التفاسير

< >
عرض

يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ ٱلصَّلَٰوةَ وَأَنْتُمْ سُكَٰرَىٰ حَتَّىٰ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىٰ تَغْتَسِلُواْ وَإِنْ كُنْتُمْ مَّرْضَىٰ أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّن ٱلْغَآئِطِ أَوْ لَٰمَسْتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فَٱمْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً
٤٣
-النساء

مختصر تفسير ابن كثير

ينهى تبارك وتعالى عباده المؤمنين عن فعل الصلاة في حال السكر، الذي لا يدري معه المصلي ما يقول، وعن قربان محالها - التي هي المساجد - للجنب إلا أن يكون مجتازاً من باب إلى باب من غير مكث؛ وقد كان هذا قبل تحريم الخمر كما دل عليه الحديث الذي ذكرناه في سورة البقرة عند قوله تعالى: { { يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلْخَمْرِ وَٱلْمَيْسِرِ } [الآية: 219] الآية، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلاها على عمر فقال: "اللهم بين لنا في الخمر بياناً شافياً"، فلما نزلت هذه الآية تلاها عليه، فقال: "اللهم بين لنا في الخمر بياناً شافياً"، فكانوا لا يشربون الخمر في أوقات الصلوات، حتى نزلت: { { يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا ٱلْخَمْرُ وَٱلْمَيْسِرُ وَٱلأَنصَابُ وَٱلأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ ٱلشَّيْطَانِ فَٱجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [المائدة: 90]، إلى قوله تعالى: { { فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ } [المائدة: 91] فقال عمر: انتهينا انتهينا. وفي رواية عن عمر بن الخطاب في قصة تحريم الخمر، فذكر الحديث وفيه: فنزلت الآية التي في النساء { يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ ٱلصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَىٰ حَتَّىٰ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ }، فكان منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قامت الصلاة ينادي: أن لا يقربن الصلاة سكران.
(سبب آخر): عن علي بن أبي طالب قال: صنع لنا عبد الرحمٰن بن عوف طعاماً، فدعانا وسقانا من الخمر فأخذت الخمر منا، وحضرت الصلاة فقدموا فلاناً قال فقرأ: قل يا أيها الكافرون ما أعبد ما تعبدون ونحن نعبد ما تعبدون، فأنزل الله: { يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ ٱلصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَىٰ حَتَّىٰ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ }. وقال العوفي عن ابن عباس في الآية: إن رجالاً كانوا يأتون وهم سكارى قبل أن يحرم الخمر، فقال الله: { لاَ تَقْرَبُواْ ٱلصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَىٰ } الآية، رواه ابن جرير، وعن قتادة: كانوا يجتنبون السكر عند حضور الصلوات، ثم نسخ بتحريم الخمر، وقال الضحاك: لم يعن بها سكر الخمر، وإنما عنى بها سكر النوم. ثم قال ابن جرير: والصواب أن المراد سكر الشراب، قال: ولم يتوجه النهي إلى السكران الذي لا يفهم الخطاب لأن ذاك في حكم المجنون، وإنما خوطب بالنهي الثَّمِلُ الذي يفهم التكليف، وهذا حاصل ما قاله. وقد ذكره غير واحد من الأصوليين، وهو أن الخطاب يتوجه إلى من يفهم الكلام دون السكران الذي لا يدري ما يقال له، فإن الفهم شرط التكليف، وقد يحتمل أن يكون المراد التعريض بالنهي عن السكر بالكلية لكونهم مأمورين بالصلاة في الخمسة الأوقات من الليل والنهار، فلا يتمكن شارب الخمر من أداء الصلاة في أوقاتها دائماً والله أعلم. وعلى هذا فيكون كقوله تعالى:
{ { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ } [آل عمران: 102]، وهو الأمر لهم بالتأهب للموت على الإسلام والمداومة على الطاعة لأجل ذلك، وقوله: { حَتَّىٰ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ } هذا أحسن ما يقال في حد السكران أنه الذي لا يدري ما يقول، فإن المخمور فيه تخليط في القراءة وعدم تدبره وخشوعه فيها، وقد قال الإمام أحمد عن أنَس قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا نعس أحدكم وهو يصلي فلينصرف ولينم حتى يعلم ما يقول" . وفي بعض ألفاظ الحديث: "فلعله يذهب يستغفر فيسب نفسه" .
