التفاسير

< >
عرض

لَقَدْ كَفَرَ ٱلَّذِينَ قَالُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ ٱلْمَسِيحُ يَابَنِيۤ إِسْرَائِيلَ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِٱللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ ٱللَّهُ عَلَيهِ ٱلْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ ٱلنَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ
٧٢
لَّقَدْ كَفَرَ ٱلَّذِينَ قَالُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَـٰهٍ إِلاَّ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
٧٣
أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَىٰ ٱللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
٧٤
مَّا ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ ٱلرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ ٱلطَّعَامَ ٱنْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ ٱلآيَاتِ ثُمَّ ٱنْظُرْ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ
٧٥
-المائدة

مختصر تفسير ابن كثير

يقول تعالى حاكماً بتكفير فرق النصارى ممن قال منهم بأن المسيح هو الله، - تعالى الله عن قولهم وتنزه وتقدس علواً كبيراً - هذا وقد تقدم لهم أن المسيح عبد الله ورسوله، وكان أول كلمة نطق بها وهو صغير في المهد أن قال: { { إِنِّي عَبْدُ ٱللَّهِ } [مريم: 30]، ولم يقل إني أنا الله ولا ابن الله، بل قال: { { إِنِّي عَبْدُ ٱللَّهِ آتَانِيَ ٱلْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً } [مريم: 30]، وكذلك قال لهم في حال كهولته ونبوته آمراً لهم بعبادة الله ربه وربهم وحده لا شريك له، ولهذا قال تعالى: { وَقَالَ ٱلْمَسِيحُ يَابَنِيۤ إِسْرَائِيلَ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِٱللَّهِ } أي فيعبد معه غيره { فَقَدْ حَرَّمَ ٱللَّهُ عَلَيهِ ٱلْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ ٱلنَّارُ } أي فقد أوجب له النار وحرم عليه الجنة، كما قال تعالى: { { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ } [النساء: 48، 116]. وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث منادياً ينادي في الناس: "إن الجنة لا يدخلها إلاّ نفس مسلمة" وفي لفظ "مؤمنة"، ولهذا قال تعالى: { وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ } أي وما له عند الله ناصر ولا معين ولا منقذ مما هو فيه. وقوله: { لَّقَدْ كَفَرَ ٱلَّذِينَ قَالُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ }، الصحيح أنها أنزلت في النصارى خاصة، قاله مجاهد وغير واحد، ثم اختلفوا في ذلك، فقيل: المراد بذلك كفارهم في قولهم بالأقانيم الثلاثة، وهو أقنوم الأب، وأقنوم الابن، وأقنوم الكلمة المنبثقة من الأب إلى الابن، تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً. قال ابن جرير وغيره: والطوائف الثلاثة من الملكية واليعقوبية والنسطورية تقول بهذه الأقانيم، وهم مختلفون فيها اختلافاً متبايناً، ليس هذا موضع بسطه، وكل فرقة منهم تكفر الأخرى، والحق أن الثلاثة كافرة. وقال السدي وغيره: نزلت في جعلهم المسيح وأمه إلهين مع الله، فجعلوا الله ثالث ثلاثة بهذا الاعتبار، وهي كقوله تعالى: { { وَإِذْ قَالَ ٱللَّهُ يٰعِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ ٱتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـٰهَيْنِ مِن دُونِ ٱللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ } [المائدة: 116] الآية، وهذا القول هو الأظهر، والله أعلم.
قال الله تعالى: { وَمَا مِنْ إِلَـٰهٍ إِلاَّ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ } أي ليس متعدداً بل هو وحده لا شريك له، إله جميع الكائنات وسائر الموجودات، ثم قال تعالى متوعداً لهم ومتهدداًَ: { وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ } أي من هذا الافتراء والكذب { لَيَمَسَّنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي في الآخرة من الأغلال والنكال، ثم قال: { أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَىٰ ٱللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }؟ وهذا من كرمه تعالى وجوده ولطفه ورحمته بخلقه مع هذا الذنب العظيم، وهذا الافتراء والكذب والإفك يدعوهم إلى التوبة والمغفرة، فكل من تاب إليه تاب عليه. وقوله تعالى: { مَّا ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ ٱلرُّسُلُ } أي له أسوة أمثاله من سائر المرسلين المتقدمين عليه، وأنه عبد من عباد الله ورسول من رسله الكرام، كما قال:
{ { إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لِّبَنِيۤ إِسْرَائِيلَ } [الزخرف: 59]، وقوله: { وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ } أي مؤمنة به مصدقة له، وهذا أعلى مقاماتها، فدل على أنها ليست بنبية كما زعمه ابن حزم وغيره ممن ذهب إلى نبوة سارة (أم إسحاق) ونبوة (أم موسى) ونبوة (أم عيسى) استدلالاً منهم بخطاب الملائكة لسارة ومريم، وبقوله: { { وَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ } [القصص: 7]، وهذا معنى النبوة، والذي عليه الجمهور أن الله لم يبعث نبياً إلاّ من الرجال، قال الله تعالى: { { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِيۤ إِلَيْهِمْ مِّنْ أَهْلِ ٱلْقُرَىٰ } [يوسف: 109]، وقد حكى الشيخ أبو الحسن الأشعريرحمه الله الإجماع على ذلك، وقوله تعالى: { كَانَا يَأْكُلاَنِ ٱلطَّعَامَ } أي يحتاجان إلى التغذية به وإلى خروجه منهما، فهما عبدان كسائر الناس، وليسا بإلهين كما زعمت فرق النصارى الجهلة عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة. ثم قال تعالى: { ٱنْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ ٱلآيَاتِ } أي نوضحها ونظهرها، { ثُمَّ ٱنْظُرْ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ } أي ثم انظر بعد هذا البيان والوضوح والجلاء أين يذهبون، وبأي قول يتمسكون، وإلى أي مذهب من الضلال يذهبون؟.