خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُوۤاْ أَمْوَٰلَكُمْ بَيْنَكُمْ بِٱلْبَٰطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَٰرَةً عَن تَرَاضٍ مِّنْكُمْ وَلاَ تَقْتُلُوۤاْ أَنْفُسَكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً
٢٩
-النساء

جامع البيان في تفسير القرآن

يعني بقوله جلّ ثناؤه: { بِأَنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا } صَدّقوا الله ورسوله، { لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوٰلَكُمْ بَيْنَكُمْ بِٱلْبَـٰطِلِ } يقول: لا يأكل بعضكم أموال بعض بما حرم عليه من الربا والقمار، وغير ذلك من الأمور التي نهاكم الله عنها، إلا أن تكون تجارة. كما:

حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدّي: { يَـأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوٰلَكُمْ بَيْنَكُمْ بِٱلْبَـٰطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَـٰرَةً عَن تَرَاضٍ مِّنْكُمْ } نهى عن أكلهم أموالهم بينهم بالباطل وبالربا والقمار والبخس والظلم، إلا أن تكون تجارة، ليربح في الدرهم ألفاً إن استطاع.

حدثني محمد بن المثنى، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا خالد الطحان، قال: أخبرنا داود بن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عباس في قوله تعالى: { لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوٰلَكُمْ بَيْنَكُمْ بِٱلْبَـٰطِلِ } قال: الرجل يشتري السلعة، فيردّها ويردّ معها درهماً.

حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا عبد الوهاب، قال: ثنا داود، عن عكرمة، عن ابن عباس في الرجل يشتري من الرجل الثوب، فيقول: إن رضيته أخذته، وإلا رددته ورددت معه درهماً، قال: هو الذي قال الله: { لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوٰلَكُمْ بَيْنَكُمْ بِٱلْبَـٰطِلِ }.

وقال آخرون: بل نزلت هذه الآية بالنهي عن أن يأكل بعضهم طعام بعض إلا بشراء، فأما قِرًى فإنه كان محظوراً بهذه الآية، حتى نسخ ذلك بقوله في سورة النور: { { لَّيْسَ عَلَى ٱلاْعْمَىٰ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى ٱلاْعْرَجِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى ٱلْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ } [النور: 61]... الآية. ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن حميد، قال: ثنا يحيـى بن واضح، عن الحسن بن واقد، عن يزيد النحويّ، عن عكرمة والحسن البصريّ، قالا في قوله: { لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوٰلَكُمْ بَيْنَكُمْ بِٱلْبَـٰطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَـٰرَةً عَن تَرَاضٍ مّنْكُمْ }... الآية، فكان الرجل يتحرّج أن يأكل عند أحد من الناس بعد ما نزلت هذه الآية، فنسخ ذلك بالآية التي في سورة النور، فقال: « { أَن تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ ءَابَآئِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَٰتِكُمْ } »[النور: 61]... إلى قوله: { جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً } [النور: 61] فكان الرجل الغنيّ يدعو الرجل من أهله إلى الطعام، فيقول: إني لأتجنح ـ والتجنح: التحرّج ويقول: المساكين أحقّ مني به. فأحلّ من ذلك أن يأكلوا مما ذكر اسم الله عليه، وأحلّ طعام أهل الكتاب.

