خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ ٱلنِّسَآءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى ٱلْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى ٱلْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعاً بِٱلْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى ٱلْمُحْسِنِينَ
٢٣٦
-البقرة

جامع البيان في تفسير القرآن

يعني تعالى ذكره بقوله { لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ } لا حرج عليكم إن طلقتم النساء، يقول: لا حرج عليكم في طلاقكم نساءكم وأزواجكم ما لم تمسوهن، يعني بذلك: ما لم تجامعوهن. والمماسة في هذا الموضوع كناية عن اسم الجماع. كما:

حدثنا حميد بن مسعدة، قال: حدثنا يزيد بن زريع، وحدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قالا جميعا: حدثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، قال: قال ابن عباس: المس: الجماع، ولكن الله يكني ما يشاء بما شاء.

حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو صالح، قال حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قال: المس: النكاح.

وقد اختلف القراء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قراء أهل الحجاز والبصرة { مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ } بفتح التاء من تمسوهن، بغير ألف من قولك: مسته أمسه مسا ومسيسا ومسيسى مقصور مشدد غير مجرى. وكأنهم اختاروا قراءة ذلك إلحاقا منهم له بالقراءة المجتمع عليها في قوله: { { وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ } [آل عمران: 47] وقرأ ذلك آخرون: ”ما لم تماسوهن ” بضم التاء والألف بعد الميم إلحاقا منهم ذلك بالقراءة المجمع عليها في قوله: { { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا } [المجادلة: 3] وجعلوا ذلك بمعنى فعل كل واحد من الرجل والمرأة بصاحبه من قولك: ماسست الشيء مماسة ومساساً.

والذي نرى في ذلك أنهما قراءتان صحيحتا المعنى متفقا التأويل، وإن كان في إحداهما زيادة معنى غير موجبة اختلافا في الحكم والمفهوم. وذلك أنه لا يجهل ذو فهم إذا قيل له: مسست زوجتي أن الممسوسة قد لاقى من بدنها بدن الماس ما لاقاه مثله من بدن الماس، فكل واحد منهما - وإن أفرد الخبر عنه بأنه الذي مس صاحبه - معقول، كذلك الخبر نفسه أن صاحبه المسوس قد ماسه، فلا وجه للحكم لإحدى القراءتين مع اتفاق معانيهما، وكثرة القراءة بكل واحدة منهما بأنها أولى بالصواب من الأخرى، بل الواجب أن يكون القارئ بأيتهما قرأ مصيب الحق في قراءته.

وإنما عنى الله تعالى ذكره بقوله: { لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ ٱلنّسَاء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ } المطلقات قبل الإفضاء إليهن في نكاح قد سمي لهن فيه الصداق. وإنما قلنا إن ذلك كذلك، لأن كل منكوحة فإنما هي إحدى اثنتين إما مسمى لها الصداق، أو غير مسمى لها ذلك، فعلمنا بالذي يتلو ذلك من قوله تعالى ذكره أن المعنية بقوله: { لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ ٱلنّسَاء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ } إنما هي المسمى لها، لأن المعنية بذلك لو كانت غير المفروض لها الصداق لما كان لقوله: { أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً } معنى معقول، إذ كان لا معنى لقول قائل: لا جناح عليكم إذا طلقتم النساء ما لم تفرضوا لهن فريضة في نكاح لم تماسوهن فيه أو ما لم تفرضوا لهن فريضة. فإذ كان لا معنى لذلك، فمعلوم أن الصحيح من التأويل في ذلك: لا جناح عليكم إن طلقتم المفروض لهن من نسائكم الصداق قبل أن تماسوهن، وغير المفروض لهن قبل الفرض.

القول في تأويل قوله تعالى: { أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً }.

يعني تعالى ذكره بقوله { أو تقرضوا لهن } أو توجبوا لهن، وبقوله: { فَرِيضَةً } صداقا واجبا. كما:

حدثني المثنى، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: { أو تقرضوا لهن فريضة } قال: الفريضة: الصداق. وأصل الفرض: الواجب، كما قال الشاعر:

كانت فريضة ما أتيت كما كان الزناء فريضة الرجم.

يعني كما كان الرجم الواجب من حد الزنا، لذلك قيل: فرض السلطان لفلان ألفين، يعني بذلك أوجب له ذلك ورزقه من الديوان.