وقوله تعالى: { وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىٰ تَغْتَسِلُواْ } عن ابن عباس قال: لا تدخلوا المسجد وأنتم جنب إلا عابري سبيل، قال تمر به مراً ولا تجلس، يروى أن رجالاً من الأنصار كانت أبوابهم في المسجد فكانت تصيبهم الجنابة ولا ماء عندهم، فيردون الماء ولا يجدون ممراً إلاّ في المسجد فأنزل الله: { وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ } ويشهد لصحته ما ثبت في صحيح البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "سدوا كل خوخة في المسجد إلا خوخة أبي بكر"، وهذا قاله في آخر حياته صلى الله عليه وسلم علماً منه أن أبا بكر رضي الله عنه سيلي الأمر بعده، ويحتاج إلى الدخول في المسجد كثيراً للأمور المهمة فيما يصلح للمسلمين، فأمر بسد الأبواب الشارعة إلى المسجد إلا بابه رضي الله عنه، ومن روي (إلا باب علي) كما وقع في بعض السنن فهو خطأ، والصواب ما ثبت في الصحيح. ومن هذه الآية احتج كثير من الأئمة على أنه يحرم على الجنب المكث في المسجد، ويجوز له المرور، وكذا الحائض والنفساء أيضاً في معناه، إلا أن بعضهم قال: يحرم مرورهما لاحتمال التلويث، ومنهم من قال: إن أمنت كل واحدة منهما التلويث في حال المرور جاز لها المرور وإلا فلا، وقد ثبت في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت، قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ناوليني الخُمرة من المسجد، فقلت: إني حائض، فقال: إن حيضتك ليست في يدك" ، وفيه دلالة على جواز مرور الحائض في المسجد، والنفساء في معناها والله أعلم. وروى أبو داود عن عائشة قالت، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني لا أحل المسجد لحائض ولا جنب" ، قال أبو مسلم الخطابي: ضعف هذا الحديث جماعة، لكن رواه ابن ماجه عن أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم. فأما ما رواه أبو عيسى الترمذي من حديث سالم بن أبي حفصة عن عطية عن أبي سعيد الخدري قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا علي لا يحل لأحد يجنب في هذا المسجد غيري وغيرك" فإنه حديث ضعيف لا يثبت، فإن سالماً هذا متروك وشيخه عطية ضعيف والله أعلم.
وعن علي: { وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ } قال: لا يقرب الصلاة إلا أن يكون مسافراً تصيبه الجنابة فلا يجد الماء فيصلي حتى يجد الماء، ويستشهد لهذا القول بالحديث الذي رواه أحمد وأهل السنن عن أبي ذر قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"الصعيد الطيب طهور المسلم، وإن لم تجد الماء عشر حجج فإذا وجدت الماء فأمسه بشرتك فإن ذلك خير لك" . ثم قال ابن جرير بعد حكايته القولين: والأولى قول من قال { وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ } أي إلا عابري طريق فيه، وذلك أنه قد بيَّن حكم المسافر إذا عدم الماء وهو جنب في قوله: { وَإِنْ كُنْتُمْ مَّرْضَىٰ أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ } إلى آخره، فكان معلوماً بذلك أن قوله: { وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىٰ تَغْتَسِلُواْ }، لو كان معنياً به المسافر لم يكن لإعادة ذكره في قوله: { وَإِنْ كُنْتُمْ مَّرْضَىٰ أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ } معنى مفهوم، وقد مضى حكم ذكره قبل ذلك، فإذا كان ذلك كذلك، فتأويل الآية: يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا المساجد للصلاة مصلين فيها وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون، ولا تقربوها أيضاً جنباً حتى تغتسلوا إلا عابري سبيل. قال: والعابر السبيل المجتاز مراً وقطعاً، يقال منه: عبرت بهذا الطريق فأنا أعبره عبراً وعبوراً، ومنه يقال: عبر فلان النهر إذا قطعه وجاوزه، ومنه قيل للناقة القوية على الأسفار: هي عبر الأسفار لقوتها على قطع الأسفار، وهذا الذي نصره هو قول الجمهور، وهو الظاهر من الآية، وكأنه تعالى نهى عن تعاطي الصلاة على هيئة ناقصة تناقض مقصودها، وعن الدخول إلى محلها على هيئة ناقصة، وهي الجنابة المباعدة للصلاة ولمحلها أيضاً. والله أعلم.
