خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ ٱنْظُرْنَا وَٱسْمَعُواْ وَلِلكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ
١٠٤
-البقرة

جامع البيان في تفسير القرآن

اختلف أهل التأويـل فـي تأويـل قوله: { لاَ تَقُولُوا رَاعِنَا } فقال بعضهم: تأويـله لا تقولوا خلافـا. ذكر من قال ذلك:

حدثنا مـحمد بن بشار، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا سفـيان، عن ابن جريج، عن عطاء فـي قوله: { لاَ تَقُولُوا رَاعِنا } قال: لا تقولوا خلافـاً.

حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: { لاَ تَقُولُوا رَاعِنا } لا تقولوا خلافـاً.

وحدثنـي الـمثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، مثله.

حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي، قال: ثنا أبو أحمد الزبـيري، قال: ثنا سفـيان، عن رجل عن مـجاهد، مثله.

حدثنـي الـمثنى، قال: ثنا أبو نعيـم، قال: ثنا سفـيان، عن مـجاهد، مثله.

وقال آخرون: تأويـله: أرعنا سمعك: أي اسمع منا ونسمع منك. ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلـمة، قال: حدثنـي ابن إسحاق، عن مـحمد بن أبـي مـحمد، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس قوله: { رَاعِنَا } أي أَرْعِنَا سمعك.

حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فـي قول الله جلّ وعزّ: { يا أيُّها الّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقُولُوا رَاعِنا } لا تقولوا اسمع منا ونسمع منك.

وحدثت عن الـحسين بن الفرج، قال: سمعت أبـا معاذ يقول: أخبرنا عبـيد بن سلـيـمان، قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: { رَاعِنا } قال: كان الرجل من الـمشركين يقول: أرْعنـي سمعك.

ثم اختلف أهل التأويـل فـي السبب الذي من أجله نهى الله الـمؤمنـين أن يقولوا راعنا، فقال بعضهم: هي كلـمة كانت الـيهود تقولها علـى وجه الاستهزاء والـمسبّة، فنهى الله تعالـى ذكره الـمؤمنـين أن يقولوا ذلك للنبـيّ صلى الله عليه وسلم. ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: { يا أيُّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنا } قولٌ كانت تقوله الـيهود استهزاءً، فزجر الله الـمؤمنـين أن يقولوا كقولهم.

حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: ثنا أبو أحمد الزبـيري، عن فضيـل بن مرزوق، عن عطية: لا تَقُولُوا رَاعِنا قال: كان أناس من الـيهود يقولون: أرعنا سمعك، حتـى قالها أناس من الـمسلـمين. فكره الله لهم ما قالت الـيهود، فقال: { يا أيُّها الّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقُولُوا رَاعِنا } كما قالت الـيهود والنصارى.

حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة فـي قوله: { لا تَقُولوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا } قال: كانوا يقولون راعنا سمعك، فكان الـيهود يأتون فـيقولون مثل ذلك مستهزئين، فقال الله: { لاَ تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا }.

وحدثت عن الـمنـجاب، قال: ثنا بشر بن عمارة، عن أبـي روق، عن الضحاك، عن ابن عبـاس فـي قوله: { لاَ تَقُولُوا رَاعِنا } قال: كانوا يقولون للنبـيّ صلى الله عليه وسلم: راعنا سمعك وإنـما راعنا كقولك عَاطِنَا.

وحدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله: { يا أيُّهَا الّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنا وَقُولُوا انْظُرْنَا } قال: راعنا القول الذي قاله القوم قَالُوا { { سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَٱسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَٰعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي ٱلدِّينِ } [النساء: 46] قال: قال هذا الراعن، والراعن: الـخطّاء. قال: فقال للـمؤمنـين: لا تقولوا خطاء كما قال القوم وقولوا انظرنا واسمعوا، قال: كانوا ينظرون إلـى النبـيّ صلى الله عليه وسلم ويكلـمونه ويسمع منهم، ويسألونه ويجيبهم.

