خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ فَإِذَآ أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَٰتٍ فَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ عِندَ ٱلْمَشْعَرِ ٱلْحَرَامِ وَٱذْكُرُوهُ كَمَا هَدَٰكُمْ وَإِن كُنْتُمْ مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ ٱلضَّآلِّينَ
١٩٨
ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ ٱلنَّاسُ وَٱسْتَغْفِرُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
١٩٩
-البقرة

جامع البيان في تفسير القرآن

يعنـي بذلك جل ذكره: لـيس علـيكم أيها الـمؤمنون جناح. والـجناح: الـحرج كما:

حدثنـي الـمثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالـح، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ بن أبـي طلـحة، عن ابن عبـاس:{ لَـيْسَ عَلَـيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ } وهو لا حرج علـيكم فـي الشراء والبـيع قبل الإحرام وبعده.

وقوله:{ أنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ } يعنـي أن تلتـمسوا فضلاً من عند ربكم، يقال منه: ابتغيت فضلاً من الله ومن فضل الله أبتغيه ابتغاء: إذا طلبته والتـمسته، وبغيته أبغيه بغياً، كما قال عبد بنـي الـحسحاس:

بَغاكَ وَما تَبْغِيهِ حَّتـى وَجَدْتَهُكأنَّكَ قَدْ وَاعَدْتَهُ أمْسِ مَوْعِدَا

يعنـي طلبك والتـمسك. وقـيـل: إن معنى ابتغاء الفضل من الله: التـماس رزق الله بـالتـجارة، وأن هذه الآية نزلت فـي قوم كانوا لا يرون أن يتـجروا إذا أحرموا يـلتـمسون البرّ بذلك، فأعلـمهم جل ثناؤه أن لا برّ فـي ذلك وأن لهم التـماس فضله بـالبـيع والشراء. ذكر من قال ذلك:

حدثنـي نصر بن عبد الرحمن الأودي، قال: ثنا الـمـحاربـي، عن عمر بن ذر، عن مـجاهد، قال: كانوا يحجون ولا يتـجرون، فأنزل الله:{ لَـيْسَ عَلَـيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ } قال: فـي الـموسم.

حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: ثنا هشيـم، قال: أخبرنا عمر بن ذرّ، قال: سمعت مـجاهداً يحدّث، قال: كان ناس لا يتـجرون أيام الـحجّ، فنزلت فـيهم{ لَـيْسَ عَلَـيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ }.

حدثنـي مـحمد بن عمارة الأسدي، قال: ثنا عبـيد الله بن موسى، قال: أخبرنا أبو لـيـلـى، عن بريدة فـي قوله تبـارك وتعالـى: { لَـيْسَ عَلَـيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ } قال: إذا كنتـم مـحرمين أن تبـيعوا وتشتروا.

حدثنا طلـيق بن مـحمد الواسطي، قال: أخبرنا أسبـاط، قال: أخبرنا الـحسن بن عمرو، عن أبـي أمامة التـيـمي قال: قلت لابن عمر: إنا قوم نكري فهل لنا حجّ؟ قال: ألـيس تطوفون بـالبـيت وتأتون الـمعروف وترمون الـجمار وتـحلقون رءوسكم؟ فقلنا: بلـى. قال: جاء رجل إلـى النبـي: صلى الله عليه وسلم فسأله عن الذي سألتنـي عنه، فلـم يدر ما يقول له حتـى نزل جبريـل علـيه السلام علـيه بهذه الآية:{ لَـيْسَ عَلَـيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ } إلـى آخر الآية، فقال النبـيّ صلى الله عليه وسلم: "أنْتُـمْ حُجَّاجٌ" .

حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الوهاب، قال: أخبرنا أيوب، عن عكرمة، قال: كانت تقرأ هذه الآية: «لَـيْسَ عَلَـيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فـي مواسم الـحجّ».

حدثنا عبد الـحميد، قال: أخبرنا إسحاق، عن شريك، عن منصور بن الـمعتـمر فـي قوله: { لَـيْسَ عَلَـيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ } قال: هو التـجارة فـي البـيع والشراء، والاشتراء لا بأس به.

حدثت عن أبـي هشام الرفـاعي، قال: ثنا وكيع، عن طلـحة بن عمرو، عن عطاء، عن ابن عبـاس أنه كان يقرؤها: «لَـيْسَ عَلَـيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فـي مواسم الـحج».

حدثنا أبو كريب، قال: ثنا عثمان بن سعيد، عن علـيّ بن مسهر، عن ابن جريج، عن عمرو بن دينار، عن ابن عبـاس، قال: كان مَتْـجَر الناس فـي الـجاهلـية عكاظ وذو الـمـجاز، فلـما جاء الإسلام كأنهم كرهوا ذلك، حتـى أنزل الله جل ثناؤه:{ لَـيْسَ عَلَـيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ }.

حدثنا الـحسن بن عرفة، قال: ثنا شبـابة بن سوار، قال: ثنا شعبة، عن أبـي أميـمة، قال: سمعت ابن عمر، وسئل عن الرجل يحج ومعه تـجارة، فقرأ ابن عمر:{ لَـيْسَ عَلَـيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ }.

حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: ثنا هشيـم، وحدثنا أحمد بن إسحاق، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا هشيـم، قال: أخبرنا يزيد بن أبـي زياد، عن مـجاهد، عن ابن عبـاس، قال: كانوا لا يتـجرون فـي أيام الـحجّ، فنزلت:{ لَـيْسَ عَلَـيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ }.

حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: ثنا هشيـم، قال: أخبرنا حجاج، عن عطاء، عن ابن عبـاس، أنه قال:{ لَـيْسَ عَلَـيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ } فِـي مواسم الـحج.

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا طلـحة بن عمرو الـحضرمي، عن عطاء قوله:{ لَـيْسَ عَلَـيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ } فـي مواسم الـحج، هكذا قرأها ابن عبـاس.

حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: ثنا ابن علـية، قال: ثنا لـيث، عن مـجاهد فـي قوله:{ لَـيْسَ عَلَـيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ } قال: التـجارة فـي الدنـيا، والأجر فـي الآخرة.

حدثنا مـحمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فـي قول الله تعالـى:{ لَـيْسَ عَلَـيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ } قال: التـجارة أحلت لهم فـي الـمواسم، قال: فكانوا لا يبـيعون، أو يبتاعون فـي الـجاهلـية بعرفة.

حدثنا الـمثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، مثله.

