التفاسير

< >
عرض

يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلْخَمْرِ وَٱلْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَٰفِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ ٱلْعَفْوَ كَذٰلِكَ يُبيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمُ ٱلأيَٰتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ
٢١٩
فِي ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلْيَتَامَىٰ قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ ٱلْمُفْسِدَ مِنَ ٱلْمُصْلِحِ وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لأَعْنَتَكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
٢٢٠
-البقرة

تفسير آيات الأحكام

[12] تحريم الخمر والميسر
التحليل اللفظي
{ ٱلْخَمْرِ }: المسكر من عصير العنب وغيره، وهي مأخوذة من خَمَر الشيء إذا ستره وغطاه، سميت خمراً لأنها تستر العقل وتغطيه، ومنه قولهم: خمّرتُ الإناء أي غطيته.
قال الزجاج: الخمر في اللغة: ما ستر على العقل، يقال: دخل فلان في خمار الناس أي في الكثير الذي يستتر فيهم، وخمار المرأة قناعها، سمي خماراً لأنه يغطي رأسها.
وقال ابن الأنباري: سميت خمراً لأنها تخامر العقل أي تخالطه، يقال خامره الداء إذا خالطه، وأنشد لكثير:

هنيئاً مريئاً غير داءٍ مخامر

{ وَٱلْمَيْسِرِ }: القمار، من اليسر وهو السهولة، لأنه كسب من غير كدّ ولا تعب، أو من اليسار (الغنى) لأنه سبب يساره.
قال الأزهري: الميسر: الجزور الذي كانوا يتقامرون عليه، سمي ميسراً لأنه يجزّأ أجزاءً، وكل شيء جزّأته فقد يَسَرْته.
وفي "الصحاح": ويَسر القوم الجزور إذا اقتسموا أعضاءها.
والياسر: الذي يلي قسمة الجزور.
{ إِثْمٌ }: الإثم: الذنب وجمعه آثام، يقال: آثم وأثِم، والآثم المتحمل الإثم قال تعالى:
{ { فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ } [البقرة: 283] أفاده الراغب.
وتسمى الخمر بـ (الإثم) لأنّ شربها سبب في الإثم قال الشاعر:

