خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

مَن كَفَرَ بِٱللَّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِٱلإِيمَانِ وَلَـٰكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ ٱللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ
١٠٦
ذٰلِكَ بِأَنَّهُمُ ٱسْتَحَبُّواْ ٱلْحَيَاةَ ٱلْدُّنْيَا عَلَىٰ ٱلآخِرَةِ وَأَنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْكَافِرِينَ
١٠٧
أُولَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ طَبَعَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَـٰئِكَ هُمُ ٱلْغَافِلُونَ
١٠٨
لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ هُمُ ٱلْخَاسِرونَ
١٠٩
-النحل

مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير

اعلم أنه تعالى لما عظم تهديد الكافرين ذكر في هذه الآية تفصيلاً في بيان من يكفر بلسانه لا بقلبه، ومن يكفر بلسانه وقلبه معاً، وفي الآية مسائل:

المسألة الأولى: قوله: { مَن كَفَرَ بِٱللَّهِ مِن بَعْدِ إيمَـٰنِهِ } مبتدأ خبره غير مذكور، فلهذا السبب اختلف المفسرون وذكروا فيه وجوهاً: الأول: أن يكون قوله: { مَن كَفَرَ } بدلاً من قوله: { ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَـٰتِ ٱللَّهِ } والتقدير: إنما يفتري من كفر بالله من بعد إيمانه، واستثنى منهم المكره فلم يدخل تحت حكم الافتراء، وعلى هذا التقدير: فقوله: { وَأُوْلـئِكَ هُمُ ٱلْكَـٰذِبُونَ } اعتراض وقع بين البدل والمبدل منه. الثاني: يجوز أيضاً أن يكون بدلاً من الخبر الذي هو الكاذبون، والتقدير: وأولئك هم من كفر بالله من بعد إيمانه، والثالث: يجوز أن ينتصب على الذم، والتقدير: وأولئك هم الكاذبون، أعني من كفر بالله من بعد إيمانه وهو أحسن الوجوه عندي وأبعدها عن التعسف، والرابع: أن يكون قوله: { مَن كَفَرَ بِٱللَّهِ مِن بَعْدِ إيمَـٰنِهِ } شرطاً مبتدأ ويحذف جوابه، لأن جواب الشرط المذكور بعده يدل على جوابه كأنه قيل: من كفر بالله من بعد إيمانه فعليهم غضب من الله إلا من أكره: ولكن من شرح بالكفر صدراً فعليهم غضب من الله.

المسألة الثانية: أجمعوا على أنه لا يجب عليه التكلم بالكفر يدل عليه وجوه: أحدها: أنا روينا أن بلالاً صبر على ذلك العذاب، وكان يقول: أحد أحد. روي ناساً من أهل مكة فتنوا فارتدوا عن الإسلام بعد دخولهم فيه، وكان فيهم من أكره فأجرى كلمة الكفر على لسانه، مع أنه كان بقلبه مصراً على الإيمان، منهم: عمار، وأبواه ياسر وسمية، وصهيب، وبلال، وخباب، وسالم، عذبوا، فأما سمية فقيل: ربطت بين بعيرين ووخزت في قبلها بحربة وقالوا: إنك أسلمت من أجل الرجال وقتلت، وقتل ياسر وهما أول قتيلين قتلاً في الإسلام، وأما عمار فقد أعطاهم ما أرادوا بلسانه مكرهاً، فقيل: يا رسول الله إن عماراً كفر، فقال: كلا إن عماراً مليء إيماناً من فرقه إلى قدمه واختلط الإيمان بلحمه ودمه، فأتى عمار رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبكي فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح عينيه ويقول: " ما لك إن عادوا لك فعد لهم بما قلت " ومنهم جبر مولى الحضرمي أكرهه سيده فكفر، ثم أسلم مولاه وأسلم وحسن إسلامهما وهاجرا.

المسألة الثالثة: قوله: { إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ } ليس باستثناء، لأن المكره ليس بكافر فلا يصح استثناؤه من الكافر، لكن المكره لما ظهر منه بعد الإيمان ما مثله يظهر من الكافر طوعاً صح هذا الاستثناء لهذه المشاكلة.