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله:{ لَـيْسَ عَلَـيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ } كان هذا الـحيّ من العرب لا يعرّجون علـى كسير ولا ضالة لـيـلة النفر، وكانوا يسمونها لـيـلة الصَّدَر، ولا يطلبون فـيها تـجارة ولا بـيعاً، فأحلّ الله عز وجل ذلك كله للـمؤمنـين أن يعرجوا علـى حوائجهم ويبتغوا من فضل ربهم.

حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن عيـينة، عن عبـيد الله بن أبـي يزيد، قال: سمعت ابن الزبـير يقول:{ لَـيْسَ عَلَـيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ } فـي مواسم الـحج.

حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن عيـينة، عن عمرو بن دينار، قال: قال ابن عبـاس: كانت ذو الـمـجاز وعكاظ متـجراً للناس فـي الـجاهلـية، فلـما جاء الإسلام تركوا ذلك حتـى نزلت:{ لَـيْسَ عَلَـيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُم } فـي مواسم الـحجّ.

حدثنا أحمد بن حازم والـمثنى، قالا: ثنا أبو نعيـم، قال: ثنا سفـيان، عن مـحمد بن سوقة، قال: سمعت سعيد بن جبـير يقول: كان بعض الـحاج يسمون الداجَّ، فكانوا ينزلون فـي الشقّ الأيسر من منى، وكان الـحاج ينزلون عند مسجد منى، فكانوا لا يتـجرون، حتـى نزلت:{ لَـيْسَ عَلَـيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ } فحجُّوا.

حدثنـي أحمد بن حازم، قال: ثنا أبو نعيـم، قال: ثنا عمر بن ذر، عن مـجاهد، قال: كان ناس يحجون ولا يتـجرون، حتـى نزلت: { لَـيْسَ عَلَـيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ } فرخص لهم فـي الـمتـجر والركوب والزاد.

حدثنا موسى بن هارون، قال: ثنا عمرو بن حماد، قال: ثنا أسبـاط عن السديّ، قوله:{ لَـيْسَ عَلَـيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ }: هي التـجارة، قال: اتـجروا فـي الـموسم.

حدثنا مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس قوله:{ لَـيْسَ عَلَـيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ } قال: كان الناس إذا أحرموا لـم يتبـايعوا حتـى يقضوا حجهم، فأحله الله لهم.

حدثنا الـمثنى، قال: ثنا أبو نعيـم، قال: ثنا سفـيان، عن يزيد بن أبـي زياد، عن مـجاهد، عن ابن عبـاس، قال: كانوا يتقون البـيوع والتـجارة أيام الـموسم، يقولون أيام ذكر، فأنزل الله: { لَـيْسَ عَلَـيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ } فحجوا.

حدثنا أبو كريب، قال: ثنا وكيع، عن طلـحة بن عمرو، عن عطاء، عن ابن عبـاس أنه كان يقرؤها: «لَـيْسَ عَلَـيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فِـي مَوَاسِمِ الـحَج».

حدثنا الـمثنى، قال: ثنا الـحمانـي، قال: ثنا شريك، عن منصور، عن إبراهيـم، قال: لا بأس بـالتـجارة فـي الـحجّ، ثم قرأ:{ لَـيْسَ عَلَـيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ }.

حدثت عن عمار، قال: ثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع بن أنس قوله:{ لَـيْسَ عَلَـيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ } قال: كان هذا الـحيّ من العرب لا يعرّجون علـى كسير ولا علـى ضالة ولا ينتظرون لـحاجة، وكانوا يسمونها لـيـلة الصدَر، ولا يطلبون فـيها تـجارة فأحلّ الله ذلك كله أن يعرجوا علـى حاجتهم، وأن يطلبوا فضلاً من ربهم.

حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا مندل، عن عبد الرحمن بن الـمهاجر، عن أبـي صالـح مولـى، عمر، قال: قلت لعمر: يا أمير الـمؤمنـين، كنتـم تتـجرون فـي الـحجّ؟ قال: وهل كانت معايشهم إلا فـي الـحج.

حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن العلاء بن الـمسيب، عن رجل من بنـي تـيـم الله، قال: جاء رجل إلـى عبد الله بن عمر، فقال: يا أبـا عبد الرحمن: إنا قوم نُكري فـيزعمون أنه لـيس لنا حج؟ قال: ألستـم تـحرمون كما يحرمون، وتطوفون كما يطوفون، وترمون كما يرمون؟ قال: بلـى، قال: فأنت حاجّ جاء رجل إلـى النبـيّ صلى الله عليه وسلم فسأله عما سألت عنه، فنزلت هذه الآية:{ لَـيْسَ عَلَـيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ }.

حدثنا الـحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، قال: كانوا إذا أفـاضوا من عرفـات لـم يتـجروا بتـجارة، ولـم يعرِّجوا علـى كسير، ولا علـى ضالة فأحلّ الله ذلك، فقال:{ لَـيْسَ عَلَـيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ... } إلـى آخر الآية.

حدثنـي سعيد بن الربـيع الرازي، قال: ثنا سفـيان، عن عمرو بن دينار، عن ابن عبـاس، قال: كانت عكاظ ومـجنة وذو الـمـجاز أسواقاً فـي الـجاهلـية، فكانوا يتـجرون فـيها، فلـما كان الإسلام كأنهم تأثموا منها، فسألوا النبـيّ صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله:{ لَـيْسَ عَلَـيْكُمْ جَناحٌ أنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ } فـي مواسم الـحج.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { فإذَا أفَضْتُـمْ مِنْ عَرَفـاتٍ }.

يعنـي جل ثناؤه بقوله:{ فإذَا أفَضْتُـمْ } فإذا رجعتـم من حيث بدأتـم. ولذلك قـيـل للذي يضرب القداح بـين الأيسار مفـيض، لـجمعه القداح ثم إفـاضته إياها بـين المـياسرين، ومنه قول بشر بن أبـي حازم الأسدي:

فَقُلْتُ لَهَا رُدّي إلَـيْهِ جَنَانَهُفَرَدَّتْ كمَا رَدَّ الـمَنِـيحَ مُفِـيضُ

ثم اختلف أهل العربـية فـي عرفـات، والعلة التـي من أجلها صرفت وهي معرفة، وهل هي اسم لبقعة واحدة أم هي لـجماعة بقاع؟

فقال بعض نـحويـي البصريـين: هي اسم كان لـجماعة مثل مسلـمات ومؤمنات، سميت به بقعة واحدة فصرف لـمَّا سميت به البقعة الواحدة، إذ كان مصروفـاً قبل أن تسمى به البقعة تركاً منهم له علـى أصله لأن التاء فـيه صارت بـمنزلة الـياء والواو فـي مسلـمين ومسلـمون لأنه تذكيره، وصار التنوين بـمنزلة النون، فلـما سمي به ترك علـى حاله كما يترك «الـمسلـمون» إذا سمي به علـى حاله. قال: ومن العرب من لا يصرفه إذا سمّي به، ويشبه التاء بهاء التأنـيث وذلك قبـيح ضعيف. واستشهدوا بقول الشاعر:

تَنَوَّرْتُها مِنْ أذْرِعَاتٍ وأهْلُهابَـيْثربَ أدنى دَارِهَا نَظَرٌ عالـي

ومنهم من لا ينوّن أذرعات، وكذلك عانات، وهو مكان.

