التفاسير

< >
عرض

ٱلْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ ٱلطَّيّبَـٰتُ وَطَعَامُ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَـٰبَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ وَٱلْمُحْصَنَـٰتُ مِنَ ٱلْمُؤْمِنَـٰتِ وَٱلْمُحْصَنَـٰتُ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَـٰبَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا ءاتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَٰفِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِيۤ أَخْدَانٍ وَمَن يَكْفُرْ بِٱلإِيمَٰنِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي ٱلآخِرَةِ مِنَ ٱلْخَٰسِرِينَ
٥
يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى ٱلصَّلاةِ فٱغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى ٱلْمَرَافِقِ وَٱمْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى ٱلْكَعْبَينِ وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَٱطَّهَّرُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَىۤ أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّنَ ٱلْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فَٱمْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِّنْهُ مَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَـٰكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
٦
-المائدة

تفسير آيات الأحكام

[2] أحكام الوضوء والتيمم
التحليل اللفظي
{ وَطَعَامُ }: الطعام اسمٌ لما يؤكل وهو هنا خاص بالذبائح، يعني ذبيحة اليهودي والنصراني حلال لنا، كما أن ذبيحتنا حلال لهم.
{ وَٱلْمُحْصَنَاتُ }: العفائف من النساء قال الشعبي: أن تحصن فرجها فلا تزني، وقد تقدم.
{ مُتَّخِذِيۤ أَخْدَانٍ }: جمع خِدْن بمعنى صديق، والخدْن يقع على الذكر والأنثى كذا قال صاحب "الكشاف". وقد كان الرجل في الجاهلية يتخذ صديقة فيزني بها، والمرأة تتخذ صديقاً فيزني بها فحرم الإسلام ذلك.
{ يَكْفُرْ بِٱلإِيمَانِ }: أي يجحد بشرائع الإسلام ومن ضمنها أحكام الحلال والحرام.
{ حَبِطَ عَمَلُهُ }: بطل ثوابه لأن الكفر يذهب ثواب العمل الصالح
{ { وَقَدِمْنَآ إِلَىٰ مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً } [الفرقان: 23].
{ إِذَا قُمْتُمْ }: قال الزجاج: المعنى إذا أردتم القيام إلى الصلاة كقوله
{ { فَإِذَا قَرَأْتَ ٱلْقُرْآنَ فَٱسْتَعِذْ بِٱللَّهِ } [النحل: 98]. فليس المراد القيام فعلاً وإنما المراد إرادة الفعل، كما تقول: إذا ضربت فاتق الوجه أي إذا أردت الضرب.
{ فٱغْسِلُواْ }: الغَسْل بالفتح إسالة الماء على الشيء لإزالة ما عليه من وسخ وغيره.
{ وُجُوهَكُمْ }: لفظ الوجه مأخوذ من المواجهة، وحدّه من أعلى الجبهة إلى أسفل الذقن طولاً، ومن شحمة الأذن إلى شحمة الأذن عرضاً.
{ إِلَى ٱلْكَعْبَينِ }: الكعبان: العظمان الناتئان من جانبي القدم، وسمّي كعباً لعلوه وارتفاعه.
{ مِّنْ حَرَجٍ }: أي من ضيق في الدين، فقد وسّع الله على المؤمنين حين رخّص لهم في التيمم.
المعنى الإجمالي
يقول الله جل ثناؤه ما معناه: أحل لكم أيها المؤمنون المستطاب من الأطعمة ما كان منها حلالاً، وذبائح أهل الكتاب حلال لكم وذبائحكم حلال لهم، والعفائف من المؤمنات، والعفائف الحرائر من نساء أهل الكتاب حلال لكم نكاحهن، إذا دفعتم إليهن مهورهن، محصنين أنفسكم بالزواج، غير زانين ولا متخذين عشيقات وصديقات، تزنون بهن في السرّ، ومن يرتد عن الإسلام فقد ذهب وبطل ثوابه، وهو في الآخرة من الخاسرين.
