التفاسير

< >
عرض

قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِٱلْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلاَ تَقْتُلُوۤاْ أَوْلاَدَكُمْ مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ ٱلْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ ٱلنَّفْسَ ٱلَّتِي حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلاَّ بِٱلْحَقِّ ذٰلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ
١٥١
-الأنعام

مختصر تفسير ابن كثير

قال ابن مسعود رضي الله عنه: من أراد أن ينظر إلى وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم التي عليها خاتمه فليقرأ هؤلاء الآيات: { قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً } - إلى قوله - { لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ }. وقال الحاكم في مستدركه عن عبد الله بن خليفة قال: سمعت ابن عباس يقول: في الأنعام آيات محكمات هن أم الكتاب، ثم قرأ: { قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ } الآيات، وعن عبادة بن الصامت قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيكم يبايعني على ثلاث ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: { قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ } حتى فرغ من الآيات.. فمن وفى فأجره على الله ومن انتقص منهن شيئاً فأدركه الله به في الدنيا كانت عقوبته، ومن أخر إلى الآخرة فأمره إلى الله إن شاء عذبه وإن شاء عفا عنه" . يقول تعالى لنبيه ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم قل يا محمد لهؤلاء المشركين الذين عبدوا غير الله وحرموا ما رزقهم الله وقتلوا أولادهم، وكل ذلك فعلوه بآرائهم وتسويل الشياطين لهم { قُلْ } لهم { تَعَالَوْاْ } أي هلموا وأقبلوا { أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ } أي أقص عليكم وأخبركم بما حرم ربكم عليكم حقاً لا تخرصاً ولا ظناً، بل وحياً منه وأمراً من عنده { أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً } وكأن في الكلام محذوفاً دل عليه السياق وتقديره: وأوصاكم { أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً } ولهذا قال في آخر الآية: { ذٰلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ }.
وفي الصحيحين من حديث أبي ذر رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"أتاني جبريل فبشرني أنه من مات لا يشرك بالله شيئاً من أمتك دخل الجنة، قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق، قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق، قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق، وإن شرب الخمر" ؛ وفي بعض الروايات أنه عليه الصلاة والسلام قال في الثالثة: "وإن رغم أنف أبي ذر"، فكان أبو ذر يقول بعد تمام الحديث: "وإن رغم أنف أبي ذر"، وفي بعض المسانيد والسنن عن أبي ذر قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول تعالى: "يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني فإني أغفر لك على ما كان منك ولا أبالي، ولو أتيتني بقراب الأرض خطيئة أتيتك بقرابها مغفرة ما لم تشرك بي شيئاً، وإن أخطأت حتى تبلغ خطاياك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك" ، ولهذا شاهد في القرآن قال الله تعالى: { { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ } [النساء: 48، 116]، وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود: "من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة". والآيات والأحاديث في هذا كثيرة جداً، وعن عبادة بن الصامت قال: أوصانا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبع خصال: "ألا تشركوا بالله شيئاً وإن حرقتم وقطعتم وصلبتم" ، وقوله تعالى: { وَبِٱلْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً } أي أوصاكم وأمركم بالوالدين إحساناً أي أن تحسنوا إليهم، كما قال تعالى: { { وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوۤاْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِٱلْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً } [الإسراء: 23]، والله تعالى كثيراً ما يقرن بين طاعته وبر الوالدين كما قال: { { أَنِ ٱشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ ٱلْمَصِيرُ } [لقمان: 14]، فأمر بالإحسان إليهما وإن كانا مشركين بحسبهما، وقال تعالى: { { وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ ٱللَّهَ وَبِٱلْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً } [البقرة: 83] والآيات في هذا كثيرة.
وفي الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال:
"سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي العمل أفضل؟ قال: الصلاة على وقتها قلت: ثم أيّ؟ قال: بر الوالدين قلت: ثم أيّ؟ قال: الجهاد في سبيل الله" ، قال ابن مسعود: حدثني بهن رسول الله صلى الله عليه وسلم لو استزدته لزادني. وقوله تعالى: { وَلاَ تَقْتُلُوۤاْ أَوْلاَدَكُمْ مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ } لما أوصى تعالى بالوالدين والأجداد، عطف على ذلك الإحسان إلى الأبناء والأحفاد فقال تعالى: { وَلاَ تَقْتُلُوۤاْ أَوْلاَدَكُمْ مِّنْ إمْلاَقٍ }، وذلك أنهم كانوا يقتلون أولادهم كما سولت لهم الشياطين ذلك، فكانوا يئدون البنات خشية العار، وربما قتلوا بعض الذكور خشية الافتقار، ولهذا ورد في الصحيحين من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله نداً وهو خلقك قلت: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك، قلت: ثم أي؟ قال: أن تزاني حليلة جارك ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: { وَٱلَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهًا آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ ٱلنَّفْسَ ٱلَّتِي حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلاَّ بِٱلْحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ }" الآية. وقوله تعالى: { مِّنْ إمْلاَقٍ }، قال ابن عباس: هو الفقر أي ولا تقتلوهم من فقركم الحاصل، وقال في سورة الإسراء: { وَلاَ تَقْتُلُوۤاْ أَوْلاَدَكُمْ مِّنْ إمْلاَقٍ } أي لا تقتلوهم خوفاً من الفقر في الآجل، ولهذا قال هناك: { { نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم } [الإسراء: 31] فبدأ برزقهم للاهتمام بهم أي لا تخافوا من فقركم بسبب رزقهم فهو على الله وأما هنا فلما كان الفقر حاصلاً قال: { نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ } لأنه الأهم هٰهنا والله أعلم. وقوله تعالى: { وَلاَ تَقْرَبُواْ ٱلْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ }، كقوله تعالى: { { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ ٱلْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَٱلإِثْمَ وَٱلْبَغْيَ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ } [الأعراف: 33]. قد تقدم تفسيرها في قوله تعالى: { { وَذَرُواْ ظَاهِرَ ٱلإِثْمِ وَبَاطِنَهُ } [الأنعام: 120] وفي الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا أحد أغير من الله من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن" .
وفي الصحيحين "قال سعد بن عبادة لو رأيت مع امرأتي رجلاً لضربته بالسيف غير مصفح، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أتعجبون من غيرة سعد؟ فوالله لأنا أغير من سعد، والله أغير مني، من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن" ، وقوله تعالى: { وَلاَ تَقْتُلُواْ ٱلنَّفْسَ ٱلَّتِي حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلاَّ بِٱلْحَقِّ }، وهذا مما نص تبارك وتعالى على النهي عنه تأكيداً وإلاّ فهو داخل في النهي عن الفواحش ما ظهر منها وما بطن، فقد جاء في الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل دم امرىء مسلم يشهد أن لا إلٰه إلاّ الله وأني رسول الله إلاّ بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة" ، وفي لفظ لمسلم: "والذي لا إلٰه غيره لا يحل دم رجل مسلم" وذكره، وروى أبو داود والنسائي عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يحل دم امرىء مسلم إلاّ بإحدى ثلاث خصال زان محصن يرجم، ورجل قتل متعمداً فيقتل، ورجل يخرج من الإسلام وحارب الله ورسوله فيقتل أو يصلب أو ينفى من الأرض" . وعن أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه قال وهو محصور: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يحل دم امرىء مسلم إلاّ بإحدى ثلاث: رجل كفر بعد إسلامه، أو زنى بعد إحصانه، أو قتل بغير نفس" فوالله ما زنيت في جاهلية ولا إسلام، ولا تمنيت أن لي بديني بدلاً منه بعد إذ هداني الله، ولا قتلت نفساً، فبم تقتلونني؟ وقد جاء النهي والزجر والوعيد في قتل المعاهد وهو المستأمن من أهل الحرب، فروى البخاري عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعاً: "من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاماً" ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من قتل معاهداً له ذمة الله وذمة رسوله فقد أخفر بذمة الله فلا يرح رائحة الجنة وإن ريحها ليوجد من مسيرة سبعين خريفاً" . وقوله: { ذٰلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } أي هذا مما وصاكم به لعلكم تعقلون عن الله أمره ونهيه.