وقال بعض نـحويـي الكوفـيـين: إنـما انصرفت عرفـات لأنهن علـى جماع مؤنث بـالتاء. قال: وكذلك ما كان من جماع مؤنث بـالتاء، ثم سمَّيتْ به رجلاً أو مكاناً أو أرضاً أو امرأة انصرفت.

قال: ولا تكاد العرب تسمي شيئاً من الـجماع إلا جماعاً، ثم تـجعله بعد ذلك واحداً.

وقال آخرون منهم: لـيست عرفـات حكاية، ولا هي اسم منقول ولكن الـموضع مسمى هو وجوانبه بعرفـات، ثم سميت بها البقعة اسم للـموضع، ولا ينفرد واحدها. قال: وإنـما يجوز هذا فـي الأماكن والـمواضع، ولا يجوز ذلك فـي غيرها من الأشياء. قال: ولذلك نصبت العرب التاء فـي ذلك لأنه موضع، ولو كان مـحكيا لـم يكن ذلك فـيه جائزا، لأن من سمى رجلاً مسلـمات أو بـمسلـمين لـم ينقله فـي الإعراب عما كان علـيه فـي الأصل، فلذلك خالف عانات وأذرعات ما سمي به من الأسماء علـى جهة الـحكاية.

واختلف أهل العلـم فـي الـمعنى الذي من أجله قـيـل لعرفـات عرفـات فقال بعضهم: قـيـل لها ذلك من أجل أن إبراهيـم خـلـيـل الله صلوات الله علـيه لـما رآها عرفها بنعتها الذي كان لها عنده، فقال: قد عرفت، فسميت عرفـات بذلك. وهذا القول من قائله يدل علـى أن عرفـات اسم للبقعة، وإنـما سميت بذلك لنفسها وما حولها، كما يقال: ثوب أخلاق، وأرض سبـاسب، فتـجمع بـما حولها. ذكر من قال ذلك:

حدثنـي موسى بن هارون، قال: ثنا عمرو، عن أسبـاط، عن السدي، قال: لـما أذّن إبراهيـم فـي الناس بـالـحج، فأجابوه بـالتلبـية، وأتاه من أتاه أمره الله أن يخرج إلـى عرفـات ونعتها فخرج، فلـما بلغ الشجرة عند العقبة، استقبله الشيطان يردّه، فرماه بسبع حصيات، يكبر مع كل حصاة. فطار فوقع علـى الـجمرة الثانـية، فصدّه أيضاً، فرماه وكبر فطار فوقع علـى الـجمرة الثالثة، فرماه وكبر فلـما رأى أنه لا يطيقه، ولـم يدر إبراهيـم أين يذهب، فانطلق حتـى أتـى ذا الـمـجاز، فلـما نظر إلـيه فلـم يعرفه جاز، فلذلك سمي ذا الـمـجاز. ثم انطلق حتـى وقع بعرفـات فلـما نظر إلـيها عرف النعت، قال: قد عرفتُ، فسمي عرفـات. فوقـف إبراهيـم بعرفـات، حتـى إذا أمسى ازدلف إلـى جمع، فسميت الـمزدلفة، فوقـف بجمع.

حدثنـي الـمثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن سلـيـمان التـيـمي، عن نعيـم بن أبـي هند، قال: لـما وقـف جبريـل بإبراهيـم علـيهما السلام بعرفـات، قال: عرفت، فسميت عرفـات لذلك.

حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن جريج، قال: قال ابن الـمسيب: قال علـيّ بن أبـي طالب رضي الله عنه: بعث الله جبريـل إلـى إبراهيـم فحجّ به، فلـما أتـى عرفة قال: قد عرفت، وكان قد أتاها مرّة قبل ذلك، ولذلك سميت عرفة.

وقال آخرون: بل سميت بذلك بنفسها وببقاع أخر سواها. ذكر من قال ذلك:

حدثنا أبو كريب، قال: ثنا وكيع بن مسلـم القرشي، عن أبـي طِهفة، عن أبـي الطفـيـل، عن ابن عبـاس قال: إنـما سميت عرفـات، لأن جبريـل علـيه السلام، كان يقول لإبراهيـم: هذا موضع كذا، وهذا موضع كذا، فـيقول: قد عرفت، فلذلك سميت عرفـات.

حدثنـي الـمثنى، قال: ثنا سويد، قال: أخبرنا ابن الـمبـارك، عن عبد الـملك بن أبـي سلـيـمان، عن عطاء قال: إنـما سميت عرفة أن جبريـل كان يُرِي إبراهيـم علـيهما السلام الـمناسك، فـيقول: عرفتُ عرفت، فسمي عرفـات.

حدثنـي الـمثنى، قال: ثنا سويد، قال: أخبرنا ابن الـمبـارك، عن زكريا، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، قال: قال ابن عبـاس: أصل الـجبل الذي يـلـي عرَنة وما وراءه موقـف حتـى يأتـي الـجبل جبل عرفة. وقال ابن أبـي نـجيح: عرفـات: النَّبْعة والنُّبَـيْعَة وذات النابت، وذلك قول الله:{ فإذَا أفَضْتُـمْ مِنْ عَرَفـاتٍ } وهو الشعب الأوسط.

وقال زكريا: ما سال من الـجبل الذي يقـف علـيه الإمام إلـى عرفة، فهو من عرفة، وما دبَر ذلك الـجبل فلـيس من عرفة.

وهذا القول يدلّ علـى أنها سميت بذلك نظير ما يسمى الواحد بـاسم الـجماعة الـمختلفة الأشخاص.

وأولـى الأقوال بـالصواب فـي ذلك عندي أن يقال: هو اسم لواحد سمي بجماع، فإذا صرف ذهب به مذهب الـجماع الذي كان له أصلاً، وإذا ترك صرفه ذهب به إلـى أنه اسم لبقعة واحدة معروفة، فترك صرفه كما يترك صرف أسماء الأمصار والقرى الـمعارف.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى:{ فـاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الـمَشْعَرِ الـحَرَامِ }.

