خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

لَّيْسَ عَلَى ٱلأَعْمَىٰ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى ٱلأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى ٱلْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ ءَابَآئِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَٰتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَٰنِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَٰتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَٰمِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّٰتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَٰلِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَٰلَٰتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَّفَاتِحهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُواْ جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُواْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ مُبَٰرَكَةً طَيِّبَةً كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمُ ٱلأيَٰتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ
٦١
-النور

جامع البيان في تفسير القرآن

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويـل فـي هذه الآية فـي الـمعنى الذي أنزلت فـيه، فقال بعضهم: أنزلت هذه الآية ترخيصاً للـمسلـمين فـي الأكل مع العُمْيان والعُرْجان والـمرضى وأهل الزَّمانة من طعامهم، من أجل أنهم كانوا قد امتنعوا من أن يأكلوا معهم من طعامهم، خشية أن يكونوا قد أتَوْا بأكلهم معهم من طعامهم شيئا مـما نهاهم الله عنه بقوله:{ يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أمْوَالَكُمْ بَـيْنَكُمْ بـالبـاطِلِ إلاَّ أنْ تَكُونَ تِـجارَةٌ عَنْ تَرَاضٍ مِنكمْ }.

ذكر من قال ذلك:

حدثنـي علـيّ، قال: ثنـي عبد الله، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عبـاس:{ لَـيْسَ عَلَـيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُـيُوتِكُمْ }... إلـى قوله:{ أوْ أشْتاتاً } وذلك لَـمّا أنزل الله:{ يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أمْوَالَكُمْ بَـيْنَكُمْ } بـالبـاطلِ فقال الـمسلـمون: إن الله قد نهانا أن نأكل أموالنا بـيننا بـالبـاطل، والطعام من أفضل الأموال، فلا يحلّ لأحد منا أن يأكل عند أحد. فكفّ الناس عن ذلك، فأنزل الله بعد ذلك:{ لَـيْسَ عَلـى الأعْمَى حَرَجٌ }... إلـى قوله:{ أوْ ما مَلَكْتُـمْ مَفـاتِـحَهُ }.

حُدثت عن الـحسين، قال: سمعت أبـا معاذ يقول: أخبرنا عبـيد، قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله:{ لَيْسَ عَلى الأعْمَى حَرَجٌ }...الآية، كان أهل الـمدينة قبل أن يُبعث النبـيّ صلى الله عليه وسلم لا يخالطهم فـي طعامهم أعمى ولا مريض، فقال بعضهم: إنـما كان بهم التقذّر والتقزّز. وقال بعضهم: الـمريض لا يستوفـي الطعام كما يستوفـي الصحيح، والأعرج الـمنـحبس لا يستطيع الـمزاحمة علـى الطعام، والأعمى لا يبصر طيب الطعام. فأنزل الله:{ لَـيْسَ عَلَـيْكُمْ حَرَجٌ } فـي مؤالكة الـمريض والأعمى والأعرج.

فمعنى الكلام علـى تأويـل هؤلاء: لـيس علـيكم أيها الناس فـي الأعمى حرج أن تأكلوا منه ومعه، ولا فـي الأعرج حرج، ولا فـي الـمريض حرج، ولا فـي أنفسكم، أن تأكلوا من بـيوتكم. فوجَّهوا معنى «علـى» فـي هذا الـموضع إلـى معنى «فـي».

وقال آخرون: بل نزلت هذه الآية ترخيصاً لأهل الزمانة فـي الأكل من بـيوت من سمى الله فـي هذه الآية لأن قوماً كانوا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا لـم يكن عندهم فـي بـيوتهم ما يطعمونهم، ذهبوا بهم إلـى بـيوت آبـائهم وأمهاتهم أو بعض من سمّى الله فـي هذه الآية، فكان أهل الزمانة يتـخوّفون من أن يطعموا ذلك الطعام لأنه أطعمهم غير ملكه.