القول في تأويل قوله تعالى: { ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المفتر قدره }

يعني تعالى ذكره بقوله: { وَمَتّعُوهُنَّ } وأعطوهن ما يتمتعن به من أموالكم على أقداركم ومنازلكم من الغنى والإقتار.

ثم اختلف أهل التأويل في مبلغ ما أمر الله به الرجال من ذلك، فقال بعضهم: أعلاه الخادم، ودون ذلك الورق، ودونه الكسوة.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن بشار، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا سفيان، عن إسماعيل، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: متعة الطلاق أعلاه الخادم، ودون ذلك الورق، ودون ذلك الكسوة.

حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: ثنا سفيان، عن إسماعيل بن أمية، عن عكرمة، عن ابن عباس بنحوه.

حدثنا أحمد، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا سفيان، عن داود، عن الشعبي قوله: { وَمَتّعُوهُنَّ عَلَى ٱلْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى ٱلْمُقْتِرِ قَدْرُهُ } قلت له: ما أوسط متعة المطلقة؟ مال: خمارها ودرعها وجلبابها وملحفتها.

حدثني المثنى، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: { ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعا بالمعروف حقا على المحسنين } فهذا الرجل يتزوج المرأة ولم يسم لها صداقا ثم يطلقها من قبل أن ينكحها، فأمر الله سبحانه أن يمتعها على قدر عسره ويسره، فإن كان موسرا متعها بخادم أو شبه ذلك، وإن كان معسراً متعها بثلاثة أثواب أو نحو ذلك.

حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية، عن داود، عن الشعبي في قوله: { ومتعوهن على الموسر قدر وعلى المقتر قدره } قال: قلت للشعبي: ما وسط ذلك؟ قال: كسوتها في بيتها ودرعها وخمارها وملحفتها وجلبابها. قال الشعبي: فكان شريح يمتع بخمسمائة.

حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا عبد الوهاب، قال: ثنا داود، عن عامر: أن شريحا كان يمتع بخمسائة. قلت لعامر: ما وسط ذلك؟ قال: ثيابها في بيتها درع وخمار وملحفة وجلباب.

حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا ابن أبي عدي، عن داود، عن عمار الشعبي أنه قال: وسط من المتعة ثياب المرأة في بيتها درع وخمار وملحفة وجلباب.

حدثنا عمران بن موسى، قال: ثنا عبد الوارث، قال: ثنا داود، عن الشعبي: أن شريحا متع بخمسمائة. وقال الشعبي: وسط من المتعة درع وخمار وجلباب وملحفة.

حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس في قوله: { لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ومتعوهن على الموسع قدر وعلى المقتر قدره متاعا بالمعروف حقا على المحسنين } قال: هو الرجل يتزوج المرأة ولا يسمى لها صداقا، ثم يطلقها قبل أن يدخل بها، فلها متاع بالمعروف ولا صداق لها. قال: أدنى ذلك ثلاثة أثواب درع وخمار وجلباب وإزار.

حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: { لا جناح عليكم إذ طلقتم النساء ما لم تمسوهن } حتى بلغ: { حَقّا عَلَى ٱلْمُحْسِنِينَ } فهذا في الرجل يتزوج المرأة ولا يسمي لها صداقا، ثم يطلقها قبل أن يدخل بها، فلها متاع بالمعروف، ولا فريضة لها. وكان يقال: إذا كان واجدا فلا بد من مئزر وجلباب ودرع وخمار.

حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن أبي زائدة، عن صالح بن صالح، قال: سئل عامر: بكم يمتع الرجل امرأته؟ قال: على قدر ماله.

حدثني علي بن سهل، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا شعبة، عن سعد بن إبراهيم، قال: سمعت حميد بن عبد الرحمن بن عوف يحدث عن أمه قالت: كأني أنظر إلى جارية سوداء حممها عبد الرحمن أم أبي سلمة حين طلقها قيل لشعبة: ما حممها؟ قال. متعها.

حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن سعد بن إبراهيم، عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف عن أمه بنحوه، عن عبد الرحمن بن عوف، حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين، قال: كان يمتع بالخادم أو بالنفقة أو الكسوة. قال: ومتع الحسن بن علي؛ أحسبه قال: بعشرة آلاف.

حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن أيوب، عن مسعد بن إبراهيم: أن عبد الرحمن بن عوف طلق امرأته، فمتعها بالخادم.