يعنـي بذلك جل ثناؤه:{ فإذَا أفَضْتُـمْ } فكررتـم راجعين من عرفة إلـى حيث بدأتـم الشخوص إلـيها منه فـاذْكُرُوا اللَّهَ يعنـي بذلك الصلاة، والدعاء{ عِنْدَ الـمَشْعَرِ الـحَرَامِ }. وقد بـينا قبل أن الـمشاعر هي الـمعالـم من قول القائل: شعرت بهذا الأمر: أي علـمت، فـالـمشعر هو الـمَعْلَـم، سمي بذلك لأن الصلاة عنده والـمقام والـمبـيت والدعاء من معالـم الـحجّ وفروضه التـي أمر الله بها عبـاده. وقد:

حدثنـي الـمثنى، قال: ثنا سويد، قال: أخبرنا ابن الـمبـارك، عن زكريا، عن ابن أبـي نـجيح، قال: يستـحبّ للـحاج أن يصلـي فـي منزله بـالـمزدلفة إن استطاع، وذلك أن الله قال:{ فـاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الـمَشْعَرِ الـحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كما هَدَاكُمْ }.

فأما الـمشعر فإنه هو ما بـين جبلـي الـمزدلفة من مَأزِمي عرفة إلـى مـحسر، ولـيس مأزما عرفة من الـمشعر.

وبـالذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

حدثنا هناد بن السريّ قال: ثنا ابن أبـي زائدة، قال: أخبرنا إسرائيـل، عن مغيرة، عن إبراهيـم، قال: رأى ابن عمر الناس يزدحمون علـى الـجبـيـل بجمع فقال: أيها الناس إن جمعا كلها مشعر.

حدثنـي يعقوب، قال: ثنا هشيـم، قال: أخبرنا حجاج، عن نافع، عن ابن عمر أنه سئل عن قوله: { فـاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الـمَشْعَرِ الـحَرَامِ } قال: هو الـجبل وما حوله.

حدثنا هناد، قال: ثنا ابن أبـي زائدة، قال: أخبرنا إسرائيـل، عن حكيـم بن جبـير، عن ابن عبـاس قال: ما بـين الـجبلـين اللذين بجمع مشعر.

حدثنا هناد، قال: ثنا ابن أبـي زائدة، قال: أخبرنا الثوري، عن السدي، عن سعيد بن جبـير، مثله.

حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، وحدثنـي أحمد بن حازم قال: ثنا أبو نعيـم، قال: ثنا سفـيان، عن السدي، عن سعيد بن جبـير، قال: سألته عن الـمشعر الـحرام فقال: ما بـين جبلـي الـمزدلفة.

حدثنا الـحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الزهري، عن سالـم، عن ابن عمر، قال: الـمشعر الـحرام: الـمزدلفة كلها. قال معمر: وقاله قتادة.

حدثنا هناد، قال: ثنا وكيع، قال: أنبأنا الثوري، عن السدي، عن سعيد بن جبـير:{ فـاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الـمَشْعَرِ الـحَرَامِ } قال: ما بـين جبلـي الـمزدلفة هو الـمشعر الـحرام.

حدثنا هناد، قال: ثنا ابن أبـي زائدة، قال: أخبرنا أبـي، عن أبـي إسحاق، عن عمرو بن ميـمون، قال: سألت عبد الله بن عمر عن الـمشعر الـحرام، فقال: إذا انطلقت معي أعلـمتكه. قال: فـانطلقت معه، فوقـفنا حتـى إذا أفـاض الإمام سار وسرنا معه، حتـى إذا هبطت أيدي الركاب، وكنا فـي أقصى الـجبـال مـما يـلـي عرفـات قال: أين السائل عن الـمشعر الـحرام؟ أخذت فـيه، قلت: ما أخذت فـيه؟ قال: كلها مشاعر إلـى أقصى الـحرم.

حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا إسرائيـل، وحدثنا أحمد بن إسحاق، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا إسرائيـل، عن أبـي إسحاق، عن عمرو بن ميـمون الأوديّ، قال: سألت عبد الله بن عمر، عن الـمشعر الـحرام. قال: إن تلزمنـي أركه. قال: فلـما أفـاض الناس من عرفة وهبطت أيدي الركاب فـي أدنى الـجبـال، قال: أين السائل عن الـمشعر الـحرام؟ قال: قلت: ها أنا ذاك، قال: أخذتَ فـيه، قلت: ما أخذت فـيه؟ قال: حين هبطت أيدي الركاب فـي أدنى الـجبـال فهو مشعر إلـى مكة.

حدثنا هناد، قال: ثنا وكيع، عن عمارة بن زاذان، عن مكحول الأزدي، قال: سألت ابن عمر يوم عرفة عن الـمشعر الـحرام؟ فقال: الْزَمْنـي فلـما كان من الغد وأتـينا الـمزدلفة، قال: أين السائل عن الـمشعر الـحرام؟ هذا الـمشعر الـحرام.

حدثنا هناد، قال: ثنا ابن أبـي زائدة، قال: أخبرنا داود، عن ابن جريج، قال: قال مـجاهد: الـمشعر الـحرام: الـمزدلفة كلها.

حدثنا هناد، قال: ثنا ابن أبـي زائدة، قال: أخبرنا داود، عن ابن جريج، قال: قلت لعطاء: أين الـمزدلفة؟ قال: إذا أفضت من مأزِمي عرفة، فذلك إلـى مـحسِّر. قال: ولـيس الـمأزمان مأزما عرفة من الـمزدلفة، ولكنّ مفـاضاهما. قال: قـف بـينهما إن شئت، وأحبّ إلـيّ أن تقـف دون قُزَح، هلـمّ إلـينا من أجل طريق الناس.

حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن مغيرة، عن إبراهيـم، قال: رآهم ابن عمر يزدحمون علـى قزح، فقال علام يزدحم هؤلاء كل ما ههنا مشعر.

حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، قال: الـمشعر الـحرام الـمزدلفة كلها.

حدثنـي الـمثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، مثله.

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله:{ فإذَا أفَضْتُـمْ مِنْ عَرَفـاتٍ فـاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الـمَشْعَرِ الـحَرَامِ }وذلك لـيـلة جمع. قال قتادة: كان ابن عبـاس يقول: ما بـين الـجبلـين مشعر.

حدثنا موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسبـاط، عن السدي، قال: الـمشعر الـحرام هو ما بـين جبـال الـمزدلفة، ويقال: هو قرن قزح.

حدثت عن عمار، قال: ثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع:{ فـاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الـمَشْعَرِ الـحَرَامِ } وهي الـمزدلفة، وهي جمع.

