خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً
٩٢
حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْماً لاَّ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً
٩٣
قَالُواْ يٰذَا ٱلْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي ٱلأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلَىٰ أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّاً
٩٤
-الكهف

جامع البيان في تفسير القرآن

يقول تعالى ذكره: ثم سار طرقاً ومنازل، وسلك سبلاً { حَتَـى إذَا بَلَغَ بـينَ السَّدَّيْنِ }.

واختلفت القرّاء فـي قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء الـمدينة بعض الكوفـيـين: «حَتَـى إذَا بَلَغَ بـينَ السَّدَّيْنِ» بضمّ السين وكذلك جميع ما فـي القرآن من ذلك بضم السين. وكان بعض قرّاء الـمكيـين يقرؤه بفتـح ذلك كله. وكان أبو عمرو بن العلاء يفتـح السين فـي هذه السورة، ويضمّ السين فـي يس، ويقول: السدَّ بـالفتـح: هو الـحاجز بـينك وبـين الشيء والسدُّ بـالضم: ما كان من غشاوة فـي العين. وأما الكوفـيون فإن قراءة عامتهم فـي جميع القرآن بفتـح السين غير قوله: { حَتَـى إذَا بَلَغَ بـينَ السَّدَّيْنِ } فإنهم ضموا السين فـي ذلك خاصة. وروي عن عكرمة فـي ذلك ما:

حدثنا به أحمد بن يوسف، قال: ثنا القاسم، قال: ثنا حجاج، عن هارون، عن أيوب، عن عكرمة قال: ما كان من صنعة بنـي آدم فهو السَّدّ، يعنـي بـالفتـح، وما كان من صنع الله فهو السدّ. وكان الكسائي يقول: هما لغتان بـمعنى واحد.

والصواب من القول فـي ذلك عندي أن يقال: إنهما قراءتان مستفـيضتان فـي قرأة الأمصار، ولغتان متفقتا الـمعنى غير مختلفة، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب، ولا معنى للفرق الذي ذكر عن أبـي عمرو بن العلاء، وعكرمة بـين السُّد والسَّد، لأنا لـم نـجد لذلك شاهداً يبـين عن فرقان ما بـين ذلك علـى ما حكي عنهما. ومـما يبـين ذلك أن جمع أهل التأويـل الذي رُوي لنا عنهم فـي ذلك قول، لـم يحك لنا عن أحد منهم تفصيـل بـين فتـح ذلك وضمه، ولو كان مختلفـي الـمعنى لنقل الفصل مع التأويـل إن شاء الله، ولكن معنى ذلك كان عندهم غير مفترق، فـيفسر الـحرف بغير تفصيـل منهم بـين ذلك. وأما ما ذُكر عن عكرمة فـي ذلك، فإن الذي نقل ذلك عن أيوب وهارون، وفـي نقله نظر، ولا نعرف ذلك عن أيوب من رواية ثقات أصحابه. والسَّد والسُّد جميعا: الـحاجز بـين الشيئين، وهما ههنا فـيـما ذُكر جبلان سدّ ما بـينهما، فردم ذو القرنـين حاجزا بـين يأجوج ومأجوج ومن وراءهم، لـيقطع مادّ غوائلهم وعيثهم عنهم. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

حدثنا القاسم، قال: ثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء الـخراسانـي، عن ابن عبـاس «حَتَـى إذَا بَلَغَ بـينَ السَّدَّيْنِ» قال: الـجبلـين الردم الذي بـين يأجوج ومأجوج، أمتـين من وراء ردم ذي القرنـين، قال: الـجبلان: أرمينـية وأذربـيجان.

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة «حَتَـى إذَا بَلَغَ بـينَ السَّدَّيْنِ» وهما جبلان.

حُدثت عن الـحسين، قال: سمعت أبـا معاذ يقول: ثنا عبـيد، قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: «بـينَ السَّدَّيْنِ» يعنـي بـين جبلـين.

حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، فـي قوله: «بـينَ السَّدَّيْنِ» قال: هما جبلان.

وقوله { وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً } يقول عزّ ذكره: وجد من دون السدّين قوماً لا يكادون يفقهون قول القائل سوى كلامهم.

