خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَهَلْ أَتَاكَ نَبَؤُاْ ٱلْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُواْ ٱلْمِحْرَابَ
٢١
إِذْ دَخَلُواْ عَلَىٰ دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُواْ لاَ تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَىٰ بَعْضُنَا عَلَىٰ بَعْضٍ فَٱحْكُمْ بَيْنَنَا بِٱلْحَقِّ وَلاَ تُشْطِطْ وَٱهْدِنَآ إِلَىٰ سَوَآءِ ٱلصِّرَاطِ
٢٢

كان أهل زمان داود عليه السلام يسأل بعضهم بعضاً أن ينزل له عن امرأته فيتزوجها إذا أعجبته وكانت لهم عادة في المواساة بذلك قد اعتادوها. وقد روينا أن الأنصار كانوا يواسون المهاجرين بمثل ذلك، فاتفق أنّ عين داود وقعت على امرأة رجل يقال له أوريا، فأحبّها فسأله النزول له عنها، فاستحيا أن يردّه ففعل، فتزوجها وهي أمّ سليمان، فقيل له: إنك مع عظم منزلتك وارتفاع مرتبتك وكبر شأنك وكثرة نسائك: لم يكن ينبغي لك أن تسأل رجلاً ليس له إلا امرأة واحدة النزول، بل كان الواجب عليك مغالبة هواك وقهر نفسك والصبر على ما امتحنت به. وقيل: خطبها أوريا ثم خطبها داود، فآثره أهلها، فكان ذنبه أن خطب على خطبة أخيه المؤمن، مع كثرة نسائه. وأمّا ما يذكر أنّ داود عليه السلام تمنى منزلة آبائه إبراهيم وإسحاق ويعقوب فقال: يا رب إنّ آبائي قد ذهبوا بالخير كله، فأوحى إليه: إنهم ابتلوا ببلايا فصبروا عليها: قد ابتلي إبراهيم بنمروذ وذبح ولده، وإسحاق بذبحه وذهاب بصره، ويعقوب بالحزن على يوسف. فسأل الابتلاء فأوحى الله إليه: إنك لمبتلى في يوم كذا وكذا، فاحترس، فلما حان ذلك اليوم دخل محرابه وأغلق بابه وجعل يصلي ويقرأ الزبور، فجاءه الشيطان في صورة حمامة من ذهب، فمدّ يده ليأخذها لابن له صغير، فطارت، فامتدّ إليها، فطارت فوقعت في كوّة، فتبعها، فأبصر امرأة جميلة قد نقضت شعرها فغطى بدنها، وهي امرأة أوريا وهو من غزاة البلقاء، فكتب إلى أيوب بن صوريا وهو صاحب بعث البلقاء. أن ابعث أوريا وقدمه على التابوت، وكان من يتقدم على التابوت لا يحل له أن يرجع حتى يفتح الله على يده أو يستشهد، ففتح الله على يده وسلم، فأمر بردّه مرة أخرى، وثالثة، حتى قتل، فأتاه خبر قتله فلم يحزن كما كان يحزن على الشهداء، وتزوج امرأته. فهذا ونحوه مما يقبح أن يحدث به عن بعض المتسمين بالصلاح من أفناء المسلمين؟ فضلاً عن بعض أعلام الأنبياء. وعن سعيد بن المسيب والحارث الأعور: أنّ علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: من حدثكم بحديث داود على ما يرويه القصاص جلدته مائة وستين وهو حدّ الفرية على الأنبياء. وروى أنه حدث بذلك عمر بن عبد العزيز وعنده رجل من أهل الحق، فكذب المحدث به وقال: إن كانت القصة على ما في كتاب الله فما ينبغي أن يلتمس خلافها، وأعظم بأن يقال غير ذلك وإن كانت على ما ذكرت وكف الله عنها ستراً على نبيه فما ينبغي إظهارها عليه، فقال عمر: لسماعي هذا الكلام أحبّ إليّ مما طلعت عليه الشمس. والذي يدلّ عليه المثل الذي ضربه الله لقصته عليه السلام ليس إلاّ طلبه إلى زوج المرأة أن ينزل له عنها فحسب. فإن قلت: لم جاءت على طريقة التمثيل والتعريض دون التصريح؟ قلت: لكونها أبلغ في التوبيخ، من قبل أن التأمل إذا أدّاه إلى الشعور بالمعرض به، كان أوقع في نفسه، وأشدّ تمكناً من قلبه، وأعظم أثراً فيه، وأجلب لاحتشامه وحيائه، وأدعى إلى التنبه على الخطأ فيه من أن يبادره به صريحاً، مع مراعاة حسن الأدب بترك المجاهرة. ألا ترى إلى الحكماء كيف أوصوا في سياسة الولد إذا وجدت منه هنة منكرة بأن يعرض له بإنكارها عليه ولا يصرح. وأن تحكى له حكاية ملاحظة لحاله إذا تأملها استسمج حال صاحب الحكاية فاستمسج حال نفسه، وذلك أزجر له لأنه ينصب ذلك مثالاً لحاله ومقياساً لشأنه، فيتصور قبح ما وجد منه بصورة مكشوفة، مع أنه أصون لما بين الوالد والولد من حجاب الحشمة. فإن قلت: فلم كان ذلك على وجه التحاكم إليه؟ قلت: ليحكم بما حكم به من قوله: { { لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَىٰ نِعَاجِهِ } [صۤ: 24] حتى يكون محجوجاً بحكمه ومعترفاً على نفسه بظلمه { وَهَلْ أَتَاكَ نَبَؤُا ٱلْخَصْمِ } ظاهره الاستفهام. ومعناه الدلالة على أنه من الأنباء العجيبة التي حقها أن تشيع ولا تخفى على أحد، والتشويق إلى استماعه والخصم: الخصماء، وهو يقع على الواحد والجمع؛ كالضيف. قال الله تعالى: { حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرٰهِيمَ ٱلْمُكْرَمِينَ } [الذاريات: 24] لأنه مصدر في أصله، تقول: خصمه خصماً؛ كما تقول: ضافه ضيفاً. فإن قلت: هذا جمع. وقوله: «خصمان» تثنية فكيف استقام ذلك؟ قلت: معنى خصمان: فريقان خصمان، والدليل عليه قراءة من قرأ: خصمان بغى بعضهم على بعض: ونحوه قوله تعالى: { { هَـٰذَا خَصْمَانِ ٱخْتَصَمُواْ فِى رَبّهِمْ } [الحج: 19]. فإن قلت: فما تصنع بقوله: { { إِنَّ هَذَا أَخِى } [ص: 23] وهو دليل على اثنين؟ قلت: هذا قول البعض المراد بقوله بعضنا على بعض. فإن قلت: فقد جاء في الرواية أنه بعث إليه ملكان. قلت: معناه أن التحاكم كان بين ملكين، ولا يمنع ذلك أن يصحبهما آخرون. فإن قلت: فإذا كان التحاكم بين اثنين كيف سماهم جميعاً خصماً في قوله: { نَبَؤُاْ ٱلْخَصْمِ } و { خَصْمَانِ }؟ قلت: لما كان صحب كل واحد من المتحاكمين في صورة الخصم صحت التسمية به. فإن قلت: بم انتصب (إذ)؟ قلت: لا يخلو إما أن ينتصب بأتاك، أو بالنبأ، أو بمحذوف فلا يسوغ انتصابه بأتاك؛ لأنّ إتيان النبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقع إلا في عهده لا في عهد داود، ولا بالنبأ؛ لأن النبأ الواقع في عهد داود لا يصحّ إتيانه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وإن أردت بالنبأ: القصة في نفسها لم يكن ناصباً، فبقي أن ينتصب بمحذوف، وتقديره: وهل أتاك نبأ تحاكم الخصم. ويجوز أن ينتصب بالخصم لما فيه من معنى الفعل. وأما إذ الثانية فبدل من الأولى { تَسَوَّرُواْ ٱلْمِحْرَابَ } تصعدوا سوره ونزلوا إليه. والسور: الحائط المرتفع ونظيره في الأبنية: تسنمه، إذا علا سنامه، وتذرّاه: إذا علا ذروته. روى: أنّ الله تعالى بعث إليه ملكين في صورة إنسانين، فطلبا أن يدخلا عليه، فوجداه في يوم عبادته، فمنعهما الحرس فتسوّرا عليه المحراب، فلم يشعر إلاّ وهما بين يديه جالسان { فَفَزِعَ مِنْهُمْ } قال ابن عباس: إنّ داود عليه السلام جزأ زمانه أربعة أجزاء: يوماً للعبادة، ويوماً للقضاء، ويوماً للاشتغال بخواص أموره، ويوماً يجمع بني إسرائيل فيعظهم ويبكيهم؛ فجاءوه في غير يوم القضاء ففزع منهم، ولأنهم نزلوا عليه من فوق، وفي يوم الاحتجاب، والحرس حوله لا يتركون من يدخل عليه { خَصْمَانِ } خبر مبتدأ محذوف، أي: نحن خصمان { وَلاَ تُشْطِطْ } ولا تجر. وقرىء: «ولا تشطط»، أي: ولا تبعد عن الحق. وقرىء: «ولا تشطط»، ولا تشاطط، وكلها من معنى الشطط: وهو مجاوزة الحدّ وتخطي الحق. و { سَوَآءِ ٱلصِّرٰطِ } وسطه ومحجته: ضربه مثلاً لعين الحق ومحضه.