خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ ٱلآخِرَةِ لِيَسُوءُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ ٱلْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيراً
٧
-الإسراء

جامع البيان في تفسير القرآن

يقول تعالـى ذكره لبنـي إسرائيـل فـيـما قضى إلـيهم فـي التوراة:{ إنْ أحْسَنْتُـمْ } يا بنـي إسرائيـل، فأطعتـم الله وأصلـحتـم أمركم، ولزمتـم أمره ونهيه { أحْسنْتُـمْ } وفعلتـم ما فعلتـم من ذلك { لأَنْفُسِكُمْ } لأنَّكم إنـما تنفعون بفعلكم ما تفعلون من ذلك أنفسكم فـي الدنـيا والآخرة. أما فـي الدنـيا فإن الله يدفع عنكم من بغاكم سوءاً، وينـمي لكم أموالكم، ويزيدكم إلـى قوّتكم قوّة. وأما فـي الآخرة فإن الله تعالـى يثـيبكم به جنانه { وإنْ أسأْتُـمْ } يقول: وإن عصيتـم الله وركبتـم ما نهاكم عنه حينئذٍ، فإلـى أنفسكم تسيئون، لأنكم تسخطون بذلك علـى أنفسكم ربكم، فـيسلط علـيكم فـي الدنـيا عدوّكم، ويـمكِّن منكم من بغاكم سوءا، ويخـلدكم فـي الآخرة فـي العذاب الـمهين. وقال جلّ ثناؤه { وَإنْ أسأْتُـمْ فلها } والـمعنى: فإلـيها كما قال { بأنَّ رَبَّكَ أوْحى لَها } والـمعنى: أوحى إلـيها.

وقوله: { فإذَا جاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ } يقول: فإذا جاء وعد الـمرّة الآخرة من مرّتـي إفسادكم يا بنـي إسرائيـل فـي الأرض { لِـيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ } يقول: لـيسوء مـجيء ذلك الوعد للـمرّة الآخرة وجوهكم فـيقبِّحها.

وقد اختلفت القرّاء فـي قراءة قوله { لِـيْسُوءُوا وُجُوهَكُمْ } فقرأ ذلك عامَّة قرّاء أهل الـمدينة والبصرة { لِـيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ } بـمعنى: لـيسوء العبـاد أولو البأس الشديد الذين يبعثهم الله علـيكم وجوهكم، واستشهد قارئوا ذلك لصحة قراءتهم كذلك بقوله { وَلِـيَدْخُـلُوا الـمَسْجِدَ } وقالوا: ذلك خبر عن الـجميع فكذلك الواجب أن يكون قوله { لِـيَسُوءُوا }. وقرأ ذلك عامَّة قرّاء الكوفة: «لِـيَسُوءَ وُجُوهَكُمْ» علـى التوحيد وبـالـياء. وقد يحتـمل ذلك وجهين من التأويـل أحدهما ما قد ذكرت، والآخر منهما: لـيسوء الله وجوهكم. فمن وجَّه تأويـل ذلك إلـى لـيسوء مـجيء الوعد وجوهَكم، جعل جواب قوله «فإذا» مـحذوفـاً، وقد استغنـي بـما ظهر عنه، وذلك الـمـحذوف «جاء»، فـيكون الكلام تأويـله: فإذا جاء وعد الآخرة لـيسوء وجوهكم جاء. ومن وجَّهَ تأويـله إلـى: لـيسوء الله وجوهكم، كان أيضا فـي الكلام مـحذوف، قد استغنـي هنا عنه بـما قد ظهر منه، غير أن ذلك الـمـحذوف سوى «جاء»، فـيكون معنى الكلام حينئذٍ: فإذا جاء وعد الآخرة بعثناهم لـيسوء الله وجوهكم، فـيكون الـمضمر بعثناهم، وذلك جواب «إذا» حينئذٍ. وقرأ ذلك بعض أهل العربـية من الكوفـيـين: «لِنَسُوءَ وُجُوهَكُمْ» علـى وجه الـخبر من الله تبـارك وتعالـى اسمه عن نفسه.

وكان مـجيء وعد الـمرّة الآخرة عند قتلهم يحيى. ذكر الرواية بذلك، والـخبر عما جاءهم من عند الله حينئذٍ كما:

حدثنا موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسبـاط، عن السديّ فـي الـحديث الذي ذكرنا إسناده قبل أن رجلاً من بنـي إسرائيـل رأى فـي النوم أن خراب بـيت الـمقدس وهلاك بنـي إسرائيـل علـى يدي غلام يتـيـم ابن أرملة من أهل بـابل، يدعى بختنصر، وكانوا يصدقون فتصدق رؤياهم، فأقبل فسأل عنه حتـى نزل علـى أمه وهو يحتطب، فلـما جاء وعلـى رأسه حزمة من حطب ألقاها، ثم قعد فـي جانب البـيت فضمه، ثم أعطاه ثلاثة دراهم، فقال: اشتر لنا بها طعاماً وشرابـاً، فـاشترى بدرهم لـحماً وبدرهم خبزاً وبدرهم خمراً، فأكلوا وشربوا حتـى إذا كان الـيوم الثانـي فعل به ذلك، حتـى إذا كان الـيوم الثالث فعل ذلك، ثم قال له: إنـي أُحبّ أن تكتب لـي أماناً إن أنت ملكت يوماً من الدهر، فقال: أتسخر بـي؟ فقال: إنـي لا أسخر بك، ولكن ما علـيك أن تتـخذ بها عندي يدا، فكلـمته أمه، فقالت: وما علـيك إن كان ذلك وإلاَّ لـم ينقصك شيئاً، فكتب له أماناً، فقال له: أرأيت إن جئت والناس حولك قد حالوا بـينـي وبـينك، فـاجعل لـي آية تعرفنـي بها قال: ترفع صحيفتك علـى قصبة أعرفك بها، فكساه وأعطاه. ثم إن ملك بنـي إسرائيـل كان يكرم يحيى بن زكريا، ويدنـي مـجلسه، ويستشيره فـي أمره، ولا يقطع أمراً دونه، وأنه هوى أن يتزوّج ابنة امرأة له، فسأل يحيى عن ذلك، فنهاه عن نكاحها وقال: لست أرضاها لك، فبلغ ذلك أمها فحقدت علـى يحيى حين نهاه أن يتزوّج ابنتها، فعمدت أمّ الـجارية حين جلس الـملك علـى شرابه، فألبستها ثـيابـاً رقاقاً حمراً، وطيَّبتها وألبستها من الـحُلـيّ، وقـيـل: إنها ألبستها فوق ذلك كساء أسود، وأرسلتها إلـى الـملك، وأمرتها أن تسقـيه، وأن تعرض له نفسها، فإن أرادها علـى نفسها أبت علـيه حتـى يعطيها ما سألته، فإذا أعطاها ذلك سألته أن يأتـي برأس يحيى بن زكريا فـي طست، ففعلت، فجعلت تسقـيه وتعرض له نفسها فلـما أخذ فـيه الشراب أرادها علـى نفسها، فقالت: لا أفعل حتـى تعطينـي ما أسألك، فقال: ما الذي تسألـينـي؟ قالت: أسألك أن تبعث إلـى يحيى بن زكريا، فأوتَـى برأسه فـي هذا الطست، فقال: ويحك سلـينـي غير هذا، فقالت له: ما أريد أن أسألك إلاَّ هذا. قال: فلـما ألَّـحت علـيه بعث إلـيه، فأتـى برأسه، والرأس يتكلـم حتـى وضع بـين يديه وهو يقول: لا يحلّ لك ذلك فلـما أصبح إذا دمه يغلـي، فأمر بتراب فألقـى علـيه، فرقـى الدم فوق التراب يغلـي، فألقـى علـيه التراب أيضا، فـارتفع الدم فوقه فلـم يزل يـلقـي علـيه التراب حتـى بلغ سور الـمدينة وهو يغلـى وبلغ صيحابـين، فثار فـي الناس، وأراد أن يبعث علـيهم جيشاً، ويؤمِّر علـيهم رجلاً، فأتاه بختنصر وكلَّـمه وقال: إن الذي كنت أرسلته تلك الـمرّة ضعيف، وإنـي قد دخـلت الـمدينة وسمعت كلام أهلها، فـابعثنـي، فبعثه، فسار بختنصر حتـى إذا بلغوا ذلك الـمكان تـحصنوا منه فـي مدائنهم، فلـم يطقهم، فلـما اشتدّ علـيهم الـمقام وجاع أصحابه، أرادوا الرجوع، فخرجت إلـيهم عجوز من عجائز بنـي إسرائيـل فقالت: أين أمير الـجند؟ فأتـى بها إلـيه، فقالت له: إنه بلغنـي أنك تريد أن ترجع بجندك قبل أن تفتـح هذه الـمدينة، قال: نعم، قد طال مقامي، وجاع أصحابـي، فلست أستطيع الـمقام فوق الذي كان منـي، فقالت: أرأيتك إن فتـحت لك الـمدينة أتعطينـي ما سألتك، وتقتل من أمرتك بقتله، وتكفّ إذا أمرتك أن تكفّ؟ قال: نعم، قالت: إذا أصبحت فـاقسم جندك أربعة أربـاع، ثم أقم علـى كلّ زاوية ربعاً، ثم ارفعوا بأيديكم إلـى السماء فنادوا: إنا نستفتـحك يا ألله بدم يحيى بن زكريا، فإنها سوف تسَّاقط ففعلوا، فتساقطت الـمدينة، ودخـلوا من جوانبها، فقالت له: اقتل علـى هذا الدم حتـى يسكن، وانطلقت به إلـى دم يحيى وهو علـى تراب كثـير، فقتل علـيه حتـى سكن سبعين ألفـا وامرأة فلـما سكن الدم قالت له: كفّ يدك، فإن الله تبـارك وتعالـى إذا قتل نبـيّ لـم يرض، حتـى يقتل من قتله، ومن رضي قتله، وأتاه صاحب الصحيفة بصحيفته، فكفّ عنه وعن أهل بـيته، وخرّب بـيت الـمقدس، وأمر به أن تطرح فـيه الـجيف، وقال: من طرح فـيه جيفة فله جزيته تلك السنة، وأعانه علـى خرابه الروم من أجل أن بنـي إسرائيـل قتلوا يحيى، فلـما خرّبه بختنصر ذهب معه بوجوه بنـي إسرائيـل وأشرافهم، وذهب بدانـيال وعلـياً وعزارياً وميشائيـل، هؤلاء كلهم من أولاد الأنبـياء وذهب معه برأس جالوت فلـما قدم أرض بـابل وجد صحابـين قد مات، فملك مكانه، وكان أكرم الناس علـيه دانـيال وأصحابه، فحسدهم الـمـجوس علـى ذلك، فوشوا بهم إلـيه وقالوا: إن دانـيال وأصحابه لا يعبدون إلهك، ولا يأكلون من ذبـيحتك، فدعاهم فسألهم، فقالوا: أجل إن لنا ربـاً نعبده، ولسنا نأكل من ذبـيحتكم، فأمر بخدّ فخدّ لهم، فألقوا فـيه وهم ستة، وألقـى معهم سبعا ضارياً لـيأكلهم، فقال: انطلقوا فلنأكل ولنشرب، فذهبوا فأكلوا وشربوا، ثم راحوا فوجدوهم جلوساً والسبع مفترش ذراعيه بـينهم، ولـم يخدش منهم أحداً، ولـم ينكأه شيئاً، ووجدوا معهم رجلاً، فعدّوهم فوجدوهم سبعة، فقالوا: ما بـال هذا السابع إنـما كانوا ستة؟ فخرج إلـيهم السابع، وكان ملَكا من الـملائكة، فلطمه لطمة فصار فـي الوحش، فكان فـيهم سبع سنـين، لا يراه وحشيّ إلاَّ أتاه حتـى ينكحه، يقتصّ منه ما كان يصنع بـالرجال ثم إنه رجع ورد الله علـيه مُلكه، فكانوا أكرم خـلق الله علـيه. ثم إن الـمـجوس وَشَوا به ثانـية، فألقوا أسداً فـي بئر قد ضَرِي، فكانوا يـلقون إلـيه الصخرة فـيأخذها، فألقوا إلـيه دانـيال، فقام الأسد فـي جانب، وقام دانـيال فـي جانب لا يـمسه، فأخرجوه، وقد كان قبل ذلك خدّ لهم خدّا، فأوقد فـيه ناراً، حتـى إذا أججها قذفهم فـيها، فأطفأها الله علـيهم ولـم ينلهم منها شيء. ثم إن بختنصر رأى بعد ذلك فـي منامه صنـماً رأسه من ذهب، وعنقه من شَبَه، وصدره من حديد، وبطنه أخلاط ذهب وفضة وقوارير، ورجلاه من فخار فبـينا هو قائم ينظر، إذ جاءت صخرة من السماء من قِبَل القبلة، فكسرت الصنـم فجعلته هشيـماً، فـاستـيقظ فزعاً وأُنسيها، فدعا السحرة والكهنة، فسألهم، فقال: أخبرونـي عما رأيت فقالوا له: لا، بل أنت أخبرنا ما رأيت فنعبره لك. قال: لا أدري، قالوا له: فهؤلاء الفتـية الذين تكرمهم، فـادعهم فـاسألهم، فإن هم لـم يخبروك بـما رأيت فما تصنع بهم؟ قال: أقتلهم فأرسل إلـى دانـيال وأصحابه، فدعاهم، فقال لهم: أخبرونـي ماذا رأيت؟ فقال له دانـيال: بل أنت أخبرنا ما رأيت فنعبره لك قال: لا أدري قد نسيتها فقال له دانـيال: كيف نعلـم رؤيا لـم تـخبرنا بها؟ فأمر البوّاب أن يقتلهم، فقال دانـيال للبوّاب: إن الـملك إنـما أمر بقتلنا من أجل رؤياه، فأخِّرنا ثلاثة أيام، فإن نـحن أخبرنا الـملك برؤياه وإلا فـاضرب أعناقنا فأجَّلهم فدعوا الله فلـما كان الـيوم الثالث أبصر كل رجل منهم رؤيا بختنصر علـى حدة، فأتوا البوّاب فأخبروه، فدخـل علـى الـملك فأخبره، فقال: أدخـلهم علـيّ وكان بختنصر لا يعرف من رؤياه شيئاً، إلا شيئاً يذكرونه، فقالوا له: أنت رأيت كذا وكذا، فقصوها علـيه، فقال: صدقتـم قالوا: نـحن نعبرها لك. أما الصنـم الذي رأيت رأسه من ذهب، فإنه ملك حسن مثل الذهب، وكان قد ملك الأرض كلها وأما العنق من الشَّبَه، فهو ملك ابنك بعدك، يـملك فـيكون ملكه حسناً، ولا يكون مثل الذهب وأما صدره الذي من حديد فهو ملك أهل فـارس، يـملكون بعدك ابنك، فـيكون ملكهم شديداً مثل الـحديد وأما بطنه الأخلاط، فإنه يذهب ملك أهل فـارس، ويتنازع الناس الـملك فـي كلّ قرية، حتـى يكون الـملك يـملك الـيوم والـيومين، والشهر والشهرين، ثم يُقتل، فلا يكون للناس قوام علـى ذلك، كما لـم يكن للصنـم قوام علـى رجلـين من فخار فبـينـما هم كذلك، إذ بعث الله تعالـى نبـياً من أرض العرب، فأظهره علـى بقـية مُلك أهل فـارس، وبقـية مُلك ابنك وملكك، فدمره وأهلكه حتـى لا يبقـى منه شيء، كما جاءت الصخرة فهدمت الصنـم فعطف علـيهم بختنصر فأحبهم. ثم إن الـمـجوس وشوا بدانـيال، فقالوا: إن دانـيال إذا شرب الـخمر لـم يـملك نفسه أن يبول، وكان ذلك فـيهم عاراً، فجعل لهم بختنصر طعاماً، فأكلوا وشربوا، وقال للبوّاب: انظر أوّل من يخرج علـيك يبول، فـاضربه بـالطبرزين، وإن قال: أنا بختنصر، فقل: كذبت، بختنصر أمرنـي. فحبس الله عن دانـيال البول، وكان أوّل من قام من القوم يريد البول بختنصر، فقام مدلاً، وكان ذلك لـيلاً، يسحب ثـيابه فلـما رآه البوّاب شدّ علـيه، فقال: أنا بختنصر، فقال: كذبت، بختنصر أمرنـي أن أقتل أوّل من يخرج، فضربه فقتله.

حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: ثنا ابن علـية، عن أبـي الـمعلـى، قال: سمعت سعيد بن جبـير، قال: بعث الله علـيهم فـي الـمرّة الأولـى سنجاريب. قال: فردّ الله لهم الكرّة علـيهم، كما قال قال: ثم عصوا ربهم وعادوا لـما نهوا عنه، فبعث علـيهم فـي الـمرّة الآخرة بختنصر، فقتل الـمقاتلة، وسبى الذرّية، وأخذ ما وجد من الأموال، ودخـلوا بـيت الـمقدس، كما قال الله عزّ وجلّ: { وَلِـيَدْخُـلُوا الـمَسْجدَ كمَا دَخَـلُوهُ أوَّلَ مَرَّةٍ وَلـيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِـيراً } دخـلوه فتبَّروه وخرّبوه وألقوا فـيه ما استطاعوا من العذرة والـحيض والـجيف والقذر، فقال الله { عَسَى رَبُّكُمْ أنْ يَرْحَمَكُمْ وَإنْ عُدْتُـمْ عُدْنا } فرحمهم فردّ إلـيهم ملكهم وخـلص من كان فـي أيديهم من ذرّية بنـي إسرائيـل، وقال لهم: إن عدتـم عدنا. فقال أبو الـمعلـى، ولا أعلـم ذلك، إلاَّ من هذا الـحديث، ولـم يَعِدهم الرجعة إلـى ملكهم.

حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثنـي الـحرث، قال: ثنا الـحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعاً عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد { فإذَا جاء وَعْدُ الآخرَةِ لـيَسُوءُوا وُجوهَكمْ } قال: بعث الله ملك فـارس ببـابل جيشاً، وأمر علـيهم بختنصر، فأتوا بنـي إسرائيـل، فدمروهم، فكانت هذه الآخرة ووعدها.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد، نـحوه.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: ثنـي يعلـى بن مسلـم، عن سعيد بن جبـير، قال: لـما ضرب لبختنصر الـملك بجرانه، قال: ثلاثة فمن استأخر منكم بعدها فلـيـمش إلـى خشبته، فغزا الشام، فذلك حين قتل وأخرب بـيت الـمقدس، ونزع حلـيته، فجعلها آنـية لـيشرب فـيها الـخمور، وخواناً يأكل علـيه الـخنازير، وحمل التوراة معه، ثم ألقاها فـي النار، وقدم فـيـما قدم به مئة وصيف منهم دانـيال وعزرياً وحنانـياً ومشائيـل، فقال لإنسان: أصلـح لـي أجسام هؤلاء لعلـي أختار منهم أربعة يخدموننـي، فقال دانـيال لأصحابه: إنـما نصروا علـيكم بـما غيرتـم من دين آبـائكم، لا تأكلوا لـحم الـخنزير، ولا تشربوا الـخمر، فقالوا للذي يصلـح أجسامهم: هل لك أن تطعمنا طعاماً، هو أهون علـيك فـي الـمؤونة مـما تطعم أصحابنا، فإن لـم نسمن قبلهم رأيت رأيك، قال: ماذا؟ قال: خبز الشعير والكرّاث، ففعل فسمنوا قبل أصحابهم، فأخذهم بختنصر يخدمونه فبـينـما هم كذلك، إذ رأى بختنصر رؤيا، فجلس فنسيها فعاد فرقد فرآها، فقام فنسيها، ثم عاد فرقد فرآها، فخرج إلـى الـحجرة، فنسيها فلـما أصبح دعا العلـماء والكهَّان، فقال: أخبرونـي بـما رأيت البـارحة، وأوّلوا لـي رؤياي، وإلا فلـيـمش كل رجل منكم إلـى خشبته، موعدكم ثالثة. فقالوا: هذا لو أخبرنا برؤياه وذكر كلاما لـم أحفظه، قال: وجعل دانـيال كلـما مرّ به أحد من قرابته يقول: لو دعانـي الـملك لأخبرته برؤياه، ولأوّلتها له، قال: فجعلوا يقولون: ما أحمق هذا الغلام الإسرائيـلـي إلـى أن مرّ به كهل، فقال له ذلك، فرجع إلـيه فأخبره، فدعاه فقال: ماذا رأيت؟ قال: رأيت تـمثالاً، قال: إيه، قال: ورأسه من ذهب، قال: إيه، قال: وعنقه من فضة، قال: إيه، قال: وصدره من حديد، قال: إيه، قال: وبطنه من صُفر، قال: إيه، قال: ورجلاه من آنُك، قال: إيه، قال: وقدماه من فخار، قال: هذا الذي رأيت؟ قال: إيه، قال: فجاءت حصاة فوقعت فـي رأسه، ثم فـي عنقه، ثم فـي صدره، ثم فـي بطنه، ثم فـي رجلـيه، ثم فـي قدميه، قال: فأهلكته. قال: فما هذا؟ قال: أما الذهب فإنه ملكك، وأما الفضة فملك ابنك من بعدك، ثم ملك ابن ابنك، قال: وأما الفخار فملك النساء، فكساه جبة ترثون، وسوَّره وطاف به فـي القرية، وأجاز خاتـمه فلـما رأت ذلك فـارس، قالوا: ما الأمر إلا أمر هذا الإسرائيـلـي، فقالوا: ائتوه من نـحو الفتـية الثلاثة، ولا تذكروا له دانـيال، فإنه لا يصدقكم علـيه، فأتوه، فقالوا: إن هؤلاء الفتـية الثلاثة لـيسوا علـى دينك، وآية ذلك أنك إن قرّبت إلـيهم لـحم الـخنزير والـخمر لـم يأكلوا ولـم يشربوا فأمر بحطب كثـير فوضع، ثم أرقاهم علـيه، ثم أوقد فـيه ناراً، ثم خرج من آخر اللـيـل يبول، فإذا هم يتـحدّثون، وإذا معهم رابع يروح علـيهم يصلـي، قال: من هذا يا دانـيال؟ قال: هذا جبريـل، إنك ظلـمتهم، قال: ظلـمتهم مُرْ بهم ينزلوا فأمر بهم فنزلوا، قال: ومسخ الله تعالـى بختنصر من الدوابّ كلها، فجعل من كلّ صنف من الدوابّ رأسه رأس سبع من السبـاع الأسد، ومن الطير النسر، وملك ابنه فرأى كفـا خرجت بـين لوحين، ثم كتبت سطرين، فدعا الكهان والعلـماء فلـم يجدوا لهم فـي ذلك علـما، فقالت له أمه: إنك لو أعدت إلـى دانـيال منزلته التـي كانت له من أبـيك أخبرك، وكان قد جفـاه، فدعاه، فقال: إنـي معيد إلـيك منزلتك من أبـي، فأخبرنـي ما هذان السطران؟ قال: أما أن تعيد إلـيّ منزلتـي من أبـيك، فلا حاجة لـي بها، وأما هذان السطران فإنك تقتل اللـيـلة، فأخرج من فـي القصر أجمعين، وأمر بقـفله، فأقـفلت الأبواب علـيه، وأدخـل معه آمنَ أهل القرية فـي نفسه معه سيف، فقال: من جاءك من خـلق الله فـاقتله، وإن قال أنا فلان وبعث الله علـيه البطن، فجعل يـمشي حتـى كان شطر اللـيـل، فرقد ورقد صاحبه ثم نبهه البطن، فذهب يـمشي والآخر نائم، فرجع فـاستـيقظ به، فقال له: أنا فلان، فضربه بـالسيف فقتله.

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: { إنْ أحْسَنْتُـمْ أحْسَنْتُـمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإنْ أسأْتُـمْ فَلَها فإذا جاءَ وَعْدُ الآخِرَة }ِ آخر العقوبتـين { لِـيَسُوءُوا وُجوهَكمْ وَلِـيَدْخُـلُوا الـمَسْجدَ كمَا دَخَـلُوهُ أوَّل مَرَّةٍ } كما دخـله عدوّهم قبل ذلك { وَلـيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِـيراً } فبعث الله علـيهم فـي الآخرة بختنصر الـمـجوسي البـابلـي، أبغض خـلق الله إلـيه، فسبـا وقتل وخرّب بـيت الـمقدس، وسامهم سوء العذاب.

حدثنا مـحمد بن عبد الأعلـى، قال: ثنا مـحمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة، قال: { فإذَا جاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ } من الـمرتـين { لِـيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ } قال: لـيقبحوا وجوهكم { وَلـيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِـيراً } قال: يدمِّروا ما علوا تدميراً، قال: هو بختنصر، بعثه الله علـيهم فـي الـمرّة الآخرة.

حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس، قال: فلـما أفسدوا بعث الله علـيهم فـي الـمرّة الآخرة بختنصر، فخرّب الـمساجد وتبَّرما علوا تتبـيراً.

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلـمة، قال: ثنـي ابن إسحاق، قال: فـيـما بلغنـي، استـخـلف الله علـى بنـي إسرائيـل بعد ذلك، يعنـي بعد قتلهم شعياء رجلاً منهم يقال له: ناشة بن آموص، فبعث الله الـخضر نبـيا، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم فـيـما قد بلغنـي يقول: "إنَّـمَا سُمّيَ الـخَضِرُ خَضِراً، لأنَهُ جَلَسَ عَلـى فَرْوَةٍ بَـيْضَاءَ، فَقامَ عَنْها وَهيَ تَهْتَزُّ خَضْرَاءَ" قال: واسم الـخضر فـيـما كان وهب بن منبه يزعم عن بنـي إسرائيـل: أرمياً بن حلفـيا، وكان من سبط هارون بن عمران.