وقد اختلفت القرّاء فـي قراءة قوله { يَفْقَهُونَ } فقرأته عامة قرّاء أهل الـمدينة والبصرة وبعض أهل الكوفة { يَفْقَهُونَ قَوْلاً } بفتـح القاف والـياء، من فقَه الرجل يفقه فقهاً. وقرأ ذلك عامَّة قرّاء أهل الكوفة «يُفْقِهُونَ قَوْلاً» بضمّ الـياء وكسر القاف: من أفقهت فلاناً كذا أفقهه إفقاها: إذا فهمته ذلك.

والصواب عندي من القول فـي ذلك، أنهما قراءتان مستفـيضتان فـي قراءة الأمصار، غير دافعة إحداهما الأخرى وذلك أن القوم الذين أخبر الله عنهم هذا الـخبر جائز أن يكونوا لا يكادون يفقهون قولاً لغيرهم عنهم، فـيكون صوابـاً القراءة بذلك. وجائز أن يكونوا مع كونهم كذلك كانوا لا يكادون أن يفقهوا غيرهم لعلل: إما بألسنتهم، وإما بـمنطقهم، فتكون القراءة بذلك أيضاً صوابـاً.

وقوله: { إنَّ يأْجُوجَ ومَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِـي الأرْضِ } اختلفت القرّاء فـي قراءة قوله { إنَّ يأْجُوجَ ومَأْجُوجَ } فقرأت القرّاء من أهل الـحجاز والعراق وغيرهم: «إنَّ يأْجُوجَ ومَأْجُوجَ» بغير همز علـى فـاعول من يججت ومـججت، وجعلوا الألفـين فـيهما زائدتـين، غير عاصم بن أبـي النـجود والأعرج، فإنه ذكر أنهما قرآ ذلك بـالهمز فـيهما جميعاً، وجعلا الهمز فـيهما من أصل الكلام، وكأنهما جعلا يأجوج: يفعول من أججت، ومأجوج: مفعول.

والقراءة التـي هي القراءة الصحيحة عندنا، { أن يأْجُوجَ ومَأْجُوجَ } بألف بغير همز لإجماع الـحجة من القرّاء علـيه، وأنه الكلام الـمعروف علـى ألسن العرب ومنه قول رؤبة بن العجاج.

لَوْ أنَّ ياجُوجَ ومَاجُوجَ معَاوعادَ عادُوا واسْتَـجاشُوا تُبَّعا

وهم أمَّتان من وراء السدّ.

وقوله: { مِفْسِدُونَ فِـي الأرْضِ } اختلف أهل التأويـل فـي معنى الإفساد الذي وصف الله به هاتـين الأمتـين، فقال بعضهم: كانوا يأكلون الناس. ذكر من قال ذلك:

حدثنا أحمد بن الولـيد الرملـي، قال: ثنا إبراهيـم بن أيوب الـخوزانـي، قال: ثنا الولـيد بن مسلـم، قال: سمعت سعيد بن عبد العزيز يقول فـي قوله { إنَّ يأْجُوجَ ومَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِـي الأرْضِ } قال: كانوا يأكلون الناس.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: إن يأجوج ومأجوج سيفسدون فـي الأرض، لا أنهم كانوا يومئذ يفسدون. ذكر من قال ذلك، وذكر صفة اتبـاع ذي القرنـين الأسبـاب التـي ذكرها الله فـي هذه الآية، وذكر سبب بنائه للردم:

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلـمة، قال: ثنا مـحمد بن إسحاق، قال: ثنـي بعض من يسوق أحاديث الأعاجم من أهل الكتاب، مـمن قد أسلـم، مـما توارثوا من علـم ذي القرنـين، أن ذا القرنـين كان رجلاً من أهل مصر اسمه مرزِبـا بن مردَبة الـيونانـي، من ولد يونن بن يافث بن نوح.

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلـمة، قال: ثنـي مـحمد بن إسحاق، عن ثور بن يزيد، عن خالد بن معدان الكلاعي، وكان خالد رجلاً قد أدرك الناس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن ذي القرنـين فقال: "مَلِكٌ مَسَحَ الأرْضَ مِنْ تَـحْتِها بـالأسْبـابِ" قال خالد: وسمع عمر بن الـخطاب رجلاً يقول: يا ذا القرنـين، فقال: اللهمّ غفراً، أما رضيتـم أن تسموا بأسماء الأنبـياء، حتـى تسموا بأسماء الـملائكة؟ فإن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذلك، فـالـحقّ ما قال، والبـاطل ما خالفه.