ثمّ بيّن الله تعالى أحكام الوضوء والتيمم فقال: إذا أردتم أيها المؤمنون القيام إلى الصلاة، وأنتم محدثون، فاغسلوا بالماء الطاهر وجوهكم وأيديكم إلى المرافق، وامسحوا رؤوسكم، واغسلوا أقدامكم إلى الكعبين، وإذا كنتم محدثين حدثاً أكبر فاغتسلوا بالماء، وإن كنتم في حالة المرض أو السفر أو محدثين حدثاً أصغر، أو غشيتم النساء ولم تجدوا ماءً تتوضؤون به أو تغتسلون، فتيمّموا بالتراب الطاهر، فامسحوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق بذلك التراب، ما يريد الله أن يضيّق عليكم في أحكام الدين، ولكنه تعالى يريد أن يطهركم من الذنوب والآثام، ومن الأقذار والنجاسات، ويتم نعمته عليكم ببيان شرائع الإسلام لتشكروه على نعمه، وتحمدوه على آلائه.
وجوه القراءات
1 - قرأ الجمهور { وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى ٱلْكَعْبَينِ } بفتح اللام، وقرأ حمزة وأبو عمرو (وأرجُلِكُمْ) بالكسر، فقراءة النصب بالعطف على الوجوه والأيدي أي فاغسلوا وجوهكم وأيديَكم وأرجلَكم، وقراءة الجر للمجاورة، قال ابن الأنباري: لمّا تأخرت الأرجل بعد الرؤوس نسقت عليها للقرب والجوار.
وجوه الإعراب
1 - قوله تعالى: { وَطَعَامُ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ } طعام مبتدأ، وحلّ لكم خبره.
2 - قوله تعالى: { مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ } محصنين حال من الضمير المرفوع في آتيتموهن.
3 - قوله تعالى: { إِلَى ٱلْمَرَافِقِ } قال العكبري: قيل إن (إلى) بمعنى (مع) كقوله تعالى
{ { وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَىٰ قُوَّتِكُمْ } [هود: 52] أي مع قوتكم، وليس هذا المختار والصحيح أنها على بابها لانتهاء الغاية. وإنما وجب غسل المرافق بالسنة.
لطائف التفسير
اللطيفة الأولى: تقديم المحصنات من المؤمنات على الكتابيات يدل على تفضيل الزواج بالمؤمنة فالكتابية وإن كان يحل التزوج بها، لكنّ المؤمنة خير منها فيكون الزواج بها أفضل لقوله عليه السلام:
"ألا أخبركم عن خير ما يكنز المرء المرأة الصالحة..." الحديث. والصلاح إنما يكون في المؤمنة الفاضلة، وهذا هو السر في تقييد النكاح بالمؤمنات في سورة الأحزاب { { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِذَا نَكَحْتُمُ ٱلْمُؤْمِنَاتِ } [الأحزاب: 49].
اللطيفة الثانية: تقييد التحليل بإيتاء الأجور، يدل على تأكيد وجوب المهور، وأن من تزوج امرأة وعزم ألاّ يعطيها صداقها كان في صورة الزاني، وتسمية (المهر) بالأجر دلالة على أن الصداق ليس له قدر محدود، كما أن الأجر لا يتقدر وإنما يكون حسب الاتفاق.
اللطيفة الثالثة: التعبير بقوله تعالى: { وَمَن يَكْفُرْ بِٱلإِيمَانِ } هو من إطلاق اسم الشيء على لازمه فهو (مجاز مرسل) لأن المراد ومن يكفر بكلمة التوحيد (لا إله إلا الله) فجعل كلمة التوحيد إيماناً، لأنها تستلزم الإيمان، وقيل: المراد ومن يكفر بشرائع الله، أو بدين الله فقد حبط عمله، وكلاهما متقارب من حيث إرادة المجاز.
اللطيفة الرابعة: مجيء المسح في آية الوضوء ضمن الأعضاء المفروض غسلها. فيه إشارة لطيفة إلى أنه ينبغي مراعاة الترتيب في الوضوء، فيغسل الوجه أولاً، ثم اليدين إلى المرفقين ثانياً، ثم يمسح الرأس، ثم يغسل القدمين، وهذا الترتيب - وإن لم يكن واجباً في بعض الأقوال - إلاّ أنه على كل حال مطلوب ومندوب، فيكون اتباع الهدي النبوي أكمل وأولى.
الأحكام الشرعية
الحكم الأول: حكم ذبائح أهل الكتاب.
ذهب جمهور المفسرين إلى أن المراد من قوله تعالى: { وَطَعَامُ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ } أي ذبائح أهل الكتاب وهو الصحيح لا الخبز والفاكهة ولا جميع المطعومات كما قال البعض، لأن الذبائح هي التي تصير بفعلهم حلا، وأما الخبز والفاكهة فهي مباحة للمؤمنين قبل أن تكون لأهل الكتاب وبعد أن تكون لهم، فلا وجه لتخصيصها بأهل الكتاب.