وقوله تعالى: { حَتَّىٰ تَغْتَسِلُواْ } دليل لما ذهب إليه الأئمة الثلاثة (أبو حنيفة ومالك والشافعي) أنه يحرم على الجنب المكث في المسجد حتى يغتسل أو يتيمم إن عدم الماء، أو لم يقدر على استعماله بطريقة، وذهب (الإمام أحمد) إلى أنه متى توضأ الجنب جاز له المكث في المسجد، لما روي بسند صحيح أن الصحابة كانوا يفعلون ذلك. قال سعيد بن منصور في سننه عن عطاء بن يسار قال: رأيت رجالاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلسون في المسجد وهم مجنبون إذا توضأوا وضوء الصلاة، وهذا إسناد صحيح على شرط مسلم، والله أعلم.
وقوله تعالى: { وَإِنْ كُنْتُمْ مَّرْضَىٰ أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّن ٱلْغَآئِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً } أما المرض المبيح للتيمم فهو الذي يخاف معه من استعمال الماء فوات عضو أو شينة أو تطويل البرء، ومن العلماء من جوز التيمم بمجرد المرض لعموم الآية، قال مجاهد: نزلت في رجل من الأنصار كان مريضاً، فلم يستطع أن يقوم فيتوضأ، ولم يكن له خادم فيناوله، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فأنزل الله هذه الآية. والسفر معروف ولا فرق فيه بين الطويل والقصير، وقوله: { أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّن ٱلْغَآئِطِ } الغائط هو المكان المطمئن من الأرض، كني بذلك عن التغوط وهو الحدث الأصغر.
وأما قوله تعالى: { أَوْ لاَمَسْتُمُ ٱلنِّسَآءَ } فقرئ لمستم ولامستم، واختلف المفسرون والأئمة في معنى ذلك على قولين: (أحدهما) أن ذلك كناية عن الجماع لقوله:
{ { وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ } [البقرة: 237] وقال تعالى: { { إِذَا نَكَحْتُمُ ٱلْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ } [الأحزاب: 49] قال ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: { أَوْ لاَمَسْتُمُ ٱلنِّسَآءَ } قال: الجماع. وقال ابن جرير عن سعيد بن جبير قال: ذكروا اللمس، فقال ناس من الموالي: ليس بالجماع، وقال ناس من العرب اللمس: الجماع، قال: فلقيت ابن عباس فقلت له: إن ناساً من الموالي والعرب اختلفوا في اللمس، فقالت الموالي: ليس بالجماع، وقالت العرب: الجماع قال: فمن أي الفريقين كنت؟ قلت: كنت من الموالي، قال: غلب فريق الموالي، إن اللمس والمس والمباشرة: الجماع ولكن الله يكني ما شاء بما شاء وقد صح من غير وجه عن عبد الله بن عباس أنه قال ذلك، وقال آخرون: عنى الله تعالى بذلك كل من لمس بيد أو بغيرها من أعضاء الإنسان وأوجب الوضوء على كل من مس بشيء من جسده شيئاً من جسدها مفضياً إليه. عن عبد الله بن مسعود قال: القبلة من المس وفيها الوضوء، وروى الطبراني عن عبد الله بن مسعود قال: يتوضأ الرجل من المباشرة، ومن اللمس بيده، ومن القبلة، وكان يقول في هذه الآية: { أَوْ لاَمَسْتُمُ ٱلنِّسَآءَ } هو الغمز، وروى مالك عن عبد الله بن عمر عن أبيه أنه كان يقول: قبلة الرجل امرأته وجسه بيده من الملامسة، فمن قبَّل امرأته أو جسها بيده فعليه الوضوء، وروى الحافظ أبو الحسن الدارقطني في سننه عن عمر بن الخطاب نحو ذلك، ولكن روينا عنه من وجه آخر أنه كان يقبل امرأته ثم يصلي ولا يتوضأ، فالرواية عنه مختلفة، فيحمل ما قاله في الوضوء إن صح عنه على الاستحباب والله أعلم. والقول بوجوب الوضوء من