خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ ٱلأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ ٱلنَّعِيمِ
٩
دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ ٱللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ
١٠
-يونس

مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير

اعلم أنه تعالى لما شرح أحوال المنكرين والجاحدين في الآية المتقدمة، ذكر في هذه الآية أحوال المؤمنين المحقين، واعلم أنه تعالى ذكر صفاتهم أولاً، ثم ذكر مالهم من الأحوال السنية والدرجات الرفيعة ثانياً، أما أحوالهم وصفاتهم فهي قوله: { إِنَّ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ } وفي تفسيره وجوه:

الوجه الأول: أن النفس الإنسانية لها قوتان:

القوة النظرية: وكمالها في معرفة الأشياء، ورئيس المعارف وسلطانها معرفة الله.

والقوة العملية: وكمالها في فعل الخيرات والطاعات، ورئيس الأعمال الصالحة وسلطانها خدمة الله. فقوله: { إِنَّ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ } إشارة إلى كمال القوة النظرية بمعرفة الله تعالى وقوله: { وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَاتِ } إشارة إلى كمال القوة العملية بخدمة الله تعالى، ولما كانت القوة النظرية مقدمة على القوة العملية بالشرف والرتبة، لا جرم وجب تقديمها في الذكر.

الوجه الثاني: في تفسير هذه الآية قال القفال: { إِنَّ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ } أي صدقوا بقلوبهم، ثم حققوا التصديق بالعمل الصالح الذي جاءت به الأنبياء والكتب من عند الله تعالى.

الوجه الثالث: { ٱلَّذِينَ آمنوا } أي شغلوا قلوبهم وأرواحهم بتحصيل المعرفة { وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَاتِ } أي شغلوا جوارحهم بالخدمة، فعينهم مشغولة بالاعتبار كما قال: { { فَٱعْتَبِرُواْ يٰأُوْلِى ٱلاْبْصَـٰرِ } [الحشر: 2] وأذنهم مشغولة بسماع كلام الله تعالى كما قال: { { وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى ٱلرَّسُولِ } [المائدة: 83] ولسانهم مشغول بذكر الله كما قال تعالى: { { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ } [الأحزاب: 41] وجوارحهم مشغولة بنور طاعة الله كما قال: { { أَلاَّ يَسْجُدُواْ للَّهِ ٱلَّذِى يُخْرِجُ ٱلْخَبْء فِى ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلاْرْضَ } [النمل: 25].

واعلم أنه تعالى لما وصفهم بالإيمان والأعمال الصالحة ذكر بعد ذلك درجات كراماتهم ومراتب سعاداتهم وهي أربعة.

المرتبة الأولى: قوله: { يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِى مِن تَحْتِهِمُ ٱلاْنْهَـٰرُ فِي جَنَّـٰتِ ٱلنَّعِيمِ } وفيه مسائل:

المسألة الأولى: في تفسير قوله: { يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ } وجوه: الأول: أنه تعالى يهديهم إلى الجنة ثواباً لهم على إيمانهم وأعمالهم الصالحة، والذي يدل على صحة هذا التأويل وجوه: أحدها: قوله تعالى: { { يَوْمَ تَرَى ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَـٰتِ يَسْعَىٰ نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَـٰنِهِم } [الحديد: 12] وثانيها: ما روي أنه عليه السلام قال: " إن المؤمن إذا خرج من قبره صور له عمله في صورة حسنة فيقول له أنا عملك فيكون له نوراً وقائداً إلى الجنة والكافر إذا خرج من قبره صور له عمله في صورة سيئة فيقول له أنا عملك فينطلق به حتى يدخله النار " وثالثها: قال مجاهد: المؤمنون يكون لهم نور يمشي بهم إلى الجنة. ورابعها: وهو الوجه العقلي أن الإيمان عبارة عن نور اتصل به من عالم القدس، وذلك النور كالخيط المتصل بين قلب المؤمن وبين ذلك العالم المقدس، فإن حصل هذا الخط النوراني قدر العبد على أن يقتدي بذلك النور ويرجع إلى عالم القدس، فأما إذا لم يوجد هذا الحبل النوراني تاه في ظلمات عالم الضلالات نعوذ بالله منه.

