التفاسير

< >
عرض

يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لَيَبْلُوَنَّكُمُ ٱللَّهُ بِشَيْءٍ مِّنَ ٱلصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ ٱللَّهُ مَن يَخَافُهُ بِٱلْغَيْبِ فَمَنِ ٱعْتَدَىٰ بَعْدَ ذٰلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ
٩٤
يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ ٱلصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً فَجَزَآءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ ٱلنَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ ٱلْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذٰلِكَ صِيَاماً لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا ٱللَّهُ عَمَّا سَلَف وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ ٱللَّهُ مِنْهُ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ ذُو ٱنْتِقَامٍ
٩٥
-المائدة

مختصر تفسير ابن كثير

قال ابن عباس في قوله: { لَيَبْلُوَنَّكُمُ ٱللَّهُ بِشَيْءٍ مِّنَ ٱلصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ } قال: هو الضعيف من الصيد وصغيره. يبتلي الله به عباده في إحرامهم حتى لو شاءوا لتناولوه بأيديهم فنهاهم الله أن يقربوه، وقال مجاهد: { تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ } يعني صغار الصيد وفراخه. { وَرِمَاحُكُمْ } يعني كباره، وقال مقاتل بن حيان: أنزلت هذه الآية في عمرة الحديبية، فكانت الوحش والطير والصيد تغشاهم في رحالهم لم يروا مثله قط فيما حلا، فنهاهم الله عن قتله وهم محرمون، { لِيَعْلَمَ ٱللَّهُ مَن يَخَافُهُ بِٱلْغَيْبِ } يعني أنه تعالى يبتليهم بالصيد يغشاهم في رحالهم يتمكنون من أخذه بالأيدي والرماح سراً وجهراً، لتظهر طاعة من يطيع منهم في سره أو جهره، كما قال تعالى: { { إِنَّ ٱلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِٱلْغَيْبِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ } [الملك: 12] وقوله ها هنا: { فَمَنِ ٱعْتَدَىٰ بَعْدَ ذٰلِكَ }، قال السدي وغيره: يعني بعد هذا الإعلام والإنذار والتقدم { فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ }، أي لمخالفته أمر الله وشرعه، ثم قال تعالى: { يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ ٱلصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ }، وهذا تحريم منه تعالى لقتل الصيد في حال الإحرام ونهي عن تعاطيه فيه، وهذا إنما يتناول من حيث المعنى المأكول، ولو ما تولد منه ومن غيره، فأما غير المأكول من حيوانات البر، فعند الشافعي يجوز للمحرم قتلها، والجمهور على تحريم قتلها أيضاً، ولا يستثنى من ذلك إلاّ ما ثبت في الصحيحين عن عائشة أم المؤمنين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم: الغراب والحدأة والعقرب والفأرة والكلب العقور" . وقال مالك عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "خمس من الدواب ليس على المحرم في قتلهن جناح: الغراب والحدأة والعقرب والفأرة والكلب العقور" . قال أيوب: فقلت لنافع فالحية؟ قال: الحية لا شك فيها ولا يختلف في قتلها، ومن العلماء كمالك وأحمد من ألحق بالكلب العقور "الذئب والسبع والفهد" لأنها أشد ضرراً منه. فالله أعلم. وقال زيد بن أسلم: الكلب العقور يشمل هذه السباع العادية كلها، واستأنس من قال بهذا بما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دعا على عتبة بن أبي لهب قال: "اللهم سلط عليه كلبك بالشام، فأكله السبع بالزرقاء" .
وقوله تعالى: { وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً فَجَزَآءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ ٱلنَّعَمِ }. الذي عليه الجمهور أن العامد والناسي سواء في وجوب الجزاء عليه، وقال الزهري: دل الكتاب على العامد وجرت السنّة على الناسي، ومعنى هذا أن القرآن دل على وجوب الجزاء على المتعمد وعلى تأثيمه بقوله: { لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا ٱللَّهُ عَمَّا سَلَف وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ ٱللَّهُ مِنْهُ } وجاءت السنّة من أحكام النبي صلى الله عليه وسلم وأحكام أصحابه بوجوب الجزاء في الخطأ كما دل الكتاب عليه في العمد، وأيضاً فإن قتل الصيد إتلاف والإتلاف مضمون في العمد وفي النسيان، لكن المتعمد مأثوم والمخطىء غير ملوم، وقوله تعالى: { فَجَزَآءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ ٱلنَّعَمِ } قرأ بعضهم بالإضافة، وقرأ آخرون بعطفها، وحكى ابن جرير أن ابن مسعود قرأ (فجزاؤه مثلُ ما قتل من النعم)، وفي قوله: { فَجَزَآءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ ٱلنَّعَمِ } على كل من القراءتين دليل لما ذهب إليه الجمهور من وجوب الجزاء من مثل ما قتله المحرم إذا كان له مثل من الحيوان الإنسي، خلافاً لأبي حنيفةرحمه الله حيث أوجب القيمة سواء كان الصيد المقتول مثلياً أو غير مثلي.
