التفاسير

< >
عرض

كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِٱلْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ
٥
يُجَادِلُونَكَ فِي ٱلْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى ٱلْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ
٦
وَإِذْ يَعِدُكُمُ ٱللَّهُ إِحْدَى ٱلطَّآئِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ ٱلشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ ٱلْكَافِرِينَ
٧
لِيُحِقَّ ٱلْحَقَّ وَيُبْطِلَ ٱلْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ ٱلْمُجْرِمُونَ
٨
-الأنفال

مختصر تفسير ابن كثير

قال الطبري: اختلف المفسرون في السبب الجالب لهذه الكاف في قوله: { كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ } فقال بعضهم شبه به في الصلاح للمؤمنين؛ والمعنى:أن الله تعالى يقول: كما أنكم لما اختلفتم في المغانم وتشاححتم فيها، فانتزعها الله منكم، فكان هذه هو المصلحة التامة لكم، كذلك لما كرهتم الخروج إلى الأعداء وهم النفير الذين خرجوا لإحراز عيرهم، فكان عاقبة كراهتكم للقتال بأن قدره لكم على غير ميعاد رشداً وهدى، ونصراً وفتحاً، كما قال تعالى: { { كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ } [البقرة: 216]، وقال آخرون: معنى ذلك { كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِٱلْحَقِّ } على كره من فريق من المؤمنين، كذلك هم كارهون للقتال، فهم يجادلونك فيه بعدما تبين لهم، قال مجاهد: { كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ } كذلك يجادلونك في الحق. وقال بعضهم: يسألونك عن الأنفال مجادلة كما جادلوك يوم بدر، فقالوا: أخرجتنا للعير ولم تعلمنا قتالاً فنستعد له. قلت: رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما خرج من المدينة طالباً لعير أبي سفيان التي بلغه خبرها أنها صادرة من الشام فيها أموال جزيلة لقريش، فاستنهض رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين، فخرج في ثلثمائة وبضعة عشر رجلاً وجمع الله بين المسلمين والكافرين على غير ميعاد، لما يريد الله تعالى من إعلاء كلمة المسلمين ونصرهم على عدوهم والتفرقة بين الحق والباطل، والغرض أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بلغه خروج النفير أوحى الله إليه، يعده إحدى الطائفتين إما العير وإما النفير، ورغب كثير من المسلمين إلى العير، لأنه كسب بلا قتال، كما قال تعالى: { وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ ٱلشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ }.
روى ابن أبي حاتم قال:
"خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بدر، حتى إذا كان بالروحاء خطب الناس فقال: كيف ترون؟ فقال أبو بكر: يا رسول الله بلغنا أنهم بمكان كذا وكذا، قال: ثم خطب الناس فقال: كيف ترون؟ فقال عمر: مثل قول أبي بكر، ثم خطب الناس فقال: كيف ترون؟ فقال سعد بن معاذ: يا رسول الله إيانا تريد؟ فوالذي أكرمك وأنزل عليك الكتاب ما سلكتها قط ولا لي بها علم، ولئن سرت حتى تأتي برك الغماد من ذي يمن لنسيرن معك، ولا نكون كالذين قالوا لموسى: { فَٱذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاۤ إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ }، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، ولعلك أن تكون خرجت لأمر، وأحدث الله إليك غيره، فانظر الذي أحدث الله إليك فامض له، فصل حبال من شئت، واقطع حبال من شئت، وعاد من شئت، وسالم من شئت، وخذ من أموالنا ما شئت، فنزل القرآن على قول سعد: { كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِٱلْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ }" الآيات، وقال ابن عباس: لما شاور النبي صلى الله عليه وسلم في لقاء العدو، وقال له سعد بن عبادة ما قال، وذلك يوم بدر أمر الناس أن يتهيأوا للقتال وأمرهم بالشوكة، فكره ذلك أهل الإيمان، فأنزل الله: { كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِٱلْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ }، وقال مجاهد: يجادلونك في الحق: في القتال للقاء المشركين. عن عكرمة عن ابن عباس قال، قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين فرغ من بدر: عليك بالعير ليس دونها شيء، فناداه العباس بن عبد المطلب وهو أسير في وثاقه: إنه لا يصلح لك، قال: ولم؟ قال: لأن الله عزَّ وجلَّ إنما وعدك إحدى الطائفتين وقد أعطاك الله ما وعدك. ومعنى قوله تعالى: { وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ ٱلشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ } أي يحبون أن الطائفة التي لا منعة ولا قتال تكون لهم وهي العير، { وَيُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ } أي هو يريد أن يجمع بينكم وبين الطائفة التي لها الشوكة والقتال ليظفركم بهم وينصركم عليهم، ويظهر دينه، ويرفع كلمة الإسلام، ويجعله غالباً على الأديان، وهو أعلم بعواقب الأمور، وهو الذي يدبركم بحسن تدبيره، وإن كان العباد يحبون خلاف ذلك فيما يظهر لهم.
وقال محمد بن إسحاقرحمه الله :
"لما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي سفيان مقبلاً من الشام ندب المسلمين إليهم، وقال: هذه عير قريش فيها أموالهم، فاخرجوا إليها لعل الله أن ينفلكموها، فانتدب الناس فخف بعضهم، وثقل بعضهم، وذلك أنهم لم يظنوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يلقى حرباً، وكان أبو سفيان قد استنفر حين دنا من الحجاز، يتجسس الأخبار، ويسأل من لقي من الركبان تخوفاً على أمر الناس حتى أصاب خبراً من بعض الركبان أن محمداً قد استنفر أصحابه لك ولعيرك فحذر عند ذلك، فاستأجر (ضمضم بن عمرو الغفاري) فبعثه إلى أهل مكة وأمره أن يأتي قريشاً، فيستنفرهم إلى أموالهم، ويخبرهم أن محمداً قد عرض لها في أصحابه، فخرج ضمضم بن عمرو سريعاً إلى مكة، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه حتى بلغ وادياً يقال له ذفران، فخرج منه، حتى إذا كان ببعضه نزل، وأتاه الخبر عن قريش بمسيرهم ليمنعوا عيرهم، فاستشار رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس، وأخبرهم عن قريش، فقام أبو بكر رضي الله عنه فقال فأحسن، ثم قام عمر رضي الله عنه، فقال فأحسن، ثم قام المقداد بن عمرو فقال: يا رسول الله امض لما أمرك الله به فنحن معك، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: { فَٱذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاۤ إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ }، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد - يعني مدينة الحبشة - لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم خيراً، ودعا له بخير، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أشيروا علي أيها الناس وإنما يريد الأنصار، وذلك أنهم كانوا عدد الناس، وذلك أنهم حين بايعوه بالعقبة قالوا: يا رسول الله، إنا برآء من ذمامك حتى تصل إلى دارنا، فإذا وصلت إلينا فأنت في ذمامنا نمنعك مما نمنع منه أبناءنا، ونساءنا وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخوف أن لا تكون الأنصار ترى عليها نصرته إلا ممن دهمه بالمدينة من عدوه، وأن ليس عليهم أن يسير بهم إلى عدو من بلادهم، فلما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، قال له سعد بن معاذ: والله لكأنك تريدنا يا رسول الله؟ قال: أجل، فقال: قد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله لما أمرك الله، فوالذي بعثك بالحق إن استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما يتخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غداً، إنا الصبر لصبر عند الحرب، صدق عند اللقاء، ولعل الله يريك ما تقر به عينك، فسر بنا على بركة الله، فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول سعد، ونشطه ذلك، ثم قال: سيروا على بركة الله وأبشروا فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم" ، وروى العوفي عن ابن عباس نحو هذا، وكذلك قال السدي وقتادة وعبد الرحمٰن بن أسلم وغير واحد من علماء السلف والخلف، اختصرنا أقوالهم اكتفاء بسياق محمد بن إسحاق.