حدثنـي مـحمد بن سهل بن عسكر، ومـحمد بن عبد الـملك بن زنـجويه، قالا: ثنا إسماعيـل بن عبد الكريـم، قال: ثنا ابن عبد الصمد بن معقل، عن وهب بن منبه. وحدثنا ابن حميد قال: ثنا سلـمة، عن ابن إسحاق عمن لايتهم، عن وهب بن منبه الـيـمانـي، واللفظ لـحديث ابن حميد أنه كان يقول: قال الله تبـارك وتعالـى لإرميا حين بعثه نبـياً إلـى بنـي إسرائيـل: يا إرميا من قبل أن أخـلقك اخترتك، ومن قبل أن أصوّرك فـي بطن أمك قدَّستك، ومن قبل أن أخرجك من بطن أمك طهَّرتك، ومن قبل أن تبلغ السعي نبأتك، ومن قبل أن تبلغ الأشدّ اخترتك، ولأمر عظيـم اختبأتك فبعث الله إرمياً إلـى ذلك الـملك من بنـي إسرائيـل يسدّده ويرشده، ويأتـيه بـالـخبر من الله فـيـما بـينه وبـين الله قال: ثم عظمت الأحداث فـي بنـي إسرائيـل، وركبوا الـمعاصي، واستـحلُّوا الـمـحارم، ونَسوا ما كان الله تعالـى صنع بهم، وما نـجاهم من عدوّهم سنـجاريب وجنوده. فأوحى الله تعالـى إلـى إرمياء: أن ائت قومك من بنـي إسرائيـل، واقصص علـيهم ما آمرك به، وذكِّرهم نعمتـي علـيهم، وعرّفهم أحداثهم، فقال إرمياء: إنـي ضعيف إن لـم تقوّنـي، وعاجز إن لـم تبلِّغنـي، ومخطىء إن لـم تسدّدنـي، ومخذول إن لـم تنصرنـي، وذلـيـل إن لـم تعزَّنـي. قال: الله تبـارك وتعالـى: أوَ لـم تعلـم أن الأمور كلها تصدر عن مشيئتـي، وأن القلوب كلها والألسنة بـيدي، أقلبها كيف شئت، فتطيعنـي، وإنـي أنا الله الذي لا شيء مثلـي، قامت السموات والأرض وما فـيهنّ بكلـمتـي، وأنا كلَّـمت البحار، ففهمت قولـي، وأمرتها فعقلت أمري، وحدَدت علـيها بـالبطحاء فلا تَعدَّي حدّي، تأتـي بأمواج كالـجبـال، حتـى إذا بلغت حدّي ألبستها مذلَّة طاعتـي خوفـاً واعترافـاً لأمري إنـي معك، ولن يصل إلـيك شيء معي، وإن بعثتك إلـى خـلق عظيـم من خـلقـي، لتبلغهم رسالاتـي، ولتستـحق بذلك مثل أجر من تبعك منهم لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، وإن تقصِّر عنها فلك مثل وزر من تركب فـي عماه لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئاً انطلق إلـى قومك فقل: إن الله ذكر لكم صلاح آبـائكم، فحمله ذلك علـى أن يستتـيبكم يا معشر الأبناء، وسلهم كيف وجد آبـاؤهم مغبَّة طاعتـي، وكيف وجدوا هم مغبَّة معصيتـي، وهل علـموا أن أحدا قبلهم أطاعنـي فشقـي بطاعتـي، أو عصانـي فسعد بـمعصيتـي، فإن الدّوابّ مـما تذكر أوطانها الصالـحة، فتنتابها، وإن هؤلاء القوم قد رتعوا فـي مروج الهَلَكة. أما أحبـارهم ورهبـانهم فـاتـخذوا عبـادي خوَلاً لـيعبدوهم دونـي وتـحكَّموا فـيهم بغير كتابـي حتـى أجهلوهم أمري، وأنسوهم ذكري، وغروهم منـي. أما أمراؤهم وقاداتهم فبطروا نعمتـي، وأمنوا مكري، ونبذوا كتابـي، ونسوا عهدي، وغيروا سنتـي، فـادّان لهم عبـادي بـالطاعة التـي لا تنبغي إلا لـي، فهم يطيعونهم فـي معصيتـي، ويتابعونهم علـى البدع التـي يبتدعون فـي دينـي جراءة علـيّ وغرّة وفِرْية علـيّ وعلـى رسلـي، فسبحان جلالـي وعلوّ مكانـي، وعظم شأنـي، فهل ينبغي لبشر أن يُطاع فـي معصيتـي، وهل ينبغي لـي أن أخـلق عبـاداً أجعلهم أربـابـاً من دونـي. وأما قرّاؤهم وفقهاؤهم فـيتعبدون فـي الـمساجد، ويتزيَّنون بعمارتها لغيري، لطلب الدنـيا بـالدين، ويتفقَّهون فـيها لغير العلـم، ويتعلَّـمون فـيها لغير العمل. وأما أولاد الأنبـياء، فمكثرون مقهورون مغيِّرون، يخوضون مع الـخائضين، ويتـمنَّون علـيّ مثل نُصرة آبـائهم والكرامة التـي أكرمتهم بها، ويزعمون أن لا أحدَ أولـى بذلك منهم منـي بغير صدق ولا تفكر ولا تدبُّر، ولا يذكرون كيف كان صبر آبـائهم لـي، وكيف كان جِدّهم فـي أمري حين غير الـمغيِّرون، وكيف بذلوا أنفسهم ودماءهم، فصبروا وصَدَقوا حتـى عزّ أمري، وظهر دينـي، فتأنَّـيت بهؤلاء القوم لعلهم يستـجيبون، فأطْوَلت لهم، وصفحت عنهم، لعلهم يرجعون، فأكثرت ومددت لهم فـي العمر لعلهم يتذكرون، فأعذرت فـي كل ذلك، أمطر علـيهم السماء، وأنبت لهم الأرض، وألبسهم العافـية وأظهرهم علـى العدوّ فلا يزدادون إلا طغياناً وبُعداً منـي، فحتـى متـى هذا؟ أبـي يتـمرّسون أم إياي يخادعون؟ وإنـي أحلف بعزّتـي لأقـيضنّ لهم فتنة يتـحيرُ فـيها الـحلـيـم، ويضلّ فـيها رأي ذي الرأي، وحكمة الـحكيـم، ثم لأسلطنّ علـيهم جبـاراً قاسياً عاتـياً، ألبسه الهيبة، وأنتزع من صدره الرأفة والرحمة والبـيان، يتبعه عدد وسواد مثل سواد اللـيـل الـمظلـم، له عساكر مثل قطع السحاب، ومراكب أمثال العجاج، كأن خفـيق راياته طيران النسور، وأن حملة فُرسانه كوبر العقبـان. ثم أوحى الله إلـى إرميا: إنـي مهلك بنـي إسرائيـل بـيافث، ويافث أهل بـابل، وهم من ولد يافث بن نوح. ثم لـما سمع إرمياً وحي ربه صاح وبكى وشقّ ثـيابه، ونبذَ الرماد علـى رأسه وقال: ملعون يوم ولدت فـيه، ويوم لقـيت التوراة، ومن شرّ أيامي يوم ولدت فـيه، فما أُبقـيت آخر الأنبـياء إلا لـما هو أشرّ علـيّ لو أراد بـي خيراً ما جعلنـي آخر الأنبـياء من بنـي إسرائيـل، فمن أجلـي تصيبهم الشِّقوة والهلاك فلـما سمع الله تضرّع الـخضر وبكاءه، وكيف يقول، ناداه: يا إرميا أشقّ ذلك علـيك فـيـما أوحيت لك؟ قال: نعم يا ربّ أهلكْنـي قبل أن أرى فـي بنـي إسرائيـل ما لا أسرّ به فقال الله: وعزّتـي العزيزة لا أهلك بـيت الـمقدس وبنـي إسرائيـل حتـى يكون الأمر من قِبَلك فـي ذلك ففرح عند ذلك إرميا لـما قال له ربه، وطابت نفسه، وقال: لا، والذي بعث موسى وأنبـياءه بـالـحقّ لا آمر ربـي بهلاك بنـي إسرائيـل أبدا ثم أتـى ملك بنـي إسرائيـل فأخبره ما أوحى الله إلـيه فـاستبشر وفرح وقال: إن يعذّبنا ربنا فبذنوب كثـيرة قدّمناها لأنفسنا، وإن عفـا عنا فبقدرته. ثم إنهم لبثوا بعد هذا الوحي ثلاث سنـين لـم يزدادوا إلا معصية وتـمادياً فـي الشرّ، وذلك حين اقترب هلاكهم فقلّ الوحي حين لـم يكونوا يتذكرون الآخرة، وأمسك عنهم حين ألهتهم الدنـيا وشأُنها، فقال لهم ملكهم: يا بنـي إسرائيـل، انتهوا عما أنتـم علـيه قبل أن يـمسكم بأس الله، وقبل أن يُبعث علـيكم قوم لا رحمة لهم بكم، وإن ربكم قريب التوبة، مبسوط الـيدين بـالـخير، رحيـم بـمن تاب إلـيه. فأبَوا علـيه أن ينزِعوا عن شيء مـما هم علـيه وإن الله قد ألقـى فـي قلب بختنصر بن سور زاذان بن سنـجاريب بن دارياس بن نـمرود بن فـالـخ بن عابر بن نـمرود صاحب إبراهيـم الذي حاجَّه فـي ربه، أن يسير إلـى بـيت الـمقدس، ثم يفعل فـيه ما كان جدّه سنـحاريب أراد أن يفعل، فخرج فـي ستّ مئة ألف راية يريد أهل بـيت الـمقدس فلـما فصل سائرا أتـى ملك بنـي إسرائيـل الـخبر أن بختنصر قد أقبل هو وجنوده يريدكم، فأرسل الـملك إلـى إرميا، فجاءه فقال: يا إرميا أين ما زعمت لنا أن ربك أوحى إلـيك أن لا يهلك أهل بـيت الـمقدس، حتـى يكون منك الأمر فـي ذلك؟ فقال إرميا للـملك: إن ربـي لايخـلف الـميعاد، وأنا به وائق. فلـما اقترب الأجل ودنا انقطاع ملكهم وعزم الله علـى هلاكهم، بعث الله مَلَكا من عنده، فقال له: اذهب إلـى إرميا فـاسَتْفتِه، وأمَرَه الذي يُستفتَـى فـيه فأقبل إلـى إرمياء، وكان قد تـمثَّل له رجلاً من بنـي إسرائيـل، فقال له إرميا: من أنت؟ قال: رجل من بنـي إسرائيـل أستفتـيك فـي بعض أمري فأذن له، فقال له الـمَلَك: يا نبـيّ الله أتـيتك أستفتـيك فـي أهل رحمي، وصلت أرحامهم بـما أمرنـي الله به، لـم آت إلـيهم إلا حسنا، ولـم آلُهم كرامة، فلا تزيدهم كرامتـي إياهم إلا إسخاطاً لـي، فأفتنـي فـيهم يا نبـيّ الله فقال له: أحسن فـيـما بـينك وبـين الله، وصل ما أمرك الله أن تصل، وأبشر بخير وانصرف عنه. فمكث أياما، ثم أقبل إلـيه فـي صورة ذلك الذي جاءه، فقعد بـين يديه، فقال له إرميا: من أنت؟ قال: أنا الرجل الذي أتـيتك أستفتـيك فـي شأن أهلـي، فقال له نبـيّ الله: أَوَ ما ظهرت لك أخلاقهم بعد، ولـم تر منهم الذي تـحبّ؟ فقال: يا نبـيّ الله، والذي بعثك بـالـحقّ ما أعلـم كرامة يأتـيها أحد من الناس لأهل رحمه إلا قد أتـيتها إلـيهم وأفضل من ذلك، فقال النبـيّ: ارجع إلـى أهلك فأحسن إلـيهم، أسأل الله الذي يصلـح عبـاده الصالـحين أن يصلـح ذات بـينكم، وأن يجمعكم علـى مرضاته، ويجنبكم سخطه فقال الـمَلك من عنده، فلبث أياما وقد نزل بختنصر وجنوده حول بـيت الـمقدس، ومعه خلائق من قومه كأمثال الـجراد، ففزع منهم بنو إسرائيـل فزعاً شديداً، وشق ذلك علـى ملك بنـي إسرائيـل، فدعا إرميا، فقال: يا نبـيّ الله أين ما وعدك الله؟ فقال: إنـي بربـي واثق. ثم إن الـملك أقبل إلـى إرميا وهو قاعد علـى جدار بـيت الـمقدس يضحك ويستبشر بنصر ربه الذي وعده، فقعد بـين يديه فقال له إرميا: من أنت؟ قال: أنا الذي كنت أتـيتك فـي شأن أهلـي مرّتـين، فقال له النبـيّ: أَوَ لَـم يأنِ لهم أن يـمتنعوا من الذي هم فـيه مقـيـمون علـيه؟ فقال له الـملك: يا نبـيّ الله، كلّ شيء كان يصيبنـي منهم قبل الـيوم كنت أصبر علـيه، وأعلـم أن مأربهم فـي ذلك سخطي فلـما أتـيتهم الـيوم رأيتهم فـي عمل لا يرضي الله ولا يحبه الله عزّ وجلّ. فقال له نبـيّ الله: علـى أيّ عمل رأيتهم؟ قال: يا نبـيّ الله رأيتهم علـى عمل عظيـم من سخط الله، فلو كانوا علـى مثل ما كانوا علـيه قبل الـيوم لـم يشتدّ علـيهم غضبـي، وصبرت لهم ورجوتهم، ولكن غضبت الـيوم لله ولك، فأتـيتك لأخبرك خبرهم، وإنـي أسألك بـالله الذي بعثك بـالـحقّ إلا ما دعوت علـيهم ربك أن يهلكهم فقال إرميا: يا مالك السموات والأرض، إن كانوا علـى حقّ وصواب فأبقهم، وإن كانوا علـى سخطك وعمل لا ترضاه فأهلكهم. فما خرجت الكلـمة مِن فـي إرميا حتـى أرسل الله صاعقة من السماء فـي بـيت الـمقدس، فـالتهب مكان القربـان، وخسف بسبعة أبواب من أبوابها فلـما رأى ذلك إرميا صاح وشقّ ثـيابه، ونبذ الرماد علـى رأسه وقال: يا ملك السموات والأرض بـيدك ملكوت كلّ شيء وأنت أرحم الراحمين أين ميعادك الذي وعدتنـي؟ فنودي إرميا: إنهم لـم يصبهم الذي أصابهم إلا بفتـياك التـي أفتـيت بها رسولنا فـاستـيقن النبـيّ صلى الله عليه وسلم أنها فتـياه التـي أفتـى بها ثلاث مرّات، وأنه رسول ربه. ثم إن إرميا طار حتـى خالط الوحش، ودخـل بختنصر وجنوده بـيت الـمقدس، فوطىء الشام، وقتل بنـي إسرائيـل حتـى أفناهم، وخرّب بـيت الـمقدس، أمر جنوده أن يـملأ كلّ رجل منهم ترسه ترابـا ثم يقذفه فـي بـيت الـمقدس، فقذفوا فـيه التراب حتـى ملأوه، ثم انصرف راجعاً إلـى أرض بـابل، واحتـمل معه سبـايا بنـي إسرائيـل، وأمرهم أن يجمعوا من كان فـي بـيت الـمقدس كلهم، فـاجتـمع عنده كلّ صغير وكبـير من بنـي إسرائيـل، فـاختار منهم سبعين ألف صبـيّ فلـما خرجت غنائم جنده، وأراد أن يقسمها فـيهم، قالت له الـملوك الذين كانوا معه: أيها الـملك لك غنائمنا كلها، واقسم بـيننا هؤلاء الصبـيان الذين اخترتهم من بنـي إسرائيـل، ففعل، وأصاب كلّ رجل منهم أربعة أغلـمة، وكان من أولئك الغلـمان دانـيال وحنانـيا وعزاريا وميشائيـل وسبعة آلاف من أهل بـيت داود، وأحد عشر ألفـاً من سبط يوسف بن يعقوب، وأخيه بنـيامين، وثمانـية آلاف من سبط أسر بن يعقوب، وأربعة عشر ألفـاً من سبط بـالون بن يعقوب ونفثالـي بن يعقوب، وأربعة آلاف من سبط يهوذا بن يعقوب، وأربعة آلاف من سبط روبـيـل ولاوي ابنـي يعقوب. ومن بقـى من بنـي إسرائيـل، وجعلهم بختنصر ثلاث فرق، فثلثا أَقَرّ بـالشام، وثلثا سبى، وثلثاً قتل وذهب بآنـية بـيت الـمقدس حتـى أقدمها بـابل، وذهب بـالصبـيان السبعين الألف حتـى أقدمهم بـابل، فكانت هذه الوقعة الأولـى التـي أنزل الله ببنـي إسرائيـل بـاحداثهم وظلـمهم. فلـما ولَّـي بختنصر عنهم راجعاً إلـى بـابل بـمن معه من سبـايا بنـي إسرائيـل، أقبل أرميا علـى حمار له معه عصير ثم ذكر قصته حين أماته الله مئة عام، ثم بعثه، ثم خبر رؤيا بختنصر وأمر دانـيال، وهلاك بختنصر، ورجوع من بقـي من بنـي إسرائيـل فـي أيدي أصحاب بختنصر بعد هلاكه إلـى الشام، وعمارة بـيت الـمقدس، وأَمْرَ عُزيرَ وكيف ردّ الله علـيه التوراة.

