خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَأَذِّن فِي ٱلنَّاسِ بِٱلْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَميِقٍ
٢٧
لِّيَشْهَدُواْ مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ فِيۤ أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ ٱلأَنْعَامِ فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ ٱلْبَآئِسَ ٱلْفَقِيرَ
٢٨
ثُمَّ لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُواْ نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُواْ بِٱلْبَيْتِ ٱلْعَتِيقِ
٢٩
-الحج

جامع البيان في تفسير القرآن

يقول تعالـى ذكره: عهدنا إلـيه أيضاً أن أذّن فـي الناس بـالـحجّ يعنـي بقوله: { وأذّنْ } أعلـم وناد فـي الناس أن حجوا أيها الناس بـيت الله الـحرام. { يَأْتُوكَ رِجالاً } يقول: فإن الناس يأتون البـيت الذي تأمرهم بحجه مشاة علـى أرجلهم، { وَعَلـى كُلّ ضَامِرٍ } يقول: وركبـاناً علـى كلّ ضامر، وهي الإبل الـمهازيـل.{ يَأْتِـينَ مِنْ كُلّ فَجّ عَمِيقٍ } يقول: تأتـي هذه الضوامر من كلّ فجّ عميق يقول: من كلّ طريق ومكان ومسلك بعيد. وقـيـل: «يأتـين»، فجمع لأنه أريد بكل ضامر: النوق. ومعنى الكلّ: الـجمع، فلذلك قـيـل: «يأتـين». وقد زعم الفراء أنه قلـيـل فـي كلام العرب: مررت علـى كلّ رجل قائمين قال: وهو صواب، وقول الله:{ وَعَلـى كُلّ ضَامِرٍ يَأَتـينَ } ينبىء عن صحة جوازه. وذُكر أن إبراهيـم صلوات الله علـيه لـما أمره الله بـالتأذين بـالـحجّ، قام علـى مقامه فنادى: يا أيها الناس إن الله كتب علـيكم الـحجّ فحجوا بـيته العتـيق.

وقد اختُلف فـي صفة تأذين إبراهيـم بذلك. فقال بعضهم: نادى بذلك، كما:

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن قابوس، عن أبـيه، عن ابن عبـاس، قال: لـما فرغ إبراهيـم من بناء البـيت قـيـل له: { أذّنْ فِـي النَّاسَ بـالـحَجّ } قال: ربّ وَما يبلغ صوتـي؟ قال: أذّنْ وعلـيّ البلاغ فنادى إبراهيـم: أيها الناس كُتب علـيكم الـحجّ إلـى البـيت العتـيق فحجوا قال: فسمعه ما بـين السماء والأرض، أفلا ترى الناس يجيئون من أقصى الأرض يـلبّون؟

حدثنا الـحسن بن عرفة، قال: ثنا مـحمد بن فضيـل بن غزوان الضبـي، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جُبـير، عن ابن عبـاس، قال: لـما بنى إبراهيـم البـيت أوحى الله إلـيه، أن أذّن فـي الناس بـالـحجّ قال: فقال إبراهيـم: ألا إن ربكم قد اتـخذ بـيتاً، وأمركم أن تـحجوه، فـاستـجاب له ما سمعه من شيء من حجر وشجر وأكمة أو تراب أو شيء: لبَّـيك اللهمّ لبَّـيك

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا ابن واقد، عن أبـي الزبـير، عن مـجاهد، عن ابن عبـاس:، قوله:{ وأذّنْ فِـي النَّاسَ بـالـحَجّ } قال: قام إبراهيـم خـلـيـل الله علـى الـحجر، فنادى: يا أيها الناس كُتب علـيكم الـحجّ، فأسمع من فـي أصلاب الرجال وأرحام النساء، فأجابه من آمن مـمن سبق فـي علـم الله أن يحجّ إلـى يوم القـيامة: لبَّـيك اللهمّ لبَّـيك

حدثنا مـحمد بن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفـيان، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جُبـير:{ وأذّنْ فِـي النَّاسَ بـالـحَجّ يَأْتُوكَ رِجالاً } قال: وقرت فـي قلب كلّ ذكر وأنثى.