المس هو قول (الشافعي ومالك) والمشهور عن أحمد بن حنبل، قال ناصروه: قد قرىء في هذه الآية لامستم ولمستم، واللمس يطلق في الشرع على الجس باليد قال تعالى: { { وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ } [الأنعام: 7] أي جسوه، وقال صلى الله عليه وسلم لماعز حين أقر بالزنا يعرّض له بالرجوع عن الإقرار: "لعلك قبلت أو لمست" وفي الحديث الصحيح: "واليد زناها اللمس" . وقالت عائشة رضي الله عنها: قلّ يوم إلا ورسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف علينا فيقبل ويلمس، ومنه ما ثبت في الصحيحين: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الملامسة هو يرجع إلى الجس باليد على كلا التفسيرين، قالوا: ويطلق اللغة على الجس باليد، كما يطلق على الجماع، قال الشاعر:

ولمست كفي كفه أطلب الغنى

وقال ابن جرير وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال: عنى الله بقوله { أَوْ لاَمَسْتُمُ ٱلنِّسَآءَ } الجماع دون غيره من معاني اللمس لصحة الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قبَّل بعض نسائه ثم صلى ولم يتوضأ. وقالت عائشة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ ثم يقبل، ثم يصلي ولا يتوضأ، وحدث عروة عن عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل بعض نسائه ثم خرج إلى الصلاة ولم يتوضأ، قلت: من هي إلا أنت؟ فضحكت. وعن أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقبلها وهو صائم ثم لا يفطر ولا يحدث وضوءاً.
وقوله تعالى: { فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً } استنبط كثير من الفقهاء من هذه الآية أنه لا يجوز التيمم لعادم الماء إلا بعد طلب الماء، فمتى طلبه فلم يجده جاز له حينئذ التيمم لحديث (عمران بن حصين)
"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً معتزلاً لم يصلِّ مع القوم، فقال: يا فلان ما منعك أن تصلي مع القوم، ألست برجل مسلم؟ قال: بلى يا رسول الله ولكن أصابتني جنابة ولا ماء، قال: عليك بالصعيد فإنه يكفيك" ولهذا قال تعالى: { فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً } فالتيمم في اللغة: هو القصد. تقول العرب: تيممك الله بحفظه أي قصدك، ومنه قول امرىء القيس شعراً:

ولما رأت أن المنية وردها وأن الحصى من تحت أقدامها دامي
تيممت العين التي عند ضارج يفيء عليها الفيء عرمضها طامي

والصعيد قيل: هو كل ما صعد على وجه الأرض، فيدخل فيه التراب والرمل والشجر والنبات وهو قول مالك، وقيل: ما كان من جنس التراب كالرمل والزرنيخ والنورة وهذا مذهب أبي حنيفة، وقيل: هو التراب فقط، وهو قول الشافعي وأحمد بن حنبل وأصحابهما واحتجوا بقوله تعالى: { { فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً } [الكهف: 40] أي تراباً أملس طيباً، وبما ثبت في صحيح مسلم عن حذيفة بن اليمان قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فضلنا على الناس بثلاث: جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة، وجعلت لنا الأرض كلها مسجداً، وجعلت تربتها لنا طهوراً إذا لم نجد الماء" . وفي لفظ: "وجعل ترابها لنا طهوراً إذا لم نجد الماء" قالوا فخصص الطهورية بالتراب في مقام الامتنان، فلو كان غيره يقوم مقامه لذكره معه، والطيب هٰهنا: قيل الحلال، وقيل الذي ليس بنجس.