حدثت عن عبد الله بن يزيد المقرئ، عن سعيد بن أبي أيوب، قال: ثني عقيل، عن ابن شهاب أنه كان يقول في متعة المطلقة: أعلاه الخادم، وأدناه الكسوة والنفقة، ويرى أن ذلك على ما قال الله تعالى ذكره: { عَلَى ٱلْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى ٱلْمُقْتِرِ قَدْرُهُ }

وقال آخرون: مبلغ ذلك إذا اختلف الزوج والمرأة فيه قدر نصف صداق مثل تلك المرأة المنكوحة بغير صداق مسمى في عقده، وذلك قول أبي حنيفة وأصحابه.

والصواب من القول في ذلك ما قاله ابن عباس ومن قال بقوله من أن الواجب من ذلك للمرأة المطلقة على الرجل على قدر عسره ويسره، كما قال الله تعالى ذكره: { عَلَى ٱلْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى ٱلْمُقْتِرِ قَدْرُهُ } لا على قدر المرأة. ولو كان ذلك واجبا للمراة على قدر صداق مثلها إلى قدر نصفه لم يكن لقيله تعالى ذكره: { عَلَى ٱلْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى ٱلْمُقْتِرِ قَدْرُهُ } معنى مفهوم، ولكان الكلام: ومتعوهن على قدرهن وقدر نصف صداق أمثالهن.

وفي إعلام الله تعالى ذكره عباده أن ذلك على قدر الرجل في عسره ويسره، لا على قدره وقدر يصف صداق مثلها ما يبين عن صحة ما قلنا وفساد ما خالفه. وذلك أن المرأة قد يكون صداق مثها المال العظيم، والرجل في حال طلاقه إياها مقتر لا يملك شيئا، فإن قضي عليه يقدر نصف صداق مثلها ألزم ما يعجز عنه بعض من قد وسع عليه، فكيف المقدور عليه؟ وإذا فعل ذلك به، كان الحاكم بذلك عليه قد تعدى حكم قول الله تعالى ذكره: { عَلَى ٱلْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى ٱلْمُقْتِرِ قَدْرُهُ } ولكن ذلك على قدر عسر الرجل ويسره، لا يجاوز بذلك خادم أو قيمتها، إن كان الزوج موسعا، وإن كان مقترا فأطاق أدنى ما يكون كسوه لها، وذلك ثلاث أثواب ونحو ذلك، قضي عليه بذلك وإن كان عاجزا عن ذلك فعلى قدر طاقته، وذلك على قدر اجتهاد الإمام العادل عند الخصومة إليه فيه.

واختلف أهل التأويل في تأويل قوله. { وَمَتّعُوهُنَّ } هل هو على الوجوب، أو على الندب؟ فقال بعضهم: هو على الوجوب يقضي بالمتعة في مال المطلق، كما يقضى عليه بسائر الديون الواجبة عليه لغيره وقالوا: ذلك واجب عليه لكل مطلقة كائنة م كانت من نسائه.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال: كان الحسن وأبو العالية يقولان: لكل مطلقة متاع، دخل بها أو لم يدخل بها وإن كان قد فرض لها.

حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية، عن يونس أن الحسن كان يقول: لكل مطلقة متاع، وللتي طلقها قبل أن يدخل بها ولم يفرض لها.

حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الوهاب، قال: ثنا أيوب، عن سعيد عن جبير في هذه الآية: { وَلِلْمُطَلَّقَـٰتِ مَتَـٰعٌ بِٱلْمَعْرُوفِ حَقّا عَلَى ٱلْمُتَّقِينَ } قال: كل مطلقة متاع بالمعروف حقا على المتقين.

حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن أيوب، قال: سمعت سعيد بن جبير يقول. لكل مطلقة متاع.

حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قال. كان أبو العالية يقول: لكل مطلقة متعة، وكان الحسن يقول. لكل مطلقة متعة.

حدثنا ابن بشار، قال: ثنا أبو عامر، قال: ثنا قرة، قال: سئل الحسن، عن رجل طلق امرأته قبل أن يدخل بها وقد فرض لها، هل لها متاع؟ قال الحسن: نعم والله. فقيل للسائل، وهو أبو بكر الهذلي: أو ما تقرأ هذه الآية: { { وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ } [البقرة: 237] قال: نعم والله.

