خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

إِنَّ إِلَـٰهَكُمْ لَوَاحِدٌ
٤
رَّبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ ٱلْمَشَارِقِ
٥
إِنَّا زَيَّنَّا ٱلسَّمَآءَ ٱلدُّنْيَا بِزِينَةٍ ٱلْكَوَاكِبِ
٦
وَحِفْظاً مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ
٧
لاَّ يَسَّمَّعُونَ إِلَىٰ ٱلْمَلإِ ٱلأَعْلَىٰ وَيُقْذَفُونَ مِن كُلِّ جَانِبٍ
٨
دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ وَاصِبٌ
٩
إِلاَّ مَنْ خَطِفَ ٱلْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ
١٠
-الصافات

جامع البيان في تفسير القرآن

يعنـي تعالـى ذكره بقوله: { إنَّ إلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ } والصافـات صفـاً إن معبودكم الذي يستوجب علـيكم أيها الناس العبـادة، وإخلاص الطاعة منكم له لواحد لا ثانـي له ولا شريك. يقول: فأخـلصوا العبـادة وإياه فأفردوا بـالطاعة، ولا تـجعلوا له فـي عبـادتكم إياه شريكاً. وقوله: { رَبُّ السَّمَوَاتِ والأرْضِ وَما بَـيْنَهُما } يقول: هو واحد خالق السموات السبع وما بـينهما من الـخـلق، ومالك ذلك كله، والقـيِّـمِ علـى جميع ذلك، يقول: فـالعبادة لا تصلـح إلا لـمن هذه صفته، فلا تعبدوا غيره، ولا تشركوا معه فـي عبـادتكم إياه من لا يضرّ ولا ينفع، ولا يخـلق شيئاً ولا يُفْنـيه.

واختلف أهل العربـية فـي وجه رفع ربّ السموات، فقال بعض نـحويـيّ البصرة: رُفع علـى معنى: إن إلهكم لربّ. وقال غيره: هو رَدّ علـى { إن إلهكم لواحد } ثم فَسَّر الواحد، فقال: ربّ السموات، وهو ردّ علـى واحد. وهذا القول عندي أشبه بـالصواب فـي ذلك، لأن الـخبر هو قوله: { لَوَاحِدٌ }، وقوله: { رَبُّ السَّمَوَاتِ } ترجمة عنه، وبـيان مردود علـى إعرابه.

وقوله: { وَرَبُّ الـمَشارِقِ } يقول: ومدبر مشارق الشمس فـي الشتاء والصيف ومغاربها، والقـيِّـم علـى ذلك ومصلـحه وترك ذكر الـمغارب لدلالة الكلام علـيه، واستغنـي بذكر الـمشارق من ذكرها، إذ كان معلوماً أن معها الـمغارب. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة { إنَّ إلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ } وقع القسم علـى هذا إن إلهكم لواحد { رَبُّ السَّمَوَاتِ والأرْضِ وَما بَـيْنَهُما وَرَبُّ الـمَشارِقِ } قال: مشارق الشمس فـي الشتاء والصيف.

حدثنـي مـحمد بن الـحسين، قلا: ثنا أحمد بن الـمفضل، قال: ثنا أسبـاط، عن السديّ، قوله: { رَبّ الـمَشارِقِ } قال: الـمشارق ستون وثلاثُ مئة مَشْرِق، والـمغارب مثلها، عدد أيام السنة.

