يعنـي تعالـى ذكره: { فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ } فلـما يئسوا منه من أن يخـلـى يوسف عن بنـيامين ويأخذ منهم واحداً مكانه وأن يجيبهم إلـى ما سألوه من ذلك. وقوله: { اسْتَـيْأَسُوا } استفعلوا، من يئس الرجل من كذا يـيأس. كما:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلـمة، عن ابن إسحاق: { فَلَـمَّا اسْتَـيْأَسُوا مِنْهُ } يئسوا منه ورأوا شدّته فـي أمره.
وقوله: { خَـلَصُوا نَـجِيًّا } يقول بعضهم لبعض: يتناجون، لا يختلط بهم غيرهم. والنـجيّ جماعة القوم الـمنتـجين يسمى به الواحد والـجماعة، كما يقال: رجل عدل ورجال عدل، وقوم زور وفطر، وهو مصدر من قول القائل: نـجوت فلاناً أنـجوه نـجيًّا، جعل صفة ونعتاً. ومن الدلـيـل علـى أن ذلك كما ذكرنا قول الله تعالـى: { وَقَرَّبْناهُ نَـجِيًّا } فوصف به الواحد، وقال فـي هذا الـموضع: { خَـلَصوا نَـجِيًّا } فوصف به الـجماعة، ويجمع النَّـجِيّ أنـجية، كما قال لبـيد:
وشَهدْتُ أنْـجِيَةَ الأُفـاقَةِ عالِـياًكَعْبِـي وأرْدَافُ الـمُلُوكِ شُهُودُ
وقد يقال للـجماعة من الرجال: نـجوى، كما قال جلّ ثناؤه: { وَإذْ هُمْ نَـجْوَى } وقال: { ما يَكُونُ مِنْ نَـجْوَى ثَلاثَةٍ } وهم القوم الذين يتناجون. وتكون النـجوى أيضاً مصدراًكما قال الله: { وإنَّـمَا النَّـجْوَى مِنَ الشَّيْطانِ } تقول منه: نـجوت أنـجو نـجوى، فهي فـي هذا الـموضع: الـمناجاة نفسها، ومنه قول الشاعر: بُنَـيَّ بَدَا خِبُّ نَـجْوَى الرّجالِفَكُنْ عِنْدَ سِرّكَ خَبَّ النَّـجِي
فـالنـجوى والنـجيّ فـي هذا البـيت بـمعنى واحد، وهو الـمناجاة، وقد جمع بـين اللغتـين. وبنـحو الذي قلنا فـي تأويـل قوله: { خَـلَصُوا نَـجِيًّا } قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا عمرو، عن أسبـاط، عن السديّ: { فَلَـمَّا اسْتَـيْأَسُوا مِنْهُ خَـلَصُوا نَـجِيًّا } وأخـلص لهم شمعون، وقد كان ارتهنه، خَـلَوْا بـينهم نـجيًّا يتناجون بـينهم.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: { خَـلَصُوا نَـجِيًّا } خـلصوا وحدهم نـجيًّا.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلـمة، عن ابن إسحاق: { خَـلَصُوا نَـجِيًّا }: أي خلا بعضهم ببعض، ثم قالوا: ماذا ترون.
وقوله: { قالَ كَبِـيرُهُمْ } اختلف أهل العلـم فـي الـمعنـيّ بذلك، فقال بعضهم: عنى به كبـيرهم فـي العقل والعلـم، لا فـي السنّ، وهو شمعون، قالوا: وكان روبـيـل أكبر منه فـي الـميلاد. ذكر من قال ذلك:
حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، فـي قول الله تعالـى: { قالَ كَبـيرُهُمْ } قال: هو شمعون الذي تـخـلف، وأكبر منه، وأكبر منهم فـي الـميلاد روبـيـل.
حدثنا الـحسن بن مـحمد، قال: ثنا شبـابة، قال: ثنا ورقاء، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: { قالَ كَبـيرهُمْ }: شمعون الذي تـخـلف، وأكبر منه فـي الـميلاد روبـيـل.
حدثنـي الـمثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، مثله.
حدثنـي الـمثنى، قال: أخبرنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله بن الزبـير، عن سفـيان، عن ابن جريج، عن مـجاهد: { قالَ كَبـيرُهُمْ } قال: شمعون الذي تـخـلف، وأكبرهم فـي الـميلاد روبـيـل.
وقال آخرون: بل عَنَى به كبـيرهم فـي السنّ وهو روبـيـل. ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا زيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: { قالَ كَبـيرُهُمْ } وهو روبـيـل أخو يوسف، وهو ابن خالته، وهو الذي نهاهم عن قتله.