وقال آخرون: المتعة للمطلقة على زوجها المطلقها واجبة، ولكنها واجبة لكل مطلقة سوى المطلقة المفروض لها الصداق. فأما المطلقة المفروض لها الصداق إذا طلقت قبل الدخول بها، فإنها لا متعة لها، وإنما لها نصف الصداق المسمى.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا عبد الوهاب، قال: ثنا عبيد الله، عن نافع أن ابن عمر كان يقول: لكل مطلقة متعة، إلا التي طلقها ولم يدخل بها وقد قرض لها، فلها نصف الصداق ولا متعة لها.

حدثنا تميم بن المنتصر، قال: أخبرنا عبد الله بن نمير، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر بنحوه.

حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا ابن أبي عدي وعبد الأعلى، عن سعيد، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب في الذي يطلق امرأته وقد فرض لها، أنه قال في المتاع: قد كان لها المتاع في الآية التي في الأحزاب، فلما نزلت الآية التي في البقرة، جعل لها النصف من صداقها إذا سمي، ولا متاع لها، وإذا لم يسم فلها المتاع.

حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا ابن أبي عدي وعبد الأعلى، عن سعيد، عن قتادة، عن سعيد نحوه.

حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال: كان سعيد بن المسيب يقول: إذا لم يدخل بها جعل لها في سورة الأحزاب المتاع، ثم أنزلت الآية التي في سورة البقرة: { { وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ } [البقرة: 237] فنسخت هذه الآية ما كان قبلها إذا كان لم يدخل بها وكان قد سمي لها صداقا، فجعل لها النصف ولا متاع لها.

حدثنا ابن المثنى وابن بشار، قالا: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، قال: نسخت هذه الآية: { { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِذَا نَكَحْتُمُ ٱلْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ } [الأحزاب: 49] الآية التي في البقرة.

حدثنا ابن بشار وابن المثنى، قالا: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن حميد، عن مجاهد، قال: لكل مطلقة متعة، إلا التي فارقها وقد فرض لها من قبل أن يدخل بها.

حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في التي يفارقها زوجها قبل أن يدخل بها وقد فرض لها، قال: ليس لها متعة.

حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، قال: ثنا أيوب، عن نافع، قال: إذا تزوج الرجل المرأة وقد فرض لها ثم طلقها قبل أن يدخل بها، فلها نصف الصداق ولا متاع لها، وإذا لم يفرض لها فإنما لها المتاع.

حدثنا يعقوب، قال: ثنا ابن علية، قال: سئل ابن أبى نجيح وأنا أسمع عن الرجل يتزوج، ثم يطلقها قبل أن يدخل بها وقد فرض لها، هل لها متاع؟ قال: كان عطاء يقول: لا متاع لها.

حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر في التي فرض لها ولم يدخل بها، قال: إن طلقت فلها نصف الصداق ولا متعة لها.

حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن الحكم، عن إبراهيم، أن شريحا كان يقول في الرجل إذا طلق امرأته قبل أن يدخل بها وقد سمي لها صداقا، قال: لها في النصف متاع.

حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا عبد الرحمن، عن شعبة، عن الحكم، عن إبراهيم، عن شريح، قال: لها في النصف متاع. وقال آخرون: المتعة حق لكل مطلقة، غير أن منها ما يقضي به على المطلق، ومنها ما لا يقضي به عليه، ويلزمه فيما بينه وبين الله إعطاؤها.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرازق، قال: أخبرنا معمر، عن الزهري، قال: متعتان: إحداهما يقضي بها السلطان، والأخرى حق على المتقين: من طلق قبل أن يفرض ويدخل فإنه يؤخذ بالمتعة فإنه لا صداق عليه، ومن طلق بعد ما يدخل أو يفرض فالمتعة حق.

حدثني المثنى، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني الليث، عن يونس، عن ابن شهاب: قال الله: { لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ ٱلنّسَاء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتّعُوهُنَّ عَلَى ٱلْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى ٱلْمُقْتِرِ قَدْرُهُ مَتَـٰعاً بِٱلْمَعْرُوفِ حَقّا عَلَى ٱلْمُحْسِنِينَ } فإذا تزوج الرجل المرأة ولم يفرض لها، ثم طلقها من قبل أن يمسها وقبل أن يفرض لها، فليس عليه إلا متاع بالمعروف يفرض لها السلطان بقدر، وليس عليها عدة، وقال الله تعالى ذكره: { وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ } فإذا طلق الرجل المرأة وقد فرض لها ولم يمسسها، فلها نصف صداقها، ولا عدة عليها.