وقال آخرون: بل هي كلـمة كانت الأنصار فـي الـجاهلـية تقولها، فنهاهم الله فـي الإسلام أن يقولوها لنبـيه صلى الله عليه وسلم. ذكر من قال ذلك:

حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنـي هشيـم، قال: أخبرنا عبد الرزاق، عن عطاء فـي قوله: { لاَ تَقُولُوا رَاعِنا } قال: كانت لغة فـي الأنصار فـي الـجاهلـية، فنزلت هذه الآية: { لا تَقُولُوا رَاعِنا } وَلكن { قُولُوا انْظُرْنَا } إلـى آخر الآية.

حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا هشيـم، عن عبد الـملك، عن عطاء قال: { لاَ تَقُولُوا رَاعِنا } قال: كانت لغة فـي الأنصار.

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن عبد الـملك، عن عطاء، مثله.

وحدثنـي الـمثنى، قال: ثنا إسحاق، عن ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع، عن أبـي العالـية فـي قوله: { لاَ تَقُولُوا رَاعِنا } قال: إن مشركي العرب كانوا إذا حدّث بعضهم بعضا يقول أحدهم لصاحبه: أَرْعنـي سمعك فنهوا عن ذلك.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، قال: قال ابن جريج، راعنا قول الساخر، فنهاهم أن يسخروا من قول مـحمد صلى الله عليه وسلم.

وقال بعضهم: بل كان ذلك كلام يهودي من الـيهود بعينه يقال له رفـاعة بن زيد، كان يكلـم النبـيّ صلى الله عليه وسلم به علـى وجه السبّ له، وكان الـمسلـمون أخذوا ذلك عنه، فنهى الله الـمؤمنـين عن قـيـله للنبـي صلى الله عليه وسلم. ذكر من قال ذلك:

حدثنـي موسى، قال ثنا عمرو، قال: ثنا أسبـاط، عن السدي: { يا أيُّها الّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقُولُوا رَاعِنا وَقُولُوا انْظُرْنَا } كان رجل من الـيهود من قبـيـلة من الـيهود يقال لهم بنو قـينقاع كان يُدْعَى رفـاعة بن زيد بن السائب.

قال أبو جعفر: هذا خطأ إنـما هو ابن التابوت لـيس ابن السائب كان يأتـي النبـيّ صلى الله عليه وسلم، فإذا لقـيه فكلـمه قال: أرعنـي سمعك واسمع غير مسمع. فكان الـمسلـمون يحسبون أن الأنبـياء كانت تفخّم بهذا، فكان ناس منهم يقولون: اسمع غير مسمع، كقولك اسمع غير صاغر، وهي التـي فـي النساء: { { مِّنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ ٱلْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَٱسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَٰعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي ٱلدِّينِ } [النساء: 46] يقول: إنـما يريد بقوله: { طَعْنا فِـي الدّينِ }. ثم تقدم إلـى الـمؤمنـين فقال: لا تقولوا راعنا.

والصواب من القول فـي نهي الله جل ثناؤه الـمؤمنـين أن يقولوا لنبـيه: راعنا، أن يقال إنها كلـمة كرهها الله لهم أن يقولوها لنبـيه صلى الله عليه وسلم، نظير الذي ذكر عن النبـيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: "َلاَ تَقُولُوا للعِنَبِ الكَرْمَ ولَكِنْ قُولُوا الـحَبلَة" .

، و "َلا تَقُولُوا عبْدِي وَلَكِنْ قُولُوا فَتَايَ" .

وما أشبه ذلك من الكلـمتـين اللتـين تكونان مستعملتـين بـمعنى واحد فـي كلام العرب، فتأتـي الكراهة أو النهي بـاستعمال إحداهما واختـيار الأخرى علـيها فـي الـمخاطبـات.