وقوله: { إنَّا زَيَّنا السَّماءَ الدُّنـيْا بزِينَةٍ الكَوَاكِبِ } اختلفت القرّاء فـي قراءة قوله: { بِزِينَةٍ الكَوَاكِبِ } فقرأته عامة قرّاء الـمدينة والبصرة وبعض قرّاء الكوفة: «بزينةِ الكواكبِ» بإضافة الزينة إلـى الكواكب، وخفض الكواكب { إنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنـيْا } التـي تلـيكم أيها الناس وهي الدنـيا إلـيكم بتزيـيها الكواكب: أي بأنّ زينتها الكواكب. وقرأ ذلك جماعة من قرّاء الكوفة: { بِزِينَةٍ الكَوَاكبِ } بتنوين زينة، وخفض الكواكبَ ردّاً لها علـى الزينة، بـمعنى: إنا زينا السماء الدنـيا بزينة هي الكواكب، كأنه قال: زيناها بـالكواكب. ورُوِي عن بعض قرّاء الكوفة أنه كان ينوّن الزِّينة وينصب الكواكبَ، بـمعنى: إنا زيَّنا السماء الدنـيا بتزيـيننا الكواكبَ. ولو كانت القراءة فـي الكواكب جاءت رفعاً إذا نونّت الزينة، لـم يكن لـحناً، وكان صوابـاً فـي العربـية، وكان معناه: إنا زينا السماء الدنـيا بتزيـينها الكواكب: أي بأن زينتها الكواكب وذلك أن الزينة مصدر، فجائز توجيهها إلـى أيِّ هذه الوجوه التـي وُصِفت فـي العربـية.

وأما القراءة فأعجبها إلـيّ بإضافة الزينة إلـى الكواكب وخفض الكواكب لصحة معنى ذلك فـي التأويـل والعربـية، وأنها قراءة أكثر قرّاء الأمصار، وإن كان التنوين فـي الزينة وخفض الكواكب عندي صحيحاً أيضاً. فأما النصب فـي الكواكب والرفع، فلا أستـجيز القراءة بهما، لإجماع الـحجة من القرّاء علـى خلافهما، وإن كان لهما فـي الإعراب والـمعنى وجه صحيح.

وقد اختلف أهل العربـية فـي تأويـل ذلك إذا أضيفت الزينة إلـى الكواكب، فكان بعض نـحويِّـي البصرة يقول: إذا قرىء ذلك كذلك، فلـيس يعنـي بعضَها، ولكن زينتها حسنها وكان غيره يقول: معنى ذلك إذا قرىء كذلك: إنا زينا السماء الدنـيا بأن زينتها الكواكب. وقد بـيَّـينا الصواب فـي ذلك عندنا.

وقوله: { وَحِفْظاً } يقول تعالـى ذكره: { وَحِفْظاً } للسماء الدنـيا زيناها بزينة الكواكب.

وقد اختلف أهل العربـية فـي وجه نصب قوله: { وَحِفْظاً } فقال بعض نـحويـي البصرة: قال وحفظاً، لأنه بدل من اللفظ بـالفعل، كأنه قال، وحفظناها حفظاً. وقال بعض نـحويـي الكوفة: إنـما هو من صلة التزيـين أنا زينا السماء الدنـيا حفظاً لها، فأدخـل الواو علـى التكرير: أي وزيناها حفظاً لها، فجعله من التزيـين وقد بـيَّنا القول فـيه عندنا. وتأويـل الكلام: وحفظاً لها من كل شيطان عات خبـيث زيناها، كما:

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: { وَحِفْظاً } يقول: جعلتها حفظاً من كلّ شيطان مارد.

وقوله: { لا يَسَّمَّعُونَ إلـى الـمَلإِ الأعْلَـى } اختلفت القرّاء فـي قراءة قوله: { لا يَسَّمَّعُونَ }، فقرأ ذلك عامة قرّاء الـمدينة والبصرة، وبعض الكوفـيـين: «لا يَسْمَعُونَ» بتـخفـيف السين من يسمعون، بـمعنى أنهم يتسمَّعون ولا يسمعون. وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفـيـين بعد { لا يسَّمَّعون } بـمعنى: لا يتسمعون، ثم أدغموا التاء فـي السين فشدّدوها.

وأولـى القراءتـين فـي ذلك عندي بـالصواب قراءة من قرأه بـالتـخفـيف، لأن الأخبـار الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه، أن الشياطين قد تتسمع الوحي، ولكنها تُرمَى بـالشهب لئلا تسمع. ذكر رواية بعض ذلك:

حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن إسرائيـل، عن أبـي إسحاق، عن سعيد بن جُبَـير، عن ابن عبـاس، قال: كانت للشياطين مَقاعد فـي السماء، قال: فكانوا يسمعون الوحي، قال: وكانت النـجوم لا تـجري، وكانت الشياطين لا تُرمَى، قال: فإذا سمعوا الوحي نزلوا إلـى الأرض، فزادوا فـي الكلـمة تسعاً قال: فلـما بُعِثَ رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل الشيطانُ إذا قعد مقعده جاء شهاب، فلـم يُخْطه حتـى يحرقه، قال: فشكوا ذلك إلـى إبلـيس، فقال: ما هو إلا لأمر حدث قال: فبعث جنوده، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلـي بـين جبلـي نـخـلة قال أبو كُرَيب، قال وكيع: يعنـي بطن نـخـلة، قال: فرجعوا إلـى إبلـيس فأخبروه، قال: فقال هذا الذي حدث.