حدثنـي ابن حميد، قال: ثنا حكام عن عمرو، عن عطاء، عن سعيد بن جُبـير، قال: لـما فرغ إبراهيـم من بناء البـيت، أوحى الله إلـيه، أن أذّنْ فـي الناس بـالـحجّ قال: فخرج فنادى فـي الناس: يا أيها الناس إن ربكم قد اتـخذ بـيتاً فحجوه فلـم يسمعه يومئذٍ من إنس، ولا جنّ، ولا شجر، ولا أكمة، ولا تراب، ولا جبل، ولا ماء، ولا شيء إلا قال: لبَّـيك اللهم لبَّـيك

قال: ثنا حكام، عن عنبسة، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، قال: قام إبراهيـم علـى الـمقام حين أمر أن يؤذّن فـي الناس بـالـحجّ.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مـجاهد، فـي قوله:{ وأَذِّنْ فِـي النَّاسِ بـالْـحَجّ } قال: قام إبراهيـم علـى مقامه، فقال: يا أيها الناس أجيبوا ربكم فقالوا: لبَّـيك اللهمّ لبـيك فمن حَجّ الـيوم فهو مـمن أجاب إبراهيـم يومئذٍ.

حدثنا ابن الـمثنى، قال: ثنا ابن أبـي عديّ، عن داود، عن عكرمة بن خالد الـمخزومي، قال: لـما فرغ إبراهيـم علـيه السلام من بناء البـيت، قام علـى الـمقام، فنادى نداء سمعه أهل الأرض: إن ربكم قد بنى لكم بـيتاً فحجّوه قال داود: فأرجوا من حجّ الـيوم من إجابة إبراهيـم علـيه السلام.

حدثنـي مـحمد بن سنان القزاز، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا حماد، عن أبـي عاصم الغَنَوِيّ، عن أبـي الطفـيـل، قال: قال ابن عبـاس: هل تدري كيف كانت التلبـية؟ قلت: وكيف كانت التلبـية؟ قال: إن إبراهيـم لـما أمر أن يؤذّن فـي الناس بـالـحجّ، خفضت له الـجبـال رؤسها، ورُفِعَت القُرى، فأذّن فـي الناس.

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن منصور، عن مـجاهد، قوله:{ وأَذِّنْ فِـي النَّاسِ بـالـحَجّ } قال إبراهيـم: كيف أقول يا ربّ؟ قال: قل: يا أيها الناس استـجيبوا لربكم قال: وقَرَّت فـي قلب كلّ مؤمن. وقال آخرون فـي ذلك، ما:

حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن سلمة، عن مجاهد، قال قيل لإبراهيـم: أذّن فـي الناس بـالـحجّ قال: يا ربّ كيف أقول؟ قال قل لَبَّـيك اللهمّ لبـيك قال: فكانت أوّل التلبية.

وكان ابن عبـاس يقول: عُنِـي بـالناس فـي هذا الـموضع: أهل القبلة. ذكر الرواية بذلك:

حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس، قوله:{ وأذّنْ فـي النَّاسَ بـالـحَجّ } يعنـي بـالناس: أهل القبلة، ألـم تسمع أنه قال: { إنَّ أوَّلَ بَـيْتٍ وُضِعَ للنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّة مُبـاركاً... } إلـى قوله: { وَمَنْ دَخَـلَهُ كان آمِناً } يقول: ومن دخـله من الناس الذين أمر أن يؤذن فـيهم، وكتب علـيهم الـحجّ، فإنه آمن، فعظَّموا حرمات الله تعالـى، فإنها من تقوى القلوب.

وأما قوله:{ يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلـى كُلِّ ضَامِرٍ } فإن أهل التأويـل قالوا فـيه نـحو قولنا. ذكر من قال ذلك:

حدثنا القاسم، قال: ثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جُرَيج، قال: قال ابن عبـاس: يَأْتُوكَ رِجالاً قال: مشاة.

قال: ثنا الـحسين، قال: ثنا أبو معاوية عن الـحجاج بن أرطاة، قال: قال ابن عبـاس:: ما آسَى علـى شيء فـاتنـي إلا أن لا أكون حججت ماشياً، سمعت الله يقول:{ يَأْتُوكَ رِجالاً }.

قال: ثنا الـحسين، قال: ثنا سفـيان، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، قال: حجّ إبراهيـم وإسماعيـل ماشيـين.

حدثنا ابن عبد الأعلـى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قَتادة، عن ابن عبـاس: { يَأْتُوكَ رِجالاً } قال: علـى أرجلهم.

حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس، قوله:{ وَعَلـى كُلّ ضَامِرٍ } قال: الإبل.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الـحسين، قال ثنـي حجاج، عن ابن جُرَيج، قال: قال ابن عبـاس: وَعَلـى كُلّ ضَامِرٍ قال: الإبل.

حدثنـي نصر بن عبد الرحمن الأودي، قال: ثنا الـمـحاربـي، عن عمر بن ذرّ، قال: قال مـجاهد: كانوا لا يركبون، فأنزل الله:{ يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلـى كُلّ ضَامِرٍ } قال: فأمرهم بـالزاد، ورخص لهم فـي الركوب والمتجر.

وقوله:{ مِنْ كُلّ فَجّ عمِيقٍ }.

حدثني مـحمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس: { مِنْ كُلّ فَجّ عَمِيقٍ } يعنـي: من مكان بعيد.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جُرَيج، قال: قال ابن عبـاس:{ مِنْ كُلّ فَجّ عَمِيقٍ } قال: بعيد.

حدثنا ابن عبد الأعلـى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قَتادة: { فَجّ عمِيقٍ } قال: مكان بعيد.

حدثنا الـحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قَتادة مثله.

وقوله:{ لِـيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ } اختلف أهل التأويـل فـي معنى الـمنافع التـي ذكرها الله فـي هذا الـموضع فقال بعضهم: هي التـجارة ومنافع الدنـيا. ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، قال: ثنا عمرو عن عاصم، عن أبـي رزين، عن ابن عبـاس:{ لِـيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ } قال: هي الأسواق.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الـحسين، قال: ثنا أبو تُـمَيـلة، عن أبـي حمزة، عن جابر بن الـحكم، عن مـجاهد عن ابن عبـاس، قال: تـجارة.

حدثنا ابن بشار، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا سفـيان، عن عاصم بن بهدلة، عن أبـي رزين، فـي قوله:{ لِـيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ } قال: أسواقهم.

قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفـيان، عن واقد، عن سعيد بن جُبـير:{ لِـيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ } قال: التـجارة.

حدثنا عبد الـحميد بن بـيان، قال: أخبرنا إسحاق عن سفـيان، عن واقد، عن سعيد بن جبـير، مثله.

حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن يـمان، عن سفـيان، عن واقد، عن سعيد، مثله.

حدثنـي الـحارث، قال: ثنا الـحسين، قال: ثنا سنان، عن عاصم بن أبـي النـجود، عن أبـي رزين:{ لِـيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ } قال: الأسواق.

وقال آخرون: هي الأجْر فـي الآخرة، والتـجارة فـي الدنـيا. ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن بشار، وسوار بن عبد الله، قالا: ثنا يحيى بن سعيد، قال: ثنا سفـيان، عن ابن أبـي نـجيح، عن مجاهد:{ لِـيشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ } قال: التـجارة، وما يرضي الله من أمر الدنيا والآخرة.

حدثنا عبد الـحميد بن بـيان، قال: ثنا إسحاق، عن سفـيان، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، مثله.

حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن يـمان، عن سفـيان، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، مثله.

حدثنا عبد الـحميد بن بـيان، قال: ثنا سفـيان، قال: أخبرنا إسحاق، عن أبـي بشر، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، فـي قوله:{ لِـيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ } قال: الأجر فـي الآخرة، والتـجارة فـي الدنـيا.

حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: ثنا الـحسن، قال: ثنا ورقاء جميعاً، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، مثله.

وقال آخرون: بل هي العفو والـمغفرة. ذكر من قال ذلك:

حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن يـمان، عن سفـيان، عن جابر، عن أبـي جعفر: { لِـيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ } قال: العفو.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الـحسين، قال: ثنـي أبو تُـمَيـلة، عن أبـي حمزة، عن جابر، قال: قال مـحمد بن علـيّ: مغفرة.

وأولـى الأقوال بـالصواب قول من قال: عنـي بذلك: لـيشهدوا منافع لهم من العمل الذي يرضي الله والتـجارة وذلك أن الله عمّ منافع لهم جميع ما يَشْهَد له الـموسم ويأتـي له مكة أيام الـموسم من منافع الدنـيا والآخرة، ولـم يخصص من ذلك شيئاً من منافعهم بخبر ولا عقل، فذلك علـى العموم فـي الـمنافع التـي وصفت.

