خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىٰ ٱلْكِتَابَ فَٱخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ
١١٠
وَإِنَّ كُـلاًّ لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ
١١١
-هود

مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير

اعلم أنه تعالى لما بين في الآية الأولى إصرار كفار مكة على إنكار التوحيد، بين أيضاً إصرارهم على إنكار نبوته عليه السلام وتكذيبهم بكتابه، وبين تعالى أن هؤلاء الكفار كانوا على هذه السيرة الفاسدة مع كل الأنبياء عليهم السلام وضرب لذلك مثلاً؛ وهو أنه لما أنزل التوراة على موسى عليه السلام اختلفوا فيه فقبله بعضهم وأنكره آخرون، وذلك يدل على أن عادة الخلق هكذا.

ثم قال تعالى: { وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ } وفيه وجوه: الأول: أن المراد: ولولا ما تقدم من حكم الله تعالى بتأخير عذاب هذه الأمة إلى يوم القيامة لكان الذي يستحقه هؤلاء الكفار عند عظيم كفرهم إنزال عذاب الاستئصال عليهم لكن المتقدم من قضائه أخر ذلك عنهم في دنياهم. الثاني: لولا كلمة سبقت من ربك وهي أن الله تعالى إنما يحكم بين المختلفين يوم القيامة وإلا لكان من الواجب تمييز المحق عن المبطل في دار الدنيا. الثالث: { وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبّكَ } وهي أن رحمته سبقت غضبه وأن إحسانه راجح على قهره وإلا لقضى بينهم ولما قرر تعالى هذا المعنى قال: { وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكّ مّنْهُ مُرِيبٍ } يعني أن كفار قومك لفي شك من هذا القرآن مريب.

ثم قال تعالى: { وَإِنَّ كُـلاًّ لَّمَّا لَيُوَفّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ } وفيه مسائل:

المسألة الأولى: المعنى أن من عجلت عقوبته ومن أخرت ومن صدق الرسل ومن كذب فحالهم سواء في أنه تعالى يوفيهم جزاء أعمالهم في الآخرة، فجمعت الآية الوعد والوعيد فإن توفية جزاء الطاعات وعد عظيم وتوفية جزاء المعاصي وعيد عظيم، وقوله تعالى: { إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } توكيد الوعد والوعيد، فإنه لما كان عالماً بجميع المعلومات كان عالماً بمقادير الطاعات والمعاصي فكان عالماً بالقدر اللائق بكل عمل من الجزاء، فحينئذ لا يضيع شيء من الحقوق والأجزية وذلك نهاية البيان.

المسألة الثانية: قرأ أبو عمرو والكسائي وإن مشددة النون { لَّمّاً } خفيفة قال أبو علي: اللام في { لَّمّاً } هي التي تقتضيه إن وذلك لأن حرف إن يقتضي أن يدخل على خبرها أو اسمها لام كقوله: { { إِنَّ ٱللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } [النحل: 18] وقوله: { { إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَةً } [الحجر: 77] واللام الثانية هي التي تجيء بعد القسم كقولك والله لتفعلن ولما اجتمع لامان دخلت ما لتفصل بينهما فكلمة ما على هذا التقدير زائدة، وقال الفراء: ما موصولة بمعنى من وبقية التقرير كما تقدم ومثله: { { وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَن لَّيُبَطّئَنَّ } [النساء: 72].

والقراءة الثانية: في هذه الآية قرأ ابن كثير ونافع وأبو بكر عن عاصم { وَإِنَّ كُـلاًّ لَّمَّا } مخففتان والسبب فيه أنهم أعملوا إن مخففة كما تعمل مشددة لأن كلمة إن تشبه الفعل فكما يجوز أعمال الفعل تاماً ومحذوفاً في قولك لم يكن زيد قائماً ولم يك زيد قائماً فكذلك أن وإن.

والقراءة الثالثة: قرأ حمزة وابن عامر وحفص: { { وَإِنَّ كُـلاًّ لَّمَّا } [الفجر: 19] مشددتان، قالوا: وأحسن ما قيل فيه إن أصل لما بالتنوين كقوله: { أَكْلاً لَّمّاً } والمعنى أن كلاً ملمومين أي مجموعين كأنه قيل: وإن كلاً جميعاً.

المسألة الثالثة: سمعت بعض الأفاضل قال: إنه تعالى لما أخبر عن توفية الأجزية على المستحقين في هذه الآية ذكر فيها سبعة أنواع من التوكيدات: أولها: كلمة { إن } وهي للتأكيد. وثانيها: كلمة «كل» وهي أيضاً للتأكيد. وثالثها: اللام الداخلة على خبر { إن } وهي تفيد التأكيد أيضاً. ورابعها: حرف { مَا } إذا جعلناه على قول الفراء موصولاً. وخامسها: القسم المضمر، فإن تقدير الكلام وإن جميعهم والله ليوفينهم. وسادسها: اللام الثانية الداخلة على جواب القسم. وسابعها: النون المؤكدة في قوله { لَيُوَفّيَنَّهُمْ } فجميع هذه الألفاظ السبعة الدالة على التوكيد في هذه الكلمة الواحدة تدل على أن أمر الربوبية والعبودية لا يتم إلا بالبعث والقيامة وأمر الحشر والنشر ثم أردفه بقوله: { إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } وهو من أعظم المؤكدات.