شربتُ الإثم حتى ضلّ عقليكذاك الإثم تذهب بالعقول

{ ٱلْعَفْوَ }: الفضل والزيادة على الحاجة.
قال القفال: العفو سهُل وتيسُر مما يكون فاضلاً عن الكفاية، يقال: خذ ما عفا لك أي ما تيسّر.
والمعنى: انفقوا ما فضل عن حوائجكم ولم تُجهدوا فيه أنفسكم.
{ لأَعْنَتَكُمْ }: أي أوقعكم في الحرج والمشقة، وأصل العنت: المشقة، يقال: أعنت فلانٌ فلاناً إذا أوقعة فيما لا يستطيع الخروج منه، وعَنت العظم: إذا انكسر بعد الجبر، وأكمةٌ عنوت: إذا كانت شاقة كدوداً، ومنه قوله تعالى:
{ { عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ } [التوبة: 128] أي شديد عليه ما شق عليكم.
قال الزجاج: ومعنى قوله تعالى: { وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لأَعْنَتَكُمْ } أي لو شاء لكلفكم ما يشتد عليكم.
{ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }: { عَزِيزٌ } أي لا يمتنع عليه شيء، لأنه غالب لا يغالب { حَكِيمٌ } أي يتصرف في ملكه كيف يشاء حسب ما تقتضيه الحكمة والمصلحة.
المعنى الإجمالي
يقول الله جل ثناؤه ما معناه: يسألك أصحابك يا محمد عن حكم تناول الخمر، وعن حكم الميسر (القمار) قل لهم: إن في مقارفة الخمر والميسر إثماً كبيراً، وضرراً عظيماً، وفيهما نفع مادي ضئيل، وضررهما أعظم وأكبر من نفعهما، فإن ضياع العقل، وذهاب المال، وتعريض الجسد للتلف في الخمر، وما يجرُّه القمار من خراب البيوت، ودمار الأسر، والصدّ عن عبادة الله وطاعته، وحدوث العداوة والبغضاء بين اللاعبين، كل ذلك إذا قيس إلى النفع المادي التافه، ظهر الضرر الكبير الفادح في هاتين الموبقتين الخبيثتين. ويسألونك ماذا ينفقون من أموالهم، وماذا يتركون؟ قل لهم: أنفقوا الفضل والزيادة بقدر ما يسهل ويتيسر عليكم، مما يكون فاضلاً عن حاجتكم، وحاجة من تعولون، كذلك قضت حكمة الله أن يبيّن لكم المنافع والمضار، وأن يرشدكم إلى ما فيه خيركم وسعادتكم لتتفكروا في أمر الدنيا والآخرة، فتعلموا أن الأولى فانية، وأن الآخرة باقية، فتعملوا لها، والعاقل من آثر ما يبقى على ما يفنى.
ويسألونك - يا محمد - عن معاملة اليتامى، أيخالطونهم أم يعتزلونهم، قل لهم: قصد إصلاح أموالهم خير من اعتزالهم، وإن خالطتموهم فهم إخوانكم في الدين، والأخ ينبغي أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، والله رقيب مطّلع عليكم يعلم المفسد منكم من المصلح، فلا تجعلوا مخالطتكم إياهم ذريعة إلى أكل أموالهم، ولو شاء الله لأوقعكم في الحرج والمشقة، ولكنه يسّر عليكم وسهّل الدين رحمة ورأفة بكم، وهو العزيز الذي لا يمتنع عليه شيء، الحكيم فيما يشرّع لعباده من الأحكام.
سبب النزول
أولاً: روى الإمام أحمد وأبو داود والترمذي عن عمر بن الخطاب أنه قال: اللهم بيّن لنا في الخمر بياناً شافياً، فإنها تذهب بالمال والعقل، فنزلت هذه الآية { يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلْخَمْرِ وَٱلْمَيْسِرِ } فُدعي عمر فقرئت عليه فقال: اللهم بيّن لنا في الخمر بياناً شافياً، فنزلت الآية في سورة النساء [43]
{ { يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ ٱلصَّلَٰوةَ وَأَنْتُمْ سُكَٰرَىٰ } فكان منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أقام الصلاة نادى: أن لا يقربنّ الصلاة سكران، فدعي عمر فقرئت عليه فقال: اللهم بيّن لنا في الخمر بياناً شافياً فنزلت في المائدة، فدعي عمر فقرئت عليه فلما بلغ { { فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ } [المائدة: 91] قال عمر: انتهينا، انتهينا.
ثانياً: وروى ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: لما نزلت
{ { وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ ٱلْيَتِيمِ إِلاَّ بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } [الأنعام: 152] ونزل { { إِنَّ ٱلَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ ٱلْيَتَٰمَىٰ ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً } [النساء: 10] انطلق من كان عنده يتيم، فعزل طعامه من طعامه، وشرابه من شرابه، فجعل يفضل الشيء من طعامه، فيُحبس له حتى يأكله أو يفسد، فاشتدّ ذلك عليهم، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله عز وجل { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلْيَتَامَىٰ قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ } [البقرة: 220] فخلطوا طعامهم بطعامهم، وشرابهم بشرابهم.
وجوه القراءات
1 - قرأ الجمهور (قل فيهما إثم كبير) بالباء، وقرأ حمزة والكسائي (كثير) بالثاء.
قال الطبري: ولو كان الذي وصف به من ذلك الكثرة لقيل: وإثمهما أكثر من نفعهما.
2 - قرأ الجمهور (قل العفوَ) بالنصب، وقرأ أبو عمرو (قل العفوُ) بالرفع. ويكون معنى الكلام حينئذٍ: ما الذي؟ ينفقون قل: المنفقُ العفوُ.