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلـمة، قال: ثنـي مـحمد بن إسحاق، قال: فحدثنـي من لا أتهم عن وهب بن منبه الـيـمانـي، وكان له علـم بـالأحاديث الأول، أنه كان يقول: ذو القرنـين رجل من الروم. ابن عجوز من عجائزهم، لـيس لها ولد غيره، وكان اسمه الإسكندر. وإنـما سمي ذا القرنـين أن صفحتـي رأسه كانتا من نـحاس فلـما بلغ وكان عبداً صالـحاً، قال الله عزّ وجلّ له: يا ذا القرنـين إنـي بـاعثك إلـى أمـم الأرض، وهي أمـم مختلفة ألسنتهم، وهم جميع أهل الأرض ومنهم أمتان بـينهما طول الأرض كله ومنهم أمتان بـينهما عرض الأرض كله، وأمـم فـي وسط الأرض منهم الـجنّ والإنس ويأجوج ومأجوج. فأما الأمتان اللتان بـينهما طول الأرض: فأمه عند مغرب الشمس، يقال لها: ناسك. وأما الأخرى: فعند مطلعها يقال لها: منسك. وأما اللتان بـينهما عرض الأرض، فأمة فـي قطر الأرض الأيـمن، فقال لها: هاويـل. وأما الأخرى التـي فـي قطر الأرض الأيسر، فأمة يقال لها: تأويـل فلـما قال الله له ذلك، قال له ذو القرنـين: إلهي إنك قد ندبتنـي لأمر عظيـم لا يَقدر قَدره إلا أنت، فأخبرنـي عن هذه الأمـم التـي بعثتنـي إلـيها، بأيّ قوّة أكابرهم، وبأيّ جمع أكاثرهم، وبأيّ حيـلة أكايدهم، وبأيّ صبر أقاسيهم، وبأيّ لسان أناطقهم، وكيف لـي بأن أفقه لغاتهم، وبأيّ سمع أعي قولهم، وبأيّ بصر أنفذهم، وبأيّ حجة أخاصمهم، وبأيّ قلب أعقل عنهم، وبأيّ حكمة أدبر أمرهم، وبأيّ قسط أعدل بـينهم، وبأيّ حلـم أصابرهم، وبأيّ معرفة أفصل بـينهم، وبأيّ علـم أتقن أمورهم، وبأيّ يد أسطو علـيهم، وبأيّ رجل أطؤهم، وبأيّ طاقة أخصمهم، وبأيّ جند أقاتلهم، وبأيّ رفق أستألفهم، فإنه لـيس عندي يا إلهي شيء مـما ذكرت يقول لهم، ولا يقوى علـيهم ولا يطيقهم، وأنت الربّ الرحيـم، الذي لا يكلِّف نفساً إلا وسعها، ولا تحملها إلا طاقتها، ولا يعنتها ولا يفدحها، بل أنت ترأفها وترحمها. قال الله عزّ وجلّ: إنـي سأطوّقك ما حمَّلتك، أشرح لك صدرك، فـيسع كلّ شيء وأشرح لك فهمك فتفقه كلّ شيء، وأبسط لك لسانك، فتنطق بكلّ شيء، وأفتـح لك سمعك فتعي كلّ شيء، وأمدّ لك بصرك، فتنفذ كلّ شيء، وأدبر لك أمرك فتتقن كلّ شيء، وأحصي لك فلا يفوتك شيء، وأحفظ علـيك فلا يعزب عنك شيء، وأشدّ لك ظهرك، فلا يهدّك شيء، وأشدّ لك ركنك فلا يغلبك شيء، وأشدّ لك قلبك فلا يروعك شيء، وأسخر لك النور والظلـمة، فأجعلهما جنداً من جنودك، يهديك النور أمامك، وتـحوطك الظلـمة من ورائك، وأشدّ لك عقلك فلا يهولك شيء، وأبسط لك من بـين يديك، فتسطو فوق كلّ شيء، وأشدّ لك وطأتك، فتهدّ كلّ شيء، وألبسك الهيبة فلا يرومك شيء.