وخُصّ هذا الحكم بأهل الكتاب لأن الوثنيّين لا يحل أكل ذبائحهم، ولا التزوج بنسائهم، لقوله تعالى:
{ { وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ ٱسْمُ ٱللَّهِ عَلَيْهِ } [الأنعام: 121] وقوله: { وَلاَ تَنْكِحُواْ ٱلْمُشْرِكَاتِ حَتَّىٰ يُؤْمِنَّ } [البقرة: 221].
أما أهل الكتاب فلهم حكم خاص من حيث الذبائح، والنكاح، وأما المجوس فقد سُنّ بهم سنة أهل الكتاب في أخذ الجزية منهم دون أكل ذبائحهم ونكاح نسائهم.
وقد روي عن علي رضي الله عنه أنه استثنى نصارى (بني تغلب) وقال: ليسوا على النصرانية ولم يأخذوا منها إلاّ شرب الخمر، وبه أخذ الشافعيرحمه الله .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سئل عن ذبائح نصارى العرب فقال: لا بأس به، وبه أخذ أبو حنيفةرحمه الله .
وإنما قال تعالى: { وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ } ولم يذكر النساء للتنبيه على أن الحكم مختلف في الذبائح والمناكحة، فإن إباحة الذبائح حاصلة من الجانبين، بخلاف إباحة المناكحات فإنها في جانب واحد، والفرق واضح لأنه لو أبيح لأهل الكتاب التزوج بالمسلمات، لكان لأزواجهن الكفار ولاية شرعية عليهن، والله تعالى لم يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلاً، بخلاف إباحة الطعام من الجانبين فإنها لا تستلزم محظوراً.
الحكم الثاني: حكم نكاح اليهودية أو النصرانية.
ذهب جمهور الفقهاء إلى أنه يحل التزوج بالذمية من اليهود والنصارى، واستدلوا بهذه الآية الكريمة { وَٱلْمُحْصَنَاتُ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ }.
وكان ابن عمر رضي الله عنهما لا يرى ذلك ويحتج بقوله تعالى:
{ { وَلاَ تَنْكِحُواْ ٱلْمُشْرِكَاتِ حَتَّىٰ يُؤْمِنَّ } [البقرة: 221] ويقول: لا أعلم شركاً أعظم من قولها: إن ربها عيسى، واستدل أيضاً بأن الله أوجب المباعدة عن الكفار في قوله: { لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآءَ } [الممتحنة: 1].
أقول: الآية صريحة في جواز نكاح الكتابيات، وهي دليل واضح لما ذهب إليه الجمهور، ولعلّ ابن عمر كره الزواج بالكتابيات ومنع منه، خشية على الزواج أو على الأولاد من الفتنة، فإن الحياة الزوجية تدعو إلى المحبة، وربما قويت المحبة فصارت سبباً إلى ميل الزوج إلى دينها، والأولاد يميلون إلى أمهم أكثر، فربما كان هذا سبباً في تأثرهم بدين النصرانية أو اليهودية فيكون هذا الزواج خطراً على الأولاد، فإذا كان ثمة خشية من الفتنة على الزوج أو الأولاد فيكون الزواج قطعاً محرماً، وأمّا إذا لم يكن هناك خطر، أو كان هناك طمع في إسلامها فلا وجه للقول بالتحريم والله أعلم.
الحكم الثالث: هل يجب الوضوء على غير المحدث؟
ظاهر قوله تعالى: { إِذَا قُمْتُمْ إِلَى ٱلصَّلاةِ } يوجب الوضوء على كل قائم وإن لم يكن محدثاً، وقد أجمع العلماء على أن الوضوء لا يجب إلا على المحدث، فيكون قيد الحدث مضمراً في الآية ويصبح المعنى (إذا قمتم إلى الصلاة وأنتم محدثون) وإنما أوّلوا الآية بهذا التأويل للإجماع على أن الوجوب لا يجب إلا على المحدث، ولأن في الآية ما يدل عليه، فإن التيمم يدل عن الوضوء وقائم مقامه، وقد قيد وجوب التيمم في الآية بوجود الحدث، فالأصل يجب أن يكون مقيداً به، ليتأتى أن يكون البدل قائماً مقام الأصل، ولأن الأمر بالوضوء نظير الأمر بالاغتسال وهو مقيد بالحدث الأكبر في قوله تعالى: { وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَٱطَّهَّرُواْ } فيكون نظيره وهو الأمر بالوضوء مقيداً بالحدث الأصغر.