وذكر عن عبد الرحمن بن الأسود ما:

حدثنا به هناد، قال: ثنا وكيع، عن إسرائيـل، عن جابر، عن عبد الرحمن بن الأسود، قال: لـم أجد أحداً يخبرنـي عن الـمشعر الـحرام.

حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا سفـيان، عن السدي، قال: سمعت سعيد بن جبـير يقول: الـمشعر الـحرام: ما بـين جبلـي مزدلفة.

حدثنا أحمد، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا قـيس، عن حكيـم بن جبـير، عن سعيد بن جبـير، قال: سألت ابن عمر عن الـمشعر الـحرام؟ فقال: ما أدري، وسألت ابن عبـاس، فقال: ما بـين الـجبلـين.

حدثنا أحمد، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا إسرائيـل: عن أبـي إسحاق، عن الضحاك، عن ابن عبـاس قال: الـجبـيـل وما حوله مشاعر.

حدثنا أحمد، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا إسرائيـل، عن ثوير، قال: وقـفت مع مـجاهد علـى الـجبـيـل، فقال: هذا الـمشعر الـحرام.

حدثنا أبو كريب، قال: ثنا حسن بن عطية، قال: ثنا إسرائيـل، عن أبـي إسحاق، عن الضحاك، عن ابن عبـاس، الـجبـيـل وما حوله مشاعر.

وإنـما جعلنا أول حدّ الـمشعر مـما يـلـي منى منقطع وادي مـحسر مـما يـلـي الـمزدلفة، لأن

الـمثنى، حدثنـي قال: ثنا سويد، قال: أخبرنا ابن الـمبـارك، عن سفـيان، عن زيد بن أسلـم، عن النبـيّ صلى الله عليه وسلم قال: "عَرَفَةُ كُلُّها مَوْقِـفٌ إلا عُرَنَةَ، وَجمْعٌ كُلُّها مَوْقِـفٌ إلا مُـحَسِّراً" .

حدثنـي يعقوب، قال: ثنـي هشيـم، عن حجاج، عن ابن أبـي ملـيكة، عن عبد الله بن الزبـير، أنه قال: كل مزدلفة موقـف إلا وادي مـحسر.

حدثنـي يعقوب، قال: ثنا هشيـم، عن حجاج، قال: أخبرنـي من سمع عروة بن الزبـير يقول مثل ذلك.

حدثنـي الـمثنى، قال: ثنا سويد بن نصر، قال: أخبرنا ابن الـمبـارك، عن سفـيان، عن هشام بن عروة، قال: قال عبد الله بن الزبـير فـي خطبته: تَعَلَّـمُنَّ أن عرفة كلها موقـف إلا بطن عرنة، تعلَّـمُنّ أن مزدلفة كلها موقـف إلا بطن مـحسر.

غير أن ذلك وإن كان كذلك فإنـي أختار للـحاج أن يجعل وقوفه لذكر الله من الـمشعر الـحرام علـى قزح وما حوله، لأن:

أبـا كريب حدثنا، قال: ثنا عبـيد الله بن موسى، عن إبراهيـم بن إسماعيـل بن مـجمع، عن عبد الرحمن بن الـحرث الـمخزومي، عن زيد بن علـيّ، عن عبـيد الله بن أبـي رافع، عن علـيّ قال: لـما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم بـالـمزدلفة، غدا فوقـف علـى قزح، وأردف الفضل، ثم قال: "هذا الـمَوْقِـفُ، وكل مُزْدِلفة مَوْقِـفٌ" .

حدثنا أبو كريب، قال: ثنا يونس بن بكير، قال: أخبرنا إبراهيـم بن إسماعيـل بن مـجمع، عن عبد الرحمن بن الـحرث، عن زيد بن علـيّ بن الـحسين، عن عبـيد الله بن أبـي رافع عن أبـي رافع، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنـحوه.

حدثنا هناد وأحمد الدولابـي، قالا: ثنا سفـيان، عن ابن الـمنكدر، عن سعيد بن عبد الرحمن بن يربوع عن ابن الـحويرث، قال: رأيت أبـا بكر واقـفـاً عل قزح وهو يقول: أيها الناس أصبحوا أيها الناس أصبحوا ثم دفع.

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا هارون، عن عبد الله بن عثمان، عن يوسف بن ماهك، قال: حججت مع ابن عمر، فلـما أصبح بجمع صلـى الصبح، ثم غدا وغدونا معه حتـى وقـف مع الإمام علـى قزح، ثم دفع الإمام فدفع بدفعته.

وأما قول عبد الله بن عمر حين صار بـالـمزدلفة: «هذا كله مشاعر إلـى مكة»، فإن معناه أنها معالـم من معالـم الـحج ينسك فـي كل بقعة منها بعض مناسك الـحجّ، لا أن كل ذلك الـمشعر الـحرام الذي يكون الواقـف حيث وقـف منه إلـى بطن مكة قاضياً ما علـيه من الوقوف بـالـمشعر الـحرام من جمع.

وأما قول عبد الرحمن بن الأسود: «لـم أجد أحداً يخبرنـي عن الـمشعر الـحرام» فلأنه يحتـمل أن يكون أراد: لـم أجد أحداً يخبرنـي عن حدّ أوله ومنتهى آخره علـى حقه وصدقه لأن حدود ذلك علـى صحتها حتـى لا يكون فـيها زيادة ولا نقصان لا يحيط بها إلا القلـيـل من أهل الـمعرفة بها، غير أن ذلك وإن لـم يقـف علـى حدّ أوله ومنتهى آخره وقوفـاً لا زيادة فـيه ولا نقصان إلا من ذكرت، فموضع الـحاجة للوقوف لاخفـاء به علـى أحد من سكان تلك الناحية وكثـير من غيرهم، وكذلك سائر مشاعر الـحجّ والأماكن التـي فرض الله عز وجل علـى عبـاده أن ينسكوا عندها كعرفـات ومنى والـحرم.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { وَاذْكُرُوهُ كمَا هَدَاكُمْ وَإنْ كُنْتُـمْ مِنْ قَبْلِهِ لَـمِنْ الضالِّـينَ }.

يعنـي بذلك جل ثناؤه: واذكروا الله أيها الـمؤمنون عند الـمشعر الـحرام بـالثناء علـيه، والشكر له علـى أياديه عندكم، ولـيكن ذكركم إياه بـالـخضوع لأمره، والطاعة له والشكر علـى ما أنعم علـيكم من التوفـيق، لـما وفقكم له من سنن إبراهيـم خـلـيـله بعد الذي كنتـم فـيه من الشرك والـحيرة والعمى عن طريق الـحقّ وبعد الضلالة كذكره إياكم بـالهدى، حتـى استنقذكم من النار به بعد أن كنتـم علـى شفـا حفرة منها، فنـجاكم منها. وذلك هو معنى قوله:{ كمَا هَدَاكُمْ }.