ذكر من قال ذلك:

حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: ثنا الـحسن، قال: ثنا ورقاء جميعاً، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد:{ لا جُناحَ عَلَـيْكُمْ أنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُـيُوتِكُمْ أوْ بُـيُوتِ آبـائِكُمْ } قال: كان رجال زَمْنَى قال ابن عمرو فـي حديثه: عُمْيان وعُرْجان. وقال الـحارث: عُمْيٌ عُرْج أولوا حاجة، يستتبعهم رجال إلـى بـيوتهم، فإن لـم يجدوا طعاماً ذهبوا بهم إلـى بوت آبـائهم ومن عدد منهم من البـيوت، فكره ذلك الـمستتبعون، فأنزل الله فـي ذلك:{ لَـيْسَ عَلَـيْكُمْ جُناحٌ }، وأحلّ لهم الطعام حيث وجدوه.

حدثنا الـحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، عن معمر، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، قال: كان الرجل يذهب بـالأعمى والـمريض والأعرج إلـى بـيت أبـيه، أو إلـى بـيت أخيه، أو عمه، أو خاله، أو خالته، فكان الزَّمنـي يتـحرّجون من ذلك، يقولون: إنـما يذهبون بنا إلـى بـيوت غيرهم، فنزلت هذه الآية رُخْصة لهم.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مـجاهد، نـحو حديث ابن عمرو، عن أبـي عاصم.

وقال آخرون: بل نزلت ترخيصاً لأهل الزمانة الذين وصفهم الله فـي هذه الآية أن يأكلوا من بـيوت من خَـلَّفهم فـي بيوته من الغزاة.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، عن معمر، قال: قلت للزهريّ، فـي قوله:{ لَيْسَ عَلى الأعْمَى حَرَجٌ } ما بـال الأعمى ذكر ها هنا والأعرج والـمريض؟ فقال: أخبرنـي عُبـيد الله بن عبد الله أن الـمسلـمين كانوا إذا غَزَوا خَـلَّفوا زَمْناهم، وكانوا يدفعون إلـيهم مفـاتـيح أبوابهم، يقولون: قد أحللنا لكم أن تأكلوا مـما فـي بـيوتنا وكانوا يتـحرّجون من ذلك، يقولون: لا ندخـلها وهي غُيَّب. فأنزلت هذه الآية رخصة لهم.

وقال آخرون: بل عُنـي بقوله:{ لَـيْسَ عَلـى الأعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلـى الأعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلـى الـمَرِيضِ حَرَجٌ } فـي التـخـلف عن الـجهاد فـي سبـيـل الله. قالوا: وقوله:{ وَلا عَلـى أنْفُسِكُمْ أنْ تَأْكُلوا مِنْ بُـيُوتِكُمْ } كلام منقطع عما قبله.

ذكر من قال ذلك:

حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله:{ لَـيْسَ عَلـى الأعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلـى الأعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلـى الـمَرِيضِ حَرَجٌ } قال: هذا فـي الـجهاد فـي سبل الله. وفـي قوله:{ وَلا عَلـى أنْفُسِكُمْ أنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُـيُوتِكُمْ }... إلـى قوله:{ أوْ صَدِيقِكُمْ } قال: هذا شيء قد انقطع، إنـما كان هذا فـي الأوّل، لـم يكن لهم أبواب وكانت الستور مُرْخاة، فربـما دخـل الرجل البـيت ولـيس فـيه أحد، فربـما وجد الطعام وهو جائع، فسوّغه الله أن يأكله. قال: وقد ذهب ذلك الـيوم البـيوت الـيوم فـيـما أهلها، وإذا أخرجوا أغلقوها فقد ذهب ذلك.

وقال آخرون: بل نزلت هذه الآية ترخيصاً للـمسلـمين الذين كانوا يتقون مؤاكلة أهل الزمانة فـي مؤاكلتهم إذا شاءوا ذلك.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفـيان، عن قـيس بن مسلـم، عن مِقْسم، فـي قوله:{ لَـيْسَ عَلـى الأعْمَى حَرَجٌ } قال: كانوا يتقون أن يأكلوا مع الأعمى والأعرج، فنزلت:{ لَـيْسَ عَلَـيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أوْ أشْتاتاً }.

واختلفوا أيضا فـي معنى قوله:{ أوْ ما مَلَكْتُـمْ مَفـاتِـحَهُ } فقال بعضهم: عُنـي بذلك وكيـلُ الرجل وَقـيِّـمُه، أنه لا بأس علـيه أن يأكل من ثمر ضيعته، ونـحو ذلك. ذكر من قال ذلك:

حدثنـي علـيّ، قال: ثنا أبو صالـح، قال: ثنا معاوية، عن علـيّ، عن ابن عبـاس، فـي قوله:{ أوْ ما مَلَكْتُـمْ مَفـاتِـحَهُ } وهو الرجل يوكَّل الرجل بضيعته، فرخص الله له أن يأكل من ذلك الطعام والتـمر ويشربَ اللبن.

