التفاسير

< >
عرض

لاَّ يَتَّخِذِ ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلْكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذٰلِكَ فَلَيْسَ مِنَ ٱللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَـٰةً وَيُحَذِّرُكُمُ ٱللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَىٰ ٱللَّهِ ٱلْمَصِيرُ
٢٨
قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ ٱللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
٢٩
-آل عمران

تفسير آيات الأحكام

[1] النهي عن موالاة الكافرين
التحليل اللفظي
{ أَوْلِيَآءَ }: جمع ولي، وهو في اللغة بمعنى الناصر والمعين.
قال الراغب: وكلّ من ولي أمراً الآخر فهو وليه ومنه قوله تعالى:
{ { ٱللَّهُ وَلِيُّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } [البقرة: 257].
{ تُقَـٰةً }: مصدر بمعنى التقيّة وهي أن يداري الإنسان مخافة شرّه.
قال ابن عباس: "التقيّة مداراة ظاهرة، وقد يكون الإنسان مع الكفار أو بين أظهرهم، فيتقيهم بلسانه ولا مودة لهم في قلبه".
قال القرطبي: وأصل تُقَاة (وُقَية) على وزن فُعَلَة مثل: تُؤَدة وتُهَمَة، قلبت الواو تاء والياء ألفاً.
وقال أبو حيان: والمصدر على فُعَلة جاء قليلاً ولو جاء على المقيس لكان اتقاءً ونظيره قوله تعالى:
{ { وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً } [المزمل: 8].
والمعنى: إلا أن تخافوا منهم خوفاً فلا بأس بإظهار مودتهم باللسان تقية ومداراة دفعاً لشرهم وأذاهم من غير اعتقاد بالقلب.
{ ٱلْمَصِيرُ }: المرجع والمآب، والمعنى: رجوعكم ومآبكم إلى الله فيجازيكم على أعمالكم.
"وجه المناسبة"
لما بيّن تعالى في الآيات السابقة أنه مالك الملك، المعز المذل، المتصرف في الكون حسب مشيئته وإرادته، وأنه القادر على إعطاء الملك لمن شاء، ونزعه ممن شاء، وأن العزة والذلة بيده، نهى المؤمنين في هذه الآيات عن موالاة أعدائه لتكون الرغبة فيما عنده دون أعدائه الكافرين.
سبب النزول
1 - نزلت هذه الآية الكريمة في شأن قوم من المؤمنين كان لهم أصحاب من اليهود كانوا يوالونهم فقال لهم بعض الصحابة: اجتنبوا هؤلاء اليهود واحذروا مصاحبتهم لئلا يفتنوكم عن دينكم ويضلوكم بعد إيمانكم فأبى أولئك النصيحة، وبقوا على صداقتهم ومصاحبتهم لهم فنزلت الآية الكريمة { لاَّ يَتَّخِذِ ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلْكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ... } الآية.
2 - وروى القرطبي في "تفسيره" عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما أن هذه الآية نزلت في (عُبَادة بن الصامت) الأنصاري البدري، كان له حلفاء من اليهود فلّما خرج النبي صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب قال له عُبادة: يا نبيّ الله إن معي خمسمائة من اليهود، وقد رأيت أن يخرجوا معي فأستظهر بهم على العدو، فأنزل الله تبارك وتعالى: { لاَّ يَتَّخِذِ ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلْكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ ٱلْمُؤْمِنِينَ } الآية.
المعنى الإجمالي
نهى الله عزّ وجلّ عباده المؤمنين عن موالاة الكافرين أو التقرب إليهم بالمودة والمحبّة، أو مصادقتهم لقرابة أو معرفةٍ، لأنه لا ينبغي للمؤمنين أن يوالوا أعداء الله إذ من غير المعقول أن يجمع الإنسان بين محبة الله عز وجل وبين محبة أعدائه لأنه جمع بين النقيضين فمن أحبّ الله أبغض أعداءه.
فلا يجوز للمسلم أن يوالي غير المؤمنين فيتخذ من الكفّار الذين يتربصون بالمؤمنين السوء أولياء يصادقهم ويتودّد إليهم أو يستعين بهم ويترك إخوانه المؤمنين فليس بين الإيمان والكفر نسب وصلة، فالآية الكريمة تحذّر من موالاة الكافرين إلا في حال الضرورة وهو حال اتقاء شرهم وتجنب ضررهم أو الخوف منهم فتجوز موالاتهم بشرط أن يقتصر ذلك على الظاهر مع إضمار الكراهية والبغض لهم في الباطن، ثم ختمت الآية الكريمة بالوعيد الشديد الذي يدل على عظم الذنب الذي يرتكبه من يخالف أوامر الله ويوالي أعداءه.
وجوه القراءات
1 - قرأ الجمهور { إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَـٰةً } وقرأ يعقوب وأبو الرجاء والمفضّل (تقيّه) بالياء المشدّدة ووزنها فعيلة والتاء بدل من الواو.
وجوه الإعراب
أولاً: قوله تعالى: { لاَّ يَتَّخِذِ ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلْكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ } لا ناهية جازمة والفعل بعدها مجزوم وحرك بالكسر للتخلص من التقاء الساكنين و(يتخذ) ينصب مفعولين (الكافرين) مفعول أول و(أولياء) مفعول ثان.
ثانياً: قوله تعالى: { إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَـٰةً } الاستثناء مفرغ من عموم الأحوال أي لا تتخذوهم أولياء في حالٍ من الأحوال إلاّ في حال اتقاء شرهم وضررهم، و(تقاة) مفعول مطلق لـ (تتقوا) وجوّز بعضهم أن يكون مفعولاً به أي إلا أن تتقوا شيئاً حاصلاً من جهتهم.
لطائف التفسير
اللطيفة الأولى: التعبير بقوله تعالى: { وَمَن يَفْعَلْ ذٰلِكَ } بدل قوله: (ومن يتخذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين) للاختصار، واستهجاناً بذكره، وتقبيحاً لهذا الصنيع، فموالاة الكافرين من أقبح القبائح عند الله.
اللطيفة الثانية: قوله تعالى: { فَلَيْسَ مِنَ ٱللَّهِ فِي شَيْءٍ } ليس من الله، أي ليس من دين الله أو شرع الله، فهو على حذف مضاف، والتنكير في شيء للتحقير أي ليس هذا في قليل أو كثير من دين الله، لأنه جمع بين المتناقضين، وقد قال الشاعر:

تودّ عدّوي ثم تزعم أننيصديقك ليس النوك عند بعازب

اللطيفة الثالثة: في قوله تعالى: { إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَـٰةً } التفات من الغيبة إلى الخطاب، ولو جاء على النظم الأول لكان (إلا أن يتقوا).
اللطيفة الرابعة: إظهار اسم الجلالة مكان الإضمار في قوله تعالى: { وَإِلَىٰ ٱللَّهِ ٱلْمَصِيرُ } لتربية المهابة والروعة في النفس وتقديم الخبر على المبتدأ يفيد الحصر.
"الآيات الدالة على تحريم موالاة الكافرين".
وفي هذا المعنى الذي ذكرناه وهو حرمة موالاة الكافرين نزلت آيات كثيرة منها ما هو خاص بأهل الكتاب ومنها ما هو عام للمشركين نكتفي بذكر بعض هذه الآيات الكريمة.
1 - قال تعالى:
{ { يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ ٱلْيَهُودَ وَٱلنَّصَارَىٰ أَوْلِيَآءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ } [المائدة: 51].
2 - وقال تعالى:
{ { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِٱلْمَوَدَّةِ... } [الممتحنة: 1].
3 - وقال تعالى:
{ { يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ ٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِّنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَٱلْكُفَّارَ أَوْلِيَآءَ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } [المائدة: 57].
4 - وقال تعالى:
{ { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً... } [آل عمران: 118].
5 - وقال تعالى:
{ { لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ... } [المجادلة: 22].
الأحكام الشرعية
الحكم الأول: ما هو حكم الاستعانة بالكفار في الحرب؟
اختلف الفقهاء في جواز الاستعانة بالكفار في الحرب على مذهبين:
1 - مذهب المالكية: أنه لا يجوز الاستعانة بالكفار في الغزو أخذاً بظاهر الآية الكريمة واستدلوا بما ورد في قصة (عبادة بن الصامت) كما وضّحها سبب النزول. واستدلوا كذلك بما روته عائشة رضي الله عنها أن رجلاً من المشركين كان ذا جرأة ونجدة جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر يستأذنه في أن يحارب معه فقال صلى الله عليه وسلم له: "ارجع فلن استعين بمشرك".
ب - مذهب الجمهور (الشافعية والحنابلة والأحناف): قالوا يجوز الاستعانة بالكفار في الحرب بشرطين: أولاً: الحاجة إليهم. وثانياً: الوثوق من جهتهم، واستدلوا على مذهبهم بفعل النبي صلى الله عليه وسلم فقد استعان بيهود فينقاع وقَسمَ لهم، واستعان بصفوان بن أمية في هوازن، فدَلّ ذلك على الجواز، وقالوا في الردّ على أدلة المالكية إنها منسوخة بفعله صلى الله عليه وسلم وعمله، وقال بعضهم: إن ما ذكره المالكية يحمل على عدم الحاجة أو عدم الوثوق حيث أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يثق من جهته، وبذلك يحصل الجمع بين أدلة المنع وأدلة الجواز.
الحكم الثاني: ما معنى التقية وما هو حكمها؟
قال ابن عباس: التقية أن يتكلم بلسانه وقلبه مطمئن بالإيمان، ولا يقتل ولا يأتي مأثماً. وعرّف بعضهم التقيّة بأنها المحافظة على النفس والمال من شرّ الأعداء فيتقيهم الإنسان بإظهار الموالاة من غير اعتقادٍ لها.
قال "الجصاص" في "أحكام القرآن": "وقد اقتضت الآية جواز اظهار الكفر عند التقية وهو نظير قوله تعالى:
{ { مَن كَفَرَ بِٱللَّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِٱلإِيمَانِ } [النحل: 106] وإعطاء التقية في مثل ذلك إنما هو رخصة من الله تعالى وليس بواجب، بل ترك التقيّة أفضل. قال أصحابنا فيمن أكره على الكفر فلم يفعل حتى قُتل إنه أفضل ممن أظهر، وقد أخذ المشركون (خُبَيْب بن عدي) فلم يعط التقية حتى قتل فكان عند المسلمين أفضل من (عمار بن ياسر) حين أعطى التقية وأظهر الكفر، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال كيف وجدت قلبك؟ قال: مطمئناً بالإيمان، فقال صلى الله عليه وسلم "وإن عادوا فعد...". وكان ذلك على وجه الترخيص.
"قصة مسيلمة الكذاب مع بعض الصحابة"
روي أن مسيلمة الكذاب أخذ رجلين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقال لأحدهما أتشهد أنّ محمداً رسول الله؟ قال: نعم، قال: أتشهد أني رسول الله؟ قال: نعم، فترك سبيله، ثم دعا بالآخر، وقال: أتشهد أن محمداً رسول الله؟ قال: نعم، قال أتشهد أني رسول الله؟ قال: إني أصم، قالها ثلاثاً، فضرب عنقه، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أمّا هذا المقتول فمضى على صدقه ويقينه وأخذ بفضيلة فهنيئاً له، وأما الآخر فقبل رخصة الله فلا تبعة عليه".
الحكم الثالث: هل تجوز تولية الكافر واستعماله في شؤون المسلمين؟
استدل بعض العلماء بهذه الآية الكريمة على أنه لا يجوز تولية الكافر شيئاً من أمور المسلمين ولا جعلهم عمالاً ولا خدماً، كما لا يجوز تعظيمهم وتوقيرهم في المجلس والقيام عند قدومهم فإن دلالته على التعظيم واضحة، وقد أُمِرْنا باحتقارهم
{ { إِنَّمَا ٱلْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ } [التوبة: 28].
قال (ابن العربي): وقد نهى عمر بن الخطاب أبا موسى الأشعري بذمي كان استكتبه باليمن وأمره بعزله.
قال (الجصاص): (وفي هذه الآية ونظائرها دلالة على أن لا ولاية للكافر على المسلم في شيء، وأنه إذا كان الكافر ابن صغير مسلم بإسلام أمه، فلا ولاية له عليه في تصرف ولا تزويج ولا غيره، ويدل على أنّ الذمي لا يعقل جناية المسلم، وكذلك المسلم لا يعقل جنايته، لأن ذلك من الولاية والنصرة والمعونة).
ومما يؤيد هذا الرأي ويرجحه قوله تعالى:
{ { وَلَن يَجْعَلَ ٱللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً } [النساء: 141].
الحكم الرابع: حكم المداراة لأهل الشر والفجور:
تجوز مداراة أهل الشر والفجور، ولا يدخل هذا في الموالاة المحرمة فقد كان عليه الصلاة والسلام يداري الفسّاق والفجّار وكان يقول:
"إنا لنَبشُّ في وجوه قوم وقلوبنا تلعنهم" أو كما قال، قال بعض العلماء: إن كانت فيما لا يؤدي إلى ضرر الغير كما أنها لا تخالف أصول الدين فذلك جائز، وإن كانت تؤدي إلى ضرر الغير كالقتل والسرقة وشهادة الزور فلا تجوز البتة، والله يهدي من يشاء إلى صراطٍ مستقيم.
ما ترشد إليه الآيات الكريمة
1 - موالاة الكافرين، ومحبتهم، والتودّد إليهم محرمة في شريعة الله.
2 - التقية عند الخوف على النفس أو المال، أو التعرض للأذى الشديد.
3 - الإكراه يبيح للإنسان التلفظ بكلمة الكفر بشرط أن يبقى القلب مطمئناً بالإيمان.
4 - لا صلة بين المؤمن والكفر بولاية، أو نصرة، أو توارث، لأن الإيمان يناقض الكفر.
5 - الله تعالى مطلع على خفايا النفوس لا تخفى عليه خافية من أمور عباده.