ولـما قـيـل له ذلك، انطلق يؤمّ الأمة التـي عند مغرب الشمس، فلـما بلغهم، وجد جمعاً وعدداً لا يحصيه إلا الله، وقوّة وبأساً لا يطيقه إلا الله، وألسنة مختلفة وأهواء متشتتة، وقلوبـاً متفرّقة فلـما رأى ذلك كاثرهم بـالظلـمة، فضرب حولهم ثلاثة عساكر منها، فأحاطتهم من كلّ مكان، وحاشتهم حتـى جمعتهم فـي مكان واحد، ثم أخذ علـيه بـالنور، فدعاهم إلـى الله وإلـى عبـادته، فمنهم من آمن له، ومنهم من صدّ، فعمد إلـى الذين تولوا عنه، فأدخـل علـيهم الظلـمة، فدخـلت فـي أفواههم وأنوفهم وآذانهم وأجوافهم، ودخـلت فـي بـيوتهم ودورهم، وغشيتهم من فوقهم، ومن تـحتهم ومن كلّ جانب منهم، فماجوا فـيها وتـحيروا فلـما أشفقوا أن يهلكوا فـيها عجوا إلـيه بصوت واحد، فكشفها عنهم وأخدهم عنوة، فدخـلوا فـي دعوته، فجنَّد من أهل الـمغرب أمـما عظيـمة، فجعلهم جنداً واحداً، ثم انطلق بهم يقودهم، والظلـمة تسوقهم من خـلفهم وتـحرسهم من حولهم، والنور أمامهم يقودهم ويدلهم، وهو يسير فـي ناحية الأرض الـيـمنى، وهو يريد الأمة التـي فـي قطر الأرض الأيـمن التـي يقال لها هاويـل، وسخر الله له يده وقلبه ورأيه وعقله ونظره وائتـماره، فلا يخطىء إذا ائتـمر، وإذا عمل عملاً أتقنه. فـانطلق يقود تلك الأمـم وهي تتبعه، فإذا انتهى إلـى بحر أو مخاضة بنى سفنا من ألواح صغار أمثال النعال، فنظمها فـي ساعة، ثم جعل فـيها جميع من معه من تلك الأمـم وتلك الـجنود، فإذا قطع الأنهار والبحار فتقها، ثم دفع إلـى كلّ إنسان لوحاً فلا يكرثه حمله، فلـم يزل كذلك دأبة حتـى انتهى إلـى هاويـل، فعمل فـيها كعمله فـي ناسك. فلـما فرغ منها مضى علـى وجهه فـي ناحية الأرض الـيـمنى حتـى انتهى إلـى منسك عند مطلع الشمس، فعمل فـيها وجند منها جنودا، كفعله فـي الأمتـين اللتـين قبلها، ثم كرّ مقبلاً فـي ناحية الأرض الـيسرى، وهو يريد تأويـل وهي الأمة التـي بجيال هاويـل، وهما متقابلتان بـينهما عرض الأرض كله فلـما بلغها عمل فـيها، وجند منها كفعله فـيـما قبلها فلـما فرغ منها عطف منها إلـى الأمـم التـي وسط الأرض من الـجنّ وسائر الناس، ويأجوج ومأجوج فلـما كان فـي بعض الطريق مـما يـلـي منقطع الترك نـحو الـمشرق، قالت له أمة من الإنس صالـحة: يا ذا القرنـين، إن بـين هذين الـجبلـين خـلقا من خـلق الله، وكثـير منهم مشابه للإنس، وهم أشبـاه البهائم، يأكلون العشب، ويفترسون الدوابّ والوحوش كما تفترسها السبـاع، ويأكلون خشاش الأرض كلها من الـحيات والعقارب، وكلّ ذي روح مـما خـلق الله فـي الأرض، ولـيس لله خـلق ينـمو نـماءهم فـي العام الواحد، ولا يزداد كزيادتهم، ولا يكثر ككثرتهم، فإن كانت لهم مدّة علـى ما نرى من نـمائهم وزيادتهم، فلا شكّ أنهم سيـملئون الأرض، ويجلون أهلها عنها ويظهرون علـيها فـيفسدون فـيها، ولـيست تـمرّ بنا سنة منذ جاورناهم إلا ونـحن نتوقعهم، وننتظر أن يطلع علـينا أوائلهم من بـين هذين الـجبلـين { فَهَلْ نَـجْعَلُ لَكَ خَرْجاً علـى أنْ تَـجْعَلَ بَـيْنَنا وبَـيْنَهُمْ سَدًّا قالَ ما مَكَّنِـي فِـيهِ رَبّـي خَيْرٌ فأعِينُونِـي بِقُوَّةٍ أجْعَلْ بَـيْنَكُمْ وَبَـيْنَهُمْ رَدْماً } أعدّوا إلـيّ الصخور والـحديد والنـحاس حتـى أرتاد بلادهم، وأعلـم علـمهم، وأقـيس ما بـين جبلـيهم.