وقال آخرون: بل عُنِـي بذلك: منزل الرجل نفسه أنه لا بأس علـيه أن يأكل.

ذكر من قال ذلك:

حُدثت عن الـحسين، قال: سمعت أبـا معاذ، يقول:أخبرنا عبيد قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله:{ أوْ ما مَلَكْتُـمْ مَفـاتِـحَهُ } يعنـي: بـيت أحدهم، فإنه يـملكه، والعبـيد منهم مـما ملكوا.

حدثنا الـحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، عن معمر، عن قَتادة، فـي قوله:{ أوْ ما مَلَكْتُـمْ مَفـاتِـحَهُ } مـما تـحبون يا ابن آدم.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مـجاهد، قال:{ أوْ ما مَلَكْتُـمْ مَفـاتِـحَهُ } قال: خزائن لأنفسهم، لـيست لغيرهم.

وأشبه الأقوال التـي ذكرنا فـي تأويـل قوله:{ لَـيْسَ عَلـى الأعْمَى حَرَجٌ }... إلـى قوله:{ أوْ صَدِيقكُمْ } القول الذي ذكرنا عن الزهريّ عن عبـيد الله بن عبد الله، وذلك أن أظهر معانـي قوله:{ لَـيْسَ عَلـى الأعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلـى الأعْرَجِ حَرَجٌ }: أنه لا حرج علـى هؤلاء الذين سُمُّوا فـي هذه الآية أن يأكلوا من بـيوت من ذكره الله فـيها، علـى ما أبـاح لهم من الأكل منها. فإذ كان ذلك أظهر معانـيه، فتوجيه معناه إلـى الأغلب الأعرف من معانـيه أولـى من توجيهه إلـى الأنكر منها. فإذ كان ذلك كذلك، كان ما خالف من التأويـل قول من قال: معناه: لـيس فـي الأعمى والأعرج حرج، أولـى بـالصواب. وكذلك أيضا الأغلب من تأويـل قوله:{ وَلا عَلـى أنْفُسِكُمْ أنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُـيُوتكُمْ } أنه بـمعنى: ولا علـيكم أيها الناس. ثم جمع هؤلاء والزَّمْنَى الذين ذكرهم قبل فـي الـخطاب، فقال: أن تأكلوا من بـيوت أنفسكم. وكذلك تفعل العرب إذا جمعت بـين خبر الغائب والـمخاطب، غلَّبت الـمخاطب فقالت: أنت وأخوك قمتـما، وأنت وزيد جلستـما، ولا تقول: أنت وأخوك جلسا، وكذلك قوله:{ وَلا عَلـى أنْفُسِكُمْ } والـخبر عن الأعمى والأعرج والـمريض، غلَّب الـمخاطب، فقال: أن تأكلوا، ولـم يقل: أن يأكلوا.