وأما قوله:{ وَإنْ كُنْتُـمْ مِنْ قَبْلِهِ لَـمِنَ الضَّالِّـينَ } فإن من أهل العربـية من يوجه تأويـل «إن» إلـى تأويـل «ما»، وتأويـل اللام التـي فـي «لَـمِنَ» إلـى «إلا».

فتأويـل الكلام علـى هذا الـمعنى: وما كنتـم من قبل هداية الله إياكم لـما هداكم له من ملة خـلـيـله إبراهيـم التـي اصطفـاها لـمن رضي عنه من خـلقه إلا من الضالـين. ومنهم من يوجه تأويـل «إن» إلـى «قد»، فمعناه علـى قول قائل هذه الـمقالة: واذكروا الله أيها الـمؤمنون كما ذكركم بـالهدى، فهداكم لـما رضيه من الأديان والـملل، وقد كنتـم من قبل ذلك من الضالـين. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ ٱلنَّاسُ } اختلف أهل التأويـل فـي تأويـل ذلك، ومَن الـمعنـيّ بـالأمر بـالإفـاضة من حيث أفـاض الناس، ومَنِ الناسُ الذين أمروا بـالإفـاضة من موضع إفـاضتهم. فقال بعضهم: الـمعنـيّ بقوله:{ ثمَّ أفِـيضُوا } قريش، ومن ولدته قريش الذين كانوا يسمون فـي الـجاهلـية الـحمس، أمروا فـي الإسلام أن يفـيضوا من عرفـات، وهي التـي أفـاض منها سائر الناس غير الـحمس. وذلك أن قريشاً ومن ولدته قريش، كانوا يقولون: لا نـخرج من الـحرم. فكانوا لا يشهدون موقـف الناس بعرفة معهم، فأمرهم الله بـالوقوف معهم. ذكر من قال ذلك:

حدثنا مـحمد بن عبد الأعلـى، قال: ثنا مـحمد بن عبد الرحمن الطفـاوي، قال: ثنا هشام بن عروة، عن أبـيه. عن عائشة قالت: كانت قريش ومن كان علـى دينها وهم الـحمس، يقـفون بـالـمزدلفة يقولون: نـحن قَطِين الله، وكان من سواهم يقـفون بعرفة. فأنزل الله: { ثمَّ أفِـيضُوا مِنْ حَيْثُ أفـاضَ النَّاسُ }.

حدثنا عبد الوارث بن عبد الصمد بن عبد الوارث، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنا أبـان، قال: ثنا هشام بن عروة، عن عروة: أنه كتب إلـى عبد الـملك بن مروان كتبتَ إلـيّ فـي قول النبـيّ صلى الله عليه وسلم لرجل من الأنصار «إنّـي أحْمَس» وإنـي لا أدري أقالها النبـيّ أم لا؟ غيرأنـي سمعتها تُـحدّث عنه. والـحمس: ملة قريش، وهم مشركون، ومَن ولدت قريش فـي خزاعة وبنـي كنانة. كانوا لا يدفعون من عرفة، إنـما كانوا يدفعون من الـمزدلفة وهو الـمشعر الـحرام، وكانت بنو عامر حمساً، وذلك أن قريشاً ولدتهم، ولهم قـيـل:{ ثمَّ أفِـيضُوا مِنْ حَيْثُ أفـاضَ النَّاسُ } وأن العرب كلها كانت تفـيض من عرفة إِلا الـحمس، كانوا يدفعون إذا أصبحوا من الـمزدلفة.

حدثنـي أحمد بن مـحمد الطوسي، قال: ثنا أبو توبة، قال: ثنا أبو إسحاق الفزاري، عن سفـيان، عن حسين بن عبـيد الله، عن عكرمة، عن ابن عبـاس، قال: كانت العرب تقـف بعرفة، وكانت قريش تقـف دون ذلك بـالـمزدلفة، فأنزل الله:{ ثمَّ أفِـيضُوا مِنْ حَيْثُ أفـاضَ النَّاسُ } فرفع النبـي صلى الله عليه وسلم الـموقـف إلـى موقـف العرب بعرفة.

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عبد الـملك، عن عطاء:{ ثمَّ أفِـيضُوا مِنْ حَيْثُ أفـاضَ النَّاسُ } من حيث تُفـيض جماعة الناس.

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا الـحكم، قال: ثنا عمرو بن قـيس، عن عبد الله بن أبـي طلـحة، عن مـجاهد قال: إذا كان يوم عرفة هبط الله إلـى السماء الدنـيا فـي الـملائكة، فـيقول: هلّـم إلـيَّ عبـادي، آمنوا بوعدي وصَدَّقوا رسلـي فـيقول: ما جزاؤهم؟ فـيقال: أن تغفر لهم. فذلك قوله:{ ثمَّ أفِـيضُوا مِنْ حَيْثُ أفـاضَ النَّاسُ واسْتَغْفِرُوا الله إنَّ الله غَفُورٌ رحيـمٌ }.

حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبـي نـجيح وحدثنـي الـمثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبـي نـجيح عن مـجاهد:{ ثمَّ أفِـيضُوا مِنْ حَيْثُ أفـاضَ النَّاسُ } قال: عرفة. قال: كانت قريش تقول: نـحن الـحمس أهل الـحرم ولا نـخـلِّفُ الـحرم ونفـيض من الـمزدلفة. فأُمروا أن يبلغوا عرفة.

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله:{ ثمَّ أفِـيضُوا مِنْ حَيْثُ أفـاضَ النَّاسُ }، قال قتادة: وكانت قريش وكل حلـيف لهم وبنـي أخت لهم لا يفـيضون من عرفـات، إنـما يفـيضون من الـمغَمَّس ويقولون: إنـما نـحن أهل الله، فلا نـخرج من حرمه. فأمرهم الله أن يفـيضوا من حيث أفـاض الناس من عرفـات، وأخبرهم أن سُنّة إبراهيـم وإسماعيـل هكذا: الإفـاضة من عرفـات.

حدثنـي موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسبـاط، عن السدي:{ ثمَّ أفِـيضُوا مِنْ حَيْثُ أفـاضَ النَّاسُ } قال: كانت العرب تقـف بعرفـات، فتُعظم قريشٌ أن تقـف معهم، فتقـف قريشٌ بـالـمزدلفة فأمرهم الله أن يفـيضوا مع الناس من عرفـات.