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلـمة عن ابن إسحاق، قال:

حدثنـي مـحمد بن سهل بن عسكر، ومـحمد بن عبد الـملك بن زنـجويه، قالا: ثنا إسماعيـل بن عبد الكريـم، قال: ثنا ابن عبد الصمد بن معقل، عن وهب بن منبه. وحدثنا ابن حميد قال: ثنا سلـمة، عن ابن إسحاق عمن لايتهم، عن وهب بن منبه الـيـمانـي، واللفظ لـحديث ابن حميد أنه كان يقول: قال الله تبـارك وتعالـى لإرميا حين بعثه نبـيا إلـى بنـي إسرائيـل: يا إرميا من قبل أن أخـلقك اخترتك، ومن قبل أن أصوّرك فـي بطن أمك قدَّستك، ومن قبل أن أخرجك من بطن أمك طهَّرتك، ومن قبل أن تبلغ السعي نبأتك، ومن قبل أن تبلغ الأشدّ اخترتك، ولأمر عظيـم اختبأتك فبعث الله إرميا إلـى ذلك الـملك من بنـي إسرائيـل يسدّده ويرشده، ويأتـيه بـالـخبر من الله فـيـما بـينه وبـين الله قال: ثم عظمت الأحداث فـي بنـي إسرائيـل، وركبوا الـمعاصي، واستـحلُّوا الـمـحارم، ونَسوا ما كان الله تعالـى صنع بهم، وما نـجاهم من عدوّهم سنـجاريب وجنوده. فأوحى الله تعالـى إلـى إرمياء: أن ائت قومك من بنـي إسرائيـل، واقصص علـيهم ما آمرك به، وذكِّرهم نعمتـي علـيهم، وعرّفهم أحداثهم، فقال إرمياء: إنـي ضعيف إن لـم تقوّنـي، وعاجز إن لـم تبلِّغنـي، ومخطىء إن لـم تسدّدنـي، ومخذول إن لـم تنصرنـي، وذلـيـل إن لـم تعزَّنـي. قال: الله تبـارك وتعالـى: أوَ لـم تعلـم أن الأمور كلها تصدر عن مشيئتـي، وأن القلوب كلها والألسنة بـيدي، أقلبها كيف شئت، فتطيعنـي، وإنـي أنا الله الذي لا شيء مثلـي، قامت السموات والأرض وما فـيهنّ بكلـمتـي، وأنا كلَّـمت البحار، ففهمت قولـي، وأمرتها فعقلت أمري، وحدَدت علـيها بـالبطحاء فلا تَعدَّي حدّي، تأتـي بأمواج كالـجبـال، حتـى إذا بلغت حدّي ألبستها مذلَّة طاعتـي خوفـا واعترافـا لأمري إنـي معك، ولن يصل إلـيك شيء معي، وإن بعثتك إلـى خـلق عظيـم من خـلقـي، لتبلغهم رسالاتـي، ولتستـحق بذلك مثل أجر من تبعك منهم لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، وإن تقصِّر عنها فلك مثل وزر من تركب فـي عماه لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئاً انطلق إلـى قومك فقل: إن الله ذكر لكم صلاح آبـائكم، فحمله ذلك علـى أن يستتـيبكم يا معشر الأبناء، وسلهم كيف وجد آبـاؤهم مغبَّة طاعتـي، وكيف وجدوا هم مغبَّة معصيتـي، وهل علـموا أن أحدا قبلهم أطاعنـي فشقـي بطاعتـي، أو عصانـي فسعد بـمعصيتـي، فإن الدّوابّ مـما تذكر أوطانها الصالـحة، فتنتابها، وإن هؤلاء القوم قد رتعوا فـي مروج الهَلَكة. أما أحبـارهم ورهبـانهم فـاتـخذوا عبـادي خوَلاً لـيعبدوهم دونـي وتـحكَّموا فـيهم بغير كتابـي حتـى أجهلوهم أمري، وأنسوهم ذكري، وغروهم منـي. أما أمراؤهم وقاداتهم فبطروا نعمتـي، وأمنوا مكري، ونبذوا كتابـي، ونسوا عهدي، وغيروا سنتـي، فـادّان لهم عبـادي بـالطاعة التـي لا تنبغي إلا لـي، فهم يطيعونهم فـي معصيتـي، ويتابعونهم علـى البدع التـي يبتدعون فـي دينـي جراءة علـيّ وغرّة وفِرْية علـيّ وعلـى رسلـي، فسبحان جلالـي وعلوّ مكانـي، وعظم شأنـي، فهل ينبغي لبشر أن يُطاع فـي معصيتـي، وهل ينبغي لـي أن أخـلق عبـاداً أجعلهم أربـابـاً من دونـي. وأما قرّاؤهم وفقهاؤهم فـيتعبدون فـي الـمساجد، ويتزيَّنون بعمارتها لغيري، لطلب الدنـيا بـالدين، ويتفقَّهون فـيها لغير العلـم، ويتعلَّـمون فـيها لغير العمل. وأما أولاد الأنبـياء، فمكثرون مقهورون مغيِّرون، يخوضون مع الـخائضين، ويتـمنَّون علـيّ مثل نُصرة آبـائهم والكرامة التـي أكرمتهم بها، ويزعمون أن لا أحدَ أولـى بذلك منهم منـي بغير صدق ولا تفكر ولا تدبُّر، ولا يذكرون كيف كان صبر آبـائهم لـي، وكيف كان جِدّهم فـي أمري حين غير الـمغيِّرون، وكيف بذلوا أنفسهم ودماءهم، فصبروا وصَدَقوا حتـى عزّ أمري، وظهر دينـي، فتأنَّـيت بهؤلاء القوم لعلهم يستـجيبون، فأطْوَلت لهم، وصفحت عنهم، لعلهم يرجعون، فأكثرت ومددت لهم فـي العمر لعلهم يتذكرون، فأعذرت فـي كل ذلك، أمطر علـيهم السماء، وأنبت لهم الأرض، وألبسهم العافـية وأظهرهم علـى العدوّ فلا يزدادون إلا طغياناً وبُعداً منـي، فحتـى متـى هذا؟ أبـي يتـمرّسون أم إياي يخادعون؟ وإنـي أحلف بعزّتـي لأقـيضنّ لهم فتنة يتـحيرُ فـيها الـحلـيـم، ويضلّ فـيها رأي ذي الرأي، وحكمة الـحكيـم، ثم لأسلطنّ علـيهم جبـاراً قاسياً عاتـياً، ألبسه الهيبة، وأنتزع من صدره الرأفة والرحمة والبـيان، يتبعه عدد وسواد مثل سواد اللـيـل الـمظلـم، له عساكر مثل قطع السحاب، ومراكب أمثال العجاج، كأن خفـيق راياته طيران النسور، وأن حملة فُرسانه كوبر العقبـان. ثم أوحى الله إلـى إرميا: إنـي مهلك بنـي إسرائيـل بـيافث، ويافث أهل بـابل، وهم من ولد يافث بن نوح. ثم لـما سمع إرميا وحي ربه صاح وبكى وشقّ ثـيابه، ونبذَ الرماد علـى رأسه وقال: ملعون يوم ولدت فـيه، ويوم لقـيت التوراة، ومن شرّ أيامي يوم ولدت فـيه، فما أُبقـيت آخر الأنبـياء إلا لـما هو أشرّ علـيّ لو أراد بـي خيراً ما جعلنـي آخر الأنبـياء من بنـي إسرائيـل، فمن أجلـي تصيبهم الشِّقوة والهلاك فلـما سمع الله تضرّع الـخضر وبكاءه، وكيف يقول، ناداه: يا إرميا أشقّ ذلك علـيك فـيـما أوحيت لك؟ قال: نعم يا ربّ أهلكْنـي قبل أن أرى فـي بنـي إسرائيـل ما لا أسرّ به فقال الله: وعزّتـي العزيزة لا أهلك بـيت الـمقدس وبنـي إسرائيـل حتـى يكون الأمر من قِبَلك فـي ذلك ففرح عند ذلك إرميا لـما قال له ربه، وطابت نفسه، وقال: لا، والذي بعث موسى وأنبـياءه بـالـحقّ لا آمر ربـي بهلاك بنـي إسرائيـل أبدا ثم أتـى ملك بنـي إسرائيـل فأخبره ما أوحى الله إلـيه فـاستبشر وفرح وقال: إن يعذّبنا ربنا فبذنوب كثـيرة قدّمناها لأنفسنا، وإن عفـا عنا فبقدرته. ثم إنهم لبثوا بعد هذا الوحي ثلاث سنـين لـم يزدادوا إلا معصية وتـمادياً فـي الشرّ، وذلك حين اقترب هلاكهم فقلّ الوحي حين لـم يكونوا يتذكرون الآخرة، وأمسك عنهم حين ألهتهم الدنـيا وشأُنها، فقال لهم ملكهم: يا بنـي إسرائيـل، انتهوا عما أنتـم علـيه قبل أن يـمسكم بأس الله، وقبل أن يُبعث علـيكم قوم لا رحمة لهم بكم، وإن ربكم قريب التوبة، مبسوط الـيدين بـالـخير، رحيـم بـمن تاب إلـيه. فأبَوا علـيه أن ينزِعوا عن شيء مـما هم علـيه وإن الله قد ألقـى فـي قلب بختنصر بن سور زاذان بن سنـجاريب بن دارياس بن نـمرود بن فـالـخ بن عابر بن نـمرود صاحب إبراهيـم الذي حاجَّه فـي ربه، أن يسير إلـى بـيت الـمقدس، ثم يفعل فـيه ما كان جدّه سنـحاريب أراد أن يفعل، فخرج فـي ستّ مئة ألف راية يريد أهل بـيت الـمقدس فلـما فصل سائراً أتـى ملك بنـي إسرائيـل الـخبر أن بختنصر قد أقبل هو وجنوده يريدكم، فأرسل الـملك إلـى إرميا، فجاءه فقال: يا إرميا أين ما زعمت لنا أن ربك أوحى إلـيك أن لا يهلك أهل بـيت الـمقدس، حتـى يكون منك الأمر فـي ذلك؟ فقال إرميا للـملك: إن ربـي لايخـلف الـميعاد، وأنا به وائق. فلـما اقترب الأجل ودنا انقطاع ملكهم وعزم الله علـى هلاكهم، بعث الله مَلَكا من عنده، فقال له: اذهب إلـى إرميا فـاسَتْفتِه، وأمَرَه الذي يُستفتَـى فـيه فأقبل إلـى إرمياء، وكان قد تـمثَّل له رجلاً من بنـي إسرائيـل، فقال له إرميا: من أنت؟ قال: رجل من بنـي إسرائيـل أستفتـيك فـي بعض أمري فأذن له، فقال له الـمَلَك: يا نبـيّ الله أتـيتك أستفتـيك فـي أهل رحمي، وصلت أرحامهم بـما أمرنـي الله به، لـم آت إلـيهم إلا حسناً، ولـم آلُهم كرامة، فلا تزيدهم كرامتـي إياهم إلا إسخاطا لـي، فأفتنـي فـيهم يا نبـيّ الله فقال له: أحسن فـيـما بـينك وبـين الله، وصل ما أمرك الله أن تصل، وأبشر بخير وانصرف عنه. فمكث أياما، ثم أقبل إلـيه فـي صورة ذلك الذي جاءه، فقعد بـين يديه، فقال له إرميا: من أنت؟ قال: أنا الرجل الذي أتـيتك أستفتـيك فـي شأن أهلـي، فقال له نبـيّ الله: أَوَ ما ظهرت لك أخلاقهم بعد، ولـم تر منهم الذي تـحبّ؟ فقال: يا نبـيّ الله، والذي بعثك بـالـحقّ ما أعلـم كرامة يأتـيها أحد من الناس لأهل رحمه إلا قد أتـيتها إلـيهم وأفضل من ذلك، فقال النبـيّ: ارجع إلـى أهلك فأحسن إلـيهم، أسأل الله الذي يصلـح عبـاده الصالـحين أن يصلـح ذات بـينكم، وأن يجمعكم علـى مرضاته، ويجنبكم سخطه فقال الـمَلك من عنده، فلبث أياما وقد نزل بختنصر وجنوده حول بـيت الـمقدس، ومعه خلائق من قومه كأمثال الـجراد، ففزع منهم بنو إسرائيـل فزعاً شديداً، وشق ذلك علـى ملك بنـي إسرائيـل، فدعا إرميا، فقال: يا نبـيّ الله أين ما وعدك الله؟ فقال: إنـي بربـي واثق. ثم إن الـملك أقبل إلـى إرميا وهو قاعد علـى جدار بـيت الـمقدس يضحك ويستبشر بنصر ربه الذي وعده، فقعد بـين يديه فقال له إرميا: من أنت؟ قال: أنا الذي كنت أتـيتك فـي شأن أهلـي مرّتـين، فقال له النبـيّ: أَوَ لَـم يأنِ لهم أن يـمتنعوا من الذي هم فـيه مقـيـمون علـيه؟ فقال له الـملك: يا نبـيّ الله، كلّ شيء كان يصيبنـي منهم قبل الـيوم كنت أصبر علـيه، وأعلـم أن مأربهم فـي ذلك سخطي فلـما أتـيتهم الـيوم رأيتهم فـي عمل لا يرضي الله ولا يحبه الله عزّ وجلّ. فقال له نبـيّ الله: علـى أيّ عمل رأيتهم؟ قال: يا نبـيّ الله رأيتهم علـى عمل عظيـم من سخط الله، فلو كانوا علـى مثل ما كانوا علـيه قبل الـيوم لـم يشتدّ علـيهم غضبـي، وصبرت لهم ورجوتهم، ولكن غضبت الـيوم لله ولك، فأتـيتك لأخبرك خبرهم، وإنـي أسألك بـالله الذي بعثك بـالـحقّ إلا ما دعوت علـيهم ربك أن يهلكهم فقال إرميا: يا مالك السموات والأرض، إن كانوا علـى حقّ وصواب فأبقهم، وإن كانوا علـى سخطك وعمل لا ترضاه فأهلكهم. فما خرجت الكلـمة مِن فـي إرميا حتـى أرسل الله صاعقة من السماء فـي بـيت الـمقدس، فـالتهب مكان القربـان، وخسف بسبعة أبواب من أبوابها فلـما رأى ذلك إرميا صاح وشقّ ثـيابه، ونبذ الرماد علـى رأسه وقال: يا ملك السموات والأرض بـيدك ملكوت كلّ شيء وأنت أرحم الراحمين أين ميعادك الذي وعدتنـي؟ فنودي إرميا: إنهم لـم يصبهم الذي أصابهم إلا بفتـياك التـي أفتـيت بها رسولنا فـاستـيقن النبـيّ صلى الله عليه وسلم أنها فتـياه التـي أفتـى بها ثلاث مرّات، وأنه رسول ربه. ثم إن إرميا طار حتـى خالط الوحش، ودخـل بختنصر وجنوده بـيت الـمقدس، فوطىء الشام، وقتل بنـي إسرائيـل حتـى أفناهم، وخرّب بـيت الـمقدس، أمر جنوده أن يـملأ كلّ رجل منهم ترسه ترابـاً ثم يقذفه فـي بـيت الـمقدس، فقذفوا فـيه التراب حتـى ملأوه، ثم انصرف راجعاً إلـى أرض بـابل، واحتـمل معه سبـايا بنـي إسرائيـل، وأمرهم أن يجمعوا من كان فـي بـيت الـمقدس كلهم، فـاجتـمع عنده كلّ صغير وكبـير من بنـي إسرائيـل، فـاختار منهم سبعين ألف صبـيّ فلـما خرجت غنائم جنده، وأراد أن يقسمها فـيهم، قالت له الـملوك الذين كانوا معه: أيها الـملك لك غنائمنا كلها، واقسم بـيننا هؤلاء الصبـيان الذين اخترتهم من بنـي إسرائيـل، ففعل، وأصاب كلّ رجل منهم أربعة أغلـمة، وكان من أولئك الغلـمان دانـيال وحنانـيا وعزاريا وميشائيـل وسبعة آلاف من أهل بـيت داود، وأحد عشر ألفـاً من سبط يوسف بن يعقوب، وأخيه بنـيامين، وثمانـية آلاف من سبط أسر بن يعقوب، وأربعة عشر ألفـاً من سبط بـالون بن يعقوب ونفثالـي بن يعقوب، وأربعة آلاف من سبط يهوذا بن يعقوب، وأربعة آلاف من سبط روبـيـل ولاوي ابنـي يعقوب. ومن بقـى من بنـي إسرائيـل، وجعلهم بختنصر ثلاث فرق، فثلثا أَقَرّ بـالشام، وثلثا سبى، وثلثاً قتل وذهب بآنـية بـيت الـمقدس حتـى أقدمها بـابل، وذهب بـالصبـيان السبعين الألف حتـى أقدمهم بـابل، فكانت هذه الوقعة الأولـى التـي أنزل الله ببنـي إسرائيـل بـاحداثهم وظلـمهم. فلـما ولَّـي بختنصر عنهم راجعاً إلـى بـابل بـمن معه من سبـايا بنـي إسرائيـل، أقبل أرميا علـى حمار له معه عصير ثم ذكر قصته حين أماته الله مئة عام، ثم بعثه، ثم خبر رؤيا بختنصر وأمر دانـيال، وهلاك بختنصر، ورجوع من بقـي من بنـي إسرائيـل فـي أيدي أصحاب بختنصر بعد هلاكه إلـى الشام، وعمارة بـيت الـمقدس، وأَمْرَ عُزيرَ وكيف ردّ الله علـيه التوراة.