ومما يدل على ذلك
"أن النبي صلى الله عليه وسلم صلّى يوم الفتح الصلوات الخمس بوضوء واحد، فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله صنعت شيئاً لم تكن تصنعه؟ فقال له عليه الصلاة والسلام عمداً فعلته يا عمر" . يعني أنه عليه السلام أراد بيان الجواز لأمته بهذا العمل.
وأما ما ورد من أنه عليه السلام وخلفاءه كانوا يتوضؤون لكل صلاة، فإن ذلك لم يكن بطريق الوجوب، وإنما كان بطريق الاستحباب، والرسول صلى الله عليه وسلم كان دائماً يحب الأفضل، فليس في فعله ما يدل على وجوب الوضوء لكل صلاة.
الحكم الرابع: ما هو حكم مسح الرأس وما مقداره؟
اتفق الفقهاء على أن مسح الرأس من فرائض الوضوء لقوله تعالى: { وَٱمْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ } ولكنهم اختلفوا في مقدار المسح على أقوال:
أ - قال المالكية والحنابلة: يجب مسح جميع الرأس أخذاً بالاحتياط.
ب - وقال الحنفية: يفترض مسح ربع الرأس أخذاً بفعل النبي صلى الله عليه وسلم بمسحه على الناصية.
جـ - وقال الشافعية: يكفي أن يمسح أقل شيء يطلق عليه اسم المسح ولو شعرات أخذاً باليقين.
دليل المالكية والحنابلة: استدل المالكية والحنابلة على وجوب مسح جميع الرأس بأن الباء كما تكون أصلية تكون زائدة للتأكيد، واعتبارها هنا زائدة أولى، والمعنى: امسحوا رؤوسكم، وقالوا: إن آية الوضوء تشبه آية التيمم، وقد أمر الله تعالى بمسح جميع الوجه في التيمم { فَٱمْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِّنْهُ } ولمّا كان المسح في التيمم عاماً لجميع الوجه، فكذلك هنا يجب مسح جميع الرأس ولا يجزئ مسح البعض، وقد تأكد ذلك بفعل النبي صلى الله عليه وسلم حيث ثبت أنه كان إذا توضأ مسح رأسه كله.
دليل الحنفية والشافعية: واستدل الحنفية والشافعية بأن الباء (للتبعيض) وليست زائدة، والمعنى: امسحوا بعض رؤوسكم، إلاّ أن الحنفية قدروه بربع الرأس لما روى عن المغيرة بن شعبة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في سفر، فنزل لحاجته ثم جاء فتوضأ ومسح على ناصيته.
وأما الشافعية فقالوا: الباء للتبعيض، وأقل ما يطلق عليه اسم المسح داخل بيقين، وما عداه لا يقين فيه فلا يكون فرضاً، وإنما يحمل على الندب.
قال الشافعي: "احتمل قوله تعالى: { وَٱمْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ } بعض الرأس، ومسح جميعه، فدلت السنة على أن مسح بعضه يجزئ، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح بناصيته، وقال في موضع آخر: فإن قيل قد قال الله عز وجل { فَٱمْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ } في التيمم أيجزئ بعض الوجه فيه؟ قيل له مسحُ الوجه في التيمم بدل من غسله، فلا بدّ أن يأتي بالمسح على جميع موْضِع الغسل منه، ومسحُ الرأس أصلٌ فهذا فرق ما بينهما".
قال القرطبي: "أجاب علماؤنا عن الحديث بأن قالوا: لعلّ النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك لعذر لا سيما وكان هذا الفعل منه صلى الله عليه وسلم في السفر وهو مظِنّة الإعذار، وموضع الاستعجال والاختصار، ثم هو لم يكتف بالناصية حتى مسح على العمامة، فلو لم يكن مسح جميع الرأس واجباً لما مسح على العمامة".
أقول: الباء في اللغة العربية موضوعة للتبعيض، وكونها زائدة خلاف الأصل، ومتى أمكن استعمالها على حقيقة ما وضعت له وجب استعمالها على ذلك النحو، فالفرض يجزئ بمسح البعض، والسنّة مسح الكل، فما ذهب إليه الشافعية والحنفية أظهر، وما ذهب إليه المالكية والحنابلة أحوط والله أعلم.
الحكم الخامس: ما هي الجنابة وماذا يحرم بها؟
الجنابة معنى شرعي يستلزم اجتناب الصلاة، وقراءة القرآن، ومسّ المصحف، ودخول المسجد إلى أن يغتسل الجنب لقوله تعالى: { وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَٱطَّهَّرُواْ }، وقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم لحصول الجنابة سببين:
الأول: نزول المني للحديث الشريف
"الماء من الماء" أي يجب الاغتسال بالماء من أجل الماء أي المني.
