في الآية مسائل:
المسألة الأولى: قوله: { فَأَنظِرْنِى } متعلق بما تقدم والتقدير: إذا جعلتني رجيماً ملعوناً إلى يوم الدين فأنظرني فطلب الإبقاء من الله تعالى عند اليأس من الآخرة إلى وقت قيام القيامة. لأن قوله: { إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ } المراد منه يوم البعث والنشور وهو يوم القايمة، وقوله: { فَإِنَّكَ مِنَ ٱلْمُنظَرِينَ * إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْوَقْتِ ٱلْمَعْلُومِ } اعلم أن إبليس استنظر إلى يوم البعث والقيامة، وغرضه منه أن لا يموت لأنه إذا كان لا يموت قبل يوم القيامة، وظاهره أن بعد قيام القيامة لا يموت أحد فحينئذ يلزم منه أن لا يموت ألبتة. ثم إنه تعالى منعه عن هذا المطلوب وقال: { إِنَّكَ مِنَ ٱلمُنظَرِينَ * إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْوَقْتِ ٱلْمَعْلُومِ } واختلفوا في المراد منه على وجوه: أحدها: أن المراد من يوم الوقت المعلوم وقت النفخة الأولى حين يموت كل الخلائق، وإنما سمي هذا الوقت بالوقت المعلوم لأن من المعلوم أن يموت كل الخلائق فيه. وقيل: إنما سماه الله تعالى بهذا الاسم، لأن العالم بذلك الوقت هو الله تعالى لا غير كما قال تعالى:
{ { إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبّي لاَ يُجَلّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ } [الأعراف: 187] وقال: { { إِنَّ ٱللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ ٱلسَّاعَةِ } [لقمان: 34]. وثانيها: أن المراد من يوم الوقت المعلوم هو الذي ذكره إبليس وهو قوله: { إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ } وإنما سماه تعالى بيوم الوقت المعلوم؟ لأن إبليس لما عينه وأشار إليه بعينه صار ذلك كالمعلوم. فإن قيل: لما أجابه الله تعالى إلى مطلوبه لزم أن لا يموت إلى وقت قيام الساعة وبعد قيام القيامة لا يموت أيضاً، فيلزم أن يندفع عنه الموت بالكلية.
قلنا: يحمل قوله: { إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ } إلى ما يكون قريباً منه. والوقت الذي يموت فيه كل المكلفين قريب من يوم البعث، وعلى هذا الوجه فيرجع حاصل هذا الكلام إلى الوجه الأول. وثالثها: أن المراد بيوم الوقت المعلوم يوم لا يعلمه إلا الله تعالى، وليس المراد منه يوم القيامة.
فإن قيل: إنه لا يجوز أن يعلم المكلف متى يموت، لأن فيه إغراء بالمعاصي، وذلك لا يجوز على الله تعالى.
أجيب عنه بأن هذا الإلزام إنما يتوجه إذا كان وقت قيام القيامة معلوماً للمكلف. فأما إذا علم أنه تعالى أمهله إلى وقت قيام القيامة إلا أنه تعالى ما أعلمه الوقت الذي تقوم القيامة فيه فلم يلزم منه الإغراء بالمعاصي.
وأجيب عن هذا الجواب بأنه وإن لم يعلم الوقت الذي فيه تقوم القيامة على التعيين إلا أنه علم في الجملة أن من وقت خلقة آدم عليه الصلاة والسلام إلى وقت قيام القيامة مدة طويلة فكأنه قد علم أنه لا يموت في تلك المدة الطويلة.