حدثنا مـحمد بن عبد الأعلـى، قال: ثنا مـحمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: { قالَ كَبـيرهُمْ } قال: رُوبـيـل، وهو الذي أشار علـيهم أن لا يقتلوه.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا عمرو، عن أسبـاط، عن السديّ: { قالَ كَبـيرُهُمْ } فـي العلـم { أنَّ أبـاكُمْ قَدْ أخَذَ عَلَـيْكُمْ مَوْثقاً مِنَ اللّهِ وَمِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُـمْ فِـي يُوسُفَ فَلَنْ أبْرَحَ الأرْضَ... } الآية، فأقام روبـيـل بـمصر، وأقبل التسعة إلـى يعقوب فأخبروه الـخبر، فبكى وقال: يا بنـيّ ما تذهبون مرّة إلاَّ نقصتـم واحداً، ذهبتـم مرّة فنقصتـم يوسف، وذهبتـم الثانـية فنقصتـم شمعون، وذهبتـم الآن فنقصتـم روبـيـل.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلـمة، عن ابن إسحاق: { فَلَـمَّا اسْتَـيْأَسُوا مِنْهُ خَـلَصُوا نَـجِيًّا } قال: ماذا ترون؟ فقال رُوبـيـل كما ذُكر لـي، وكان كبـير القوم: { ألَـمْ تَعْلَـمُوا أنَّ أبـاكمْ قَدْ أخَذَ عَلَـيْكمْ مَوْثِقاً مِنَ اللّهِ لَتَأْتُنَّنِـي بِهِ إلاَّ أنْ يُحاطَ بِكُمْ وَمِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُـمْ فِـي يُوسُفَ... } الآية.
وأولـى الأقوال فـي ذلك بـالصحة قول من قال: عنى بقوله: { قالَ كَبـيرُهُمْ } رُوبـيـل لإجماع جميعهم علـى أنه كان أكبرهم سنًّا، ولا تفهم العرب فـي الـمخاطبة إذا قـيـل لهم: فلان كبـير القوم مطلقاً بغير وصل إلاَّ أحد معنـيـين، إما فـي الرياسة علـيهم والسؤدد وإما فـي السنّ، فأما فـي العقل فإنهم إذا أرادوا ذلك وصلوه، فقالوا: هو كبـيرهم فـي العقل، فأما إذا أطلق بغير صلته بذلك فلا يفهم إلاَّ ما ذكرت. وقد قال أهل التأويـل: لـم يكن لشمعون وإن كان قد كان من العلـم والعقل بـالـمكان الذي جعله الله به علـى إخوته رياسة وسؤدد، فـيعلـم بذلك أنه عنى بقوله: { قالَ كَبِـيرُهُمْ } فإذا كان ذلك كذلك فلـم يبق إلاَّ الوجه الآخر، وهو الكبر فـي السنّ، وقد قال الذين ذكرنا جميعاً: رُوبـيـل كان أكبر القوم سنًّا، فصحّ بذلك القول الذي اخترناه.
وقوله: { ألَـمْ تَعْلَـمُوا أنَّ أبـاكُمْ قَدْ أخَذَ عَلَـيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللّهِ } يقول: ألـم تعلـموا أيها القوم أن أبـاكم يعقوب قد أخذ علـيكم عهود الله ومواثـيقه لنأتـينه به جميعاً، إلاَّ أن يُحاط بكم، ومن قبل فعلتكم هذه تفريطكم فـي يوسف يقول: أو لـم تعلـموا من قبل هذا تفريطكم فـي يوسف. وإذا صرف تأويـل الكلام إلـى هذا الذي قلناه، كانت «ما» حينئذٍ فـي موضع نصب. وقد يجوز أن يكون قوله: { وَمِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُـمْ فِـي يُوسُفَ } خبراً مبتدأ، ويكون قوله: { ألَـمْ تَعْلَـمُوا أنَّ أبـاكُمْ قَدْ أخَذَ عَلَـيْكُمْ مَوْثِقا مِنَ اللّهِ } خبراً متناهياً، فتكون «ما» حينئذٍ فـي موضع رفع، كأنه قـيـل: ومن قبل هذا تفريطكم فـي يوسف، فتكون «ما» مرفوعة ب «من» قبل هذا، ويجوز أن تكون «ما» التـي تكون صلة فـي الكلام، فـيكون تأويـل الكلام: ومن قبل هذا تفريطكم فـي يوسف.
وقوله: { فَلَنْ أبْرَحَ الأرْضَ } التـي أنا بها وهي مصر فأفـارقها، { حتـى يَأْذَنَ لـي أبـي } بـالـخروج منها، كما:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلـمة، عن ابن إسحاق: { فَلَنْ أبْرَحَ الأرْضَ } التـي أنا بها الـيوم، { حتـى يَأْذَنَ لـي أبِـي } بالخروج منها.
حدثنـي الـمثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، قال شمعون: { لَنْ أبْرَحَ الأرْضَ حتـى يَأْذَنَ لـي أبِـي أوْ يَحْكُمَ اللّهُ لـي وَهُوَ خَيْرُ الـحاكمِينَ }.
وقوله: { أوْ يَحْكُمَ اللّهُ لـي }: أو يقضَي لـي ربـي بـالـخروج منها وترك أخي بنـيامين، وإلاَّ فإنـي غير خارج: { وَهُوَ خَيْرُ الـحاكمينَ } يقول: والله خير من حكم وأعدل من فصَل بـين الناس.
وكان أبو صالـح يقول فـي ذلك بـما:
حدثنـي الـحسين بن يزيد السبـيعيّ، قال: ثنا عبد السلام بن حرب، عن إسماعيـل بن أبـي خالد، عن أبـي صالـح فـي قوله: { حتـى يَأْذَنَ لـي أبِـي أوْ يَحْكُمَ اللّهُ لـي } قال: بـالسيف.
وكأن أبـا صالـح وجه تأويـل قوله: { أوْ يَحْكُمَ اللّهُ لـي } إلـى: أو يفضي الله لـي بِحَربَ مَنْ منعنـي من الانصراف بأخي بنـيامين إلـى أبـيه يعقوب، فأحاربه.