والثاني: التقاء الختانين لقوله عليه السلام:
"إذا التقى الختانان وجب الغسل" .
وكما يجب الغسل للجنابة يجب عند انقطاع الحيض والنفاس لقوله تعالى في الحيض: { { وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىٰ يَطْهُرْنَ } [البقرة: 222] ولحديث فاطمة بنت أبي حبيش أنه عليه الصلاة والسلام قال لها: "إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغتسلي وصليّ" والإجماع على أن النفاس كالحيض.
الحكم السادس: حكم المضمضة والاستنشاق في الغسل.
اختلف الفقهاء في (المضمضة) و(الاستنشاق) في الغسل، فقال المالكية والشافعية لا يجبان فيه، وقال الحنفية والحنابلة يجبان.
حجة المالكية والشافعية ما روي أن قوماً كانوا يتحدثون في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر الغسل، وكلٌ يبيّن ما يعمل فقال عليه السلام
"أمّا أنا فأحثي على رأسي ثلاث حثيات فإذا أنا قد طهرت" .
وحجة الحنفية والحنابلة أن الأمر بالتطهر يعم جميع أجزاء البدن الظاهرة والباطنة، التي يمكن غسلها وهي (الفم) و(الأنف) فكانت المضمضة والاستنشاق من الواجبات لقوله تعالى: { فَٱطَّهَّرُواْ }.
وأجابوا عما تمسك به (المالكية والشافعية) بأن الغرض من الحديث بيان أنه لا يجب الوضوء بعد الغسل كما فهم ذلك كثير من الصحابة، فبيّن عليه السلام أن الواجب الغسل فقط، وأن الطهارة الصغرى تدخل في الطهارة الكبرى.
الحكم السابع: حكم المريض والمسافر إذا وجد الماء.
ظاهر الآية الكريمة يدل على جواز التيمم للمريض مطلقاً، ولكنّه مقيّد بمن يضره الماء كما روي عن ابن عباس وجماعة من التابعين من أن المراد بالمريض المجدور ومن يضره الماء، ولذلك رأى الفقهاء أن المرض أنواع:
الأول: ما يؤدي استعمال الماء فيه إلى التلف في النفس أو العضو، بغلبة الظن أو بإخبار الطبيب المسلم الحاذق، وفي هذه الحالة يجوز التيمم باتفاق.
والثاني: ما يؤدي استعمال الماء إلى زيادة العلة أو بطء المرض، وفي هذه الحالة يجوز التيمم عند المالكية والحنفية وهو أصح قولي الشافعية لحديث الجماعة الذين خرجوا في السفر فأصاب أحدهم حجرٌ في رأسه فشجَّه ثم احتلم فخاف من زيادة العلة إلخ.
الثالث: ما لا يخاف معه تلفاً ولا بطأً ولا زيادة في العلة، وفي هذه الحالة لا يجوز التيمم عند الحنفية والشافعية، لأنه لم يخرج عن كونه قادراً على استعمال الماء، فلا يرخص له في التيمم، وعند المالكية يجوز له التيمم لإطلاق النص { وَإِن كُنتُم مَّرْضَىۤ }.
الرابع: أن يكون المرض حاصلاً لبعض الأعضاء، فإن كان الأكثر صحيحاً وجب غسل الصحيح ومسح الجريح ولا يجوز التيمم، وإن كان الأكثر جريحاً يجوز التيمم عند الحنفية، ومذهب الشافعية أنه يغسل الصحيح ثم يتيمم مطلقاً، وعند المالكية يجوز له التيمم مطلقاً.
ومن ذلك يتبين أن المريض يرخص له في التيمم ولو كان الماء موجوداً بخلاف المسافر فإن الرخصة له مقيّدة بعدم الماء.
الحكم الثامن: هل يجب في التيمم مسح اليدين إلى المرفقين؟
تقدم أن المراد بالصعيد هو التراب الطاهر على القول المختار، والتيمم المطلوب شرعاً هو استعمال الصعيد في عضوين مخصوصين بقصد التطهير، والعضوان هما (الوجه) و(اليدان) إلى المرفقين عند الحنفية، وهو أرجح القولين عند الشافعية، وإلى الرسغين عند المالكية والحنابلة.