فإن قال لنا قائل: فإنا قد علـمنا معنى نهي النبـيّ صلى الله عليه وسلم فـي العنب أن يقال له كرم، وفـي العبد أن يقال له عبد، فما الـمعنى الذي فـي قوله: { راعِنا } حينئذٍ الذي من أجله كان النهي من الله جل ثناؤه للـمؤمنـين عن أن يقولوه، حتـى أمرهم أن يؤثروا قوله: { انْظُرْنا }؟ قـيـل: الذي فـيه من ذلك، نظير الذي فـي قول القائل الكرم للعنب، والعبد للـمـملوك، وذلك أن قول القائل عبد، لـجميع عبـاد الله، فكره النبـيّ صلى الله عليه وسلم أن يضاف بعض عبـاد الله، بـمعنى العبودية إلـى غير الله، وأمر أن يضاف ذلك إلـى غيره بغير الـمعنى الذي يضاف إلـى الله عزّ وجل، فـيقال: فتاي. وكذلك وجه نهيه فـي العنب أن يقال كرم خوفـا من توهم وصفه بـالكرم، وإن كانت مسكَّنة، فإن العرب قد تسكن بعض الـحركات إذا تتابعت علـى نوع واحد، فكره أن يتصف بذلك العنب. فكذلك نهى الله عزّ وجل الـمؤمنـين أن يقولوا «راعنا»، لـما كان قول القائل «راعنا» مـحتـملاً أن يكون بـمعنى احفظنا ونـحفظك وارقبنا ونرقبك، من قول العرب بعضهم لبعض: رعاك الله بـمعنى حفظك الله وكلأك. ومـحتـملاً أن يكون بـمعنى أرعنا سمعك، من قولهم: أرعيت سمعي إرعاءً، أو راعيته سمعي رعاء أو مراعاة، بـمعنى: فرّغته لسماع كلامه. كما قال الأعشى ميـمون بن قـيس:

يَرْعَى إلـى قَوْلِ ساداتِ الرّجالِ إذَاأبْدَوْا لَهُ الـحَزْمَ أوْ مَا شَاءهُ ابْتَدعَا

يعنـي بقوله يرعى: يصغي بسمعه إلـيه مُفْرِغَهُ لذلك.

وكأن الله جل ثناؤه قد أمر الـمؤمنـين بتوقـير نبـيه صلى الله عليه وسلم وتعظيـمه، حتـى نهاهم جلّ ذكره فـيـما نهاهم عنه عن رفع أصواتهم فوق صوته وأن يجهروا له بـالقوْل كجهر بعضهم لبعض وخوّفهم علـى ذلك حبوط أعمالهم، فتقدّم إلـيهم بـالزجر لهم عن أن يقولوا له من القول ما فـيه جفـاء، وأمرهم أن يتـخيروا لـخطابه من الألفـاظ أحسنها، ومن الـمعانـي أرقها، فكان من ذلك قولهم: { راعِنا } لِـمَا فِـيهِ من احتـمال معنى ارعنا نرعاك، إذْ كانت الـمفـاعلة لا تكون إلا من اثنـين، كما يقول القائل: عاطنا وحادثنا وجالسنا، بـمعنى افعل بنا ونفعل بك. ومعنى أرعنا سمعك حتـى نفهمك وتفهم عنا. فنهى الله تعالـى ذكره أصحاب مـحمد أن يقولوا ذلك كذلك وأن يفردوا مسألته بـانتظارهم وإمهالهم لـيعقلوا عنه بتبجيـل منهم له وتعظيـم، وأن لا يسألوه ما سألوه من ذلك علـى وجه الـجفـاء والتـجهم منهم له، ولا بـالفظاظة والغلظة، تشبهاً منهم بـالـيهود فـي خطابهم نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم بقولهم له: { { ٱسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَٰعِنَا } [النساء: 46]. يدلّ علـى صحة ما قلنا فـي ذلك قوله: { { مَّا يَوَدُّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ وَلاَ ٱلْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ } [البقرة: 105] فدلّ بذلك أن الذي عاتبهم علـيه مـما يسرّ الـيهود والـمشركين.