أما قوله تعالى: { قَالَ رَبّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِى لازَيّنَنَّ لَهُمْ فِى ٱلأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } ففيه بحثان:
البحث الأول: الباء في { بِمَآ أَغْوَيْتَنِى } للقسم وما مصدرية، وجواب القسم لأزينن. والمعنى أقسم بإغوائك إياي لأزينن لهم، ونظيره قوله تعالى:
{ { فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } [صۤ: 82] إلا أنه في ذلك الموضع أقسم بعزة الله، وهي من صفات الذات، وفي قوله: { بِمَآ أَغْوَيْتَنِى } أقسم بإغواء الله وهو من صفات الأفعال. والفقهاء قالوا: القسم بصفات الذات صحيح، أما بصفات الأفعال فقد اختلفوا فيه. ونقل الواحدي عن قوم آخرين أنهم قالوا: الباء ههنا بمعنى السبب، أي بسبب كوني غاوياً لأزينن كقول القائل، أقسم فلان بمعصيته ليدخلن النار، وبطاعته ليدخلن الجنة. البحث الثاني: اعلم أن أصحابنا قد احتجوا بهذه الآية على أنه تعالى قد يريد خلق الكفر في الكافر ويصده عن الدين ويغويه عن الحق من وجوه: الأول: أن إبليس استمهل وطلب البقاء إلى قيام القيامة مع أنه صرح بأنه إنما يطلب هذا الإمهال والإبقاء لإغواء بني آدم وإضلالهم وأنه تعالى أمهله وأجابه إلى هذا المطلوب، ولو كان تعالى يراعي مصالح المكلفين في الدين لما أمهله هذا الزمان الطويل، ولما مكنه من الإغواء والإضلال والوسوسة. الثاني: أن أكابر الأنبياء والأولياء مجدون ومجتهدون في إرشاد الخلق إلى الدين الحق، وأن إبليس ورهطه وشيعته مجدون ومجتهدون في الضلال والإغواء، فلو كان مراد الله تعالى هو الإرشاد والهداية لكان من الواجب إبقاء المرشدين والمحققين وإهلاك المضلين والمغوين، وحيث فعل بالضد منه، علمنا أنه أراد بهم الخذلان والكفر. الثالث: أنه تعالى لما أعلمه بأنه يموت على الكفر وأنه ملعون إلى يوم الدين كان ذلك إغراء له بالكفر والقبيح، لأنه أيس عن المغفرة والفوز بالجنة يجترىء حينئذ على أنواع المعاصي والكفر. الرابع: أنه لما سأل الله تعالى هذا العمر الطويل، مع أنه تعالى علم منه أنه لا يستفيد من هذا العمر الطويل إلا زيادة الكفر والمعصية، وبسبب تلك الزيادة يزداد استحقاقه لأنواع العذاب الشديد كان هذا الإمهال سبباً لمزيد عذابه، وذلك يدل على أنه تعالى أراد به أن يزداد عذابه وعقابه. الخامس: أنه صرح بأن الله أغواه فقال: { رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِى } وذلك تصريح بأن الله تعالى أغواه لا يقال: هذا كلام إبليس وهو ليس بحجة، وأيضاً فهو معارض بقول إبليس: { فَبِعِزَّتِكَ لأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } فأضاف الإغواء إلى نفسه، لأنا نقول.
أما الجواب عن الأول: فهو أنه لما ذكر هذا الكلام فإن الله تعالى ما أنكره عليه وذلك يدل على أنه كان صادقاً فيما قال.
وأما الجواب عن الثاني: فهو أنه قال في هذه الآية: { رَبّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِى لأزَيّنَنَّ لَهُمْ } فالمراد ههنا من قوله: { لأزَيّنَنَّ لَهُمْ } هو المراد من قوله في تلك الآية: { لأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } إلا أنه بين في هذه الآية أنه إنما أمكنه أن يزين لهم الأباطيل لأجل أن الله تعالى أغواه قبل ذلك، وعلى هذا التقدير فقد زال التناقض ويتأكد هذا بما ذكره الله تعالى حكاية عن الشياطين في سورة القصص:
{ { هَـؤُلاء ٱلَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَـٰهُمْ كَمَا غَوَيْنَا } [القصص: 63]. السؤال السادس: أنه اقل: { رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِى } وهذا اعتراف بأن الله تعالى أغواه فنقول: إما أن يقال: إنه كان قد عرف بأن الله تعالى أغواه، أو ما عرف ذلك، فإن كان قد عرف بأن الله تعالى أغواه امتنع كونه غاوياً لأنه إنما يعرف أن الله تعالى أغواه إذا عرف أن الذي هو عليه جهل وباطل، ومن عرف ذلك امتنع بقاؤه على الجهل والضلالة، وأما إن قلنا: بأنه ما عرف أن الله أغواه فكيف أمكنه أن يقول: { رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِى } فهذا مجموع السؤالات الواردة في هذه الآية.
أما الإشكال الأول: فللمعتزلة فيه طريقان:
الطريق الأول: وهو طريق الجبائي أنه تعالى إنما أمهل إبليس تلك المدة الطويلة، لأنه تعالى علم أنه لا يتفاوت أحوال الناس بسبب وسوسته، فبتقدير أن لا يوجد إبليس ولا وسوسته فإن ذلك الكافر، والعاصي كان يأتي بذلك الكفر والمعصية، فلما كان الأمر كذلك، لا جرم أمهله هذه المدة.