والتأويل الثاني: قال ابن الأنباري: إن إيمانهم يهديهم إلى خصائص في المعرفة ومزايا في الألفاظ ولوامع من النور تستنير بها قلوبهم، وتزول بواسطتها الشكوك والشبهات عنهم، كقوله تعالى: { { وَٱلَّذِينَ ٱهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى } [محمد: 17] وهذه الزوائد والفوائد والمزايا يجوز حصولها في الدنيا قبل الموت، ويجوز حصولها في الآخرة بعد الموت، قال القفال: وإذا حملنا الآية على هذا الوجه. كان المعنى يهديهم ربهم بإيمانهم وتجري من تحتهم الأنهار في جنات النعيم، إلا أن حذف الواو وجعل قوله: { تَجْرِى } خبراً مستأنفاً منقطعاً عما قبله:

والتأويل الثالث: أن الكلام في تفسير هذه الآية يجب أن يكون مسبوقاً بمقدمات.

المقدمة الأولى: أن العلم نور والجهل ظلمة. وصريح العقل يشهد بأن الأمر كذلك، ومما يقرره أنك إذا ألقيت مسألة جليلة شريفة على شخصين، فاتفق أن فهمها أحدهما وما فهمها الآخر، فإنك ترى وجه الفاهم متهللاً مشرقاً مضيئاً، ووجه من لم يفهم عبوساً مظلماً منقبضاً، ولهذا السبب جرت عادة القرآن بالتعبير عن العلم والإيمان والنور، وعن الجهل والكفر بالظلمات.

والمقدمة الثانية: أن الروح كاللوح، والعلوم والمعارف كالنقوش المنقوشة في ذلك اللوح. ثم ههنا دقيقة، وهي أن اللوح الجسماني إذا رسمت فيه نقوش جسمانية فحصول بعض النقوش في ذلك اللوح مانع من حصول سائر النقوش فيه، فأما لوح الروح فخاصيته على الضد من ذلك، فإن الروح إذا كانت خالية عن نقوش المعارف والعلوم فإنه يصعب عليه تحصيل المعارف والعلوم، فإذا احتال وحصل شيء منها، كان حصول ما حصل منها معيناً له على سهولة تحصيل الباقي، وكلما كان الحاصل أكثر كان تحصيل البقية أسهل، فالنقوش الجسمانية يكون بعضها مانعاً من حصول الباقي، والنقوش الروحانية يكون بعضها معيناً على حصول البقية، وذلك يدل على أن أحوال العالم الروحاني بالضد من أحوال العالم الجسماني.

المقدمة الثالثة: أن الأعمال الصالحة عبارة عن الأعمال التي تحمل النفس على ترك الدنيا وطلب الآخرة، والأعمال المذمومة ما تكون بالضد من ذلك.

إذا عرفت هذه المقدمات فنقول: الإنسان إذا آمن بالله فقد أشرق روحه بنور هذه المعرفة، ثم إذا واظب على الأعمال الصالحة حصلت له ملكة مستقرة في التوجه إلى الآخرة وفي الإعراض عن الدنيا، وكلما كانت هذه الأحوال أكمل كان استعداد النفس لتحصيل سائر المعارف أشد، وكلما كان الاستعداد أقوى وأكمل. كانت معارج المعارف أكثر وإشراقها ولمعانها أقوى، ولما كان لا نهاية لمراتب المعارف والأنوار العقلية، لا جرم لا نهاية لمراتب هذه الهداية المشار إليها بقوله تعالى: { يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ }.