وقوله تعالى: { فَٱمْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ } التيمم بدل عن الوضوء في التطهير به، لا أنه بدل منه في جميع أعضائه، بل يكفي مسح الوجه واليدين فقط بالإجماع، ولكن اختلف الأئمة في كيفية التيمم على أقوال: أحدها - وهو مذهب الشافعي في الجديد - أنه يجب أن يمسح الوجه واليدين إلى المرفقين بضربتين، لأن لفظ اليدين يصدق إطلاقها على ما يبلغ المنكبين وعلى ما يبلغ المرفقين كما في آية الوضوء، ويطلق ويراد بهما ما يبلغ الكفين كما في آية السرقة:
{ { فَٱقْطَعُوۤاْ أَيْدِيَهُمَا } [المائدة: 38]، قالوا: وحمل ما أطلق هٰهنا على ما قيد في آية الوضوء أولى لجامع الطهورية، وذكر بعضهم ما رواه الدارقطني عن ابن عمر قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "التيمم ضربتان، ضربة للوجه، وضربة لليدين إلى المرفقين" . والقول الثاني: أنه يجب مسح الوجه واليدين إلى الكفين بضربتين، وهو قول الشافعي في القديم، والثالث: أنه يكفي مسح الوجه والكفين بضربة واحدة لما روي أن رجلاً أتى عمر فقال: إني أجنبت فلم أجد ماء؛ فقال عمر: لا تصل. قال عمار: أما تذكر يا أمير المؤمنين إذ أنا وأنت في سرية فأجنبنا فلم نجد ماء، فأما أنت فلم تصل، وأما أنا فتمعكت في التراب فصليت، فلما أتينا النبي صلى الله عليه وسلم ذكرت ذلك له، فقال: "إنما كان يكفيك وضرب النبي صلى الله عليه وسلم بيده الأرض ثم نفخ فيها ومسح بها وجهه وكفيه" ؟. (طريق أخرى): قال أحمد عن سليمان الأعمش، حدثنا شقيق قال: كنت قاعداً مع (عبد الله) و (أبي موسى) فقال أبو يعلى لعبد الله: لو أن رجلاً لم يجد الماء، لم يصلِّ؟ فقال عبد الله ألا تذكر ما قال عمار لعمر؟ ألا تذكر إذ بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم وإياك في إبل فأصابتني جنابة فتمرغت في التراب، فلما رجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرته، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "إنما كان يكفيك أن تقول هكذا، وضرب بكفيه إلى الأرض، ثم مسح كفيه جميعاً، ومسح وجهه مسحة واحدة بضربة واحدة" ؟ فقال عبد الله: لا جرم ما رأيت عمر قنع بذلك، قال، فقال له أبو موسى: فكيف بهذه الآية في سورة النساء: { فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً }؟ قال: فما دري عبد الله ما يقول. وقال: لو رخصنا لهم في التيمم لأوشك أحدهم إذا برد الماء على جلده أن يتيمم. وقال في المائدة: { فَٱمْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ }، فقد استدل بذلك الشافعي على أنه لا بد في التيمم أن يكون بتراب طاهر له غبار يعلق بالوجه واليدين منه شيء.