وجوه الإعراب
1 - قوله تعالى: { كَذٰلِكَ يُبيِّنُ ٱللَّهُ } قال ابن الأنباري: الكاف في (كذلك) إشارة إلى ما بيّن من الإنفاق، فكأنه قال: مثل ذلك الذي بينه لكم في الإنفاق يبيّن الآيات، ويجوز أن يكون "كذلك" ليس إشارة إلى ما قبله بل بمعنى "هكذا" قاله ابن عباس.
وقال العكبري: الكاف في (كذلك) في موضع نصب نعت لمصدر محذوف أي تبييناً مثل هذا التبيين يبيّن الله لكم، وقوله (في الدنيا والآخرة) متعلقة بـ (تتفكرون) ويجوز أن تتعلق بـ (يبيّن) والمعنى: يبيّن لكم الآيات في أمر الدنيا والآخرة.
2 - قوله تعالى: { إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ } (إصلاح) مبتدأ، و(خير) خبره، وجاز الابتداء بالنكرة هنا لأنها في معنى الفعل تقديره: أصلحوهم.
3 - قوله تعالى: { فَإِخْوَانُكُمْ } مرفوع على أنه خبر لمبتدأ محذوف تقديره: هم إخوانكم.
لطائف التفسير
اللطيفة الأولى: "أنزل الله تعالى في الخمر أربع آيات، نزل بمكة قوله تعالى:
{ وَمِن ثَمَرَاتِ ٱلنَّخِيلِ وَٱلأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً } [النحل: 67] فكان المسلمون يشربونها في أول الإسلام وهي لهم حلال، ثم نزل بالمدينة قوله تعالى: { يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلْخَمْرِ وَٱلْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَٰفِعُ لِلنَّاسِ } فتركها قوم لقوله: { قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ } وشربها قوم لقوله: { وَمَنَٰفِعُ لِلنَّاسِ } ثم إن (عبد الرحمٰن بن عوف) صنع طعاماً ودعا إليه ناساً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأطعمهم وسقاهم الخمر، وحضرت صلاة المغرب فقدموا أحدهم ليصلي بهم فقرأ (قل يا أيها الكافرون. أعبد ما تعبدون) بحذف (لا) فنزل قوله تعالى: { { يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ ٱلصَّلَٰوةَ وَأَنْتُمْ سُكَٰرَىٰ حَتَّىٰ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ } [النساء: 43] فحرّم الله السكر في أوقات الصلاة، فكان الرجل يشربها بعد صلاة العشاء فيصبح وقد زال سكره، ثم إن (عتبان بن مالك) صنع طعاماً ودعا إليه رجالاً من المسلمين فيهم (سعد بن أبي وقاص) وكان قد شوى لهم رأس بعير، فأكلوا وشربوا الخمر حتى أخذت منهم، فافتخروا عند ذلك وتناشدوا الأشعار، فأنشد بعضهم قصيدة فيها فخر قومه وهجاء الأنصار، فأخذ رجل من الأنصار لحي بعير فضرب به رأس (سعد) فشجه، فانطلق سعد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وشكا إليه الأنصاري فأنزل الله { { إِنَّمَا ٱلْخَمْرُ وَٱلْمَيْسِرُ وَٱلأَنصَابُ وَٱلأَزْلاَمُ رِجْسٌ... } إلى قوله: { { فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ } [المائدة: 90-91]؟ فقال عمر: انتهينا ربنا انتهينا".
اللطيفة الثانية: في تحريم الخمر بهذا الترتيب حكمة بليغة، وذلك أن القوم ألفوا شرب الخمر، وأصبحت جزءاً من حياتهم، فلو حرّمت عليهم دفعة واحدة لشقّ ذلك على نفوسهم، وربما لم يستجيبوا لذلك النهي، كما تقول السيدة عائشة رضي الله عنها "أول ما نزل من القرآن سورة من المفصّل فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلالُ والحرام، ولو نزل أول ما نزل: لا تشربوا الخمر لقالوا: لا ندع الخمرة أبداً".
وذلك من الخطة الحكيمة التي انتهجها الإسلام في معالجة الأمراض الاجتماعية، فقد سلك بالناس طريق (التدريج في تشريع الأحكام) فبدأ بالتنفير منه بطريق غير مباشر كما في الآية الأولى، ثم بالتنفير المباشر عن طريق المقارنة بين شيئين: شيء فيه نفع ضئيل، وشيء فيه ضرر وخطر جسيم، كما في الآية الثانية، ثم بالتحريم الجزئي في أوقات الصلاة كما في الآية الثالثة، ثم بالتحريم الكلي في جميع الأوقات كما في الآية الرابعة، فللَّه ما أدق هذا التشريع وما أحكمه؟!
اللطيفة الثالثة: فإن قيل: كيف يكون في الخمر منافع، مع أنها تذهب بالمال والعقل؟
فالجواب أن المراد بالمنافع في الآية (المنافع المادية) التي كانوا يستفيدونها من تجارة الخمر، يربحون منها الربح الفاحش، كما يربحون من وراء الميسر، ومما يدل على أن النفع مادي أن الله تعالى قرنها بالميسر { يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلْخَمْرِ وَٱلْمَيْسِرِ } ولا شك أن النفع في الميسر (مادي) بحت حيث يكون الربح لبعض المقامرين فكذلك في الخمر.
قال العلامة القرطبي: "أمّا المنافع في الخمر فربح التجارة، فإنهم كانوا يجلبونها من الشام برخص، فيبيعونها في الحجاز بربح، وكانوا لا يرون المماكسة فيها، فيشتري طالب الخمر الخمر بالثمن الغالي، هذا أصح ما قيل في منافعها".
ويحتمل أن يراد النفع في الخمر تلك اللذة والنشوة المزعومة التي عبرّ عنها الشاعر بقوله:

ونشربها فتتركنا ملوكاًوأُسْداً ما ينهنها اللقاء

وكما قال بعض المغرمين في الخمر:

لا يلذ السّكْر حتّىيأكل السكرانُ نعلَه
ويرى القصعة فيلاًويظنَّ الفيل نملة

اللطيفة الرابعة: أثمن وأغلى شيء في الإنسان عقله، فإذا فقد الإنسان العقل أصبح كالحيوان، ولهذا حرم الله الخمر وسميت بـ (أم الخبائث) لأنها سبب في كل قبيح.
روى النسائي عن عثمان رضي الله عنه أنه قال: "اجتنبوا الخمر فإنها أم الخبائث، إنه كان رجل ممن كان قبلكم متعبّد فعلقته امرأة غوية، فأرسلت إليه جاريتها فقالت له: إنّا ندعوك للشهادة، فانطلق مع جاريتها، فطفقت كلما دخل باباً أغلقته دونه، حتى أفضى إلى امرأة وضيئة عندها غلام وباطيةُ خمر، فقالت: إني والله ما دعوتك للشهادة، ولكن دعوتك لتقع عليّ، أو تشرب من هذه الخمر كأساً، أو تقتل هذا الغلام، قال: فاسقيني من هذه الخمر كأساً، فسقته كأساً قال: زيدوني فزادوه، فلم يبرح حتى وقع عليها، وقتل النفس، فاجتنبوا الخمر فإنه والله لا يجتمع الإيمان وإدمان الخمر، إلا يوشك أن يُخْرجَ أحدُهما صاحبه".
اللطيفة الخامسة: قال (قيس بن عاصم المِنْقري) في ذم الخمر بعد أن حرّمها على نفسه:

رأيت الخمر صالحة وفيهاخصالٌ تُفسد الرجل الحليما
فلا والله أشربها صحيحاًولا أشفي بها أبداً سقيماً
ولا أعطي بها ثمناً حياتيولا أدعو لها أبداً نديماً
فإن الخمر تفضح شاربيهاوتجنيهم بها الأمر العظيما