المسألة الثانية: قوله تعالى: { تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ ٱلاْنْهَـٰرُ } المراد منه أنهم يكونون جالسين على سرر مرفوعة في البساتين والأنهار تجري من بين أيديهم، ونظيره قوله تعالى: { { قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً } [مريم: 24] وهي ما كانت قاعدة عليها، ولكن المعنى بين يديك، وكذا قوله: { { وَهَـٰذِهِ ٱلاْنْهَـٰرُ تَجْرِى مِن تَحْتِي } [الزخرف: 51] المعنى بين يدي فكذا ههنا.

المسألة الثالثة: الإيمان هو المعرفة والهداية المترتبة عليها أيضاً من جنس المعارف، ثم إنه تعالى لم يقل يهديهم ربهم إيمانهم. بل قال: { يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ } وذلك يدل على أن العلم بالمقدمتين لا يوجب العلم بالنتيجة، بل العلم بالمقدمتين سبب لحصول الاستعداد التام لقبول النفس للنتيجة. ثم إذا حصل هذا الاستعداد، كان التكوين من الحق سبحانه وتعالى، وهذا معنى قول الحكماء أن الفياض المطلق والجواد الحق، ليس إلا الله سبحانه وتعالى.

المرتبة الثانية: من مراتب سعاداتهم ودرجات كمالاتهم قوله سبحانه وتعالى: { دَعْوٰهُمْ فِيهَا سُبْحَـٰنَكَ ٱللَّهُمَّ } وفيه مسائل:

المسألة الأولى: في { دعواهم } وجوه: الأول: أن الدعوى ههنا بمعنى الدعاء، يقال: دعا يدعو دعاء ودعوى، كما يقال: شكى يشكو شكاية وشكوى. قال بعض المفسرين: { دَعْوَاهُمْ } أي دعاؤهم. وقال تعالى في أهل الجنة: { { لَهُمْ فِيهَا فَـٰكِهَةٌ وَلَهُمْ مَّا يَدَّعُونَ } [يس: 57] وقال في آية أخرى { { يَدْعُونَ فِيهَا بِكلّ فَـٰكِهَةٍ ءامِنِينَ } [الدخان: 55] ومما يقوى أن المراد من الدعوى ههنا الدعاء. هو أنهم قالوا: اللهم. وهذا نداء لله سبحانه وتعالى، ومعنى قولهم: { سُبْحَـٰنَكَ ٱللَّهُمَّ } إنا نسبحك، كقول القانت في دعاء القنوت: «اللهم إياك نعبد» الثاني: أن يراد بالدعاء العبادة، ونظيره قوله تعالى: { { وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ } [مريم: 48] أي وما تعبدون. فيكون معنى الآية أنه لا عبادة لأهل الجنة إلا أن يسبحوا الله ويحمدوه، ويكون اشتغالهم بذلك الذكر لا على سبيل التكليف، بل على سبيل الابتهاج بذكر الله تعالى. الثالث: قال بعضهم: لا يبعد أن يكون المراد من الدعوى نفس الدعوى التي تكون للخصم على الخصم. والمعنى: أن أهل الجنة يدعون في الدنيا وفي الآخرة تنزيه الله تعالى عن كل المعايب والإقرار له بالإلهية. قال القفال: أصل ذلك أيضاً من الدعاء، لأن الخصم يدعو خصمه إلى من يحكم بينهما. الرابع: قال مسلم: { دَعْوَاهُمْ } أي قولهم وإقرارهم ونداؤهم، وذلك هو قولهم: { سُبْحَـٰنَكَ ٱللَّهُمَّ } الخامس: قال القاضي: المراد من قوله: { دَعْوَاهُمْ } أي طريقتهم في تمجيد الله تعالى وتقديسه وشأنهم وسنتهم. والدليل على أن المراد ذلك أن قوله: { سُبْحَـٰنَكَ ٱللَّهُمَّ } ليس بدعاء ولا بدعوى، إلا أن المدعي للشيء يكون مواظباً على ذكره، لا جرم جعل لفظ الدعوى كناية عن تلك المواظبة والملازمة. فأهل الجنة لما كانوا مواظبين على هذا الذكر، لا جرم أطلق لفظ الدعوى عليها. السادس: قال القفال: قيل في قوله: { { لَهُمْ مَّا يَدَّعُونَ } [يس: 57] أي ما يتمنونه، والعرب تقول: ادع ما شئت علي، أي تمن. وقال ابن جريج: أخبرت أن قوله: { دَعْوٰهُمْ فِيهَا سُبْحَـٰنَكَ ٱللَّهُمَّ } هو أنه إذا مر بهم طير يشتهونه قالوا { سُبْحَـٰنَكَ ٱللَّهُمَّ } فيأتيهم الملك بذلك المشتهى، فقد خرج تأويل الآية من هذا الوجه، على أنهم إذا اشتهوا الشيء قالوا سبحانك اللهم، فكان المراد من دعواهم ما حصل في قلوبهم من التمني، وفي هذا التفسير وجه آخر هو أفضل وأشرف مما تقدم، وهو أن يكون المعنى أن تمنيهم في الجنة أن يسبحوا الله تعالى، أي تمنيهم لما يتمنونه، ليس إلا في تسبيح الله تعالى وتقديسه وتنزيهه. السابع: قال القفال أيضاً: ويحتمل أن يكون المعنى في الدعوى ما كانوا يتداعونه في الدنيا في أوقات حروبهم ممن يسكنون إليه ويستنصرونه، كقولهم: يا آل فلان، فأخبر الله تعالى أن أنسهم في الجنة بذكرهم الله تعالى، وسكونهم بتحميدهم الله. ولذتهم بتمجيدهم الله تعالى.