حدثنا ابن وكيع وأحمد بن يحيى الصوفـي قالا: ثنا عبـيد الله، عن إسرائيـل، عن أبـي إسحاق، عن سعيد بن جُبَـير، عن ابن عبـاس، قال: كانت الـجنّ يصعدون إلـى السماء الدنـيا يستـمعون الوحي، فإذا سمعوا الكلـمة زادوا فـيها تسعاً، فأما الكلـمة فتكون حقاً، وأما ما زادوا فـيكون بـاطلاً فلـما بُعث النبـيّ صلى الله عليه وسلم مُنِعوا مقاعدَهم، فذكروا ذلك لإبلـيس، ولـم تكن النـجوم يُرْمى بها قبل ذلك، فقال لهم إبلـيس: ما هذا إلا لأمر حدث فـي الأرض، فبعث جنوده، فوجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائماً يصلـي، فأتوه فأخبروه، فقال: هذا الـحدث الذي حدث.

حدثنا ابن الـمثنى، قال: ثنا عبد الله بن رجاء، قال: ثنا إسرائيـل، عن أبـي إسحاق، عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس، قال: كانت الـجنّ لهم مقاعد، ثم ذكر نـحوه.

حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا يونس بن بكير، قال: ثنا مـحمد بن إسحاق، قال: ثنـي الزهريّ، عن علـيّ بن الـحسين، عن أبـي إسحاق، عن ابن عبـاس، قال: حدثنـي رهط من الأنصار، قالوا: بـينا نـحن جلوس ذات لـيـلة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ رأى كوكبـاً رُمي به، فقال: "ما تقولون فـي هذا الكوكب الذي يُرمَى به؟" فقلنا: يُولد مولود، أو يهلك هالك، ويـموت ملك ويـملك ملك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَـيْسَ كَذَلكَ، ولكِنَّ اللّهَ كانَ إذَا قَضَى أمْراً فِـي السَّماءِ سَبَّحَ لِذَلِكَ حَمَلَةُ العَرْشِ، فَـيُسَبِّحُ لِتَسْبِـيحِهِمْ مَنْ يَـلِـيهِمْ مِنْ تَـحْتِهِمْ مِنَ الـمَلائِكَةِ، فَمَا يَزَالُونَ كذلكَ حتـى يَنْتَهِيَ التَّسْبِـيحُ إلـى السَّماءِ الدُّنـيْا، فَـيَقُولُ أهْلُ السَّماءِ الدّنـيْا لِـمَنْ يَـلِـيهِمْ مِنَ الـمَلائِكَةِ مِـمَّ سَبَّحْتُـمْ؟ فَـيَقُولُونَ: ما نَدْرِي: سَمِعْنا مَنْ فَوْقَنا مِنَ الـمَلائِكَةِ سَبَّحُوا فَسَبَّحْنا اللّهَ لتَسْبِـيحِهِمْ ولكِنَّا سَنَسأَلُ، فَـيَسأَلُونَ مَنْ فَوْقَهُمْ، فَمَا يَزَالُونَ كَذلكَ حتـى يَنْتَهِيَ إلـى حَمَلَةٍ العَرْشِ، فَـيَقُولُونَ: قَضَى اللّهُ كَذَا وكَذَا، فَـيُخْبِرُونَ بِهِ مَنْ يَـلِـيهِمْ حتـى يَنْتَهُوا إلـى السَّماءِ الدُّنـيْا، فَتَسْتَرِقُ الـجِنُّ ما يَقُولُونَ، فَـيَنْزِلُونَ إلـى أَوْلِـيائِهِمْ مِنَ الإنْسِ فَـيَـلْقُونَهُ علـى ألْسِنَتِهِمْ بِتَوَهُّمِ مِنْهُمْ، فَـيُخْبِرُونَهُمْ بِهِ، فَـيَكُونَ بَعْضُهُ حَقًّا وَبَعْضُهُ كَذِبـاً، فَلَـمْ تَزَلِ الـجِنّ كذلك حتـى رُمُوا بِهِذِهِ الشُّهُبِ" .