قال القرطبي: "وإن الشارب يصير ضُحكة للعقلاء، فيلعب ببوله وعذرته وربما يمسح وجهه، حتى رؤي بعضهم يمسح وجهه ببوله ويقول: اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين، ورؤي بعضهم والكلب يلحس وجهه وهو يقول له: أكرمك الله كما أكرمتني".
اللطيفة السادسة: قال صاحب "الكشاف": في صفة الميسر الذي كانوا يتعاملون به في الجاهلية "كانت لهم عشرة أقداح وهي (الفذّ، والتوأم، والرقيب، والحِلْس، والنافس، والمسبل، والمعلَّى، والمنيح، والسفيح، والوغد) لكلّ واحد منه نصيب معلوم من جزور ينحرونها إلا لثلاثة وهي (المنيح، والسفيح، والوغد) فللفذ سهم، وللتوأم سهمان، وللرقيب ثلاثة، وللحلس أربعة، وللنافس خمسة، وللمسبل ستة، وللمعلى سبعة، يجعلونها في خريطة ويضعونها على يد عدل، ثم يجلجلها ويدخل يده فيخرج باسم رجلٍ رجلٍ قدحاً منها، فمن خرج له قدح من ذوات الأنصباء أخذ النصيب الموسوم به، ومن خرج له قدح لا نصيب له لم يأخذ شيئاً، وغرم ثمن الجزور كله، وكانوا يدفعون تلك الأنصباء إلى الفقراء ولا يأكلون منها، ويفتخرون بذلك ويذمون من لم يدخل فيه؟
الأحكام الشرعية
الحكم الأول: هل الآية الكريمة دالة على تحريم الخمر؟
ذهب بعض العلماء إلى أن هذه الآية { يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلْخَمْرِ وَٱلْمَيْسِرِ } دالة على تحريم الخمر، لأن الله تعالى ذكر فيها قوله: { قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ } وقد حرم الله الإثم بقوله:
{ { إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ ٱلْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَٱلإِثْمَ... } [الأعراف: 33] الآية وهذا اختيار القاضي أبي يعلى.
ذهب جمهور العلماء إلى أن هذه الآية تقتضي ذم الخمر دون تحريمها، بدليل أن بعض الصحابة شربوا الخمر بعد نزولها - كما مرّ في أسباب النزول - ولو فهموا التحريم لما شربها أحد منهم، وهذه الآية منسوخة بآية المائدة وهذا قول مجاهد، وقتادة، ومقاتل.
قال القرطبي: "في هذه الآية ذم الخمر، فأما التحريم فيعلم بآية أخرى هي آية المائدة [الآية: 90]
{ { يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا ٱلْخَمْرُ وَٱلْمَيْسِرُ وَٱلأَنصَابُ وَٱلأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ ٱلشَّيْطَانِ } وعلى هذا أكثر المفسدين".
الحكم الثاني: ما هي الخمر وهل هي اسم لكل مسكر؟
اختلف العلماء في تعريف الخمر ما هي؟
فقال أبو حنيفة: الخمر الشراب المسكر من عصير العنب فقط، وأما المسكر من غيره كالشراب من التمر أو الشعير، فلا يسمى خمراً بل يُسمى نبيذاً. وهذا مذهب الكوفيين والنخعي، والثوري، وابن أبي ليلى.
وذهب الجمهور (مالك والشافعي وأحمد) إلى أن الخمر اسم لكلّ شراب مسكر، سواءً كان من عصير العنب، أو التمر، أو الشعير أو غيره، وهو مذهب جمهور المحدثين وأهل الحجاز.
حجة الكوفيين وأبي حنيفة:
احتج الكوفيون وأبو حنيفة بأن الأنبذة لا تسمى خمراً، ولا يسمى خمراً إلا الشيء المشتد من عصير العنب باللغة، والسنة:
أما اللغة: فقول (أبي الأسود الدؤلي) وهو حجة في اللغة:

دع الخمر تشربْها الغواة فإننيرأيت أخاها مغنياً بمكانها
فإن لا تكنْه أو يكنْها فإنهأخوها غذته أمه بلبانها