المسألة الثانية: أن قوله: { سُبْحَـٰنَكَ ٱللَّهُمَّ } فيه وجهان:

الوجه الأول: قول من يقول: إن أهل الجنة جعلوا هذا الذكر علامة على طلب المشتهيات قال ابن جريج: إذا مر بهم طيراً اشتهوه؛ قالوا { سبحانك اللهم } فيؤتون به، فإذا نالوا منه شهوتهم قالوا: { ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } وقال الكلبي: قوله: { سُبْحَـٰنَكَ ٱللَّهُمَّ } علم بين أهل الجنة والخدام، فإذا سمعوا ذلك من قولهم أتوهم بما يشتهون. واعلم أن هذا القول عندي ضعيف جداً، وبيانه من وجوه: أحدها: أن حاصل هذا الكلام يرجع إلى أن أهل الجنة جعلوا هذا الذكر العالي المقدس علامة على طلب المأكول والمشروب والمنكوح، وهذا في غاية الخساسة. وثانيها: أنه تعالى قال في صفة أهل الجنة: { وَلَهُمْ مَّا يَشْتَهُونَ } فإذا اشتهوا أكل ذلك الطير، فلا حاجة بهم إلى الطلب، وإذا لم يكن بهم حاجة إلى الطلب، فقد سقط هذا الكلام. وثالثها: أن هذا يقتضي صرف الكلام عن ظاهره الشريف العالي إلى محمل خسيس لا إشعار للفظ به، وهذا باطل.

الوجه الثاني: في تأويل هذه الآية أن نقول: المراد اشتغال أهل الجنة بتقديس الله سبحانه وتمجيده والثناء عليه، لأجل أن سعادتهم في هذا الذكر وابتهاجهم به وسرورهم به، وكمال حالهم لا يحصل إلا منه، وهذا القول هو الصحيح الذي لا محيد عنه. ثم على هذا التقدير ففي الآية وجوه: أحدها: قال القاضي: إنه تعالى وعد المتقين بالثواب العظيم، كما ذكر في أول هذه السورة من قوله: { { ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط } [يونس: 4] فإذا دخل أهل الجنة الجنة، ووجدوا تلك النعم العظيمة، عرفوا أن الله تعالى كان صادقاً في وعده إياهم بتلك النعم، فعند هذا قالوا: { سُبْحَـٰنَكَ ٱللَّهُمَّ } أي نسبحك عن الخلف في الوعد والكذب في القول. وثانيها: أن نقول: غاية سعادة السعداء، ونهاية درجات الأنبياء والأولياء استسعادهم بمراتب معارف الجلال.

