التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَنْفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّآ أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ ٱلأَرْضِ وَلاَ تَيَمَّمُواْ ٱلْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ
٢٦٧
ٱلشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ ٱلْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِٱلْفَحْشَآءِ وَٱللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَٱللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ
٢٦٨
يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَآءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ ٱلأَلْبَابِ
٢٦٩
-البقرة

مختصر تفسير ابن كثير

يأمر تعالى عباده المؤمنين بالأنفاق والمراد به الصدقة هٰهنا من طيبات ما رزقهم من الأموال التي اكتسبوها، يعني التجارة بتيسيره إياها لهم، وقال علي والسدي: { مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ } يعني الذهب والفضة، ومن الثمار والزروع التي أنبتها لهم من الأرض، قال ابن عباس: أمرهم بالإنفاق من أطيب المال وأجوده وأنفسه ونهاهم عن التصدق برذالة المال ودنيئه وهو خبيثه فإن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، ولهذا قال: { وَلاَ تَيَمَّمُواْ ٱلْخَبِيثَ } أي تقصدوا الخبيث، { مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ }: أي لو أعطيتموه ما أخذتموه إلا أن تتغاضوا فيه، فالله أغنى منكم فلا تجعلوا لله ما تكرهون، وقيل: معناه: لا تعدلوا عن المال الحلال وتقصدوا إلى الحرام فتجعلوا نفقتكم منه. وعن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله قسم بينكم أخلاقكم كما قسم بينكم أرزاقكم، وإن الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الدين إلا لمن أحب، فمن أعطاه الله الدين فقد أحبه، والذي نفسي بيده لا يُسْلم عبد حتى يسلم قلبُه ولسانه، ولا يؤمن حتى يأمن جاره بوائقه - قالوا: وما بوائقه يا نبي الله؟ قال: غشه وظلمه - ولا يكسب عبد مالاً من حرام فينفق منه فيبارك له فيه ولا يتصدق به فيقبل منه ولا يتركه خلف ظهره إلا كان زاده إلى النار، إن الله لا يمحو السيء بالسيء ولكن يمحو السيء بالحسن، إن الخبيث لا يمحو الخبيث" قال ابن كثير: والصحيح القول الأول.
قال ابن جريررحمه الله : عن البراء بن عازب رضي الله عنه في قول الله: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَنْفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ } الآية، قال: نزلت في الأنصار؛ كانت الأنصار إذا كانت أيام جذاذ النخل أخرجت من حيطانها البسر فعلقوه على حبل بين الاسطوانتين في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأكل فقراء المهاجرين منه، فيعمد الرجل منهم إلى الحشف فيدخله مع أقناء البسر يظن أن ذلك جائز، فأنزل الله فيمن فعل ذلك: { وَلاَ تَيَمَّمُواْ ٱلْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ }، وقال ابن أبي حاتم: عن البراء رضي الله عنه { وَلاَ تَيَمَّمُواْ ٱلْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ } قال: نزلت فينا؛ كنا أصحاب نخل فكان الرجل يأتي من نخلة بقدر كثرته وقلته، فيأتي الرجل بالقنو فيعلقه في المسجد، وكان أهل الصفة ليس لهم طعام، فكان أحدهم إذا جاع جاء فضربه بعصاه فسقط منه البسر والتمر، فيأكل وكان أناس ممن لا يرغبون في الخير يأتي بالقنو الحشف والشيص، فيأتي بالقنو قد انكسر فيعلقه فنزلت: { وَلاَ تَيَمَّمُواْ ٱلْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ } قال: لو أن أحدكم أهدي له مثل ما أعطى ما أخذ إلا على إغماض وحياء، فكنا بعد ذلك يجيء الرجل منا بصالح ما عنده.