حدثت عن عمار، قال: ثنا ابن أبـي جعفر، عن أبـيه، عن الربـيع قوله:{ ثمَّ أفِـيضُوا مِنْ حَيْثُ أفـاضَ النَّاسُ }، قال: كانت قريش وكل ابن أخت وحلـيف لهم لا يفـيضون مع الناس من عرفـات، يقـفون فـي الـحرم ولا يخرجون منه، يقولون: إنـما نـحن أهل حرم الله فلا نـخرج من حرمه. فأمرهم الله أن يفـيضوا من حيث أفـاض الناس وكانت سُنَّة إبراهيـم وإسماعيـل الإفـاضة من عرفـات.

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، عن عبد الله بن أبـي نـجيح، قال: كانت قريش لا أدري قبل الفـيـل أو بعده ابتدعت أمْرَ الـحمس، رأيا رأوه بـينهم قالوا: نـحن بنو إبراهيـم وأهل الـحرمة وولاة البـيت وقاطنو مكة وساكنوها، فلـيس لأحد من العرب مثل حقنا ولا مثل منزلنا، ولا تعرف له العرب مثل ما تعرف لنا، فلا تعظِّموا شيئاً من الـحِلّ كما تعظمون الـحرم، فإنكم إن فعلتـم ذلك استـخفّت العرب بحرمكم، وقالوا: قد عظموا من الـحل مثل ما عظموا من الـحرم. فتركوا الوقوف علـى عرفة، والإفـاضة منها، وهم يعرفون ويقرّون أنها من الـمشاعر والـحجّ ودين إبراهيـم، ويرون لسائر الناس أن يقـفوا علـيها، وأن يفـيضوا منها. إلا أنهم قالوا: نـحن أهل الـحرم، فلـيس ينبغي لنا أن نـخرج من الـحرمة، ولا نعظم غيرها كما نعظمها نـحن الـحمس والـحمس: أهل الـحرم ثم جعلوا لـمن ولدوا من العرب من ساكنـي الـحلّ مثل الذي لهم بولادتهم إياهم، فـيحلّ لهم ما يحلّ لهم، ويحرم علـيهم ما يحرم علـيهم. وكانت كنانة وخزاعة قد دخـلوا معهم فـي ذلك، ثم ابتدعوا فـي ذلك أمورا لـم تكن، حتـى قالوا: لا ينبغي للـحمس أن يأقطوا الأقط، ولا يسلئوا السمن وهم حُرُم، ولا يدخـلوا بـيتاً من شعر، ولا يستظلوا إن استظلوا إلا فـي بـيوت الأدم ما كانوا حراماً، ثم رفعوا فـي ذلك فقالوا لا ينبغي لأهل الـحلّ أن يأكلوا من طعام جاءوا به معهم من الـحلّ فـي الـحرم إذا جاءوا حجاجاً أو عماراً، ولا يطوفوا بـالبـيت إذا قدموا أوّل طوافهم إلا فـي ثـياب الـحمس، فإن لـم يجدوا منها شيئاً طافوا بـالبـيت عراة. فحملوا علـى ذلك العرب فدانت به، وأخذوا بـما شرعوا لهم من ذلك، فكانوا علـى ذلك حتـى بعث الله مـحمداً صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله حين أحكم له دينه وشرع له حجته:{ ثُمَّ أفـيضُوا مِنْ حَيْثُ أفـاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفرُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحيـمٌ } يعنـي قريشاً والناس العرب. فرفعهم فـي سنة الـحجّ إلـى عرفـات، والوقوف علـيها، والإفـاضة منها فوضع الله أمر الـحمس، وما كانت قريش ابتدعت منه عن الناس بـالإسلام حين بعث الله رسوله.

حدثنا بحر بن نصر، قال: ثنا ابن وهب، قال: أخبرنـي ابن أبـي الزناد، عن هشام بن عروة، عن أبـيه، عن عائشة، قالت: كانت قريش تقـف بقزح، وكان الناس يقـفون بعرفة. قال: فأنزل الله:{ ثمَّ أفِـيضُوا مِنْ حَيْثُ أفـاضَ النَّاسُ }.

وقال آخرون: الـمخاطبون بقوله:{ ثُمَّ أفِـيضُوا } الـمسلـمون كلهم، والـمعنـيّ بقوله: { مِنْ حَيْثُ أفـاضَ النَّاسُ } من جمع، وبـالناس إبراهيـم خـلـيـل الرحمن علـيه السلام. ذكر من قال ذلك:

حدثت عن القاسم بن سلام، قال: ثنا هارون بن معاوية الفزاري، عن أبـي بسطام عن الضحاك، قال: هو إبراهيـم.

والذي نراه صوابـاً من تأويـل هذه الآية، أنه عنى بهذه الآية قريش ومن كان متـحمساً معها من سائر العرب لإجماع الـحجة من أهل التأويـل علـى أن ذلك تأويـله.

وإذ كان ذلك كذلك فتأويـل الآية: فمن فرض فـيهن الـحجّ، فلا رفث ولا فسوق ولا جدال فـي الـحج، ثم أفـيضوا من حيث أفـاض الناس، واستغفروا الله إن الله غفور رحيـم، وما تفعلوا من خير يعلـمه الله. وهذا إذ كان ما وصفنا تأويـله فهو من الـمقدّم الذي معناه التأخير، والـمؤخر الذي معناه التقديـم، علـى نـحو ما تقدم بـياننا فـي مثله، ولولا إجماع من وصفت إجماعه علـى أن ذلك تأويـله. لقلت: أولـى التأويـلـين بتأويـل الآية ما قاله الضحاك من أن الله عنى بقوله:{ مِنْ حَيْثُ أفـاضَ النَّاسُ } من حيث أفـاض إبراهيـم لأن الإفـاضة من عرفـات لا شك أنها قبل الإفـاضة من جمع، وقبل وجوب الذكر عند الـمشعر الـحرام. وإذ كان ذلك لا شك كذلك وكان الله عز وجل إنـما أمر بـالإفـاضة من الـموضع الذي أفـاض منه الناس بعد انقضاء ذكر الإفـاضة من عرفـات وبعد أمره بذكره عند الـمشعر الـحرام، ثم قال بعد ذلك:{ ثمَّ أفِـيضُوا مِنْ حَيْثُ أفـاضَ النَّاسُ } كان معلوماً بذلك أنه لـم يأمر بـالإفـاضة إلا من الـموضع الذي لـم يفـيضوا منه دون الـموضع الذي قد أفـاضوا منه، وكان الـموضع الذي قد أفـاضوا منه فـانقضى وقت الإفـاضة منه، لا وجه لأن يقال: أفض منه. فإذا كان لا وجه لذلك وكان غير جائز أن يأمر الله جل وعز بأمر لا معنى له، كانت بـيّنة صحة ما قاله من التأويـل فـي ذلك، وفساد ما خالفه لولا الإجماع الذي وصفناه وتظاهر الأخبـار بـالذي ذكرنا عمن حكينا قوله من أهل التأويـل.