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلـمة عن ابن إسحاق، قال: ثم عمدت بنو إسرائيـل بعد ذلك يحُدِثون الأحداث، يعنـي بعد مهلك عُزيرَ، ويعود الله علـيهم، ويبعث فـيهم الرسل، ففريقا يكذّبون، وفريقاً يقتلون، حتـى كان آخر من بعث الله فـيهم من أنبـيائهم زكريا ويحيى بن زكريا وعيسى ابن مريـم، وكانوا من بـيت آل داود.

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلـمة، قال: ثنـي مـحمد بن إسحاق، عن عمر بن عبد الله بن عروة، عن عبد الله بن الزبـير أنه قال، وهو يحدّث عن قتل يحيى بن زكريا قال: ما قُتل يحيى بن زكريا إلا بسبب امرأة بغيّ من بغايا بنـي إسرائيـل كان فـيهم ملك، وكان يحيى بن زكريا تـحت يدي ذلك الـملك، فهمَّت ابنة ذلك الـملك بأبـيها، فقالت: لو أنـي تزوّجت بأبـي فـاجتـمع لـي سلطانه دون النساء، فقالت له: يا أبتِ تزوّجنـي ودعته إلـى نفسها، فقال لها: يا بنـية إن يحيى بن زكريا لا يحل لنا هذا، فقالت: من لـي بـيحيى بن زكريا؟ ضيَّق علـيّ، وحال بـينـي وبـين أن أتزوّج بأبـي، فأغلِبَ علـى مُلكه ودنـياه دون النساء قال: فأمرت اللعابـين ومـحلت بذلك لأجل قتل يحيى بن زكريا، فقالت: ادخـلوا علـيه فـالعبوا، حتـى إذا فرغتـم فإنه سيُحَكمكم، فقولوا: دم يحيى بن زكريا، ولا تقبلوا غيره. وكان اسم الـملك رواد، واسم ابنته البغيّ، وكان الـملك فـيهم إذا حدّث فكذب، أو وعد فأخـلف، خـلع فـاستُبدل به غيرهُ فلـما ألعبوه وكثر عجبه منهم، قال: سلونـي أعطكم، فقالوا له: نسألك دم يحيى بن زكريا أعطنا إياه قال: ويحكم سلونـي غير هذا فقالوا: لا نسألك شيئاً غيره. فخاف علـى ملكه إن هو أخـلفهم أن يُسْتـحَلّ بذلك خَـلْعه، فبعث إلـى يحيى بن زكريا وهو جالس فـي مـحرابه يصلـي، فذبحوه فـي طست ثم حزّوا رأسه، فـاحتـمله رجل فـي يده والدم يحمل فـي الطَّسْت معه. قال: فطلع برأسه يحمله حتـى وقـف به علـى الـملك، ورأسه يقول فـي يدي الذي يحمله لا يحلّ لك ذلك فقال رجل من بنـي إسرائيـل: أيها الـملك لو أنك وهبت لـي هذا الدم؟ فقال: وما تصنع به؟ قال: أطهر منه الأرض، فإنه كان قد ضيقها علـينا، فقال: أعطوه هذا الدم، فأخذه فجعله فـي قلة، ثم عمد به إلـى بـيت فـي الـمذبح، فوضع القلة فـيه، ثم أغلق علـيه، ففـار فـي القُلَّة حتـى خرج منها من تـحت البـاب من البـيت الذي هو فـيه فلـما رأى الرجل ذلك، فَظع به، فأخرجه فجعله فـي فلاة من الأرض، فجعل يفور وعظمت فـيهم الأحداث. ومنهم من يقول: أقرّ مكانه فـي القربـان ولـم يحوّل.