حجة الحنفية والشافعية أن الأيدي في قوله تعالى: { فَٱمْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِّنْهُ } تشمل العضو كله، إلاّ أن التيمم لمّا كان بدلاً عن الوضوء، والبدل لا يخالف الأصل إلا بدليل، وقد وجب الغسل إلى المرافق في الوضوء فيجب أن يكون المسح إلى المرافق في التيمم. واستدلوا بحديث جابر بن عبد الله "التيمم ضربتان ضربة للوجه، وضربة للذراعين إلى المرفقين".
حجة المالكية والحنابلة: أن اليد تطلق على الكف بدليل قوله تعالى:
{ { وَٱلسَّارِقُ وَٱلسَّارِقَةُ فَٱقْطَعُوۤاْ أَيْدِيَهُمَا } [المائدة: 38] وقطع اليد إنما يكون إلى الرسغ باتفاق، فيجزئ في التيمم ذلك.
قال في "البحر المحيط": "وروي عن أبي حنيفة والشافعي أنه يمسح إلى المرفقين فرضاً واجباً، وذهب طائفة إلى أنه يبلغ به إلى الرسغين وهو قول أحمد والطبري والشافعي في القديم وروي عن مالك. وروي عن الشعبي أنه يمسح كفيه فقط، وبه قال بعض فقهاء الحديث، وهو الذي ينبغي أن يذهب إليه لصحته في الحديث، ففي "مسلم" من حديث عمار
"إنما يكفيك أن تضرب بيدك الأرض ثم تنفخ وتمسح بها وجهك وكفيك" وعنه في هذا الحديث "وضرب بيده الأرض فنفض يديه فمسح وجهه وكفيه" وللبخاري "ثم أدناهما من فيه ثم مسح بهما وجهه وكفيه" ، فهذه الأحاديث الصحيحة مبيِّنة ما تطرق إليه الاحتمال في الآية من محل المسح وكيفيته.
ما ترشد إليه الآيات الكريمة
أولاً: إباحة الأكل من ذبائح أهل الكتاب (اليهود والنصارى).
ثانياً: إباحة نكح المحصنات المؤمنات والمحصنات الكتابيات.
ثالثاً: الطهارة من الحدث الأصغر والأكبر شرط لصحة الصلاة.
رابعاً: إذا فقد الماء أو تعذّر استعماله يباح حينئذٍ التيمم.
خامساً: الإسلام دين اليسر وليس في الشريعة حرج أو ضيق.
خاتمة البحث:
حكمة التشريع
من أهداف الشريعة الغراء العناية بطهارة الإنسان، وتخليصه من الأقذار الحسية والمعنوية في الباطن والظاهر، وإعداده الإعداد الروحي الذي يؤهله للوقوف في حضرة القدس، ويسمو به إلى آفاق مشرقة من الجلال والبهاء والكمال.
وقد شرع الإسلام الوضوء والغسل للمؤمن ليكون مظهراً دالاً على طهارة الظاهر، كما دعا إلى اجتناب المعاصي والآثام ليكون عنواناً على طهارة الباطن، فالوضوء والغسل إنما يقصد منهما النظافة وهي (طهارة حسية) تعوّد الإنسان على حياة الطهر في النفس، والخُلُق، والدين، وتجعله يعتاد طريق النظافة في شتى شؤون حياته، وفي بدنه وملبسه ومطعمه، وقد حضّ الإسلام على ذلك لأنه دين الطهارة والنظافة
{ { وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ } [المدثر: 4] وطهارةُ الظاهر جزء من طهارة الباطن.
ولا عجب أن تُعنى الشريعة الغراء بطهارة الإنسان (فالطهور شطر الإيمان) كما قال عليه الصلاة والسلام، وقد بين جل ثناؤه الحكمة من تشريع هذه الأحكام في ختام الآية الكريمة بقوله { مَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَـٰكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } فالطهارة أساس في حياة المسلم، وإذا كان الله تعالى لا يقبل الصلاة إلا بطهارة الظاهر، فكيف يقبل من تلطخ بالقاذورات والنجاسات المعنوية فيدخله دار الأنس في جواره الكريم يوم القيامة؟!
إن الإسلام دين الطهارة وطهارة الظاهر فرع، وطهارة الباطن أصل، وطهارة الظاهر شرط لصحة الصلاة، كما أن طهارة الباطن شرط لدخول الجنة
{ { يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ * إِلاَّ مَنْ أَتَى ٱللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } [الشعراء: 88-89] وهما جميعاً سبب لمحبة الله { { إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلتَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ ٱلْمُتَطَهِّرِينَ } [البقرة: 222].