ثم انطلق يؤمهم حتـى دفع إلـيهم وتوسط بلادهم، فوجدهم علـى مقدار واحد، ذكرهم وأنثاهم، مبلغ طول الواحد منهم مثل نصف الرجل الـمربوع منا، لهم مخالب فـي موضع الأظفـار من أيدينا، وأضراس وأنـياب كأضراس السبـاع وأنـيابها، وأحناك كأحناك الإبل قوّة تسمع لها حركة إذا أكلوا كحركة الـجِرّة من الإبل، أو كقضم الفحل الـمسنّ، أو الفرس القويّ، وهم هلب، علـيهم من الشعر فـي أجسادهم ما يواريهم، وما يتقون به الـحرّ والبرد إذا أصابهم ولكل واحد منهم أذنان عظيـمتان: إحداهما وبرة ظهرها وبطنها، والأخرى زغبة ظهرها وبطنها، تَسعانة إذا لبسهما، يـلتـحف إحداهما، ويفترش الأخرى، ويصيف فـي إحداهما، ويَشْتـى فـي الأخرى، ولـيس منهم ذكر ولا أنثى إلا وقد عرف أجله الذي يـموت فـيه، ومنقطع عمره، وذلك أنه لا يـموت ميت من ذكورهم حتـى يخرج من صلبه ألف ولد، ولا تـموت الأنثى حتـى يخرج من رحمها ألف ولد، فإذا كان ذلك أيقن بـالـموت، وهم يرزقون التنـين يام الربـيع، ويستـمطرونه إذا تـحينوه كما نستـمطر الغيث لـحينه، فـيقذفون منه كلّ سنة بواحد، فـيأكلونه عامهم كله إلـى مثله من العام القابل، فـيغنـيهم علـى كثرتهم ونـمائهم، فإذا أمطروا وأخصبوا وعاشوا وسمنوا، ورؤي أثره علـيهم، فدرّت علـيهم الإناث، وشَبقت منهم الرجال الذكور، وإذا أخطأهم هَزَلُوا وأجدبوا، وجفرت الذكور، وحالت الإناث، وتبـين أثر ذلك علـيهم، وهم يتداعون تداعي الـحَمام، ويعوُون عُواء الكلاب، ويتسافدون حيث التقوا تسافد البهائم.