حدثنا ابن وكيع وابن الـمثنى، قالا: ثنا عبد الأعلـى، عن معمر، عن الزهريّ، عن علـي بن حسين، عن ابن عبـاس، قال بـينـما النَّبِـيُّ صلى الله عليه وسلم فـي نفر من الأنصار، إذ رُمي بنـجم فـاستنار، فقال النبـيّ صلى الله عليه وسلم: "ما كُنْتُـمْ تَقُولُونَ لِـمِثْلِ هَذَا فـي الـجاهِلِـيَّةِ إذَا رأيْتُـمُوهُ؟" قالوا: كنا نقول: يـموت عظيـم أو يولد عظيـم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فإنَّهُ لا يُرْمَى بِهِ لـمَوْتِ أحَدٍ وَلا لَـحَياتِهِ، وَلَكِنَّ رَبَّنا تَبـارَكَ اسمُهُ إذَا قَضَى أمْراً سَبَّحَ حَمَلَهُ العَرْشِ، ثُمَّ سَبَّحَ أهْلُ السمَّاءِ الَّذِينَ يَـلُوَنهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَـلُوَنهُمْ حتـى يَبْلُغَ التَّسْبِـيحُ أهْلَ هَذِهِ السَّماءِ ثُمَّ يَسأَلُ أهْلُ السَّماءِ السابعة حملَة العرش: مَاذا قال ربنا؟ فـيخبرونهم، ثم يستـخبر أهل كل سماء، حتـى يبلغ الـخبر أهل السَّماءِ الدُّنـيْا، وتَـخْطِفُ الشَّياطِينُ السَّمْعَ، فَـيرْمُونَ، فَـيَقْذِفُونَهُ إلـى أوْلِـيائِهِم، فَمَا جاءُوا بِهِ علـى وَجْهِهِ فَهُوَ حَقّ، وَلَكِنَّهُمْ يَزِيدُونَ" .

حدثنا ابن الـمثنى، قال: ثنا مـحمد بن جعفر، قال: أخبرنا معمر، قال: ثنا ابن شهاب، عن علـيّ بن حسين، عن ابن عبـاس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً فـي نَّفَرٍ من أصحابه، قال: فرُمي بنـجم، ثم ذكر نـحوه، إلا أنه زاد فـيه: قلت للزهري: أكان يُرْمى بها فـي الـجاهلـية؟ قال: نعم، ولكنها غلظت حين بُعث النبـيُّ صلى الله عليه وسلم.