فإن قال قائل: فهذا الأكل من بـيوتهم قد علـمناه كان لهم حلالاً إذ كان ملكاً لهم، أَوَ كانَ أيضاً حلالاً لهم الأكل من مال غيرهم؟ قـيـل له: لـيس الأمر فـي ذلك علـى ما توهمَّتَ ولكنه كما ذكرناه عن عبـيد الله بن عبد الله، أنهم كانوا إذا غابوا فـي مغازيهم وتـخـلف أهل الزمانة منهم، دفع الغازي مفتاح مسكنه إلـى الـمتـخـلف منهم، فأطلق له فـي الأكل مـما يخـلف فـي منزله من الطعام، فكان الـمتـخـلفون يتـخوّفون الأكل من ذلك وربه غائب، فأعلـمه الله أنه لا حرج علـيه فـي الأكل منه وأذِن لهم فـي أكله. فإذ كان ذلك كذلك تبـين أن لا معنى لقول من قال: إنـما أنزلت هذه الآية من أجل كراهة الـمستتبع أكل طعام غير الـمستتبع لأن ذلك لو كان كما قال من قال ذلك: لقـيـل: لـيس علـيكم حرج أن تأكلوا من طعام غير من أضافكم، أو من طعام آبـاء من دعاكم، ولـم يقل: أن تأكلوا من بـيوتكم أو بـيوت آبـائكم. وكذلك لا وجه لقول من قال: معنى ذلك: لـيس علـى الأعمى حرج فـي التـخـلف عن الـجهاد فـي سبـيـل الله، لأن قوله:{ أنْ تأْكُلوا } خبر «لـيس»، و«أنْ» فـي موضع نصب علـى أنها خبر لها، فهي متعلقة ب«لـيس»، فمعلوم بذلك أن معنى الكلام: لـيس علـى الأعمى حرج أن يأكل من بـيته، لا ما قاله الذين ذكرنا من أنه لا حرج علـيه فـي التـخـلف عن الـجهاد. فإذ كان الأمر فـي ذلك علـى ما وصفنا، تبـين أن معنى الكلام: لا ضِيقَ علـى الأعمى، ولا علـى الأعرج، ولا علـى الـمريض، ولا علـيكم أيها الناس، أن تأكلوا من بـيوت أنفسكم أو من بـيوت آبـائكم أو من بـيوت أمهاتكم أو من بـيوت إخوانكم أو من بـيوت أخواتكم أو من بـيوت أعمامكم أو من بـيوت عماتكم أو من بـيوت أخوالكم أو من بـيوت خالاتكم أو من البـيوت التـي ملكتـم مَفـاتـحها أو من بـيوت صديقكم، إذا أذنوا لكم فـي ذلك، عند مغيبهم ومشهدهم. والـمفـاتـح: الـخزائن، واحدها: «مَفْتـح» إذا أريد به الـمصدر، وإذا كان من الـمفـاتـيح التـي يفتـح بها، فهي مِفْتـح ومفـاتـح وهي ها هنا علـى التأويـل الذي اخترناه جمع مِفْتـح الذي يفتـح به. وكان قَتادة يتأوّل فـي قوله:{ أوْ صَدِيقِكُمْ }، ما:

حدثنا به الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق عن معمر، عن قَتادة:{ أوْ صَدِيقِكُمْ } فلو أكلْت من بـيت صديقك من غير أمره، لـم يكن بذلك بأس. قال معمر: قلت لقتادة: أَوَلاَ أشربُ من هذا الـحُبّ؟ قال: أنت لـي صديق.

وأما قوله:{ لَـيْسَ عَلَـيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أوْ أشْتاتاً } فإن أهل التأويـل اختلفوا فـي تأويـله، فقال بعضهم: كان الغنـيّ من الناس يتـخوّف أن يأكل مع الفقـير، فرخَّصَ لهم فـي الأكل معهم.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا القاسم، قال: ثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جُرَيج، عن عطاء الـخراسانـيّ، عن ابن عبـاس، قوله:{ أنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أوْ أشْتاتاً } قال: كان الغنـيّ يدخـل علـى الفقـير من ذوي قرابته وصديقه، فـيدعُوَه إلـى طعامه لـيأكل معه، فـيقول: والله إنـي لأجنـح أن آكل معك والـجنـح: الـحرج وأنا غنـيّ وأنت فقـير فأُمروا أن يأكلوا جميعاً أو أشتاتاً.

وقال آخرون: بل عُنـي بذلك حيّ من أحياء العرب، كانوا لا يأكل أحدهم وحده ولا يأكل إلا مع غيره، فأذِن الله لهم أن يأكل من شاء منهم وحده ومن شاء منهم مع غيره.

ذكر من قال ذلك:

حدثنـي علـيّ، قال: ثنا أبو صالـح، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عبـاس، قال: كانوا يأنفون ويتـحرّجون أن يأكل الرجل الطعام وحده حتـى يكون معه غيره، فرخص الله لهم، فقال:{ لَـيْسَ عَلَـيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أوْ أشْتاتاً }.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جُرَيج، قال: كانت بنوِ كنانة يستـحى الرجل منهم أن يأكل وحده، حتـى نزلت هذه الآية.