واعلم أن معرفة ذات الله تعالى والاطلاع على كنه حقيقته مما لا سبيل للخلق إليه، بل الغاية القصوى معرفة صفاته السلبية أو صفاته الإضافية. إما الصفات السلبية فهي المسماة بصفات الجلال، وأما الصفات الإضافية فهي المسماة بصفات الإكرام، فلذلك كان كمال الذكر العالي مقصوراً عليها، كما قال سبحانه وتعالى: { { تَبَـٰرَكَ ٱسْمُ رَبّكَ ذِى ٱلْجَلَـٰلِ وَٱلإكْرَامِ } [الرحمٰن: 78] وكان صلى الله عليه وسلم يقول: " ألظوا بيا ذا الجلال والإكرام " ولما كانت السلوب متقدمة بالرتبة على الإضافات، لا جرم كان ذكر الجلال متقدماً على ذكر الإكرام في اللفظ. وإذا ثبت أن غاية سعادة السعداء ليس إلا في هذين المقامين، لا جرم ذكر الله سبحانه وتعالى كونهم مواظبين على هذا الذكر العالي المقدس، ولما كان لا نهاية لمعارج جلال الله ولا غاية لمدارج إلهيته وإكرامه وإحسانه، فكذلك لا نهاية لدرجات ترقي الأرواح المقدسة في هذه المقامات العلية الإلهية. وثالثها: أن الملائكة المقربين كانوا قبل تخليق آدم عليه السلام مشتغلين بهذا الذكر، ألا ترى أنهم قالوا: { { وَنَحْنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدّسُ لَكَ } [البقرة: 30] فالحق سبحانه ألهم السعداء من أولاد آدم، حتى أتوا بهذا التسبيح والتحميد، ليدل ذلك على أن الذي أتى به الملائكة المقربون قبل خلق العالم من الذكر العالي، فهو بعينه أتى به السعداء من أولاد آدم عليه السلام، بعد انقراض العالم، ولما كان هذا الذكر مشتملاً على هذا الشرف العالي، لا جرم جاءت الرواية بقراءته في أول الصلاة، فإن المصلي إذا كبر قال: «سبحانك اللهم وبحمدك تبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك».

المرتبة الثالثة: من مراتب سعادات أهل الجنة قوله تعالى: { وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ } قال المفسرون: تحية بعضهم لبعض تكون بالسلام، وتحية الملائكة لهم بالسلام، كما قال تعالى: { { وَالمَلَـٰئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مّن كُلّ بَابٍ سَلَـٰمٌ عَلَيْكُمُ } [الرعد: 23] وتحية الله تعالى لهم أيضاً بالسلام كما قال تعالى: { { سَلاَمٌ قَوْلاً مّن رَّبّ رَّحِيمٍ } [يس: 58] قال الواحدي: وعلى هذا التقدير يكون هذا من إضافة المصدر إلى المفعول، وعندي فيه وجه آخر: وهو أن مواظبتهم على ذكر هذه الكلمة، مشعرة بأنهم كانوا في الدنيا في منزل الآفات وفي معرض المخافات، فإذا أخرجوا من الدنيا ووصلوا إلى كرامة الله تعالى، فقد صاروا سالمين من الآفات، آمنين من المخافات والنقصانات. وقد أخبر الله تعالى عنهم بأنهم يذكرون هذا المعنى في قوله: { { وَقَالُواْ ٱلْحَمْدُ للَّهِ ٱلَّذِى أَذْهَبَ عَنَّا ٱلْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ ٱلَّذِى أَحَلَّنَا دَارَ ٱلْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ لاَ يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلاَ يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ } [فاطر: 34، 35].