حدثنـي علـيّ بن داود، قال: ثنا عاصم بن علـيّ، قال: ثنا أبـي علـيّ بن عاصم، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جُبَـير، عن ابن عبـاس، قال: كان للـجنّ مقاعد فـي السَماء يسمعون الوحي، وكان الوحي إذا أُوحِي سمعت الـملائكة كهيئة الـحديدة يُرْمى بها علـى الصَّفْوان، فإذا سمعت الـملائكة صلصلة الوحي خرّ لـجبـاههم مَنْ فـي السماء من الـملائكة، فإذا نزل علـيهم أصحاب الوحي { { قالُوا ماذَا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الـحَقَّ وَهُوَ العَلِـيُّ الكَبِـيرُ } قال: فـيتنادون، قال: ربكم الـحقّ وهو العلـيّ الكبـير قال: فإذا أنزل إلـى السماء الدنـيا، قالوا: يكون فـي الأرض كذا وكذا موتاً، وكذا وكذا حياة، وكذا وكذا جدوبة، وكذا وكذا خِصْبـاً، وما يريد أن يصنع، وما يريد أن يبتدىء تبـارك وتعالـى، فنزلت الـجنّ، فأوحوا إلـى أولـيائهم من الإنس، مـما يكون فـي الأرض، فبـيناهم كذلك، إذ بعث الله النبـيّ صلى الله عليه وسلم، فزجرت الشياطين عن السماء ورَمَوهم بكواكب، فجعل لا يصعُد أحد منهم إلا احترق، وفزع أهل الأرض لِـمَا رأوا فـي الكواكب، ولـم يكن قبل ذلك، وقالوا: هلك مَنْ فـي السماء، وكان أهل الطائف أوّل من فزع، فـينطلق الرجل إلـى إبله، فـينـحَر كلّ يوم بعيراً لآلهتهم، وينطلق صاحب الغنـم، فـيذبح كلّ يوم شاة، وينطلق صاحب البقر، فـيذبح كلّ يوم بقَرة، فقال لهم رجل: ويْـلَكم لا تُهْلكوا أموالكم، فإن معالـمكم من الكواكب التـي تهتدون بها لـم يسقط منها شيء، فأقلعوا وقد أسرعوا فـي أموالهم. وقال إبلـيس: حدث فـي الأرض حدث، فأتـي من كلّ أرض بتربة، فجعل لا يؤتـي بتربة أرض إلا شمها، فلـما أتـي بتربة تهامة قال: ههنا حدث الـحدث، وصرف الله إلـيه نفراً من الـجنّ وهو يقرأ القرآن، فقالوا: { { إنَّا سَمِعْنا قُرآناً عَجَبـاً } حتـى ختـم الآية، { { فولَّوا إلـى قومهم منذرين } }.

حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرنـي ابن لهيعة، عن مـحمد بن عبد الرحمن، عن عُروة، عن عائشة أنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنَّ الـمَلائِكَةَ تَنْزِلُ فِـي العَنان وَهُوَ السَّحابُ فَتَذْكُرُ ما قُضِيَ فِـي السَّماءِ، فَتَسْتَرِقُ الشَّياطِينُ السَّمْعَ، فَتَسْمَعُهُ فَتُوحِيهِ إلـى الكُهَّانِ، فَـيَكْذِبُونَ مَعَها مِئَةَ كِذْبَةٍ مِنْ عِنْدِ أنْفُسهِمْ" .

فهذه الأخبـار تُنبىء عن أن الشياطين تسمع، ولكنها تُرْمى بـالشهب لئلا تسمع. فإن ظنّ ظانّ أنه لـما كان فـي الكلام «إلـى»، كان التسمع أولـى بـالكلام من السمع، فإن الأمر فـي ذلك بخلاف ما ظنّ، وذلك أن العرب تقول: سمعت فلاناً يقول كذا، وسمعت إلـى فلان يقول كذا، وسمعت من فلان.

وتأويـل الكلام: إنا زينا السماء الدنـيا بزينة الكواكب. وحفظاً من كلّ شيطان مارد أن لا يسَّمَّع إلـى الـملإ الأعلـى، فحذفت «إن» اكتفـاء بدلالة الكلام علـيها، كما قـيـل: كذلك سلكناه فـي قلوب الـمـجرمين لا يؤمنون به بـمعنى: أن لا يؤمنوا به ولو كان مكان «لا» أن، لكان فصيحاً، كما قـيـل: { يُبَـيِّنُ اللّهُ لَكُمْ أنْ تَضِلُّوا } بـمعنى: أن لا تضلوا، وكما قال: { { وألْقَـى فِـي الأرْضِ رَوَاسيَ أنْ تَـمِيدَ بِكُمْ } بـمعنى: أن لا تـميد بكم. والعرب قد تـجزم مع «لا» فـي مثل هذا الـموضع من الكلام، فتقول: ربطت الفرس لا يَنْفَلِتْ، كما قال بعض بنـي عُقَـيـل:

وَحتـى رأَيْنا أحْسَنَ الوُدّ بَـيْنَنامُساكَنَةً لا يَقْرِفِ الشَّرَّ قارِفُ

ويُروي: لا يقرف رفعاً، والرفع لغة أهل الـحجاز فـيـما قـيـل: وقال قتادة فـي ذلك ما:

حدثنـي بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة { لا يَسَّمَّعُونَ إلـى الـمَلإِ الأَعْلَـى } قال: منعوها. ويعنـي بقوله: { إلـى الـمَلإِ }: إلـى جماعة الـملائكة التـي هم أعلـى مـمن هم دونهم.

