التفاسير

< >
عرض

وَإِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَاقَوْمِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَآءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ هَـٰذِهِ نَاقَةُ ٱللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِيۤ أَرْضِ ٱللَّهِ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوۤءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
٧٣
وَٱذْكُرُوۤاْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ مِن بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي ٱلأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ ٱلْجِبَالَ بُيُوتاً فَٱذْكُرُوۤاْ آلآءَ ٱللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْا فِي ٱلأَرْضِ مُفْسِدِينَ
٧٤
قَالَ ٱلْمَلأُ ٱلَّذِينَ ٱسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لِلَّذِينَ ٱسْتُضْعِفُواْ لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحاً مُّرْسَلٌ مِّن رَّبِّهِ قَالُوۤاْ إِنَّا بِمَآ أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ
٧٥
قَالَ ٱلَّذِينَ ٱسْتَكْبَرُوۤاْ إِنَّا بِٱلَّذِيۤ آمَنتُمْ بِهِ كَافِرُونَ
٧٦
فَعَقَرُواْ ٱلنَّاقَةَ وَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُواْ يَاصَالِحُ ٱئْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ
٧٧
فَأَخَذَتْهُمُ ٱلرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ
٧٨
-الأعراف

مختصر تفسير ابن كثير

قال علماء التفسير والنسب: ثمود بن عاثر بن إرم بن سام بن نوح، أحياء من العرب العاربة قبل إبراهيم الخليل عليه السلام، وكانت ثمود بعد عاد، ومساكنهم مشهورة بين الحجاز والشام إلى وادي القرى وما حوله، وقد مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على ديارهم ومساكنهم وهو ذاهب إلى تبوك في سنة تسع، قال الإمام أحمد عن ابن عمر قال: "لما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس على تبوك، نزل بهم الحجر عند بيوت ثمود فاستقى الناس من الآبار التي كانت تشرب منها ثمود، فعجنو منها، ونصبوا لها القدور، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم فأهراقوا القدور، وعلفوا العجين الإبل، ثم ارتحل بهم حتى نزل بهم على البئر التي كانت تشرب منها الناقة، ونهاهم أن يدخلوا على القوم الذين عذبوا، وقال: إني أخشى أن يصيبكم مثل ما أصابهم فلا تدخلوا عليهم" . وقال أحمد أيضاً عن عبد الله بن عمر قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بالحجر: "لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين، فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم أن يصيبكم مثل ما أصابهم" . قوله تعالى: { وَإِلَىٰ ثَمُودَ } أي ولقد أرسلنا إلى قبيلة ثمود أخاهم صالحاً { قَالَ يَاقَوْمِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُ }، فجميع الرسل يدعون إلى عبادة الله وحده لا شريك له، كما قال تعالى: { { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِيۤ إِلَيْهِ أَنَّهُ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ أَنَاْ فَٱعْبُدُونِ } [الأنبياء: 25]، وقوله: { قَدْ جَآءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ هَـٰذِهِ نَاقَةُ ٱللَّهِ لَكُمْ آيَةً }، أي قد جاءتكم حجة من الله على صدق ما جئتكم به، وكانوا هم الذين سألوا صالحاً أن يأتيهم بآية، واقترحوا عليه بأن تخرج لهم من صخرة صماء عينوها بأنفسهم، وهي صخرة منفردة في ناحية الحجر يقال لها الكاتبة، فطلبوا منه أن يخرج لهم منها ناقة عشراء تمخض، فأخذ عليهم صالح العهود والمواثيق، لئن أجابهم الله إلى طلبتهم ليؤمنن به وليتبعنه، فلما أعطوه على ذلك عهودهم ومواثيقهم، قام صالح عليه السلام إلى صلاته ودعا الله عزَّ وجلَّ، فتحركت تلك الصخرة، ثم انصدعت عن ناقة جوفاء وبراء، يتحرك جنينها بين جنبيها، كما سألوا، فعند ذلك آمن رئيسهم (جندع بن عمرو) ومن كان معه على أمره، وأقامت الناقة وفصيلها بعدما وضعته بين أظهرهم مدة تشرب من بئرها يوماً، وتدعه لهم يوماً، وكانوا يشربون لبنها يوم شربها، يحتلبونها، فيملأون ما شاءوا من أوعيتهم وأوانيهم، كما قال في الآية الأخرة: { { وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ ٱلْمَآءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُّحْتَضَرٌ } [القمر: 28]، وقال تعالى: { { هَـٰذِهِ نَاقَةٌ لَّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ } [الشعراء: 155]، وكانت تسرح في بعض تلك الأودية ترد من فج وتصدر من غيره ليسعها لأنها كانت تتضلع من الماء، وكانت على ما ذكر خلقاً هائلاً ومنظراً رائعاً، إذا مرت بأنعامهم نفرت منها، فلما طال عليهم ذلك واشتد تكذيبهم لصالح النبي عليه السلام عزموا على قتلها ليستأثروا بالماء كل يوم، فيقال: إنهم اتفقوا كلهم على قتلها قال قتادة: بلغني أن الذي قتلها طاف عليهم كلهم أنهم راضون بقتلها، حتى على النساء في خدورهن وعلى الصبيان، قلت: وهذا هو الظاهر لقوله تعالى: { { فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنبِهِمْ فَسَوَّاهَا } [الشمس: 14]، وقال: { { وَآتَيْنَا ثَمُودَ ٱلنَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَا } [الإسراء: 59]، وقال: { فَعَقَرُواْ ٱلنَّاقَةَ }، فأسند ذلك على مجموع القبيلة، فدل على رضى جميعهم بذلك، والله أعلم.
وذكر ابن جرير وغيره من علماء التفسير: أن سبب قتلها أن امرأة منهم يقال لها (عنيزة) وتكنى أم عثمان، كانت عجوزاً كافرة، وكانت أشد الناس عداوة لصالح عليه السلام، وكانت لها بنات حسان ومال جزيل، وكان زوجها (ذؤاب بن عمرو) أحد رؤساء ثمود، وامرأة أخرى يقال لها (صدقة) ذات حسب ومال وجمال، وكانت تحت رجل مسلم من ثمود ففارقته، فكانتا تجعلان جعلاً لمن التزم لهما بقتل الناقة فدعت صدقة رجلاً يقال له: الحباب، فعرضت عليه نفسها إن هو عقر الناقة، فأبى عليها، فدعت ابن عم لها يقال له: (مصدع بن المحيا) فأجابها إلى ذلك، ودعت عنيزة بنت غنم (قدار بن سالف) وكان رجلاً أحمر أزرق قصيراً يزعمون أنه كان ولد زانية، وقالت له: أعطيك أي بناتي شئت على أن تعقر الناقة، فعند ذلك انطلق (قدار بن سالف) و (مصدع بن المحيا) فاستغويا غواة من ثمود، فاتبعهما سبعة نفر، فصاروا تسعة رهط، وهم الذين قال فيهم الله تعالى:
{ { وَكَانَ فِي ٱلْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ يُصْلِحُونَ } [النمل: 48] وكانوا رؤساء في قومهم، فاستمالوا القبيلة الكافرة بكمالها، فطاوعتهم على ذلك، فانطلقوا فرصدوا الناقة حين صدرت عن الماء وقد كمن لها (قدار بن سالف) في أصل صخرة على طريقها، وكمن لها مصدع في أصل أخرى، فمرت على مصدع فرماها بسهم فانتظم به عضلة ساقها، وخرجت بنت غنم عنيزة، وأمرت ابنتها - وكانت من أحسن الناس وجهاً - فسفرت عن وجهها لقدار وزمرته، وشد عليها قدار بالسيف فكشف عن عرقوبها، فخرت ساقطة إلى الأرض، ورغت رغاة واحدة تحذر سقبها، ثم طعن في لبتها فنحرها، وانطلق سقبها وهو فصيلها حتى أتى جبلاً منيعاً، فصعد أعلى صخرة فيه ورغا.
فلما فعلوا ذلك وفرغوا من عقر الناقة وبلغ الخبر صالحاً عليه السلام جاءهم وهم مجتمعون، فلما رأى الناقة بكى وقال:
{ { تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ } [هود: 65] الآية، وكان قتلهم الناقة يوم الأربعاء، فلما أمسى أولئك التسعة الرهط عزموا على قتل صالح، وقالوا: إن كان صادقاً عجلناه قبلنا، وإن كان كاذباً ألحقناه بناقته { { قَالُواْ تَقَاسَمُواْ بِٱللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ } [النمل: 49]، فلما عزموا على ذلك وتواطأوا عليه وجاؤوا من الليل ليفتكوا بنبي الله، فأرسل الله سبحانه وتعالى - وله العزة ولرسوله - عليهم حجارة فرضختهم سلفاً وتعجيلاً قبل قومهم، وأصبح ثمود يوم الخميس - وهو اليوم الأول من أيام النظرة - ووجوههم مصفرة، كما وعدهم صالح عليه السلام، وأصبحوا في اليوم الثاني من أيام التأجيل - وهو يوم الجمعة - ووجوههم محمرة، وأصبحوا في اليوم الثالث من أيام المتاع - وهو يوم السبت - ووجوههم مسودة، فلما أصبحوا من يوم الأحد، وقد تحنطوا وقعدوا ينتظرون نقمة الله وعذابه - عياذاً بالله من ذلك - لا يدرون ماذا يفعل بهم، ولا كيف يأتيهم العذاب، وأشرقت الشمس، جاءتهم صيحة من السماء ورجفة شديدة من أسفل منهم، ففاضت الأرواح. وزهقت النفوس في ساعة واحدة. { فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ } أي صرعى لا أرواح فيهم، ولم يفلت منهم أحد لا صغير ولا كبير، لا ذكر ولا أنثى، ولم يبق من ذرية ثمود أحد سوى صالح عليه السلام ومن تبعه رضي الله عنهم، إلا أن رجلاً يقال له (أبو رغال) كان لما وقعت النقمة بقومه مقيماً إذ ذاك في الحرم فلم يصبه شيء، فلما خرج في بعض الأيام إلى الحل جاءه حجر من السماء فقتله.