فلـما عاين ذلك منهم ذو القرنـين انصرف إلـى ما بـين الصَّدَفـين، فقاس ما بـينهما وهو فـي منقطع أرض الترك مـما يـلـي مشرق الشمس، فوجد بُعد ما بـينهما مئة فرسخ فلـما أنشأ فـي عمله، حفر له أساساً حتـى بلغ الـماء، ثم جعل عرضه خمسين فرسخاً، وجعل حشوه الصخور، وطينه النـحاس، يذاب ثم يُصبّ علـيه، فصار كأنه عِرْق من جبل تـحت الأرض، ثم علاه وشَرّفه بزُبَر الـحديد والنـحاس الـمذاب، وجعل خلاله عِرْقا من نـحاس أصفر، فصار كأنه بُرد مـحبَّر من صفرة النـحاس وحمرته وسواد الـحديد فلـما فرغ منه وأحكمه، انطلق عامداً إلـى جماعة الإنس والـجنّ فبـينا هو يسير، دفع إلـى أمة صالـحة يهدون بـالـحقّ وبه يعدلون، فوجد أمة مقسطة مقتصدة، يقسمون بـالسوية، ويحكمون بـالعدل، ويتآسون ويتراحمون، حالهم واحدة، وكلـمتهم واحدة، وأخلاقهم مشتبهة، وطريقتهم مستقـيـمة، وقلوبهم متألفة، وسيرتهم حسنة، وقبورهم بأبواب بـيوتهم، ولـيس علـى بـيوتهم أبواب، ولـيس علـيهم أمراء، ولـيس بـينهم قضاة، ولـيس بـينهم أغنـياء، ولا ملوك، ولا أشراف، ولا يتفـاوتون، ولا يتفـاضلون، ولا يختلفون، ولا يتنازعون، ولا يستبُّون، ولا يقتتلون، ولا يَقْحَطُون، ولا يحردون، ولا تصيبهم الآفـات التـي تصيب الناس، وهم أطول الناس أعماراً، ولـيس فـيهم مسكين، ولا فقـير، ولا فظّ، ولا غلـيظ فلـما رأى ذلك ذو القرنـين من أمرهم، عجب منه وقال: أخبرونـي أيها القوم خبركم، فإنـي قد أحصيت الأرض كلها برّها وبحرها، وشرقها وغربها، ونورها وظلـمتها، فلـم أجد مثلكم، فأخبرونـي خبركم قالوا: نعم، فسلنا عما تريد، قال: أخبرونـي، ما بـال قبور موتاكم علـى أبواب بـيوتكم؟ قالوا: عمدا فعلنا ذلك لئلا ننسى الـموت، ولا يخرج ذِكرُه من قلوبنا قال: فما بـال بـيوتكم لـيس علـيها أبواب؟ قالوا: لـيس فـينا متهم، ولـيس منا إلا أمين مؤتـمن قال: فما لكم لـيس علـيكم أمراء؟ قالوا: لا نتظالـم قال: فما بـالكم لـيس فـيكم حكام؟ قالوا: لا نـختصم قال: فما بـالكم لـيس فـيكم أغنـياء؟ قالوا: لا نتكاثر قال: فما بـالكم لـيس فـيكم ملوك؟ قالوا: لا نتكابر قال: فما بـالكم لا تتنازعون ولا تـختلفون؟ قالوا: من قِبَل ألفة قلوبنا وصلاح ذات بـيننا قال: فما بـالكم لا تستَبُّون ولا تقتتلون؟ قالوا: من قبل أنا غلبنا طبـائعنا بـالعزم، وسسنا أنفسنا بـالأحلام قال: فما بـالكم كلـمتكم واحدة، وطريقتكم مستقـيـمة مستوية؟ قالوا: من قبل أنا لا نتكاذب، ولا نتـخادع، ولا يغتاب بعضنا بعضا قال: فأخبرونـي من أين تشابهت قلوبكم، واعتدلت سيرتكم؟ قالوا: صحّت صدورنا، فنزع بذلك الغلّ والـحسد من قلوبنا قال: فما بـالكم لـيس فـيكم مسكين ولا فقـير؟ قالوا: من قبل أنا نقتسم بـالسوية قال: فما بـالكم لـيس فـيكم فظّ ولا غلـيظ؟ قالوا: من قبل الذلّ والتواضع قال: فما جعلكم أطول الناس أعماراً؟ قالوا: من قِبَل أنا نتعاطى الـحقّ ونـحكم بـالعدل قال: فما بـالكم لا تُقْحَطون؟ قالوا: لا نغفل عن الاستغفـار قال: فما بـالكم لا تَـحْرَدون؟ قالوا: من قبل أنا وطأنا أنفسنا للبلاء منذ كنا، وأحببناه وحرصنا علـيه، فعرينا منه قال: فما بـالكم لا تصيبكم الآفـات كما تصيب الناس؟ قالوا: لا نتوكل علـى غير الله، ولا نعمل بـالأنواء والنـجوم قال: حدثونـي أهكذا وجدتـم آبـاءكم يفعلون؟ قالوا: نعم وجدنا آبـاءنا يرحمون مساكينهم، ويُواسون فقراءهم، وَيعفون عمن ظلـمهم، ويُحسنون إلـى من أساء إلـيهم، ويحلُـمون عمن جهل علـيهم، ويستغفرون لـمن سبهم، ويَصِلون أرحامهم، ويؤدّون أماناتهم، ويحفظون وقتهم لصلاتهم، ويُوَفُّون بعهودهم، ويَصدُقون فـي مواعيدهم، ولا يرغبون عن أكفـائهم، ولا يستنكفون عن أقاربهم، فأصلـح الله لهم بذلك أمرهم، وحفظهم ما كانوا أحياء، وكان حقا علـى الله أن يحفظهم فـي تركتهم.

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، عن أبـي رافع، عن أبـي هريرة، عن نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ يأْجُوجَ ومَأْجُوجَ يَحْفُرُونَ السَّدَّ كُلَّ يَوْمٍ، حتـى إذَا كادُوا يَرَوْنَ شُعاعَ الشَّمْسِ قالَ الَّذِي عَلَـيْهِمْ ارْجِعُوا فَتَـحْفِرُونَهُ غَداً، فَـيُعِيدُهُ اللَّهُ وَهُوَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ تَرَكُوهُ، حتـى إذَا جاءَ الوَقْتُ قالَ: إنْ شاءَ اللَّهُ، فَـيَحْفُرُونَهُ ويَخْرُجُون علـى النَّاسِ، فَـيَنْشِفُونَ الـمِياهَ، ويَتَـحَصَّنُ النَّاسُ فِـي حُصُونِهِمْ، فَـيرْمُونَ بِسِهامِهِمْ إلـى السَّماءِ، فَـيرْجِعُ فِـيها كَهَيْئَةِ الدّماءِ، فَـيَقُولُونَ: قَهَرْنا أهْلِ الأرْضِ، وَعَلَوْنا أهْلَ السَّماءِ، فَـيَبْعَثُ اللَّهُ عَلَـيْهِمْ نَغَفـاً فِـي أقْـفـائِهمْ فَتَقْتُلُهُمْ" فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والَّذِي نَفْسُ مُـحَمَّدٍ بِـيَدِهِ إنَّ دَوَابَّ الأرْضِ لَتَسْمَنُ وتَشْكَرُ مِنْ لُـحُومِهِمْ" .