وقوله: { وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ دُحُوراً } ويُرْمَوْن من كلّ جانب من جوانب السماء دُحُوراً والدحور: مصدر من قولك: دَحَرْته أدحَرُه دَحْراً ودُحوراً، والدَّحْر: الدفع والإبعاد، يقال منه: ادْحَرْ عنك الشيطان: أي ادفعه عنك وأبعده. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة { وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلّ جانِبٍ دُحُوراً } قذفـاً بـالشهب.

حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: ثنا الـحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعاً عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، قوله: { وَيُقْذَفُونَ } يُرمَوْن { مِنْ كُلّ جانِبٍ } قال: من كلّ مكان. وقوله: { دُحُوراً } قال: مطرودين.

حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله: { وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلّ جانبٍ دُحُوراً } قال: الشياطين يدحرون بها عن الاستـماع، وقرأ وقال: { { إلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فأتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ } }.

وقوله: { ولَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ } يقول تعالـى ذكره: ولهذه الشياطين الـمسترِقة السمع عذاب من الله واصب.

واختلف أهل التأويـل فـي معنى الواصب، فقال بعضهم: معناه: الـموجع. ذكر من قال ذلك:

حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا ابن أبـي زائدة، عن إسماعيـل بن أبـي خالد، عن أبـي صالـح { وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ } قال: موجع.

وحدثنا مـحمد بن الـحسين، قال: ثنا أحمد بن الـمفضل، قال: ثنا أسبـاط، عن السديّ، فـي قوله: { عَذَابٌ وَاصِبٌ } قال: الـموجع.

وقال آخرون: بل معناه: الدائم. ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد عن قتادة { وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ }: أي دائم.

حدثنا مـحمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: ثنا الـحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعاً عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، قوله: { عَذَابٌ وَاصِبٌ } قال: دائم.

حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس { وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ } يقول: لهم عذاب دائم.

حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا ابن أبـي زائدة، عمن ذكره، عن عكرمة { ولَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ } قال: دائم.

حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله: { وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ } قال: الواصب: الدائب.

وأولـى التأويـلـين فـي ذلك بـالصواب تأويـل من قال: معناه: دائم خالص، وذلك أن الله قال { { وَلَهُ الدّين وَاصِبـاً } فمعلوم أنه لـم يصفه بـالإيلام والإيجاع، وإنـما وصفه بـالثبـات والـخـلوص ومنه قول أبـي الأسود الدؤلـي:

لا أشْتَرِي الـحَمْدَ القَلِـيـلَ بَقاؤُهُيَوْماً بِذَمّ الدَّهْر أجمَعَ وَاصِبـا

أي دائماً.

وقوله: { إلاَّ مَنْ خَطِفَ الـخَطْفَةَ } يقول: إلا من استرق السمع منهم { فأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ } يعنـي: مضيء متوقد. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: { فأَتَبْعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ } من نار وثقوبه: ضوؤه.

حدثنا مـحمد بن الـحسين، قال: ثنا أحمد بن الـمفضل، قال: ثنا أسبـاط، عن السديّ، قوله: { شِهابٌ ثاقِبٌ } قال: شهاب مضيء يحرقه حين يُرْمى به.

حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس، قوله: { فأَتْبَعَهُ شِهابٌ } قال: كان ابن عبـاس يقول: لا يقتلون الشهاب، ولا يـموتون، ولكنها تـحرقهم من غير قتل، وتُـخَبِّل وتُـخْدِج من غير قتل.

حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله: { فأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ } قال: والثاقب: الـمستوقد قال: والرجل يقول: أَثْقِب نارك، ويقول: استثقِب نارك، استوقد نارك.

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا عبـيد الله، قال: سُئل الضحاك، هل للشياطين أجنـحة؟ فقال: كيف يطيرون إلـى السماء إلا ولهم أجنـحة.