حدثني محمد بن عبد الرحيم البرقي، قال: ثنا عمرو بن أبي سلمة، قال: أخبرنا زهير، عن معمر، عن الزهري أنه قال: متعتان يقضي بإحداهما السلطان ولا يقضي بالأخرى، فالمتعة التي يقضي بها السلطان حقا على المحسنين، والمتعة التي لا يقضي بها السلطان حقا على المتقين.

وقال آخرون: لا يقضي الحاكم ولا السلطان بشيء من ذلك على المطلق، وإنما ذلك من الله تعالى ذكره ندب وإرشاد إلى أن تمتع المطلقة.

وذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن الحكم: أن رجلا طلق امرأته، فخاصمته إلى شريح، فقرأ الآية: { { وَلِلْمُطَلَّقَـٰتِ مَتَـٰعٌ بِٱلْمَعْرُوفِ حَقّا عَلَى ٱلْمُتَّقِينَ } [البقرة: 241] قال: إن كنت من المتقين فعليك المتعة ولم يقض لها. قال شعبة: وجدته مكتوبا عندي عن أبي الضحى.

حدثني يعقوب، قال ثنا ابن علية، عن أيوب، عن محمد، قال: كان شريح يقول في متاع المطلقة: لا تأب أن تكون من المحسنين، لا تأب أن تكون من المتقين.

حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن أبي إسحاق أن شريحا قال للذي قد دخل بها: إن كنت من المتقين فمتع.

قال أبو جعفر: وكأن قائلي هذا القول ذهبوا في تركهم إيجاب المتعة فرضا للمطلقات إلى أن قول الله تعالى ذكره: { حَقّا عَلَى ٱلْمُحْسِنِينَ } وقوله: { حَقّا عَلَى ٱلْمُتَّقِينَ } دلالة على أنها لو كانت واجبة وجوب الحقوق اللازمة الأموال بكل حال لم يخصص المتقون والمحسنون بأنها حق عليهم دون غيرهم، بل كان يكون ذلك معموما به كل أحد من الناس. وأما موجبوها على كل أحد سوى المطلقة المفروض لها الصداق، فإنهم اعتلوا بأن الله تعالى ذكره لما قال: { وَلِلْمُطَلَّقَـٰتِ مَتَـٰعٌ بِٱلْمَعْرُوفِ حَقّا عَلَى ٱلْمُتَّقِينَ } كان ذلك دليلا على أن لك مطلقة متاعا سوى من استثناه الله تعالى ذكره في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، فلما قال: { وإذ طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم } كان في ذلك دليل عندهم على أن حقها النصف مما فرض لها، لأن المتعة جعلها الله في الآية التي قبلها عندهم لغير المفروض لها، فكان معلوما عندهم بخصوص الله بالمتعة غير المفروض لها أن حكمها غير حكم التي لم يفرض لها إذا طلقها قبل المسيس فيما لها على الزوج من الحقوق.

والذي هو أولى بالصواب من القول في ذلك عندي قول من قال: لكل مطلقة متعة؛ لأن الله تعالى ذكره قال: { وَلِلْمُطَلَّقَـٰتِ مَتَـٰعٌ بِٱلْمَعْرُوفِ حَقّا عَلَى ٱلْمُتَّقِينَ } فجعل الله تعالى ذكره ذلك لكل مطلقة ولم يخصص منهن بعضا دون بعض، فليس لأحد إحالة ظاهر تنزيل عام إلى باطن خاص إلا بحجة يجب التسليم لها.

