع الصدقة والمحلل والمحلل له، وكان ينهى عن النوح" .
الحديث الثالث: عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لعن الله المحلل والمحلل له" .
الحديث الرابع: عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا أخبركم بالتيس المستعار، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: هو المحلل، لعن الله المحلل والمحلل له" .
الحديث الخامس: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نكاح المحلل قال: "لا، إلا نكاح رغبة، لا نكاح دلسة، ولا استهزاء بكتاب الله، ثم يذوق عسيلتها" .
الحديث السادس: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المحلل والمحلل له" .
الحديث السابع: عن عمر بن نافع عن أبيه أنه قال: جاء رجل إلى ابن عمر فسأله عن رجل طلق امرأته ثلاثاً فتزوجها أخ له من غير مؤامرة منه ليحلها لأخيه هل تحل للأول؟ فقال: لا إلا نكاح رغبة، كنا نعد هذا سفاحاً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقوله تعالى: { فَإِنْ طَلَّقَهَا } أي الزوج الثاني بعد الدخول بها { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَآ أَن يَتَرَاجَعَآ } أي المرأة والزوج الأول { إِن ظَنَّآ أَن يُقِيمَا حُدُودَ ٱللَّهِ } أي يتعاشرا بالمعروف، قال مجاهد: إن ظنا أن نكاحهما على غير دلسة { وَتِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ } أي شرائعه وأحكامه { يُبَيِّنُهَا } أي يوضحها { لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ }.
وقد اختلف الأئمة رحمهم الله فيما إذا طلق الرجل امرأته طلقة أو طلقتين وتركها حتى انقضت عدتها ثم تزوجت بآخر فدخل بها ثم طلقها فانقضت عدتها ثم تزوجها الأول وهل تعود إليه بما بقي من الثلاث كما هو مذهب مالك والشافعي وأحمد بن حنبل، وهو قول طائفة من الصحابة رضي الله عنهم، أو يكون الزوج الثاني قد هدم ما قبله من الطلاق فإذا عادت إلى الأول تعود بمجموع الثلاث كما هو مذهب أبي حنيفة وأصحابه رحمهم الله، وحجتهم أن الزوج الثاني إذا هدم الثلاث فلأن يهدم ما دونها بطريق الأولى والأحرى، والله أعلم.