وعن عبد الله بن مغفل في هذه الآية { وَلاَ تَيَمَّمُواْ ٱلْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ } قال: (كسب المسلم لا يكون خبيثاً، ولكن لا يصَّدَق بالحشف والدرهم الزيف وما لا خير فيه)، وقال الإمام أحمد عن عائشة قالت:
"أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بضب فلم يأكله ولم ينه عنه قلت: يا رسول الله نطعمه المساكين؟ قال: لا تطعموهم مما لا تأكلون" . وعن البراء { وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ } يقول: لو كان لرجل على رجل فأعطاه ذلك لم يأخذه إلا أن يرى أنه قد نقصه من حقه؟، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: { وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ } يقول: لو كان لكم على أحد حق فجاءكم بحق دون حقكم لم تأخذوه بحساب الجيد حتى تنقصوه فكيف ترضون لي ما لا ترضون لأنفسكم، وحقي عليكم من أطيب أموالكم وأنفَسه؟
وقوله تعالى: { وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ } أي وإن أمركم بالصدقات وبالطيب منها فهو غني عنها، وما ذلك إلا أن يساوي الغني الفقير، كقوله:
{ { لَن يَنَالَ ٱللَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَآؤُهَا وَلَـٰكِن يَنَالُهُ ٱلتَّقْوَىٰ مِنكُمْ } [الحج: 37] وهو غني عن جميع خلقه، وجميعُ خلقه فقراء إليه. وهو واسع الفضل لا ينفذ ما لديه، فمن تصدق بصدقة من كسب طيب فليعلم أن الله غني واسع العطاء كريم؛ جواد وسيجزيه بها ويضاعفها له أضعافاً كثيرة، من يقرض غير عديم ولا ظلوم، وهو الحميد: أي المحمود في جميع أفعاله وأقواله وشرعه وقدره، لا إلٰه إلا هو ولا رب سواه.
وقوله تعالى: { ٱلشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ ٱلْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِٱلْفَحْشَآءِ وَٱللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَٱللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ }، قال ابن أبي حاتم عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"إن للشيطان لمة بابن آدم وللملك لمة، فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق، وأما لمة الملك بإيعاد بالخير وتصديق بالحق، فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله فليحمد الله، ومن وجد الأخرى فليتعوذ من الشيطان" ثم قرأ: { ٱلشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ ٱلْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِٱلْفَحْشَآءِ وَٱللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً } الآية. ومعنى قوله تعالى: { ٱلشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ ٱلْفَقْرَ } أي يخوفكم الفقر لتمسكوا ما بأيديكم فلا تنفقوه في مرضاة الله، { وَيَأْمُرُكُم بِٱلْفَحْشَآءِ }: أي مع نهيه إياكم عن الإنفاق خشية الإملاق، يأمركم بالمعاصي والمآثم والمحارم ومخالفة الخلاّق، قال تعالى: { وَٱللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ } أي في مقابلة ما أمركم الشيطان بالفحشاء، { وَفَضْلاً } أي في مقابلة ما خوفكم الشيطان من الفقر { وَٱللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ }.
وقوله تعالى: { يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَآءُ }، قال ابن عباس: يعني المعرفة بالقرآن ناسخه ومنسوخه ومحكمه ومتشابهه ومقدمه ومؤخره وحلاله وحرامه وأمثاله. وقال مجاهد: { الْحِكْمَةَ } ليست بالنبوة ولكنه العلم والفقه والقرآن، وقال أبو العالية: الحكمة خشية الله، فإن خشية الله رأس كل حكمة، وقد روى ابن مردويه عن ابن مسعود مرفوعاً: "رأس الحكمة مخافة الله"، وقال أبو مالك: الحكمة السنّة. وقال زيد بن أسلم: الحكمة العقل. قال مالك: وإنه ليقع في قلبي أن الحكمة هو الفقه في دين الله، وأمر يدخله في القلوب من رحمته وفضله، ومما يبيّن ذلك أنك تجد الرجل عاقلاً في أمر الدنيا إذا نظر فيها، وتجد آخر ضعيفاً في أمر دنياه عالماً بأمر دينه بصيراً به، يؤتيه الله إياه ويحرمه هذا، فالحكمة: الفقه في دين الله. وقال السُّدي: الحكمة النبوة. والصحيح أن الحكمة لا تختص بالنبوة بل هي أعم منها وأعلاها النبوة، والرسالة أخص، ولكن لأتباع الأنبياء حظ من الخير على سبيل التبع، كما جاء في بعض الأحاديث:
"من حفظ القرآن فقد أدرجت النبوة بين كتفيه غير أنه لا يوحى إليه" وقال صلى الله عليه وآله وسلم: "لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها" .
وقوله تعالى: { وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ ٱلأَلْبَابِ } أي وما ينتفع بالموعظة والتذكار إلا من له لب وعقل، يعي به الخطاب ومعنى الكلام.