المرتبة الرابعة: من مراتب سعاداتهم قوله سبحانه وتعالى: { وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين } وفيه مسائل:

المسألة الأولى: قد ذكرنا أن جماعة من المفسرين حملوا هذه الكلمات العالية المقدسة على أحوال أهل الجنة بسبب الأكل والشرب. فقالوا: إن أهل الجنة إذا اشتهوا شيئاً قالوا: سبحانك اللهم وبحمدك، وإذا أكلوا وفرغوا. قالوا: الحمد لله رب العالمين، وهذا القائل ما ترقى نظره في دنياه وأخراه عن المأكول والمشروب، وحقيق لمثل هذا الإنسان أن يعد في زمرة البهائم. وأما المحقون المحققون، فقد تركوا ذلك، ولهم فيه أقوال. روى الحسن البصري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن أهل الجنة يلهمون الحمد والتسبيح كما تلهمون أنفاسكم " وقال الزجاج: أعلم الله تعالى أن أهل الجنة يفتتحون بتعظيم الله تعالى وتنزيهه. ويختتمون بشكره والثناء عليه، وأقول: عندي في هذا الباب وجوه أخر: فأحدها: أن أهل الجنة لما استسعدوا بذكر سبحانك اللهم وبحمدك، وعاينوا ما هم فيه من السلامة عن الآفات والمخافات، علموا أن كل هذه الأحوال السنية والمقامات القدسية، إنما تيسرت بإحسان الحق سبحانه وإفضاله وإنعامه، فلا جرم اشتغلوا بالحمد والثناء. فقالوا: { ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } وإنما وقع الختم على هذا الكلام لأن اشتغالهم بتسبيح الله تعالى وتمجيده من أعظم نعم الله تعالى عليهم. والاشتغال بشكر النعمة متأخر عن رؤية تلك النعمة، فلهذا السبب وقع الختم على هذه الكلمة، وثانيها: أن لكل إنسان بحسب قوته معراجاً، فتارة ينزل عن ذلك المعراج، وتارة يصعد إليه. ومعراج العارفين الصادقين، معرفة الله تعالى وتسبيح الله وتحميد الله، فإذا قالوا: { سُبْحَـٰنَكَ ٱللَّهُمَّ } فهم في عين المعراج، وإذا نزلوا منه إلى عالم المخلوقات. كان الحاصل عند ذلك النزول إفاضة الخير على جميع المحتاجين وإليه الإشارة بقوله: { وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ } ثم أنه مرة أخرى يصعد إلى معراجه، وعند الصعود يقول: { ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } فهذه الكلمات العالية إشارة إلى اختلاف أحوال العبد بسبب النزول والعروج. وثالثها: أن نقول: إن قولنا الله اسم لذات الحق سبحانه، فتارة ينظر العبد إلى صفات الجلال، وهي المشار إليها بقوله: { سُبْحَـٰنَكَ } ثم يحاول الترقي منها إلى حضرة جلال الذات، ترقياً يليق بالطاقة البشرية، وهي المشار إليها بقوله: { ٱللَّهُمَّ } فإذا عرج عن ذلك المكان. واخترق في أوائل تلك الأنوار رجع إلى عالم الإكرام، وهو المشار إليه بقوله: { ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } فهذه كلمات خطرت بالبال ودارت في الخيال، فإن حقت فالتوفيق من الله تعالى، وإن لم يكن كذلك فالتكلان على رحمة الله تعالى.

المسألة الثانية: قال الواحدي: { أن } في قوله: { أَنِ ٱلْحَمْدُ للَّهِ } هي المخففة من الشديدة، فلذلك لم تعمل لخروجها بالتخفيف عن شبه الفعل كقوله:

أن هالك كل من يخفى وينتعل

على معنى أنه هالك. وقال صاحب «النظم» { أن } ههنا زائدة، والتقدير: وآخر دعواهم الحمد لله رب العالمين، وهذا القول ليس بشيء، وقرأ بعضهم { أن } الحمد لله بالتشديد، ونصب الحمد.