حُدثت عن الـحسين، قال: سمعت أبـا معاذ يقول: أخبرنا عبـيد، قال: سمعت الضحاك يقول: كانوا لا يأكلون إلا جميعاً، ولا يأكلون متفرّقـين، وكان ذلك فـيهم ديناً فأنزل الله: لـيس علـيكم حرج فـي مؤاكلة الـمريض والأعمى، ولـيس علـيكم حرج أن تأكلوا جميعاً أو أشتاتاً.

حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله:{ لَـيْسَ عَلَـيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أوْ أشْتاتاً } قال: كان من العرب من لا يأكل أبداً جميعاً ومنهم من لا يأكل إلا جميعاً، فقال الله ذلك.

حدثنا الـحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قَتادة، قال نزلت:{ لَـيْسَ عَلَـيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أوْ أشْتاتاً } فـي حيّ من فـي العرب كان الرجل منهم لا يأكل طعامه وحده، كان يحمله بعض يوم حتـى يجد من يأكله معه. قال: وأحسب أنه ذكر أنهم من كِنانة.

وقال آخرون: بل عُنِـي بذلك قوم كانوا لا يأكلون إذا نزل بهم ضيف إلا مع ضيفهم، فرخَّصَ لهم فـي أن يأكلوا كيف شاءوا.

ذكر من قال ذلك:

حدثنـي أبو السائب، قال: ثنا حفص، عن عمران بن سلـيـمان، عن أبـي صالـح وعكرمة، قالا: كانت الأنصار إذا نزل بهم الضيف لا يأكلون حتـى يأكل الضيف معهم، فرُخِّص لهم، قال الله:{ لا جُناحَ عَلَـيْكُمْ أنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أوْ أشْتاتاً }.

وأولـى الأقوال فـي ذلك بـالصواب أن يقال: إن الله وضع الـحَرَج عن الـمسلـمين أن يأكلوا جميعاً معاً إذا شاءوا، أو أشتاتاً متفرّقـين إذا أرادوا. وجائز أن يكون ذلك نزل بسبب من كان يتـخوّف من الأغنـياء الأكل مع الفقـير، وجائز أن يكون نزل بسبب القوم الذين ذكر أنهم كانوا لا يَطْعَمون وُحْداناً، وبسبب غير ذلك ولا خبر بشيء من ذلك يقطع العذر، ولا دلالة فـي ظاهر التنزيـل علـى حقـيقة شيء منه. والصواب التسلـيـم لـما دلّ علـيه ظاهر التنزيـل، والتوقـف فـيـما لـم يكن علـى صحته دلـيـل.

وقوله: { فإذَا دَخَـلْتُـمْ بُـيُوتاً فَسَلِّـموا عَلـى أنْفُسِكُمْ تَـحِيَّةً مِنْ عِنْدَ اللّهِ } اختلف أهل التأويـل فـي ذلك، فقال بعضهم: معناه: فإذا دخـلتـم أيها الناس بـيوت أنفسكم، فسلـموا علـى أهلـيكم وعيالكم. ذكر من قال ذلك:

حدثنا الـحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الزهريّ وقتادة فـي قوله:{ فسَلِّـموا عَلـى أنْفُسِكُمْ } قالا: بـيتك، إذا دخـلته فقل: سلام علـيكم.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جُرَيج:{ فإذَا دَخَـلْتُـمْ بُـيُوتا فَسَلِّـمُوا عَلـى أنْفُسكُمْ } قال: سَلِّـمْ علـى أهلك قال ابن جُرَيج: وسُئل عن عطاء بن أبـي ربـاح: أحقّ علـى الرجل إذا دخـل علـى أهله أن يسلـم علـيهم؟ قال: نعم. وقالها عمرو بن دينار. وتَلَوا: { فإذَا دَخَـلْتُـمْ بُـيُوتاً فَسَلِّـمُوا عَلـى أنْفِسكُمْ تَـحِيَّةً مِنْ عِنْد اللّهِ مُبـارَكَةً طَيِّبَةً } قال عطاء بن أبـي ربـاح ذلك غير مرّة.

قال: ثنـي حجاج، عن ابن جُرَيج، قال: أخبرنـي أبو الزُّبـير، قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول: إذا دخـلت علـى أهلك فسلـم علـيهم{ تَـحيَّةً مِنْ عِنْدَ اللّهِ مُبـارَكَةً طَيِّبَةً }. قال: ما رأيته إلا يوجبه. قال ابن جُرَيج، وأخبرنـي زياد، عن ابن طاوس أنه كان يقول: إذا دخـل أحدكم بـيته فلـيسلـم.