وقوله:{ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِـي أيَّامِ مَعْلُوماتٍ عَلـى ما رَزَقَهُمْ مِنَ بَهِيـمَةِ الأَنْعامِ } يقول تعالـى ذكره: وكي يذكروا اسم الله علـى ما رزقهم من الهدايا والبُدْن التـي أهدوها من الإبل والبقر والغنـم،{ فـي أيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ } وهنّ أيام التشريق فـي قول بعض أهل التأويـل. وفـي قول بعضهم أيام العَشْر. وفـي قول بعضهم: يوم النـحر وأيام التشريق.

وقد ذكرنا اختلاف أهل التأويـل فـي ذلك بـالروايات، وبـيَّنا الأولـى بـالصواب منها فـي سورة البقرة، فأغنى ذلك عن إعادته فـي هذا الـموضع غير أنـي أذكر بعض ذلك أيضا فـي هذا الـموضع.

حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس، فـي قوله: { وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِـي أيَّامِ مَعْلُوماتٍ } يعنـي أيام التشريق.

حُدثت عن الـحسين، قال: سمعت أبـا معاذ يقول: ثنا عبـيد بن سلـيـمان، قال: سمعت الضحاك فـي قوله:{ أيَّامٍ مَعْلُوماتٍ } يعنـي أيام التشريق، { عَلـى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيـمَةِ الأَنْعامِ } يعنـي البدن.

حدثنا ابن عبد الأعلـى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قَتادة:{ فِـي أيَّامٍ مَعْلُوماتٍ } قال: أيام العشر، والـمعدودات: أيام التشريق.

وقوله: فَكلَوا مِنْها يقول: كلوا من بهائم الأنعام التـي ذكرتـم اسم الله علـيها أيها الناس هنالك. وهذا الأمر من الله جلّ ثناؤه أمر إبـاحة لا أمر إيجاب وذلك أنه لا خلاف بـين جميع الـحُجة أن ذابح هديه أو بدنته هنالك، إن لـم يأكل من هديه أو بدنته، أنه لـم يضيع له فرضاً كان واجبـاً علـيه، فكان معلوماً بذلك أنه غير واجب. ذكر الرواية عن بعض من قال ذلك من أهل العلـم:

حدثنا سوّار بن عبد الله، قال: ثنا يحيى بن سعيد، عن ابن جُرَيج، عن عطاء، قوله: { فَكُلُوا مِنْها وأطْعِمُوا البـائِسَ الفَقِـيرَ }قال: كان لا يرى الأكل منها واجبـاً.

حدثنا يعقوب بن إبراهيـم، قال: ثنا هشيـم، قال: أخبرنا حصين، عن مـجاهد، أنه قال: هي رُخصة: إن شاء أكل، وإن شاء لـم يأكل، وهي كقوله: { وَإذَا حَلَلْتُـمْ فـاصْطادُوا فإذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فـانْتَشِرُوا فـي الأرْضِ } يعنـي قوله: { فَكُلُوا مِنْها وأطْعِمُوا القانِعَ والـمُعْترَّ } .

قال: ثنا هشيـم، قال: أخبرنا مغيرة، عن إبراهيـم، فـي قوله: فَكُلُوا مِنْها قال: هي رخصة، فإن شاء أكل وإن شاء لـم يأكل.

قال: ثنا هشيـم، قال: أخبرنا حجاج، عن عطاء فـي قوله: فَكُلُوا مِنْها قال: هي رخصة، فإن شاء أكلها وإن شاء لـم يأكل.

حدثنـي علـيّ بن سهل، قال: ثنا زيد، قال: ثنا سفـيان، عن حصين، عن مـجاهد، فـي قوله:{ فَكُلُوا مِنْها } قال: إنـما هي رخصة.

وقوله: { وأطْعِمُوا البـائِسَ الفَقِـيرَ } يقول: وأطعموا مـما تذبحون أو تنـحرون هنالك من بهيـمة الأنعام من هديكم وبُدْنكم البـائسَ، وهو الذي به ضرّ الـجوع والزَّمانة والـحاجة، والفقـيرَ: الذي لا شيء له.

وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس، قوله:{ فَكُلُوا مِنْها وأطْعِمُوا البـائِسَ الفَقِـيرَ } يعنـي: الزَّمِن الفقـير.

حدثنا ابن عبد الأعلـى، قال: ثنا مـحمد بن ثور، عن معمر، عن رجل، عن مـجاهد: البـائِسَ الفَقِـيرَ: الذي يـمد إلـيك يديه.

حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله:{ البَـائِسَ الفَقِـيرَ } قال: هو القانع.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جُرَيج، قال: أخبرنـي عمر بن عطاء، عن عكرِمة، قال: البـائسَ: الـمضطر الذي علـيه البؤس، والفقـير: الـمتعفِّف.

قال: ثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مـجاهد، قوله: { البـائِسَ } الذي يبسط يديه.

وقوله:{ ثُمَّ لِـيَقْضُوا تَفَثَهُمْ } يقول: تعالـى ذكره: ثم لـيقضوا ما علـيهم من مناسك حجهم: من حلق شعر، وأخذ شارب، ورمي جمرة، وطواف بـالبـيت.

وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن أبـي الشوارب، قال: ثنـي يزيد، قال: أخبرنا الأشعث بن سوار، عن نافع، عن ابن عمر، أنه قال:{ ثُمَّ لْـيَقْضُوا تَفَثَهُمْ } قال: ما هم علـيه فـي الـحجّ.

حدثنا حميد بن مسعدة، قال: ثنا يزيد، قال: ثنـي الأشعث، عن نافع، عن ابن عمر، قال: التفَث: الـمناسك كلها.

قال: ثنا هشيـم، قال: أخبرنا عبد الـملك، عن عطاء، عن ابن عبـاس، أنه قال، فـي قوله:{ ثُمَّ لْـيَقْضُوا تَفَثَهُمْ } قال: التفَث: حلق الرأس، وأخذ من الشاربـين، ونتف الإبط، وحلق العانة، وقصّ الأظفـار، والأخذ من العارضين، ورمي الـجمار، والـموقـف بعرفة والـمزدلفة.

حدثنا حميد، قال: ثنا بشر بن الـمفضل، قال: ثنا خالد، عن عكرِمة، قال: التفَث: الشعر والظِّفر.

حدثنـي يعقوب، قال: ثنا ابن علـية، عن خالد، عن عكرِمة، مثله.

حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرنـي أبو صخر، عن مـحمد بن كعب القُرَظيّ، أنه كان يقول فـي هذه الآية: { ثُمَّ لْـيَقْضُوا تَفَثَهُمْ }: رمي الـجِمار، وذبح الذبـيحة، وأخذ من الشاربـين واللـحية والأظفـار، والطواف بـالبـيت وبـالصفـا والـمروة.

حدثنا مـحمد بن الـمثنى، قال: ثنا مـحمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن الـحكم، عن مـجاهد أنه قال فـي هذه الآية:{ ثُمَّ لْـيَقْضُوا تَفَثَهُمْ } قال: هو حلق الرأس. وذكر أشياء من الـحجّ قال شعبة: لا أحفظها.

قال: ثنا ابن أبـي عديّ، عن شعبة، عن الـحكم، عن مـجاهد، مثله.

حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: ثنا الـحسن، قال: ثنا ورقاء جميعاً، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد:{ ثُمَّ لْـيَقْضُوا تَفَثَهُمْ } قال: حلق الرأس، وحلق العانة، وقصّ الأظفـار، وقصّ الشارب، ورمي الـجمار، وقصّ اللـحية.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مـجاهد، مثله. إلا أنه لـم يقل فـي حديثه: وقصّ اللـحية.

حدثنـي نصر بن عبد الرحمن الأودي، قال: ثنا الـمـحاربـي، قال: سمعت رجلاً يسأل ابن جُرَيج، عن قوله:{ ثُمَّ لْـيَقْضُوا تَفَثَهُمْ } قال: الأخذ من اللـحية، ومن الشارب، وتقلـيـم الأظفـار، ونتف الإبط، وحلق العانة، ورمي الـجمار.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الـحسين، قال: ثنا هشيـم، قال: أخبرنا منصور، عن الـحسن، وأخبرنا جويبر، عن الضحاك أنهما قالا: حلق الرأس.

حُدثت عن الـحسين، قال: سمعت أبـا معاذ يقول: أخبرنا عبـيد، قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: { ثُمَّ لْـيَقْضُوا تَفَثَهُمْ } يعنـي: حلق الرأس.

حدثنا ابن عبد الأعلـى، قال: ثنا مـحمد بن ثور، عن معمر، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، قال: التفث: حلق الرأس، وتقلـيـم الظفر.

حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس، قوله:{ ثُمَّ لْـيَقْضُوا تَفَثَهُمْ } يقول: نسكهم.

حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله:{ ثُمَّ لْـيَقْضُوا تَفَثَهُمْ } قال: التفث: حرمهم.

حدثنـي علـيّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عبـاس، قوله:{ ثُمَّ لْـيَقْضُوا تَفَثَهُمْ } قال: يعنـي بـالتفث: وضع إحرامهم من حلق الرأس، ولبس الثـياب، وقصّ الأظفـار ونـحو ذلك.

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن عطاء بن السائب، قال: التفث: حلق الشعر، وقصّ الأظفـار والأخذ من الشارب، وحلق العانة، وأمر الـحجّ كله.

وقوله:{ وَلْـيُوفُوا نُذُورَهُمْ } يقول: ولـيوفوا الله بـما نذروا من هَدْي وبدنة وغير ذلك.

وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

حدثنـي علـيّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عبـاس، قوله:{ وَلْـيُوفُوا نُذُورَهُمْ } نـحر ما نذروا من البدن.

حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى. وحدثنـي الـحارث، قال: ثنا الـحسن، قال: ثنا ورقاء جميعاً، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد:{ وَلْـيُوفُوا نُذُورَهُمْ } نذر الـحجّ والهَدي، وما نذر الإنسان من شيء يكون فـي الـحجّ.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مـجاهد:{ وَلْـيُوفُوا نُذُورَهُمْ } قال: نذر الـحجّ والهدي، وما نذر الإنسان علـى نفسه من شيء يكون فـي الـحجّ.

وقوله: { وَلْـيَطَّوَّفُوا بـالبَـيْتِ العَتـيقِ } يقول: ولـيطوّفوا ببـيت الله الـحرام.

واختلف أهل التأويـل فـي معنى قوله: العَتِـيق فـي هذا الـموضع، فقال بعضهم: قـيـل ذلك لبـيت الله الـحرام، لأن الله أعتقه من الـجبـابرة أن يصلوا إلـى تـخريبه وهدمه. ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن عبد الأعلـى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن الزهري، أن ابن الزبـير، قال: إنـما سمي البـيت العتـيق، لأن الله أعتقه من الـجبـابرة.

حدثنا الـحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الزهري، عن ابن الزبـير، مثله.

حدثنا ابن بشار، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا سفـيان، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، قال: إنـما سمي العتـيق، لأنه أعتق من الـجبـابرة.

قال: ثنا سفـيان، قال: ثنا أبو هلال، عن قَتادة:{ وَلْـيَطَّوفوا بـالْبَـيْتِ العَتِـيقِ } قال: أُعْتِق من الـجبـابرة.

حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: ثنا الـحسن، قال: ثنا ورقاء جميعاً، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، قوله:{ البَـيْتِ العَتِـيقِ } قال: أعتقه الله من الـجبـابرة، يعنـي الكعبة.

وقال آخرون: قـيـل له عتـيق لأنه لـم يـملكه أحد من الناس. ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن بشار، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا سفـيان، عن عبـيد، عن مـجاهد، قال: إنـما سمي البـيت العتـيق لأنه لـيس لأحد فـيه شيء.

وقال آخرون: سمي بذلك لقِدمه. ذكر من قال ذلك:

حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله:{ البَـيْتِ العَتِـيقِ } قال: العتـيق: القديـم، لأنه قديـم، كما يقال: السيف العتـيق، لأنه أوّل بـيت وُضع للناس بناه آدم، وهو أوّل من بناه، ثم بوّأ الله موضعه لإبراهيـم بعد الغرق، فبناه إبراهيـم وإسماعيـل.

قال أبو جعفر: ولكا هذه الأقوال التـي ذكرناها عمن ذكرناها عنه فـي قوله: البَـيْتِ العَتِـيقِ وجه صحيح، غير أن الذي قاله ابن زيد أغلب معانـيه علـيه فـي الظاهر. غير أن الذي رُوي عن ابن الزبـير أولـى بـالصحة، إن كان ما:

حدثنـي به مـحمد بن سهل البخاري، قال: ثنا عبد الله بن صالـح، قال: أخبرنـي اللـيث، عن عبد الرحمن بن خالد بن مسافر، عن الزهريّ، عن مـحمد بن عروة، عن عبد الله بن الزبـير، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّمَا سُمّيَ البَيْتُ العَتِيقُ لأنَّ اللَّهَ أعْتَقَهُ مِنَ الـجَبـابِرَةِ فَلَـمْ يَظْهَرْ عَلَيْهِ قَطُّ صحيحاً " .