فأما التأويـل الذي حكي عن مـجاهد فـي قوله: { رَاعِنا } أنه بـمعنى خلافـاً، فمـما لا يعقل فـي كلام العرب لأن «راعيت» فـي كلام العرب إنـما هو علـى أحد وجهين: أحدهما بـمعنى فـاعلت من «الرِّعْية»، وهي الرِّقْبة والكلاءة. والآخر بـمعنى إفراغ السمع، بـمعنى أرعيته سمعي. وأما «راعيت» بـمعنى «خالفت»، فلا وجه له مفهوم فـي كلام العرب، إلا أن يكون قرأ ذلك بـالتنوين ثم وجهه إلـى معنى الرعونة والـجهل والـخطأ، علـى النـحو الذي قال فـي ذلك عبد الرحمن بن زيد، فـيكون لذلك وإن كان مخالفـاً قراءة القراء معنى مفهوم حينئذٍ.

وأما القول الآخر الذي حكي عن عطية ومن حَكَى ذلك عنه، أن قوله: { رَاعِنا } كانت كلـمة للـيهود بـمعنى السبّ والسخرية، فـاستعملها الـمؤمنون أخذاً منهم ذلك عنهم فإن ذلك غير جائز فـي صفة الـمؤمنـين أن يأخذوا من كلام أهل الشرك كلاما لا يعرفون معناه ثم يستعملونه بـينهم وفـي خطاب نبـيهم صلى الله عليه وسلم، ولكنه جائز أن يكون ذلك مـما روي عن قتادة أنها كانت كلـمة صحيحة مفهومة من كلام العرب وافقت كلـمة من كلام الـيهود بغير اللسان العربـي هي عند الـيهود سبّ، وهي عند العرب: أرْعنِـي سمعك وفرّغه لتفهم عنـي. فعلـم الله جل ثناؤه معنى الـيهود فـي قـيـلهم ذلك للنبـيّ صلى الله عليه وسلم، وأن معناها منهم خلاف معناها فـي كلام العرب، فنهى الله عزّ وجلّ الـمؤمنـين عن قـيـلها للنبـيّ صلى الله عليه وسلم لئلا يجترىء من كان معناه فـي ذلك غير معنى الـمؤمنـين فـيه أن يخاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم به. وهذا تأويـل لـم يأت الـخبر بأنه كذلك من الوجه الذي تقوم به الـحجة. وإذْ كان ذلك كذلك فـالذي هو أولـى بتأويـل الآية ما وصفنا، إذْ كان ذلك هو الظاهر الـمفهوم بـالآية دون غيره.

وقد حكي عن الـحسن البصري أنه كان يقرؤه: «لا تَقُولُوا رَاعِنا» بـالتنوين، بـمعنى: لا تقولوا قولاً راعنا، من الرعونة وهي الـحمق والـجهل. وهذه قراءة الـمسلـمين مخالفة، فغير جائز لأحد القراءة بها لشذوذها وخروجها من قراءة الـمتقدمين والـمتأخرين وخلافها ما جاءت به الـحجة من الـمسلـمين. ومن نوّن «راعنا» نوّنه بقوله: { لا تَقُولُوا } لأنه حينئذٍ عامل فـيه. ومن لـم ينوّنه فإنه ترك تنوينه لأنه أمر مـحكيٌّ لأن القوم كأنهم كانوا يقولون للنبـيّ صلى الله عليه وسلم: { راعِنا } بـمعنى مسألته إما أن يرعيهم سمعه، وإما أن يرعاهم ويرقبهم علـى ما قد بـينت فـيـما قد مضى فقـيـل لهم: لا تقولوا فـي مسألتكم إياه راعنا. فتكون الدلالة علـى معنى الأمر فـي «راعنا» حينئذٍ سقوط الـياء التـي كانت تكون فـي «يراعيه». ويدلّ علـيها أعنـي علـى الـياء الساقطة كسرة العين من «راعنا». وقد ذكر أن قراءة ابن مسعود: «لا تقولوا راعونا» بـمعنى حكاية أمر صالـحة لـجماعة بـمراعاتهم. فإن كان ذلك من قراءته صحيحا وُجِّه أن يكون القوم كأنهم نهوا عن استعمال ذلك بـينهم فـي خطاب بعضهم بعضا كان خطابهم للنبـيّ صلى الله عليه وسلم أو لغيره، ولا نعلـم ذلك صحيحاً من الوجه الذي تصحّ منه الأخبـار.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { وَقُولُوا انْظُرْنا }.