قال: ثنـي حجاج، عن ابن جُرَيج، قال: قلت لعطاء: إذا خرجت أواجب السلام؟ هل أسلـم علـيهم؟ فإنـما قال:{ إذَا دَخَـلْتُـمْ بُـيُوتاً فَسَلِّـمُوا؟ } قال: ما أعلـمه واجبـاً ولا آثِرُ عن أحد وجوبه، ولكن أحبّ إلـيّ، وما أدعه إلا ناسيا. قال ابن جُرَيج، وقال عمرو بن دينار: لا، قال: قلت لعطاء: فإن لـم يكن فـي البـيت أحد؟ قال: سلِّـمْ قل: السلام علـى النبـيّ ورحمة الله وبركاته، السلام علـينا وعلـى عبـاد الله الصالـحين، السلام علـى أهل البـيت ورحمة الله. قلت له: قولك هذا إذا دخـلت بـيتاً لـيس فـيه أحد عمن تَأْثِره؟ قال: سمعته ولـم يؤثر لـي عن أحد. قال ابن جُرَيج، وأخبرنـي عَطَاءٌ الـخُراسانـيّ، عن ابن عبـاس، قال: السلام علـينا من ربنا، وقال عمرو بن دينار: السلام علـينا وعلـى عبـاد الله الصالـحين.

حدثنا أحمد بن عبد الرحيـم، قال: ثنا عمرو بن أبـي سلـمة، قال: ثنا صدقة، عن زُهَير، عن ابن جُرَيج، عن أبـي الزبـير، عن جابر بن عبد الله، قال: إذا دخـلت علـى أهلك فسلـم علـيهم، تـحية من عند الله مبـاركة طيبة. قال: ما رأيته إلاّ يوجبه.

حدثنا محمد بن عبـاد الرازي، قال: ثنا حجاج بن مـحمد الأعور، قال: قال لـي ابن جُرَيج، أخبرنـي أبو الزبـير: أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: فذكر مثله.

حُدثت عن الـحسين، قال: سمعت أبـا معاذ يقول: أخبرنا عبـيد، قال: سمعت الضحاك يقول، فـي قوله:{ فإذَا دَخَـلْتُـمْ بُـيُوتاً فَسَلِّـمُوا عَلـى أنْفُسِكُمْ } يقول: سلـموا علـى أهالـيكم إذا دخـلتـم بـيوتكم، وعلـى غير أهالـيكم، فسلـموا إذا دخـلتـم بـيوتهم.

وقال آخرون: بل معناه: فإذا دخـلتـم الـمساجد فسلِّـموا علـى أهلها.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا عبد الله بن الـمبـارك، عن معمر، عن عمرو بن دينار، عن ابن عبـاس:{ إذَا دَخَـلْتُـمْ بُـيُوتاً فَسَلِّـمُوا عَلـى أنْفُسِكُمْ } قال: هي الـمساجد، يقول: السلام علـينا وعلـى عبـاد الله الصالـحين.

قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفـيان، عن الأعمش، عن إبراهيـم، فـي قوله:{ فَإِذَا دَخَـلْتُـمْ بُـيُوتاً فَسَلَّـمُوا عَلـى أنْفُسِكُمْ } قال: إذا دخـلت الـمسجد فقل: السلام علـى رسول الله وإذا دخـلت بـيتا لـيس فـيه أحد، فقل: السلام علـينا وعلـى عبـاد الله الصالـحين وإذا دخـلت بـيتك فقل: السلام علـيكم.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: إذا دخـلتـم بـيوتاً من بـيوت الـمسلـمين فـيها ناس منكم، فلـيسلـم بعضكم علـى بعض.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا الـحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الـحسن، فـي قوله: فَسَلِّـمُوا عَلـى أنْفُسِكُمْ أي لـيسلـم بعضكم علـى بعض، كقوله: { وَلا تَقْتُلُوا أنْفُسَكُمْ } .

حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله:{ فإذَا دَخَـلْتُـمْ بُـيُوتاً فَسَلِّـمُوا عَلـى أنْفُسِكُمْ } قال: إذا دخـل الـمسلِّـم سُلِّـم علـيه، كمثل قوله: { لا تَقْتُلُوا أنْفُسَكُمْ } إنـما هو: لا تقتل أخاك الـمسلـم. وقوله: { ثُمَّ أنْتُـمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أنْفُسَكُمْ } قال: يقتل بعضكم بعضاً، قُريظة والنَّضِير.

وقال آخرون: معناه: فإذا دخـلتـم بـيوتا لـيس فـيها أحد، فسلـموا علـى أنفسكم.

ذكر من قال ذلك:

حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: ثنا هشيـم، قال: أخبرنا حصين، عن أبـي مالك، قال: إذا دخـلت بـيتاً لـيس فـيه أحد، فقل: السلام علـينا وعلـى عبـاد الله الصالـحين وإذا دخـلت بـيتاً فـيه ناس من الـمسلـمين وغير الـمسلـمين، فقل مثل ذلك.

حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفـيان، عن أبـي سِنان، عن ماهان، قال: إذا دخـلتـم بـيوتاً فسلـموا علـى أنفسكم، قال: تقولوا: السلام علـينا من ربنا.

حدثنا ابن الـمثنى، قال: ثنا مـحمد بن جعفر، قال: أخبرنا شعبة عن منصور، قال شعبة: وسألته عن هذه الآية:{ فإذَا دَخَـلْتُـمْ بُـيُوتاً فَسَلِّـمُوا عَلـى أنْفُسِكُمْ تَـحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللّهِ } قال: قال إبراهيـم: إذا دخـلت بـيتاً لـيس فـيه أحد، فقل: السلام علـينا وعلـى عبـاد الله الصالـحين.

حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرنـي عمرو بن الـحارث، عن بكير بن الأشجّ، عن نافع: أن عبد الله كان إذا دخـل بـيتاً لـيس فـيه أحد، قال: السلام علـينا وعلـى عبـاد الله الصالـحين.

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، قال: ثنا منصور، عن إبراهيـم:{ فإذَا دَخَـلْتُـمْ بُـيُوتاً فَسَلِّـمُوا عَلـى أنْفُسكُمْ } قال: إذا دخـلت بـيتاً فـيه يهود فقل: السلام علـيكم وإن لـم يكن فـيه أحد فقل: السلام علـينا وعلـى عبـاد الله الصالـحين.

وأولـى الأقوال فـي ذلك بـالصواب قول من قال معناه: فإذا دخـلتـم بـيوتاً من بـيوت الـمسلـمين، فلـيسلـم بعضكم علـى بعض.

وإنـما قلنا ذلك أولـى بـالصواب لأن الله جلّ ثناؤه قال:{ فإذَا دَخَـلْتُـمْ بُـيُوتاً } ولـم يخصُصْ من ذلك بـيتاً دون بـيت، وقال:{ فَسَلِّـمُوا عَلـى أنْفُسِكُمْ } يعنـي: بعضكم علـى بعض. فكان معلوماً إذ لـم يخصص ذلك علـى بعض البـيوت دون بعض، أنه معنىّ به جميعها، مساجدها وغير مساجدها. ومعنى قوله:{ فَسَلِّـموا عَلـى أنْفُسِكُمْ } نظير قوله: { وَلا تَقْتُلُوا أنْفُسَكُمْ } . وقوله:{ تَـحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللّهِ } ونصب تـحية، بـمعنى: تُـحيُّون أنفسكم تـحية من عند الله السلام تـحية، فكأنه قال: فلـيحيّ بعضكم بعضاً تـحية من عند الله. وقد كان بعض أهل العربـية يقول: إنـما نصبت بـمعنى: أَمَرَكم بها تفعلونها تَـحيّة منه، ووصف جلّ ثناؤه هذه التـحية الـمبـاركة الطيبة لـما فـيها من الأجر الـجزيـل والثواب العظيـم.

وقوله:{ كَذلكَ يُبَـيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآياتِ } يقول تعالـى ذكره: هكذا يفصل الله لكم معالـم دينكم فـيبـينها لكم، كما فصل لكم فـي هذه الآية ما أحلّ لكم فـيها، وعرّفكم سبـيـل الدخول علـى من تدخـلون علـيه.{ لَعَلَّكُم تَعْقِلَونَ } يقول: لكي تفقَهوا عن الله أمره ونهيه وأدبه.