الطريق الثاني: وهو طريق أبي هاشم أنه لا يبعد أن يقال: إنه تعالى علم أن أقواماً يقعون بسبب وسوسته في الكفر والمعصية، إلا أن وسوسته ما كانت موجبة لذلك الكفر والمعصية، بل الكافر والعاصي بسبب اختياره اختار ذلك الكفر وتلك المعصية، أقصى ما في الباب أن يقال: الاحتراز عن القبائح حال عدم الوسوسة أسهل منه حال وجودها، إلا أن على هذا التقدير تصير وسوسته سبباً لزيادة المشقة في أداء الطاعات، وذلك لا يمنع الحكيم من فعله، كما أن إنزال المشاق وإنزال المتشابهات صار سبباً لمزيد الشبهات، ومع ذلك فلم يمتنع فعله فكذا ههنا، وهذان الطريقان هما بعينهما الجواب عن السؤال الثاني.
وأما السؤال الثالث: وهو أن إعلامه بأنه يموت على الكفر يحمله على الجرأة على المعاصي والإكثار منها، فجوابه أن هذا إنما يلزم إذا كان علم إبليس بموته على الكفر يحمله على الزيادة في المعاصي أما إذا علم الله تعالى من حاله أن ذلك لايوجب التفاوت ألبتة، فالسؤال زائل، وهذا بعينه هو الجواب عن السؤال الرابع.
وأما السؤال الخامس: وهو أن إبليس صرح بأن الله تعالى أغواه وأضله عن الدين، فقد أجابوا عنه بأنه ليس المراد ذلك بل فيه وجوه أخرى: أحدها: المراد بما خيبتني من رحمتك لأخيبنهم بالدعاء إلى معصيتك. وثانيها؛ المراد كما أضللتني عن طريق الجنة أضلهم أنا أيضاً عنه بالدعاء إلى المعصية. وثالثها: أن يكون المراد بالإغواء الأول الخيبة، وبالثاني الإضلال. ورابعها: أن المراد بإغواء الله تعالى إياه هو أنه أمره بالسجود لآدم فأفضى ذلك إلى غيه، يعني أنه حصل ذلك الغي عقيبه باختيار إبليس، فأما أن يقال: إن ذلك الأمر صار موجباً لذاته لحصول ذلك الغي، فمعلوم أنه ليس الأمر كذلك، هذا جملة كلام القوم في هذا الباب وكله ضعيف، أما قوله إنه لا يتفاوت الحال بسبب وسوسة إبليس فنقول: هذا باطل، ويدل عليه القرآن والبرهان، أما القرآن فقوله تعالى:
{ { فَأَزَلَّهُمَا ٱلشَّيْطَـٰنُ } [البقرة: 36] فأضاف تلك الزلة إلى الشيطان، وقال: { { فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ ٱلْجَنَّةِ فَتَشْقَىٰ } [طه: 117] فأضاف الإخراج إليه، وقال موسى عليه السلام: { { هَـٰذَا مِنْ عَمَلِ ٱلشَّيْطَـٰنِ } [القصص: 15] وكل ذلك يدل على أن لعمل الشيطان في تلك الأفعال أثراً، وأما البرهان فلأن بداية العقول شاهدة بأنه ليس حال من ابتلى بمجالسة شخص يرغبه أبداً في القبائح. وينفره عن الخيرات، مثل شخص كان حاله بالضد منه، والعلم بهذا التفاوت ضروري. وأما قوله إن وجوده يصير سبباً لزيادة المشقة في الطاعة فنقول: تأثير زيادة المشقة إنما هو في كثرة الثواب على أحد التقديرين، وفي الإلقاء في العذاب الشديد على التقدير الثاني وهو التقدير الأكثر الأغلب، وكل من يراعي المصالح، فإن رعاية هذا التقدير الثاني أولى عنده من رعاية التقدير الأول لأن دفع الضرر العظيم أولى من السعي في طلب النفع الزائد الذي لا حاجة إلى حصوله أصلاً، ولما اندفع هذان الجوابان عن هذا السؤال قويت سائر الوجوه المذكورة، وأما قوله: المراد من قوله: { رَبّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِى } الخيبة عن الرحمة أو الإضلال عن طريق الجنة فنقول: كل هذا بعيد، لأنه هو الذي خيب نفسه عن الرحمة وهو الذي أضل نفسه عن طريق الجنة، لأنه لما أقدم على الكفر باختياره فقد خيب نفسه عن الرحمة، وأضل نفسه عن طريق الجنة فكيف يحسن إضافته إلى الله تعالى فثبت أن الإشكالات لازمة وأن أجوبتهم ضعيفة، والله أعلم. وأما قوله: { إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ ٱلْمُخْلَصِينَ } ففيه مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أن إبليس استثنى المخلصين، لأنه علم أن كيده لا يعمل فيهم، ولا يقبلون منه، وذكرت في مجلس التذكير أن الذي حمل إبليس على ذكر هذا الإستثناء أن لا يصير كاذباً في دعواه فلما احترز إبليس عن الكذب علمنا أن الكذب في غاية الخساسة.