فإن قال قائل: فإن الله تعالى ذكره قد خص المطلقة قبل المسيس إذا كان مفروضا لها بقوله: { وإن طلقتموهن من قبل أت تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم } إذ لم يجعل لها غير نصف الفريضة؟ قيل: إن الله تعالى ذكره إذا دل على وجوب شيء في بعض تنزيله، ففي دلالته على وجوبه في الموضع الذي دل عليه الكفاية عن تكريره، حتى يدل على بطول فرضه، وقد دل بقوله: { { وَلِلْمُطَلَّقَـٰتِ مَتَـٰعٌ بِٱلْمَعْرُوفِ } [البقرة: 241] على وجوب المتعة لكل مطلقة، فلا حاجة بالعباد إلى تكرير ذلك في كل آية وسورة. وليس في دلالته على أن المطلقة قبل المسيس المفروض لها الصداق نصف ما فرض لها دلالة على بطول المتعة عنه، لأنه غير مستحيل في الكلام لو قيل: وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم والمتعة، فلما لم يكن ذلك محالا في الكلام كان معلوما أن نصف الفريضة إذا وجب لها لم يكن في وجوبه لها نفي عن حقها من المتعة، ولما لم يكن اجتماعهما للمطلقة محالا - وكان الله تعالى ذكره قد دل على وجوب ذلك لها، وإن كانت الدلالة على وجوب أحدهما في آية غير الآية التي فيها الدلالة على وجوب الأخرى - ثبت وصح وجوبهما لها. هذا إذا لم يكن على أن المطلقة المفروض لها الصداق إذا طلقت قبل المسيس دلالة غير قول الله تعالى ذكـره: { { وَلِلْمُطَلَّقَـٰتِ مَتَـٰعٌ بِٱلْمَعْرُوفِ } [البقرة: 241] فكيف وفي قول الله تعالى ذكره: { لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ ٱلنّسَاء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتّعُوهُنَّ } الدلالة الواضحة على أن المفروض لها إذا طلقت قبل المسيس لها من المتعة مثل الذي لغير المفروض لها منها؟ وذلك أن الله تعالى ذكره لما قال: { لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ ٱلنّسَاء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً } كان معلوما بذلك أنه قد دل به على حكم طلاق صنفين من طلاق النساء: أحدهما المفروض له، والآخر غير المفروض له؛ وأنها المطلقة المفروض لها قبل المسيس، لأنه قال: { لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم يمسوهن } ثم قال تعالى ذكره: { وَمَتّعُوهُنَّ } فأوجب المتعة للصنفين منهن جميعا: المفروض لهن، وغير المفروض لهن. فمن ادعى أن ذلك لأحد الصنفين، سئل البرهان على دعواه من أصل أو نظير، ثم عكس عليه القول في ذلك فلن يقول في شيء منه قولا إلا ألزم في الآخر مثله.

وأرى أن المتعة للمرأة حق واجب إذا طلقت على زوجها المطلقها على ما بينا آنفا يؤخذ بها الزوج كما يؤخذ بصداقها، لا يبرئه منها إلا أداؤه إليها، أو إلى من يقوم مقامها في قبضها منه، أو ببراءة تكون منها له. وأرى أن سبيلها سبيل صداقها وسائر ديونها قبله يحبس بها إن طلقها فيها إذا لم يكن له شيء ظاهر يباع عليه إذا امتنع من إعطائها ذلك. وإنما قلنا ذلك، لأن الله تعالى ذكره قال: { وَمَتّعُوهُنَّ } فأمر الرجال أن يمتعوهن، وأمره فرض إلا أن يبين تعالى ذكره أنه عنى به الندب والإرشاد لما قد بينا في كتابنا المسمى بلطيف البيان عن أصول الأحكام، لقوله: { { وَلِلْمُطَلَّقَـٰتِ مَتَـٰعٌ بِٱلْمَعْرُوفِ } [البقرة: 241].

ولا خلاف بين جميع أهل التأويل أن معنى ذلك: وللمطلقات على أزواجهن متاع بالمعروف. وإذا كان ذلك كذلك، فلن يبرأ الزوج مما لها عليه إلا بما وصفنا قبل من أداء أو إبراء على ما قد بينا. فإن ظن ذو غباء أن الله تعالى ذكره إذ قال: { حَقّا عَلَى ٱلْمُحْسِنِينَ } و { حَقّا عَلَى ٱلْمُتَّقِينَ } أنها غير واجبة لأنها لو كانت واجبة لكانت على المحسن وغير المحسن، والمتقي وغير المتقي. فإن الله تعالى ذكره قد أمر جميع خلقه بأن يكونوا من المحسنين، ومن المتقين، وما وجب من حق على أهل الإحسان والتقى، فهو على غيرهم أوجب، ولهم ألزم.

وبعد، فإن في إجماع الحجة على أن المتعة للمطلقة غير المفروض لها قبل المسيس واجبة بقوله: { وَمَتّعُوهُنَّ } وجوب نصف الصداق للمطلقة المفروض لها قبل المسيس، قال الله تعالى ذكره فيما أوجب لها. ذلك؛ الدليل الواضح أن ذلك حق واجب لكل مطلقة بقوله: { وللمطلقات متاع بالمعروف } وإن كان قال: { حَقّا عَلَى ٱلْمُتَّقِينَ }.