حدثنا القاسم، قال: ثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جُرَيج، قال الزهريّ: بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّـمَا سُمّيَ البَـيْتُ العَتِـيقُ لأَنَّ اللَّهَ أعْتَقَهُ" ثم ذكر مثله.

وعنـي بـالطواف الذي أمر جلّ ثناؤه حاجّ بـيته العتـيق به فـي هذه الآية طواف الإفـاضة الذي يُطاف به بعد التعريف، إما يوم النـحر وإما بعده، لا خلاف بـين أهل التأويـل فـي ذلك. ذكر الرواية عن بعض من قال ذلك:

حدثنا عمرو بن سعيد القرشي، قال: ثنا الأنصاري، عن أشعث، عن الـحسن:{ وَلْـيَطَّوَّفُوا بـالبَـيْتِ العَتـيِقِ } قال: طواف الزيارة.

حدثنا ابن عبد الأعلـى، قال: ثنا خالد، قال: ثنا الأشعث، أن الـحسن قال فـي قوله: { وَلْـيَطَّوَّفُوا بـالبَـيْتِ العَتـيِقِ } قال: الطواف الواجب.

حدثنـي علـيّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثنـي معاوية عن علـيّ، عن ابن عبـاس، قوله:{ وَلْـيَطَّوَّفُوا بـالبَـيْتِ العَتـيِقِ } يعنـي: زيارة البـيت.

حدثنـي يعقوب، قال: ثنا هشيـم، عن حجاج وعبد الـملك، عن عطاء، فـي قوله:{ وَلْـيَطَّوَّفُوا بـالبَـيْتِ العَتـيِقِ } قال: طواف يوم النـحر.

حدثنـي أبو عبد الرحمن البرقـي، قال: ثنا عمرو بن أبـي سلـمة، قال: سألت زُهَيرا عن قول الله:{ وَلْـيَطَّوَّفُوا بـالبَـيْتِ العَتـيِقِ } قال: طواف الْوَداع.

واختلف القرّاء فـي قراءة هذه الـحروف، فقرأ ذلك عامة قراء الكوفة { ثُمَّ لْـيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْـيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْـيَطَّوَّفُوا } بتسكين اللام فـي كل ذلك طلب التـخفـيف، كما فعلوا فـي «هو» إذا كانت قبله واو، فقالوا { وَهْوَ عَلِـيـمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ } فسكَّنوا الهاء، وكذلك يفعلون فـي لام الأمر إذا كان قبلها حرف من حروف النسق كالواو والفـاء وثم. وكذلك قرأت عامة قرّاء أهل البصرة، غير أن أبـا عمرو بن العلاء كان يكسر اللام من قوله: «ثُمَّ لِـيَقْضُوا» خاصة من أجل أن الوقوف علـى «ثم» دون «لـيقضوا» حسن، وغير جائز الوقوف علـى الواو والفـاء. وهذا الذي اعتلّ به أبو عمرو لقراءته علة حسنة من جهة القـياس، غير أن أكثر القرّاء علـى تسكينها.

وأولـى الأقوال بـالصواب فـي ذلك عندي، أن التسكين فـي لام «لـيقضوا» والكسر قراءتان مشهورتان ولغتان سائرتان، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب الصواب. غير أن الكسر فـيها خاصة أقـيس، لـما ذكرنا لأبـي عمرو من العلة، لأن من قرأ: { وَهُوْ عَلِـيـمٌ بذَاتِ الصُّدُورِ } فهو بتسكين الهاء مع الواو والفـاء، ويحركها فـي قوله: { ثُمَّ هُوَ يَوْمَ القِـيامَةِ مِنَ الـمُـحْضَرِينَ } فذلك الواجب علـيه أن يفعل فـي قوله: «ثُمَّ لِـيَقْضُوا تَفَثَهُمْ» فـيحرّك اللام إلـى الكسر مع «ثم» وإن سكَّنها فـي قوله: وَلْـيُوفُوا نُذُورَهُمْ. وقد ذكر عن أبـي عبد الرحمن السُّلَـميّ والـحسن البصري تـحريكها مع «ثم» والواو، وهي لغة مشهورة، غير أن أكثر القرّاء مع الواو والفـاء علـى تسكينها، وهي أشهر اللغتـين فـي العرب وأفصحها، فـالقراءة بها أعجب إلـيّ من كسرها.