فإن قال لنا قائل: وكيف يجوز أن يكون ذلك معناه: والناس جماعة، وإبراهيـم صلى الله عليه وسلم واحد، والله تعالـى ذكره يقول: { ثمَّ أفِـيضُوا مِنْ حَيْثُ أفـاضَ النَّاسُ }؟ قـيـل: إن العرب تفعل ذلك كثـيراً، فتدلّ بذكر الـجماعة علـى الواحد. ومن ذلك قول الله عزّ وجل: { ٱلَّذِينَ قَالَ لَهُمُ ٱلنَّاسُ إِنَّ ٱلنَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ } [آل عمران: 173] والذي قال ذلك واحد، وهو فـيـما تظاهرت به الرواية من أهل السير نعيـم بن مسعود الأشجعي، ومنه قول الله عز وجل: { يٰأَيُّهَا ٱلرُّسُلُ كُلُواْ مِنَ ٱلطَّيِّبَاتِ وَٱعْمَلُواْ صَالِحاً } [المؤمنون: 51] قـيـل: عنى بذلك النبـيّ صلى الله عليه وسلم. ونظائر ذلك فـي كلام العرب أكثر من أن تـحصى.

القول فـي تأويـل قوله تعالـى:{ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إنّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيـمٌ }.

يعنـي بذلك جل ثناؤه:{ فإذَا أفضْتُـمْ مِنْ عَرَفـاتٍ } منصرفـين إلـى منى { فـاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الـمَشْعَر الـحَرَامِ } وادعوه واعبدوه عنده، كما ذكركم بهدايته، فوفقكم لـما ارتضى لـخـلـيـله إبراهيـم، فهداه له من شريعة دينه بعد أن كنتـم ضلالاً عنه.

وفـي «ثُمَّ» فـي قوله: { ثمَّ أفِـيضُوا مِنْ حَيْثُ أفـاضَ النَّاسُ } من التأويـل وجهان: أحدهما ما قاله الضحاك من أن معناه: ثم أفـيضوا فـانصرفوا راجعين إلـى منى من حيث أفـاض إبراهيـم خـلـيـلـي من الـمشعر الـحرام، وسلونـي الـمغفرة لذنوبكم، فإنـي لها غفور، وبكم رحيـم. كما:

حدثنـي إسماعيـل بن سيف العجلـي، قال: ثنا عبد القاهر بن السريّ السلـمي، قال: ثنا ابن كنانة، ويكنى أبـا كنانة، عن أبـيه، عن العبـاس بن مرداس السلـمي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "دَعَوْتُ اللَّهَ يَوْمَ عَرَفَةَ أنْ يَغْفِرَ لأمَّتِـي ذُنُوبَها، فأجابَنِـي أنْ قَدْ غَفَرْتُ، إلاَّ ذُنُوبَها بَـيْنَها وَبْـينَ خَـلْقِـي، فأعَدْت الدُّعاءَ يَوْمَئِذٍ، فَلَـمْ أُجَبْ بِشَيْءٍ، فَلَـمَّا كانَ غَدَاةَ الـمُزْدَلفة قلْتُ: يا رَبّ إنَّكَ قادرٌ أنْ تُعَوِّضَ هَذَا الـمَظْلُومَ منْ ظُلامَتِهِ، وتَغْفِرَ لِهَذَا الظَّالِـمِ، فأجَابِنـي أنْ قَدْ غَفَرْتُ" قال: فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فقلنا: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيناك تضحك فـي يوم لـم تكن تضحك فـيه؟ قال: "ضحكت مِنْ عَدُوّ اللَّهِ إبْلِـيسَ لَـمَّا سَمِعَ بِـمَا سَمِعَ إذَا هُوَ يَدْعُو بـالْوَيْـلِ وَالثُبُوِر، وَيَضَعُ التُّرَابَ علـى رأسِهِ" .

حدثني مسلـم بن حاتـم الأنصاري، قال: ثنا بشار بن بكير الـحنفـي، قالا: ثنا عبد العزيز بن أبـي روّاد عن نافع، عن ابن عمر، قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عشية عرفة، فقال: "أيُّها النَّاسُ إنَّ اللَّهَ تَطَوَّل عَلَـيْكُمْ فِـي مَقامِكُمْ هَذَا، فَقَبِلَ مِنْ مُـحْسِنِكُمْ، وأعْطَى مُـحْسِنَكُمْ ما سألَ، وَوَهَبَ مُسِيئَكُمْ لِـمُـحْسِنِكُمْ إلاَّ التَّبِعاتِ فِـيـما بَـيْنَكُمْ أفِـيضُوا علـى اسْمِ الله" فلـما كان غداة جمع قال: "أيُّها النَّاسِ إنَّ اللّهَ قَدْ تَطَوَّلَ عَلَـيْكُمْ فـي مَقامِكُمْ هَذَا، فَقَبِلَ مِنْ مُـحْسِنِكُمْ، وَوَهَبَ مُسِيئَكُمُ لِـمُـحْسِنِكُمْ، والتَّبِعاتِ بَـيْنَكُمْ عَوَّضَها مِنْ عِنْدِهِ أفِـيضُوا علـى اسْمِ اللّهِ" فقال أصحابه: يا رسول الله أفضت بنا بـالأمس كئيبـاً حزيناً، وأفضت بنا الـيوم فرحاً مسروراً قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنّـي سألْتُ رّبـي بـالأمْسِ شَيْئاً لَـمْ يَجُدْ لـي بِهِ، سألتُه التَّبِعات فأبى علـيَّ، فَلَـمَّا كانَ الـيَوْمُ أتانـي جِبْرِيـلُ قال: إنَّ رَبَّكَ يُقْرِئُكَ السَّلامَ ويَقُول التَّبِعاتُ ضَمِنْتُ عِوَضَها مِنْ عِنْدِي" .

فقد بـين هذان الـخبران أن غفران الله التبعات التـي بـين خـلقه فـيـما بـينهم إنـما هو غداة جمع، وذلك فـي الوقت الذي قال جل ثناؤه:{ ثمَّ أفِـيضُوا مِنْ حَيْثُ أفـاضَ النَّاسُ واسْتَغْفِرُوا اللّهَ } لذنوبكم، فإنه غفور لها حينئذٍ، تفضلاً منه علـيكم، رحيـم بكم.

والآخر منهما: ثم أفـيضوا من عرفة إلـى الـمشعر الـحرام، فإذا أفضتـم إلـيه منها فـاذكروا الله عنده كما هداكم.