قال أبو جعفر: وأولى هذين القولين بالصواب في ذلك قول السدي: وذلك أن الله تعالى ذكره حرّم أكل أموالنا بيننا بالباطل، ولا خلاف بين المسلمين أن أكل ذلك حرام علينا، فإن الله لم يحلّ قَطُّ أكل الأموال بالباطل، وإذا كان ذلك كذلك فلا معنى لقول من قال: كان ذلك نهياً عن أكل الرجل طعام أخيه قرى على وجه ما أذن له، ثم نسخ ذلك لنقل علماء الأمة جميعاً وجها لها أن قرى الضيف، وإطعام الطعام كان من حميد أفعال أهل الشرك والإسلام، التي حمد الله أهلها عليه وندبهم إليها، وإن الله لم يحرّم ذلك في عصر من العصور، بل ندب الله عباده، وحثهم عليه، وإذ كان ذلك كذلك فهو من معنى الأكل بالباطل خارج، ومن أن يكون ناسخاً أو منسوخاً بمعزل، لأن النسخ إنما يكون لمنسوخ، ولم يثبت النهي عنه، فيجوز أن يكون منسوخاً بالإباحة. وإذ كان ذلك كذلك، صحّ القول الذي قلناه، من أن الباطل الذي نهى الله عن أكل الأموال به، هو ما وصفنا مما حرمه على عباده في تنزيله، أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وشذّ ما خالفه.

واختلفت القراء في قراءة قوله: { إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَـٰرَةً عَن تَرَاضٍ مّنْكُمْ } فقرأها بعضهم: { إِلا أَن تَكُونَ تِجَـٰرَةً } رفعاً بمعنى: إلا أن توجد تجارة، أو تقع تجارة عن تراض منكم، فيحلّ لكم أكلها حينئذٍ بذلك المعنى. ومذهب من قرأ ذلك على هذا الوجه «أن تكون» تامة ههنا لا حاجة بها إلى خبر على ما وصفت؛ وبهذه القراءة قرأ أكثر أهل الحجاز وأهل البصرة. وقرأ ذلك آخرون، وهم عامة قراء الكوفيين: { إِلا أَن تَكُونَ تِجَـٰرَةً } نصباً، بمعنى: إلا أن تكون الأمْوَلُ التي تأكلونها بينكم تجارة عن تراض منكم، فيحل لكم هنالك أكلها، فتكون الأموال مضمرة في قوله: { إِلا أَن تَكُونَ } والتجارة منصوبة على الخبر. وكلتا القراءتين عندنا صواب جائز القراءة بهما، لاستفاضتهما في قراءة الأمصار مع تقارب معانيهما. غير أن الأمر وإن كان كذلك، فإن قراءة ذلك بالنصب أعجب إليّ من قراءته بالرفع، لقوّة النصب من وجهين: أحدهما: أنّ في تكون ذكراً من الأموال؛ والآخر: أنه لو لم يجعل فيها ذكر منها ثم أفردت بالتجارة وهي نكرة، كان فصيحاً في كلام العرب النصب، إذ كانت مبنية على اسم وخبر، فإذا لم يظهر معها إلا نكرة واحدة نصبوا ورفعوا، كما قال الشاعر:

إذَا كانَ طَعْناً بَيْنَهُمْ وَعِنَاقاً

ففي هذه الآية إبانة من الله تعالى ذكره عن تكذيب قول الجهلة من المتصوّفة المنكرين طلب الأقوات بالتجارات والصناعات، والله تعالى يقول: { يَـأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوٰلَكُمْ بَيْنَكُمْ بِٱلْبَـٰطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَـٰرَةً عَن تَرَاضٍ مِّنْكُمْ }: اكتساباً أحلّ ذلك لها. كما:

حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: قوله: { يَـأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوٰلَكُمْ بَيْنَكُمْ بِٱلْبَـٰطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَـٰرَةً عَن تَرَاضٍ مِّنْكُمْ } قال: التجارة رزق من رزق الله، وحلال من حلال الله لمن طلبها بصدقها وبرّها، وقد كنا نحدَّث أن التاجر الأمين الصدوق مع السبعة في ظلّ العرش يوم القيامة.

وأما قوله: { عَن تَرَاضٍ } فإن معناه كما:

حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله تبارك وتعالى: { عَن تَرَاضٍ مِّنْكُمْ } في تجارة أو بيع أو عطاء يعطيه أحد أحداً.

حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: { عَن تَرَاضٍ مِّنْكُمْ } في تجارة أو بيع أو عطاء يعطيه أحد أحداً.

حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن القاسم، عن سليمان الجعفي، عن أبيه، عن ميمون بن مهران، قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: "البَيْعُ عَنْ تَراضٍ، وَالخيارُ بَعْدَ الصَّفْقَةِ، وَلا يَحِلُّ لُمسْلمٍ أنْ يَغُشَّ مُسْلِماً" .

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنى حجاج، عن ابن جريج، قال: قلت لعطاء: المماسحة بيع هي؟ قال: لا، حتى يخيره التخيير بعد ما يجب البيع، إن شاء أخذ وإن شاء ترك.

واختلف أهل العلم في معنى التراضي في التجارة، فقال بعضهم: هو أن يخير كل واحد من المتبايعين بعد عقدهما البيع بينهما فيما تبايعا فيه من إمضاء البيع أو نقضه، أو يتفرّقا عن مجلسهما الذي تواجبا فيه البيع بأبدانهما، عن تراض منهما بالعقد الذي تعاقداه بينهما قبل التفاسخ. ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن بشار قال: ثنا معاذ بن هشام، قال: ثنى أبي، عن قتادة، عن محمد بن سيرين، عن شريح قال: اختصم رجلان، باع أحدهما من الآخر بُرْنُساً، فقال: إني بعت من هذا برنساً، فاسترضيته فلم يرضني. فقال: أرضه كما أرضاك! قال: إني قد أعطيته دراهم ولم يرض. قال: أرضه كما أرضاك! قال: قد أرضيته فلم يرض. فقال: البيّعان بالخيار ما لم يتفرّقا.

حدثنا ابن بشار، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا سفيان، عن عبد الله بن أبي السفر، عن الشعبي، عن شريح، قال: البيعان بالخيار ما لم يتفرّقا.

حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، عن شعبة، عن الحكم، عن شريج، مثله.

حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمد، قال: ثنا شعبة، عن جابر، قال: ثنى أبو الضحى، عن شريح أنه قال: البيعان بالخيار ما لم يتفرّقا. قال: قال أبو الضحى: كان شريح يحدّث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بنحوه.

وحدثني الحسن بن يزيد الطحان، قال: ثنا إسحاق بن منصور، عن عبد السلام، عن رجل، عن أبي حوشب، عن ميمون، قال: اشتريت من ابن سيرين سابريًّا فسام عليَّ سَوْمَه، فقلت: أحسن! فقال: إما أن تأخذ وإما أن تدع. فأخذت منه، فلما وزنت الثمن وضع الدراهم، فقال: اختر إما الدراهم وإما المتاع! فاخترت المتاع فأخذته.

حدثنا أبو كريب، قال: ثنا هشيم، عن إسماعيل بن سالم، عن الشعبي أنه كان يقول في البيعين: إنهما بالخيار ما لم يتفرّقا، فإذا تصادر فقد وجب البيع.

حدثنا محمد بن إسماعيل الأحمسي، قال: ثنا محمد بن عبيد، قال: ثنا سفيان بن دينار، عن طيسلة، قال: كنت في السوق، وعليّ رضي الله عنه في السوق، فجاءته جارية إلى بَيِّعِ فاكهة بدرهم، فقالت: أعطني هذا! فأعطاها إياه. فقالت: لا أريده أعطني درهمي! فأبى، فأخذه منه عليّ فأعطاها إياه.

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن مغيرة، عن الشعبي أنه أتى في رجل اشترى من رجل برذوناً ووجب له، ثم إن المبتاع ردّه قبل أن يتفرّقا، فقضى أنه قد وجب عليه. فشهد عنده أبو الضحى أن شريحاً قضى في مثله أن يرده على صاحبه، فرجع الشعبي إلى قضاء شريح.

حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم، قال: ثنا هشام، عن ابن سيرين، عن شريح، أنه كان يقول في البيعين: إذا ادعى المشترى أنه قد أوجب له البيع، وقال البائع: لم أوجب له، قال شاهدان عدلان أنكما افترقتما عن تراض بعد بيع أو تخاير، وإلا فيمين البائع: أنكما (ما) افترقتما عن بيع ولا تخاير.

حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن أيوب، عن محمد، قال: كان شريح يقول: شاهدان ذوا عدل أنكما افترقتما عن تراض بعد بيع وتخاير، وإلا فيمينه بالله ما تفرّقتما عن تراض بعد بيع أو تخاير.

حدثنا حميد بن مسعدة، قال: ثنا بشر بن المفضل، قال: ثنا ابن عون، عن محمد بن سيرين، عن شريح أنه كان يقول: شاهدان ذوا عدل أنهما تفرّقا عن تراض بعد بيع أو تخاير.

وعلة من قال هذه المقالة ما:

حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا يحيـى بن سعيد، عن عبد الله، قال: أخبرني نافع، عن ابن عمر، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال: "كُلُّ بَيِّعَيْنِ فَلا بَيْعَ بَيْنَهُما حتى يَتَفَرَّقا إلاَّ أنْ يَكُونَ خِياراً" .

حدثنا أبو كريب، قال: ثنا مروان بن معاوية، قال: ثنى يحيـى بن أيوب، قال: كان أبو زرعة إذا بايع رجلاً يقول له: خيِّرني! ثم يقول: قال أبو هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يَفْتَرِقُ اثْنانِ إلاَّ عَنْ رِضاً" .

حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية، قال: ثنا أيوب، عن أبي قلابة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا أهْلَ البَقِيع! فسمعوا صوته، ثم قال: يا أهْلَ البَقِيع! فاشرأبوا ينظرون حتى عرفوا أنه صوته، ثم قال: يا أهْلَ البَقِيعِ لا يَتَفَرَّقَنَّ بَيِّعانِ إلاَّ عَنْ رِضاً" .

حدثني أحمد بن محمد الطوسيّ، قال: ثنا النبيّ صلى الله عليه وسلم بايع رجلاً ثم قال له: "اخْتَر! فقال: قد اخترت، فقال: هَكَذَا البَيْعُ" .

قالوا: فالتجارة عن تراض هو ما كان على بينه النبي صلى الله عليه وسلم من تخيير كل واحد من المشترى والبائع في إمضاء البيع فيما يتبايعانه بينهما، أو نقضه بعد عقد البيع بينهما وقبل الافتراق، أو ما تفرّقا عنه بأبدانهما، عن تراض منهما بعد مواجبة البيع فيه عن مجلسهما، فما كان بخلاف ذلك فليس من التجارة التي كانت بينهما عن تراض منهما.

وقال آخرون: بل التراضي في التجارة تواحب عقد البيع فيما تبايعه المتبايعان بينهما عن رضا من كل واحد منهما ما ملك عليه صاحبه وملك صاحبه عليه، افترقا عن مجلسهما ذلك أو لم يفترقا، تخايراً في المجلس أو لم يتخايرا فيه بعد عقده.

وعلة من قال هذه المقالة: أن البيع إنما هو بالقول، كما أن النكاح بالقول، ولا خلاف بين أهل العلم في الإجبار في النكاح لأحد المتناكحين على صاحبه، افترقا أو لم يفترقا عن مجلسهما، الذي جرى ذلك فيه قالوا: فكذلك حكم البيع. وتأوّلوا قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: "البَيِّعانِ بالخيارِ ما لَمْ يَتَفَرَّقا" على أنه ما لم يتفرقا بالقول. وومن قال هذه المقالة مالك بن أنس، وأبو حنيفة، وأبو يوسف ومحمد.