ومن أنكر ما قلنا في ذلك، سئل عن المتعة للمطلقة غير المفروض لها قبل المسيس، فإن أنكر وجوبه خرج من قول جميع الحجة، ونوظر مناظرتنا المنكرين في عشرين دينارا زكاة، والدافعين زكاة العروض إذا كانت للتجارة، وما أشبه ذلك. فإن أوجب ذلك لها، سئل الفرق بين وجوب ذلك لها، والوجوب لكل مطلقة، وقد شرط فيما جعل لها من ذلك بأنه حق على المحسنين، كما شرط فيما جعل للآخر بأنه حق على المتقين، فلن يقول في أحدهما قولا إلا ألزم في الآخر مثله.

واجمع الجميع على أن المطلقة غير المفروض لها قبل المسيس، لا شيء لها على زوجها المطلقها غير المتعة.

ذكر بعض من قال ذلك من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم:

حدثنا أبو كريب ويونس بن عبد الأعلى، قالا: ثنا ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن عطاء، عن ابن عباس، قال: إذا طلق الرجل امرأته قبل أن يفرض لها وقبل أن يدخل بها، فليس لها إلا المتاع.

حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن يونس، قال: قال الحسن: إن طلق الرجل امرأته ولم يدخل بها ولم يفرض لها، فليس لها إلا المتاع.

حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، قال: أخبرنا أيوب، عن نافع، قال: إذا تزوج الرجل المرأة ثم طلقها ولم يفرض لها، فإنما لها المتاع.

حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني الليث، عن يونس، عن ابن شهاب، قال: إذا تزوج الرجل المرأة ولم يفرض لها، ثم طلقها قبل أن يمسها وقبل أن يفرض لها، فليس لها عليه إلا المتاع بالمعروف.

حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: { لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ ٱلنّسَاء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً } قال: ليس لها صداق إلا متاع بالمعروف.

حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، بنحوه، إلا أنه قال: ولا متاع إلا بالمعروف.

حدثني موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي: { لا جناح عليكم إذ طلقتم النساء ما لم تمسوهن } إلى: { وَمَتّعُوهُنَّ } قال: هذا الرجل توهب له، فيطلقها قبل أن يدخل بها، فإنما عليه المتعة.

حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال في هذه الآية: هو الرجل يتزوج المرأة ولا يسمي لها صداقا، ثم يطلقها قبل أن يدخل بها، فلها متاع بالمعروف، ولا فريضة لها.

حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، مثله.

حدثنا عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ يقول: سمعت الضحاك يقول في قوله: { مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً } هذا رجل وهبت له امرأته فطلقها من قبل أن يمسها، فلها المتعة، ولا فريضة لها، وليست عليها عدة.

وأما الموسع، فهو الذي قد صار من عيشه إلى سعة وغنى، يقال منه. أوسع فلان فهو يوسع إيساعا وهو موسع.

وأما المقتر: فهو المقل من المال، يقال: قد أقتر فهو يقتر إقتارا، وهو مقتر.

واختلف القراء في قراءه القدر، فقرأه بعضهم: { عَلَى ٱلْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى ٱلْمُقْتِرِ قَدْرُهُ } بتحريك الدال إلى الفتح من القدر، توجيها منهم ذلك إلى الاسم من التقدير، الذي هو من قول القائل: قدر فلان هذا الأمر.

وقرأ آخرون بتسكين الدال منه، توجيها منهم ذلك إلى المصدر من ذلك، كما قال الشاعر.

وما صب رجلي في حديد مجاشع مع القدر إلا حاجة لي أريدها

والقول في ذلك عندي أنهما جميعا قراءتان قد جاءت بهما الأمة، ولا يحيل القراءة بإحداهما معنى في الأخرى، بل هما متفقتا المعنى، فبأي القراءتين قرأ القارئ ذلك، فهو للصواب مصيب.

وإنما يجوز اختيار بعض القراءات على بعض لبينونة المختارة على غيرها بزيادة معنى أوجبت لها الصحة دون غيرها؛ وأما إذا كانت المعاني في جميعها متفقة، فلا وجه للحكم لبعضها بأنه أولى أن يكون مقروءا به من غيره.

فتأويل الآية إذا: لا حرج عليكم أيها الناس لأن طلقتم النساء، وقد فرضتم لهن ما لم تماسوهن، وإن طلقتموهن ما لم تماسوهن قبل أن تفرضوا لهن، ومتعوهن جميعا على ذي السعة والغنى منكم من متاعهن حينئذ بقدر غناه وسعته، وعلى ذي الإقتار والفاقة منكم منه بقدر طاقته وإقتاره.