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلـمة، عن مـحمد بن إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة الأنصاريّ ثم الظَّفَريّ، عن مـحمود بن لبـيد أخي بنـي عبد الأشهل، عن أبـي سعيد الـخدري، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يُفْتَـحُ يأْجُوجُ ومَأْجُوجُ فَـيَخْرُجُونَ علـى النَّاسِ كمَا قالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يِنْسِلُونَ فَـيَغْشُونَ الأرْضَ، ويَنْـحازُ الـمُسْلِـمُونَ عَنْهُمْ إلـى مَدَائِنِهِمْ وَحُصُونِهِمْ، وَيَضُمُّونَ إلَـيْهِمْ مَوَاشيَهُمْ، فَـيَشْرَبُونَ مِياهَ الأرْضِ، حتـى إنَّ بَعْضَهُمْ لَـيَـمُرَّ بـالنَّهْرَ فَـيَشْرَبُونَ ما فِـيهِ، حتـى يَتْرُكُوهُ يابساً، حتـى إنَّ بَعْدَهمْ لَـيَـمُرُّ بِذلكَ النَّهْرِ، فـيَقُولُ: لَقَدْ كانَ هَا هُنا ماءٌ مَرَّةً، حتـى لَـمْ يَبْقَ مِنَ النَّاسِ أحَدٌ إلاَّ انْـحازَ إلـى حِصْنٍ أوْ مَدِينَةٍ، قالَ قائِلُهُمْ: هَولاءِ أهْلُ الأرْضِ قَدْ فَرَغْنَا مِنْهُمْ، بَقِـيَ أهْلُ السَّمَاءِ، قالَ: ثُمَّ يَهُزُّ أحَدُهُمْ حَرْبَتَهُ، ثُمَّ يَرْمي بها إلـى السَّماءِ، فَترْجِعُ إلَـيْهِ مُخَضَّبَةً دَماً للْبِلاءِ وَالفِتْنَةِ. فَبَـيّناهُمْ علـى ذلكَ، بَعَثَ اللَّهُ عَلَـيْهِمْ دُوداً فـي أعناقِهِمْ كالنَّغَفِ، فَتَـخْرجُ فِـي أعْناقِهِمْ فِـيُصْبِحُونَ مَوْتَـى، لا يُسْمَعُ لَهُمْ حِسٌّ، فَـيَقُولُ الـمُسلِـمُونَ: ألا رَجُلٌ يَشْري لَنا نَفْسَهُ، فَـيَنْظُرُ ما فعل العدوّ، قال: فَـيَتَـجَرَّدُ رَجُلٌ مِنْهُمْ لذلكَ مُـحْتَسِبـاً لِنَفْسِهِ، قَدْ وَطَّنَها علـى أنَّهُ مَقُتُولٌ، فـيَنْزِلُ فَـيَجِدُهُمْ مَوْتـى، بَعْضُهُمْ عَلـى بَعْضٍ، فَـيْنادي: يا مَعْشَرَ الـمُسْلِـمِينَ، ألا أبْشِرُوا، فإنَّ اللَّهَ قَدْ كَفـاكُمْ عَدُوَّكُمْ، فـيَخْرُجونَ مِنْ مَدَائِنِهمْ وَحُصُونِهِمْ، وَيُسَرِّحُونَ مَوَاشِيَهُمْ، فَمَا يَكُونُ لَهَا رَعْيٌ إلاَّ لُـحُومُهُمْ، فَتَشْكَرُ عَنْهُمْ أحُسَنَ ما شَكَرَتْ عَنْ شَيْءٍ مِنَ النَّبـاتِ أصَابَتْ قَطُّ" .