قال أبو جعفر: وأولى القولين بالصواب في ذلك عندنا قول من قال: إن التجارة التي هي عن تراض بين المتبايعين: ما تفرق المتبايعان على المجلس الذي تواجبا فيه بينهما عقدة البيع بأبدانهما، عن تراض منهما بالعقد الذي جرى بينهما، وعن تخيير كل واحد منهما صاحبه؛ لصحة الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما:

حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية، قال: أخبرنا أيوب، وحدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الوهاب، قال: ثنا أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "البَيِّعانِ بالخِيارِ ما لَمْ يَتَفَرَّقا، أوْ يَكُونَ بَيْعُ خِيارٍ" وربما قال: "أوْ يَقُولُ أحَدُهُما للآخَرِ اخْتَرْ" .

فإذ كان ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم صحيحاً، فليس يخلو قول أحد المتبايعين لصاحبه اختر، من أن يكون قبل عقد البيع، أو معه، أو بعده. فإن يكن قبله، فذلك الخلف من الكلام الذي لا معنى له، لأنه لم يملك قبل عقد البيع أحد المتبايعين على صاحبه، ما لم يكن له مالكاً، فيكون لتخييره صاحبه فيما يملك عليه وجه مفهوم، ولا فيهما من يجهل أنه بالخيار في تمليك صاحبه ما هو له غير مالك بعوض يعتاضه منه، فيقال له: أنت بالخيار فيما تريد أن تحدثه من بيع أو شراء. أو يكون إن بطل هذا المعنى تخيير كل واحد منهما صاحبه مع عقد البيع، ومعنى التخيير في تلك الحال، نظير معنى التخيير قبلها، لأنها حالة لم يزل فيها عن أحدهما ما كان مالكه قبل ذلك إلى صاحبه، فيكون للتخيير وجه مفهوم. أو يكون ذلك بعد عقد البيع، إذا فسد هذان المعنيان. وإذا كان ذلك كذلك صحّ أن المعنى الآخر من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، أعني قوله: «ما لَمْ يَتَفَرَقَّا» إنما هو التفرّق بعد عقد البيع، كما كان التخيير بعده، وإذا صحّ ذلك، فسد قول من زعم أن معنى ذلك: إنما هو التفرّق بالقول الذي به يكون البيع. وإذا فسد ذلك صحّ ما قلنا من أن التخيير والافتراق إنما هما معنيان بهما يكون تمام البيع بعد عقده، وصحّ تأويل من قال: معنى قوله: { إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَـٰرَةً عَن تَرَاضٍ مّنْكُمْ } إلا أن يكون أكلكم الأموال التي يأكلها بعضكم لبعض عن ملك منكم عمن ملكتموها عليه بتجارة تبايعتموها بينكم، وافترقتم عنها، عن تراض منكم بعد عقد بينكم بأبدانكم، أو يخير بعضكم بعضاً.

القول في تأويل قوله تعالى: { وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً }.

يعني بقوله جلّ ثناؤه: { وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ } ولا يقتل بعضكم بعضاً، وأنتم أهل ملة واحدة، ودعوة واحدة ودين واحد فجعل جلّ ثناؤه أهل الإسلام كلهم بعضهم من بعض، وجعل القاتل منهم قتيلاً في قتله إياه منهم بمنزلة قتله نفسه، إذ كان القاتل والمقتول أهل يد واحدة على من خالف ملتهما. وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:

حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن مفضل، قال: ثنا أسباط، عن السديّ: { وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ } يقول: أهلَ ملتكم.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنى حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء بن أبي رباح: { وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ } قال: قتل بعضكم بعضاً.

وأما قوله جل ثناؤه: { إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً } فإنه يعني أن الله تبارك وتعالى لم يزل رحيماً بخلقه، ومن رحمته بكم كفّ بعضكم عن قتل بعض أيها المؤمنون، بتحريم دماء بعضكم على بعض إلا بحقها، وحظر أكل مال بعضكم على بعض بالباطل، إلا عن تجارة يملك بها عليه برضاه وطيب نفسه، لولا ذلك هلكتم وأهلك بعضكم بعضاً قتلاً وسلباً وغصباً.