وقوله تعالى: { يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ } يعني أنه يحكم بالجزاء في المثل أو بالقيمة في غير المثل عدلان من المسلمين، واختلف العلماء في القاتل هل يجوز أن يكون أحد الحكمين على قولين (أحدهما): لا، لأنه قد يتهم في حكمه على نفسه وهذا مذهب مالك، (والثاني): نعم لعموم الآية وهو مذهب الشافعي وأحمد، قال ابن أبي حاتم عن ميمون بن مهران: أن أعرابياً أتى أبا بكر فقال: قتلت صيداً وأنا محرم، فما ترى علي من الجزاء؟ فقال أبو بكر رضي الله عنه لأبي بن كعب وهو جالس عنده: ما ترى فيها؟ قال، فقال الأعرابي: أتيتك وأنت خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أسألك، فإذا أنت تسأل غيرك؟ فقال أبو بكر: وما تنكر؟ يقول الله تعالى: { فَجَزَآءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ ٱلنَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ }، فشاورت صاحبي، حتى إذا اتفقنا على أمر أمرناك به. فبين له الصديق الحكم برفق وتؤدة لما رآه أعرابياً جاهلاً، وإنما دواء الجهل التعليم. وقال ابن جرير عن أبي وائل. أخبرني ابن جرير البجلي قال: أصبت ظبياً وأنا محرم، فذكرت ذلك لعمر، فقال: أئت رجلين من إخوانك فليحكما عليك، فأتيت عبد الرحمن وسعداً فحكما علي بتيس أعفر.
واختلفوا: هل تستأنف الحكومة في كل ما يصيبه المحرم، فيجب أن يحكم فيه ذوا عدل، وإن كان قد حكم في مثله الصحابة، أو يكتفي بأحكام الصحابة المتقدمة؟ على قولين: فقال الشافعي وأحمد: يتبع في ذلك ما حكمت به الصحابة وجعلاه شرعاً مقرراً لا يعدل عنه وما لم يحكم فيه الصحابة يرجع فيه إلى عدلين، وقال مالك وأبو حنيفة: بل يجب الحكم في كل فرد فرد سواء وجد للصحابة في مثله حكم أم لا لقوله تعالى: { يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ }. وقوله تعالى: { هَدْياً بَالِغَ ٱلْكَعْبَةِ } أي واصلاً إلى الكعبة، والمراد وصوله إلى الحرم بأن يذبح هناك ويفرق لحمه على مساكين الحرم، وهذا أمر متفق عليه في هذه الصورة. وقوله: { أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذٰلِكَ صِيَاماً } أي إذا لم يجد المحرم مثل ما قتل من النعم أو لم يكن الصيد المقتول من ذوات الأمثال، أو قلنا بالتخيير في هذا المقام بين الجزاء والإطعام والصيام، كما هو قول مالك وأبي حنيفة وأحد قولي الشافعي والمشهور عن أحمد رحمهم الله، لظاهر "أو" بأنها للتخيير. والقول الآخر على الترتيب: فصورة ذلك أن يعدل إلى القيمة، فيقوّم الصيد المقتول عند مالك وأبي حنيفة وأصحابه، وقال الشافعي: يقوم مثله من النعم لو كان موجوداً، ثم يشتري به طعام فيتصدق به فيصرف لكل مسكين مد منه عند الشافعي ومالك وفقهاء الحجاز واختاره ابن جرير وقال أبو حنيفة وأصحابه: يطعم كل مسكين مُدَيْن، وهو قول مجاهد. وقال أحمد: مد من حنطة أو مدان من غيره، فإن لم يجد أو قلنا بالتخيير صام عن إطعام كل مسكين يوماً، واختلفوا في مكان هذا الإطعام، فقال الشافعي: مكانه الحرم وهو قول عطاء، وقال مالك: يطعم في المكان الذي أصاب فيه الصيد أو أقرب الأماكن إليه، وقال أبو حنيفة: إن شاء أطعم في الحرم وإن شاء أطعم في غيره.
وقوله تعالى: { لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ } أي أوجبنا عليه الكفارة ليذوق عقوبة فعله الذي ارتكب فيه المخالفة، { عَفَا ٱللَّهُ عَمَّا سَلَف } أي في زمان الجاهلية لمن أحسن في الإسلام واتبع شرع الله ولم يرتكب المعصية، ثم قال: { وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ ٱللَّهُ مِنْهُ } أي ومن فعل ذلك بعد تحريمه في الإسلام وبلوغ الحكم الشرعي إليه { فَيَنْتَقِمُ ٱللَّهُ مِنْهُ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ ذُو ٱنْتِقَامٍ }. قال ابن جريج: قلت لعطاء: ما { عَفَا ٱللَّهُ عَمَّا سَلَف }؟ قال: عما كان في الجاهلية. قال، قلت: وما { وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ ٱللَّهُ مِنْهُ }؟ قال: ومن عاد في الإسلام فينتقم الله منه، وعليه مع ذلك الكفارة، قال، قلت: فهل في العود من حد تعلمه! قال: لا، قال، قلت: فترى حقاً على الإمام أن يعاقبه؟ قال: لا، هو ذنب أذنبه فيما بينه وبين الله عزَّ وجلَّ، ولكن يفتدي، رواه ابن جرير. وقيل: معناه: فينتقم الله منه بالكفارة؛ قاله سعيد ابن جبير وعطاء، ثم الجمهور من السلف والخلف: على أنه متى قتل المحرم الصيد وجب الجزاء، ولا فرق بين الأولى والثانية والثالثة، وإن تكرر ما تكرر سواء الخطأ في ذلك والعمد. وقال ابن جرير عن ابن عباس فيمن أصاب صيداً يحكم عليه ثم عاد، قال: لا يحكم عليه، ينتقم الله منه. قوله: { وَٱللَّهُ عَزِيزٌ ذُو ٱنْتِقَامٍ } أي: والله منيع في سلطانه لا يقهره قاهر، ولا يمنعه من الانتقام ممن انتقم منه، ولا من عقوبة من أراد عقوبته مانع لأن الخلق خلقه، والأمر أمره، له العزة والمنعة. وقوله: { ذُو ٱنْتِقَامٍ } يعني أنه ذو معاقبة لمن عصاه على معصيته إياه.