حدثني بحر بن نصر، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: ثنـي معاوية، عن أبـي الزاهرية وشريح بن عبـيد: أن يأجوج ومأجوج ثلاثة أصناف: صنف طولهم كطول الأرز، وصنف طوله وعرضه سواء، وصنف يفترش أحدهم أذنه ويـلتـحف بـالأخرى فتغطى سائر جسده.

حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس: { قالوا يا ذَا القَرْنَـيْنِ إنَّ يَأْجُوجَ ومَأْجُوج مُفْسِدُونَ فِـي الأرْضِ } قال: كان أبو سعيد الـخُدريّ يقول: إن نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يَـمُوتُ رَجُلٌ مِنْهُمْ حتـى يُولَدَ لِصُلْبِهِ ألْفُ رَجُلٍ" قال: وكان عبد الله بن مسعود يعجب من كثرتهم ويقول: لا يـموت من يأجوج ومأجوج أحد يولد له ألف رجل من صلبه.

فـالـخبر الذي ذكرناه عن وهب بن منبه فـي قصة يأجوج ومأجوج، يدلّ علـى أن الذين قالوا لذي القرنـين { إنَّ يَأْجُوجَ ومَأْجُوج مُفْسِدُونَ فِـي الأرْضِ } إنـما أعلـموه خوفَهم ما يُحدث منهم من الإفساد فـي الأرض، لا أنهم شَكَوا منهم فساداً كان منهم فـيهم أو فـي غيرهم، والأخبـار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم سيكون منهم الإفساد فـي الأرض، ولا دلالة فـيها أنهم قد كان منهم قبل إحداث ذي القرنـين السدّ الذي أحدثه بـينهم وبـين من دونهم من الناس فـي الناس غيرهم إفساد.

فإذا كان ذلك كذلك بـالذي بـيَّنا، فـالصحيح من تأويـل قوله { إنَّ يَأْجُوجَ ومَأْجُوج مُفْسِدُونَ فِـي الأرْضِ } إن يأجوج ومأجوج سيفسدون فـي الأرض.

وقوله { فَهَلْ نَـجْعَلُ لَكَ خَرْجاً } اختلفت القرّاء فـي قراءة ذلك، فقرأته عامَّة قرّاء الـمدينة والبصرة وبعض أهل الكوفة: { فَهَلْ نَـجْعَلُ لَكَ خَرْجاً } كأنهم نـحوا به نـحو الـمصدر من خَرْج الرأس، وذلك جعله. وقرأته عامَّة قرّاء الكوفـيـين: «فَهَلْ نَـجْعَلُ لَكَ خَرَاجاً» بـالألف، وكأنهم نـحوا به نـحو الاسم، وعنوا به أجرة علـى بنائك لنا سدّاً بـيننا وبـين هؤلاء القوم.

وأولـى القراءتـين فـي ذلك عندنا بـالصواب قراءة من قرأه: «فَهَلْ نَـجْعَلُ لَكَ خَرَاجاً» بـالألف، لأن القوم فـيـما ذُكر عنهم، إنـما عرضوا علـى ذي القرنـين أن يعطوه من أموالهم ما يستعين به علـى بناء السدِّ، وقد بـين ذلك بقوله: { { فَأعِينُونِـي بقُوَّةٍ أجْعَلْ بَـيْنَكُمْ وبَـيْنَهُمْ رَدْماً } ولـم يعرضوا علـيه جزية رؤوسهم. والـخراج عند العرب: هو الغلة. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

حدثنا القاسم، قال: ثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء الـخراسانـيّ، عن ابن عبـاس «فَهَلْ نَـجْعَلُ لَكَ خَرَاجاً» قال: أجراً { علَـى أنْ تَـجعَلَ بَـيْنَنَا وَبَـيْنَهُمْ سَدًّا }.

حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، فـي قوله: «فَهَلْ نَـجْعَلُ لَكَ خَرَاجاً» قال: أجرا.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الـحسين، قال: ثنا أبو سفـيان، عن معمر، عن قتادة، قوله: «فَهَلْ نَـجْعَلُ لَكَ خَرَاجاً» قال: أجراً.

وقوله: { علَـى أنْ تَـجْعَلَ بَـيْنَنَا وَبَـيْنَهُمْ سَدّاً } يقول: قالوا له: هل نـجعل لك خراجاً حتـى أن تـجعل بـيننا وبـين يأجوج ومأجوج حاجزاً يحجز بـيننا وبـينهم، ويـمنعهم من الـخروج إلـينا، وهو السدّ.