يعنـي بقوله جل ثناؤه: { وَقُولُوا انْظُرْنَا } وقولوا أيها الـمؤمنون لنبـيكم صلى الله عليه وسلم: انظرنا وارقبنا نفهم ونتبـين ما تقول لنا وتعلـمنا. كما:

حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: { وَقُولُوا انْظُرْنَا } فهِّمْنا بـيِّنْ لنا يا مـحمد.

حدثنـي الـمثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: { وَقُولُوا انْظُرْنَا } فَهِّمنا بـيِّن لنا يا مـحمد.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد، مثله.

يقال منه: نظرت الرجل أنظره نظرة بـمعنى انتظرته ورقبته. ومنه قول الـحطيئة:

وَقَدْ نَظَرْتُكُمْ أعْشاءَ صَادِرَةٍ للـخمْسِ طالَ بِها حَوْزي وتَنْسَاسي

ومنه قول الله عز وجل: { { يَوْمَ يَقُولُ ٱلْمُنَافِقُونَ وَٱلْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُواْ ٱنظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ } [الحديد: 13] يعنـي به انتظرونا. وقد قرىء «أنْظِرنا» بقطع الألف فـي الـموضعين جميعا، فمن قرأ ذلك كذلك أراد أَخِّرنا، كما قال الله جل ثناؤه: { { قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ } [الحجر: 36] أي أخّرنـي. ولا وجه لقراءة ذلك كذلك فـي هذا الـموضع لأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إنـما أُمروا بـالدنوّ من رسول الله صلى الله عليه وسلم والاستـماع منه وإلطاف الـخطاب له وخفض الـجناح، لا بـالتأخر عنه ولا بـمسألته تأخيرهم عنه. فـالصواب إن كان ذلك كذلك من القراءة قراءة من وصل الألف من قوله: { انْظُرْنا } ولـم يقطعها بـمعنى انتظرنا.

وقد قـيـل: إن معنى «أَنْظِرنا» بقطع الألف بـمعنى «أمهلنا»، حكي عن بعض العرب سماعا: أنظرنـي أكلـمك وذكر سامع ذلك من بعضهم أنه استثبته فـي معناه، فأخبره أنه أراد أمهلنـي. فإن يكن ذلك صحيحا عنهم ف«انْظُرْ» و«أنْظِرْنا» بقطع الألف ووصلها متقاربـا بالمعنى. غير أن الأمر وإن كان كذلك، فإن القراءة التـي أستـجيز غيرها قراءة من قرأ: { وَقُولُوا انْظُرْنا } بوصل الألف بـمعنى انتظرنا، لإجماع الـحجة علـى تصويبها ورفضهم غيرها من القراءات.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { وَاسمَعُوا وللْكافِرِينَ عَذَابٌ ألِـيـمٌ }.

يعنـي بقوله جل ثناؤه: { واسمَعُوا } واسمعوا ما يقال لكم ويتلـى علـيكم من كتاب ربكم وعوه وافهموه. كما:

حدثنـي موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسبـاط، عن السدي: { واسمَعُوا } اسمعوا ما يقال لكم.

فمعنى الآية إذا: يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا لنبـيكم راعنا سمعك وفرّغه لنا نفهمك وتفهم عنا ما نقول، ولكن قولوا انتظرنا وترقبنا حتـى نفهم عنك ما تعلـمنا وتبـينه لنا، واسمعوا منه ما يقول لكم فعوه واحفظوه وافهموه. ثم أخبرهم جل ثناؤه أن لـمن جحد منهم ومن غيرهم آياته وخالف أمره ونهيه وكذب رسوله العذاب الـموجع فـي الآخرة، فقال: وللكافرين بـي وبرسولـي عذاب ألـيـم، يعنـي بقوله الألـيـم: الـموجع. وقد ذكرنا الدلالة علـى ذلك فـيـما مضى قبل وما فـيه من الآثار.