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلـمة، قال: قال ابن إسحاق: فلـما رفع الله عيسى من بـين أظهرهم وقتلوا يحيى بن زكريا (وبعض الناس يقول: وقتلوا زكريا)، ابتعث الله علـيهم ملكا من ملوك بـابل يقال له خردوس، فسار إلـيه بأهل بـابل حتـى دخـل علـيهم الشام فلـما ظهر علـيهم أمر رأسا من رؤوس جنده يدعى نبور زاذان صاحب القتل، فقال له: إنـي قد كنت حلفت بإلهي لئن أظهرنا علـى أهل بـيت الـمقدس لأقتلنهم حتـى تسيـل دماؤهم فـي وسط عسكري، إلا أن لا أجد أحداً أقتله فأمر أن يقتلهم حتـى يبلغ ذلك منهم نبور زاذان، فدخـل بـيت الـمقدس، فقال فـي البقعة التـي كانوا يقربون فـيها قربـانهم، فوجد فـيها دما يغلـي، فسألهم فقال: يا بنـي إسرائيـل، ما شأن هذا الدم الذي يغلـي، أخبرونـي خبره ولا تكتـمونـي شيئاً من أمره؟ فقالوا: هذا دم قربـان كان لنا كنا قرّبناه فلـم يُتَقبَّل منا، فلذلك هو يغلـي كما تراه ولقد قرّبنا منذ ثمان مئة سنة القربـان فتقبِّل منا إلا هذا القربـان قال: ما صَدَقْتـمونـي الـخبر قالوا له: لو كان كأوّل زماننا لقُبل منا، ولكنه قد انقطع منا الـمُلك والنبوّة والوحي، فلذلك لـم يُتقبل منا فذبح منهم نبور زاذان علـى ذلك الدم سبع مئة وسبعين روحاً من رؤوسهم، فلـم يهدأ فأمر بسبع مئة غلام من غلـمانهم فذبحوا علـى الدم فلـم يهدأ فأمر بسبعة آلاف من شيعهم وأزواجهم، فذبحهم علـى الدم فلـم يبرد ولـم يهدأ فلـما رأى نبور زاذان أن الدم لا يهدأ قال لهم: ويْـلكم يا بنـي إسرائيـل، أصدقونـي واصبروا علـى أمر ربكم فقد طال ما ملكتـم فـي الأرض تفعلون فـيها ما شئتـم قبل أن لا أترك منكم نافخ نار، لا أنثى ولا ذكرا إلا قتلته فلـما رأوا الـجهد وشدّة القتل صدقوه الـخبر، فقالوا له: إن هذا دم نبـيّ منا كان ينهانا عن أمور كثـيرة من سخط الله، فلو أطعناه فـيها لكان أرشد لنا، وكان يخبرنا بأمركم، فلـم نصدّقه، فقتلناه، فهذا دمه فقال لهم نبور زاذان: ما كان اسمه؟ قالوا: يحيى بن زكريا، فقال: الآنَ صَدَقْتـمونـي بـمثل هذا ينتقم ربكم منكم فلـما رأى نبور زاذان أنهم صدقوه خرّ ساجداً وقال لـمن حوله: غلقوا الأبواب، أبواب الـمدينة، وأخرجوا من كان ههنا من جيش خردوس. وخلافـي بنـي إسرائيـل ثم قال: يا يحيى بن زكريا، قد علـم ربـي وربك ما قد أصاب قومك من أجلك، وما قُتل منهم من أجلك، فـاهدأ بإذن الله قبل أن لا أبقـي من قومك أحداً فهدأ دم يحيى بن زكريا بإذن الله، ورفع نبور زاذان عنهم القتل وقال: آمنت بـما آمنت به بنو إسرائيـل، وصدّقت وأيقنت أنه لا ربّ غيره، ولو كان معه آخر لـم يصلـح، ولو كان له شريك لـم تستـمسك السموات والأرض، ولو كان له ولد لـم يصلـح، فتبـارك وتقدّس، وتسبح وتكبر وتعظم، ملك الـملوك الذي له ملك السموات السبع والأرض وما فـيهنّ، وما بـينهما، وهو علـى كل شيء قدير، فله الـحلـم والعلـم والعزّة والـجبروت، وهو الذي بسط الأرض وألقـى فـيها رواسي لئلا تزول، فكذلك ينبغي لربـي أن يكون ويكون مُلكه. فأوحى الله إلـى رأس من رؤوس بقـية الأنبـياء أن نبور زاذان حَبُور صدوق والـحبور بـالعبرانـية: حديث الإيـمان. وإن نبور زاذان قال لبنـي إسرائيـل: يا بنـي إسرائيـل، إن عدوّ الله خردوس أمرنـي أن أقتل منكم حتـى تسيـل دماؤكم وسط عسكره، وإنـي لست أستطيع أن أعصيه. قالوا له: افعل ما أُمرت به. فأمرهم فحفروا خندقا وأمر بأموالهم من الـخيـل والبغال والـحمير والبقر والغنـم والإبل، فذبحها حتـى سال الدم فـي العسكر، وأمر بـالقتلـى الذين كانوا قبل ذلك، فطُرحوا علـى ما قُتل من مواشيهم حتـى كانوا فوقهم، فلـم يظنّ خردوس إلا أن ما كان فـي الـخندق من بنـي إسرائيـل. فلـما بلغ الدم عسكره، أرسل إلـى نبور زاذان أن ارفع عنهم، فقد بلغتنـي دماؤهم، وقد انتقمت منهم بـما فعلوا. ثم انصرف عنهم إلـى أرض بـابل، وقد أفنى بنـي إسرائيـل أو كاد، وهي الوقعة الآخرة التـي أنزل الله ببنـي إسرائيـل. يقول الله عزّ ذكره لنبـيه مـحمد صلى الله عليه وسلم: { وَقَضَيْنا إلـى بَنِـي إسْرَائِيـلَ فِـي الكِتابِ لتَفْسِدُنَّ فِـي الأرْضِ مَرَّتَـيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِـيراً فإذَا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَـيْكمْ عِبـاداً لَنا أُولـي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدّيارِ وكانَ وَعْداً مَفْعُولاً ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الكَرَّةَ عَلَـيْهِمْ وأمْدَدْناكُمْ بأمْوَالٍ وَبَنِـينَ وَجَعَلْناكُمْ أكْثَرَ نَفِـيراً إنْ أحْسَنْتُـمْ أحْسَنْتُـمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإنْ أسأْتُـمْ فَلَها فإذَا جاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لـيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِـيَدْخُـلُوا الـمَسْجدَ كمَا دَخَـلُوهُ أوَّلَ مَرَّةٍ ولِـيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبـيراً عَسَى رَبُّكُمْ أنْ يَرْحَمَكُمْ وَإنْ عُدْتُـمْ عُدْنا وَجَعَلْنا جَهَنَّـمَ للكافرِينَ حَصِيراً } وعسى من الله حقّ، فكانت الوقعة الأولـى: بختنصرَ وجنوده، ثم ردّ الله لكم الكرّة علـيهم، وكانت الوقعة الآخرة خردوس وجنوده، وهي كانت أعظم الوقعتـين، فـيها كان خراب بلادهم، وقتل رجالهم، وسبى ذراريهم ونسائهم. يقول الله تبـارك وتعالـى: { وَلـيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِـيراً } ثم عاد الله علـيهم، فأكثر عددهم، ونشرهم فـي بلادهم، ثم بَدّلوا وأحدثوا الأحداث، واستبدلوا بكتابهم غيره، وركبوا الـمعاصي، واستـحلوا الـمـحارم وضيَّعوا الـحدود.

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، عن أبـي عَتَّاب رجل من تغلب كان نصرانـياً عمراً من دهره، ثم أسلـم بعد، فقرأ القرآن، وفقه فـي الدين، وكان فـيـما ذكر أنه كان نصرانـياً أربعين سنة، ثم عُمِّر فـي الإسلام أربعين سنة. قال: كان آخر أنبـياء بنـي إسرائيـل نبـيا بعثه الله إلـيهم، فقال لهم: يا بنـي إسرائيـل إن الله يقول لكم: إنـي قد سلبت أصواتكم، وأبغضتكم بكثرة أحداثكم فهَمُّوا به لـيقتلوه، فقال الله تبـارك وتعالـى له: ائتهم واضرب لـي ولهم مثلاً، فقل لهم: إن الله تبـارك وتعالـى يقول لكم: اقضوا بـينـي وبـين كرمي ألـم أختر له البلاد، وطيبت له الـمَدَرة، وحظرته بـالسياج، وعرشته السويق والشوك والسياج والعَوْسَج، وأحطته بردائي، ومنعته من العالـم وفضَّلته، فلقـينـي بـالشوك والـجذوع، وكل شجرة لا تؤكل؟ ما لهذا اخترت البلدة، ولا طيَّبت الـمَدَرة، ولا حَظَرته بـالسِّياج، ولا عَرَشتْه السويق، ولا حُطْته بردائي، ولا منعته من العالـم فضلتكم وأتـمـمت علـيكم نعمتـي، ثم استقبلتـمونـي بكلّ ما أكره من معصيتـي وخلاف أمري لَـمَهْ إن الـحمار لـيعرف مذوده لَـمَهْ إن البقرة لتعرف سيدها وقد حلفت بعزتـي العزيزة، وبذراعي الشديد لآخذنّ ردائي، ولأمرجنّ الـحائط، ولأجعلنكم تـحت أرجل العالـم. قال: فوثبوا علـى نبـيهم فقتلوه، فضرب الله علـيهم الذلّ، ونزع منهم الـملك، فلـيسوا فـي أمة من الأمـم إلا وعلـيهم ذلّ وصغار وجزية يؤدّونها، والـملك فـي غيرهم من الناس، فلن يزالوا كذلك أبداً، ما كانوا علـى ما هم علـيه.

قال: قال: فهذا ما انتهى إلـينا من جماع أحاديث بنـي إسرائيـل.

حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله: { فإذَا جاءَ وَعْدُ الآخِرَة لِـيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِـيَدْخُـلُوا الـمَسْجِدَ كمَا دَخَـلُوهُ أوَّلَ مَرَّةٍ وَلِـيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِـيراً } قال: كانت الآخرة أشدّ من الأولـى بكثـير، قال: لأن الأولـى كانت هزيـمة فقط، والآخرة كان التدمير، وأحرق بختنصر التوراة حتـى لـم يبق منها حرف واحد، وخرب الـمسجد.

حدثنا أبو السائب، قال: ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن الـمنهال، عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس، قال: بعث عيسى ابن مريـم يحيى بن زكريا، فـي اثنـي عشر من الـحواريـين يعلِّـمون الناس. قال: فكان فـيـما نهاهم عنه، نكاح ابنة الأخ. قال: وكانت لـملكهم ابنة أخ تعجبه يريد أن يتزوّجها، وكانت لها كل يوم حاجة يقضيها فلـما بلغ ذلك أمها قالت لها: إذا دخـلت علـى الـملك فسألك حاجتك، فقولـي: حاجتـي أن تذبح لـي يحيى بن زكريا فلـما دخـلت علـيه سألها حاجتها، فقالت: حاجتـي أن تذبح يحيى بن زكريا، فقال: سلـي غير هذا فقالت: ما أسألك إلا هذا قال: فلـما أبت علـيه دعا يحيى ودعا بطست فذبحه، فبدرت قطرة من دمه علـى الأرض، فلـم تزل تغلـي حتـى بعث الله بختنصر علـيهم، فجاءته عجوز من بنـي إسرائيـل، فدلَّته علـى ذلك الدم. قال: فألقـى الله فـي نفسه أن يقتل علـى ذلك الدم منهم حتـى يسكن، فقتل سبعين ألفـاً منهم من سنّ واحد فسكن.

وقوله: { وَلِـيَدْخُـلُوا الـمَسْجِدَ كمَا دَخَـلُوهُ أوَّلَ مَرَّةٍ } يقول: ولـيدخـل عدوّكم الذي أبعثه علـيكم مسجد بـيت الـمقدس قهرا منهم لكم وغلبة، كما دخـلوه أوّل مرّة حين أفسدتـم الفساد الأوّل فـي الأرض.

وأما قوله: { وَلِـيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِـيراً } فإنه يقول: ولـيدمِّروا ما غلبوا علـيه من بلادكم تدميرا. يقال منه: دمَّرت البلد: إذا خرّبته وأهلكت أهله. وَتَبَر تَبْراً وَتَبـاراً، وتَبَّرْتُه أتبِّرُه تتبـيراً. ومنه قول الله تعالـى ذكره { { وَلا تَزِدِ الظَّالِـمِينَ إلاَّ تَبَـارا } يعنـي: هلاكا. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك، قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

حدثنا القاسم، قال: ثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عبـاس: { وَلِـيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِـيراً } قال: تدميراً.

حدثنا مـحمد بن عبد الأعلـى، قال: ثنا مـحمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة { وَلِـيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِـيراً } قال: يدمروا ما علوا تدميراً.