وأما السنة: فما روي عن أبي سعيد الخدري قال: "أُتي النبي صلى الله عليه وسلم بنشوان فقال له: أشربت خمراً؟ قال: ما شربتها منذ حرّمها الله ورسوله، قال: فماذا شربت؟ قال: الخليطين، قال: فحرّم رسول الله صلى الله عليه وسلم الخليطين" .
فنفى الشارب اسم الخمر عن (الخليطين) بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينكره عليه.
حجة الجمهور:
واستدل الحجازيون وجمهور الفقهاء على أن كل مسكر خمر بما يلي:
أولاً: حديث ابن عمر
"كلّ مسكر خمرٌ، وكل مسكر حرامٌ" .
ثانياً: حديث أبي هريرة: "الخمر من هاتين الشجرتين وأشار إلى الكرمة والنخلة" .
ثالثاً: حديث أنس "حرمت الخمر حين حرّمت، وما يُتخذ من خمر الأعناب إلا قليل، وعامة خمرنا البُسْرُ والتمر" .
رابعاً: حديث ابن عمر (نزل تحريم الخمر يوم نزل وهي من خمسة: من العنب، والتمر، والحنطة، والشعير، والذرة، والخمرُ ما خامر العقل).
خامساً: حديث أم سلمة
"نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل مسكر ومفتّر"
). واستدلوا لمذهبهم على أن المسكر يسمى خمراً باللغة أيضاً وهو أن الخمر سميت خمراً لمخامرتها للعقل، وهذه الأنبذة تخامر العقل أي تستره وتغيبه فلذلك تسمى خمراً، فالخمرُ هو السكر من أي شرابٍ كان، لأن السكر يغطي العقل، ويمنع من وصول نوره إلى الأعضاء.
قال الفخر الرازي: "فهذه الاشتقاقات من أقوى الدلائل على أن مسمّى الخمر هو المسكر، فكيف إذا انضافت الأحاديث الكثيرة إليه؟ لا يقال: إن هذا إثبات للغة بالقياس وهو غير جائز، لأنا نقول: ليس هذا إثباتاً للغة بالقياس بل هو تعيين المسمى بواسطة هذه الاشتقاقات.
والترجيح: ونحن إذا تأملنا أدلة الفريقين - ما ذكر منها وما لم يذكر - ترجح عندنا قول الجمهور وأهل الحجاز، فالخمر حرام، وكل مسكر خمر كما قال عمر رضي الله عنه، وذلك لأن الصحابة لما سمعوا تحريم الخمر فهموا منه تحريم الأنبذة، وهم كانوا أعرف الناس بلغة العرب ومراد الشارع، وقد ثبت بالسنة المطهّرة تحريم كل مسكر ومفتّر، وثبت عن أنسٍ أنه كان ساقي القوم في منزل أبي طلحة حين حرمت الخمر، وما كان خمرهم يومئذٍ إلا الفضيخ، فحين سمعوا تحريم الخمر أهراقوا الشراب وكسروا الأواني، وما كان الفضيخ إلا من نقيع البسر، فما ذهب إليه الجمهور هو الصحيح المعوّل عليه، لا سيّما وأن المتأخرين من الأحناف أفتوا بقول محمد في سائر الأشربة وهو الحق الذي لا محيد عنه.
قال العلامة الألوسي: "وعندي أن الحق الذي لا ينبغي العدول عنه، أن الشراب المتخذ مما عدا العنب كيف كان، وبأي اسم سمي، متى كان بحيث يُسكر حرام، وقليله ككثيره، ويحد شاربه، ويقع طلاقه، ونجاسته غليظة".
الحكم الثالث: ما هي أنواع الميسر المحرّم؟
اتفق العلماء على تحريم ضروب القمار، وأنها من الميسر المحرّم لقوله تعالى: { قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ } فكل لعب يكون فيه ربح لفريق وخسارة لآخر هو من الميسر المحرم، سواءً كان اللعب بالنرد، أو الشطرنج أو غيرهما، ويدخل فيه في زماننا مثل (اليانصيب) سواء منه ما كان بقصد الخير (اليانصيب الخيري) أو بقصد الربح المجرد فكله ربح خبيث "وإن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيباً".