وقوله تعالى:
{ { مَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ } [المائدة: 6] أي في الدين الذي شرعه لكم { { وَلَـٰكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ } [المائدة: 6] فلهذا أباح التيمم. إذا لم تجدوا الماء أن تعدلوا إلى التيمم بالصعيد، والتيمم نعمة عليكم لعلكم تشكرون، ولهذا كانت هذه الأمة مخصوصة بمشروعية التيمم دون سائر الأمم، كما ثبت في الصحيحين عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي، نصرت بالرعب مسيرة شهر؛ وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل" ، وفي لفظ: "فعنده مسجده وطهوره، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة وكان يبعث النبي إلى قومه وبعثت إلى الناس كافة" . وقال تعالى في هذه الآية الكريمة: { فَٱمْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً } أي ومن عفوه عنكم وغفرانه ولكم أن شرع لكم التيمم، وأباح لكم فعل الصلاة به إذا فقدتم الماء، توسعة عليكم ورخصة لكم، وذلك أن هذه الآية الكريمة فيها تنزيه الصلاة أن تفعل على هيئة ناقصة من سكر حتى يصحو المكلف ويعقل ما يقول، أو جنابة حتى يغتسل، أو حدث حتى يتوضأ إلا أن يكون مريضاً أو عادماً للماء، فإن الله عزَّ وجلَّ قد أرخص في التيمم - والحالة هذه - رحمة بعباده ورأفة بهم، وتوسعة عليهم، ولله الحمد والمنة.
(ذكر سبب نزول مشروعية التيمم)
وإنما ذكرنا ذلك هٰهنا لأن هذه الآية التي في النساء متقدمة النزول على آية المائدة، وبيانه أن هذه نزلت قبل تحريم الخمر، والخمر إنما حرم بعد أُحُد بيسير، في محاصرة النبي صلى الله عليه وسلم لبني النضير، وأما المائدة فإنها من آخر ما نزل ولا سيما صدرها، فناسب أن يذكر السبب هنا وبالله الثقة. قال البخاري عن عائشة قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره، حتى إذا كنا بالبيداء أو بذات الجيش انقطع عقد لي، فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على التماسه، وأقام الناس معه وليسوا على ماء وليس معهم ماء، فأتى الناس إلى أبي بكر فقالوا: ألا ترى ما صنعت عائشة؟ أقامت برسول الله صلى الله عليه وسلم وبالناس وليسوا على ماء وليس معهم ماء، فجاء أبو بكر ورسول الله صلى الله عليه وسلم واضع رأسه على فخذي قد نام، فقال: حبستِ رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس وليسوا على ماء وليس معهم ماء!! قالت عائشة: فعاتبني أبو بكر وقال ما شاء الله أن يقول وجعل يطعن بيده في خاصرتي، ولا يمنعني من التحرك إلا مكان رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذي، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على غير ماء حين أصبح، فأنزل الله آية التيمم فتيمموا، فقال أسيد بن الحضير: ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر، قالت: فبعثنا البعير الذي كنت عليه فوجدنا العقد تحته.
(حديث آخر): قال الإمام أحمد عن ابن عباس عن عمار بن ياسر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عرَّس بذات الجيش ومعه زوجته عائشة، فانقطع عقد لها من جزع ظفار، فحبس الناس ابتغاء عقدها ذلك حتى أضاء الفجر وليس مع الناس ماء، فأنزل الله على رسوله رخصة التطهير بالصعيد الطيب، فقام المسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فضربوا بأيديهم إلى الأرض ثم رفعوا أيديهم ولم ينفضوا من التراب شيئاً فمسحوا بها وجوههم وأيديهم إلى المناكب، ومن بطون أيديهم إلى الآباط.
(حديث آخر): قال الحافظ بن مردويه عن الأسلع بن شريك، قال:
"كنت أرحِّل ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم فأصابتني جنابة في ليلة باردة، وأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم الرحلة، فكرهت أن أرحل ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا جنب، وخشيت أن أغتسل بالماء البارد فأموت أو أمرض، فأمرت رجلاً من الأنصار فرحلها، ثم رضفت أحجاراً فأسخنت بها ماء واغتسلت، ثم لحقت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فقال: يا أسلع مالي أرى رحلتك قد تغيرت، قلت يا رسول الله: لم أرحلها، رحلها رجل من الأنصار، قال: ولم؟ قلت: إني أصابتني جنابة فخشيت القر على نفسي، فأمرته أن يرحلها ورضفت أحجاراً فأسخنت بها ماء فاغتسلت به، فأنزل الله تعالى: { لاَ تَقْرَبُواْ ٱلصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَىٰ حَتَّىٰ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ } إلى قوله { إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً }" وقد روي من وجه آخر عنه.