المسألة الثانية: قرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو: { ٱلْمُخْلَصِينَ } بكسر اللام في كل القرآن، والباقون بفتح اللام. وجه القراءة الأولى أنهم الذين أخلصوا دينهم وعبادتهم عن كل شائب يناقض الإيمان والتوحيد، ومن فتح اللام فمعناه: الذين أخلصهم الله بالهداية والإيمان، والتوفيق، والعصمة، وهذه القراءة تدل على أن الإخلاص والإيمان ليس إلا من الله تعالى.
المسألة الثالثة: الإخلاص جعل الشيء خالصاً عن شائبة الغير فنقول: كل من أتى بعمل فإما أن يكون قد أتى به لله فقط أو لغير الله فقط، أو لمجموع الأمرين، وعلى هذا التقدير الثالث فإما أن يكون طلب رضوان الله راجحاً أو مرجوحاً أو معادلاً، والتقدير الرابع أن يأتي به لا لغرض أصلاً وهذا محال، لأن الفعل بدون الداعية محال.
أما الأول: فهو الإخلاص في حق الله تعالى، لأن الحامل له على ذلك الفعل طلب رضوان الله، وما جعل هذه الداعية مشوبة بداعية أخرى بل بقيت خالصة عن شوائب الغير، فهذا هو الإخلاص.
وأما الثاني: وهو الإخلاص في حق غير الله، فظاهر أن هذا لا يكون إخلاصاً في حق الله تعالى.
وأما الثالث: وهو أن يشتمل على الجهتين إلا أن جانب الله يكون راجحاً، فهذا يرجى أن يكون من المخلصين، لأن المثل يقابله المثل. فيبقى القدر الزائد خالصاً عن الشوب.
وأما الرابع والخامس: فظاهر أنه ليس من المخلصين في حق الله تعالى، والحاصل أن القسم الأول: إخلاص في حق الله تعالى قطعاً. والقسم الثاني: يرجى من فضل الله أن يجعله من قسم الإخلاص وأما سائر الأقسام فهو خارج عن الإخلاص قطعاً، والله أعلم.
أما قوله تعالى: { قَالَ هَذَا صِرٰطٌ عَلَىَّ مُسْتَقِيمٌ } ففيه وجوه: الأول: أن إبليس لما قال: { إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ ٱلْمُخْلَصِينَ } فلفظ المخلص يدل على الإخلاص، فقوله هذا عائد إلى الإخلاص، والمعنى: أن الإخلاص طريق علي وإلي، أي أنه يؤدي إلى كرامتي وثوابي، وقال الحسن: معناه هذا صراط إلي مستقيم، وقال آخرون: هذا صراط من مر عليه، فكأنه مر علي وعلى رضواني وكرامتي وهو كما يقال: طريقك علي. الثاني: أن الإخلاص طريق العبودية فقوله: { هَذَا صِرٰطٌ عَلَىَّ مُسْتَقِيمٌ } أي هذا الطريق في العبودية طريق علي مستقيم. الثالث: قال بعضهم: لما ذكر إبليس أنه يغوي بني آدم إلا من عصمه الله بتوفيقه تضمن هذا الكلام تفويض الأمور إلى الله تعالى وإلى إرادته فقال تعالى: { هَذَا صِرٰطٌ عَلَىَّ } أي تفويض الأمور إلى إرادتي ومشيئتي طريق علي مستقيم. الرابع: معناه: هذا صراط علي تقريره وتأكيده، وهو مستقيم حق وصدق، وقرأ يعقوب: { صِرٰطٌ عَلَىَّ } بالرفع والتنوين على أنه صفة لقوله: { صِرٰطِ } أي هو علي بمعنى أنه رفيع مستقيم لا عوج فيه. قال الواحدي: معناه أن طريق التفويض إلى الله تعالى والإيمان بقضاء الله طريق رفيع مستقيم.