قال صاحب "الكشاف": "وفي حكم الميسر أنواع القمار، من النرد والشطرنج وغيرهما، وعن النبي صلى الله عليه وسلم:
"إياكم وهاتين اللعبتين المشئومتين فإنهما من ميسر العجم" .
وعن علي رضي الله عنه: "أن النرد والشطرنج من الميسر".
وعن ابن سيرين: "كل شيء فيه خطر فهو من الميسر".
قال صاحب "روح المعاني": "وفي حكم الميسر جميع أنواع القمار من النرد، والشطرنج، وغيرهما حتى أدخلوا فيه لعب الصبيان بالجوز والكعاب، والقرعة في غير القسمة، وجميع أنواع المخاطرة والرهان".
أما النرد فمحرم بالاتفاق لقوله عليه السلام:
"من لعب بالنرد فقد عصى الله ورسوله" .
وأما الشطرنج: فقد أباحه الإمام الشافعي بشروط ذكرها الإمام الفخر حيث قال: "وقال الشافعي رضي الله عنه: إذا خلا الشطرنج عن الرهان، واللسان عن الطغيان، والصلاة عن النسيان، لم يكن حراماً، وهو خارج عن الميسر، لأن الميسر ما يوجب دفع المال، أو أخذ مال، وهذا ليس كذلك، فلا يكون قماراً ولا ميسراً".
وأما السبق في الخيل والدواب، والرميُ بالنصَال والسهام فقد رخص فيه بشروط تعرف من كتب الفقه وليس هنا محل تفصيلها والله تعالى أعلم.
خاتمة البحث:
حكمة التشريع
حرم الله الخمر والميسر، لما فيهما من الأضرار الفادحة، والمفاسد الكثيرة، والآثام التي تتولد من هاتين الرذيلتين سواءً في النفس أو البدن أو العقل أو المال.
فمن مضار الخمر أنه يذهب العقل حتى يهذي الشارب كالمجنون، ويفقد الإنسان صحته ويخرّب عليه جهازه الهضمي، فيحدث التهابات في الحلق، وتقرحات في المعدة والأمعاء، وتمدداً في الكبد، ويعيق دورة الدم، وقد يوقفها فيموت السكّير فجأة، وقد أثبت الطب الحديث ضرر الخمر الفادح في الجسم والعقل حتى قال بعض أطباء ألمانيا: "اقفلوا لي نصف الحانات أضمن لكم الاستغناء عن نصف المستشفيات، والبيمارستانات (مستشفى الأمراض العقلية) والسجون".
ويكفي الخمر شراً أنها (أم الخبائث) كما ورد في الحديث الشريف.
وأما مضار الميسر فليست بأقل من مضار الخمر، فهو يورث العداوة والبغضاء بين اللاعبين، ويصد عن ذكر الله وعن الصلاة، ويفسد المجتمع بتعويد الناس على البطالة والكسل، بانتظار الربح بدون كد ولا تعب، ويهدّم الأسر ويخرّب البيوت، فكم من أسرة تشرّدت وتحطمت وافتقرت بعد أن كانت تعيش بين أحضان الثروة والغنى بسبب مقامرة أربابها، فكان في ذلك الدمار والهلاك لتلك الأسر المنكوبة، كما انتهى الأمر بالكثير من اللاعبين إلى قتل أنفسهم بالانتحار، أو الرضا بعيشة الذل والمهانة.
ولا تزال الأيام تظهر من مضار الخمر والميسر ما لم يكن معروفاً من قبل، فيتجلى لنا صدق وصف الكتاب الكريم:
{ { إِنَّمَا يُرِيدُ ٱلشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ ٱلْعَدَاوَةَ وَٱلْبَغْضَآءَ فِي ٱلْخَمْرِ وَٱلْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ ٱللَّهِ وَعَنِ ٱلصَّلاَةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ } [المائدة: 91]؟؟.