القول في تأويل قوله تعالى: { متاعا بالمعروف حقا على المحسنين }

يعني تعالى ذكره بذلك: ومتعوهن متاعا. وقد يجوز أن يكون متاعا منصوبا قطعا من القدر، لأن المتاع نكره، والقدر معرفة. ويعني بقوله { بِٱلْمَعْرُوفِ } بما أمركم الله به من إعطائكم لهن ذلك بغير ظلم، ولا مدافعة منكم لهن به. ويعني بقوله: { حَقّا عَلَى ٱلْمُحْسِنِينَ } متاعا بالمعروف الحق على المحسنين فلما دل إدخال الألف واللام على الحق، وهو من نعت المعروف، والمعروف معرفة، والحق نكرة؛ نصب على القطع منه، كما يقال: أتاني الرجل راكبا. وجائز أن يكون نصب على المصدر من جملة الكلام الذي قبله، كقول القائل: عبد الله عالم حقا، فالحق منصوب من نية كلام المخبر كأنه قال: أخبركم بذلك حقا.

والتأويل الأول هو وجه الكلام، لأن معنى الكلام: فمتعوهن متاعا بمعروف حق على كل من كان منكم محسنا.

وقد زعم بعضهم أن ذلك منصوب بمعنى أحق ذلك حقا، والذي قاله من ذلك بخلاف ما دل عليه ظاهر التلاوة، لأن الله تعالى ذكره جعل المتاع للمطلقات حقا لهن على أزواحهن، فزعم قائل هذا القول أن معنى ذلك أن الله تعالى ذكره أخبر عن نفسه أنه يحق أن ذلك على المحسنين.

فتأويل الكلام إذا: إذ كان الأمر كذلك: ومتعوهن على الموسع قدره، وعلى المقتر قدره، متاعا بالمعروف الواجب على المحسنين.

ويعني بقوله: { ٱلْمُحْسِنِينَ } الذين يحسنون إلى أنفسهم في المسارعة إلى طاعة الله فيما ألزمهم به، وأدائهم ما كلفهم من فرائضه.

فإن قال قائل: إنك قد ذكرت أن الجناح هو الحرج، وقد قال الله تعالى ذكره: { لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ ٱلنّسَاء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ } فهل علينا من جناح لو طلقنا من بعد المسيس، فيوضع عنا بطلاقنا إياهن قبل المسيس؟ قيل: قد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الله لا يحب الذواقين ولا الذواقات"

حدثنا بذلك ابن بشار، قال: ثنا ابن أبي عدي وعبد الأعلى، عن سعيد، عن قتادة، عن شهر بن حوشب، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروي عنه أنه قال: "ما بال أقوام يلعبون بحدود الله، يقولون قد طلقتك قد راجعتك قد طلقتك " .

حدثنا بذلك ابن بشار، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن أبي بردة، عن أبيه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجائز أن يكون الجناح الذي وضع عن الناس في طلاقهم نساءهم قبل المسيس، هو الذي كان يلحقهم منه بعد ذوقهم إياهن، كما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد كان بعضهم يقول: معنى قوله في هذا الموضع: لا جناح: لا سبيل عليكم للنساء إن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن، ولم تكونوا فرضتم لهن فريضة في إتباعكم بصداق ولا نفقة. وذلك مذهب لولا ما قد وصفت من أن المعني بالطلاق قبل المسيس في هذه الآية صنفان من النساء: أحدهما المفروض لها، والآخر غير المفروض لها، فإذ كان ذلك كذلك، فلا وجه لأن يقال: لا سبيل لهن عليكم في صداق إذا كان الأمر على ما وصفنا. وقد يحتمل ذلك أيضا وجها آخر، وهو أن يكون معناه: لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تماسوهن، في أي وقت شئتم طلاقهن، لأنه لا سنة في طلاقهن، فللرجل أن يطلقهن إذا لم يكن مسهن حائضا وطاهرا في كل وقت أحب، وليس ذلك كذلك في المدخول بها التي قد مست لأنه ليس لزوجها طلاقها إن كانت من أهل الأقراء إلا للعدة طاهرا في طهر لم يجامع فيه، فيكون الجناح الذي أسقط عن مطلق التي لم يمسها في حال حيضها هو الجناح الذي كان به مأخوذا المطلق بعد الدخول بها في حال حيضها أو في طهر قد جامعها فيه.