المسألة الرابعة: يجب ههنا بيان الإكراه الذي عنده يجوز التلفظ بكلمة الكفر، وهو أن يعذبه بعذاب لا طاقة له به، مثل التخويف بالقتل، ومثل الضرب الشديد والإيلامات القوية. قال مجاهد: أول من أظهر الإسلام سبعة، رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر، وخباب، وصهيب، وبلال، وعمار، وسمية. أما الرسول عليه السلام فمنعه أبو طالب، وأما أبو بكر فمنعه قومه، وأخذ الآخرون وألبسوا دروع الحديد، ثم أجلسوا في الشمس فبلغ منهم الجهد بحر الحديد والشمس، وأتاهم أبو جهل يشتمهم ويوبخهم ويشتم سمية، ثم طعن الحربة في فرجها. وقال الآخرون: ما نالوا منهم غير بلال فإنهم جعلوا يعذبونه فيقول: أحد أحد، حتى ملوا فكتفوه وجعلوا في عنقه حبلاً من ليف ودفعوه إلى صبيانهم يلعبون به حتى ملوه فتركوه. قال عمار: كلنا تكلم بالذي أرادوا غير بلال، فهانت عليه نفسه فتركوه. قال خباب: لقد أوقدوا لي ناراً ما أطفأها إلا ودك ظهري.

المسألة الخامسة: أجمعوا على أن عند ذكر كلمة الكفر يجب عليه أن يبرىء قلبه من الرضا به وأن يقتصر على التعريضات مثل أن يقول: إن محمداً كذاب، ويعني عند الكفار أو يعني به محمداً آخر أو يذكره على نية الاستفهام بمعنى الإنكار وههنا بحثان:

البحث الأول: أنه إذا أعجله من أكرهه عن إحضار هذه النية أو لأنه لما عظم خوفه زال عن قلبه ذكر هذه النية كان ملوماً وعفو الله متوقع.

البحث الثاني: لو ضيق المكره الأمر عليه وشرح له كل أقسام التعريضات وطلب منه أن يصرح بأنه ما أراد شيئاً منها، وما أراد إلا ذلك المعنى، فههنا يتعين إما التزام الكذب، وإما تعريض النفس للقتل. فمن الناس من قال: يباح له الكذب هنا، ومنهم من يقول: ليس له ذلك وهو الذي اختاره القاضي. قال: لأن الكذب إنما يقبح لكونه كذباً، فوجب أن يقبح على كل حال، ولو جاز أن يخرج عن القبيح لرعاية بعض المصالح لم يمنع أن يفعل الله الكذب لرعاية بعض المصالح وحينئذ لا يبقى وثوق بوعد الله تعالى ولا بوعيده لاحتمال أنه فعل ذلك الكذب لرعاية بعض المصالح التي لا يعرفها إلا الله تعالى.

المسألة السادسة: أجمعوا على أنه لا يجب عليه التكلم بكلمة الكفر، ويدل عليه وجوه: أحدها: أنا روينا أن بلالاً صبر على ذلك العذاب، وكان يقول: أحد أحد، ولم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم: بئس ما صنعت بل عظمه عليه، فدل ذلك على أنه لا يجب التكلم بكلمة الكفر، وثانيها: ما روي أن مسيلمة الكذاب أخذ رجلين فقال لأحدهما: ما قتلو في محمد؟ فقال رسول الله، فقال: ما تقول في؟ قال أنت أيضاً، فخلاه وقال للآخر: ما تقول في محمد؟ قال رسول الله، قال: ما تقول في؟ قال: أنا أصم فأعاد عليه ثلاثاً فأعاد جوابه فقتله، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " أما الأول فقد أخذ برخصة الله، وأما الثاني فقد صدع بالحق، فهنيئاً له " . وجه الاستدلال بهذا الخبر من وجهين: الأول: أنه سمى التلفظ بكلمة الكفر رخصة. والثاني: أنه عظم حال من أمسك عنه حتى قتل. وثالثها: أن بذل النفس في تقرير الحق أشق، فوجب أن يكون أكثر ثواباً لقوله عليه السلام: " أفضل العبادات أحمزها " أي أشقها. ورابعها: أن الذي أمسك عن كلمة الكفر طهر قلبه ولسانه عن الكفر. أما الذي تلفظ بها فهب أن قلبه طاهر عنه إلا أن لسانه في الظاهر قد تلطخ بتلك الكلمة الخبيثة، فوجب أن يكون حال الأول أفضل، والله أعلم.

المسألة السابعة: اعلم أن للإكراه مراتب.

المرتبة الأولى: أن يجب الفعل المكره عليه مثل ما إذا أكرهه على شرب الخمر وأكل الخنزير وأكل الميتة فإذا أكرهه عليه بالسيف فههنا يجب الأكل، وذلك لأن صون الروح عن الفوات واجب، ولا سبيل إليه في هذه الصورة إلا بهذا الأكل، وليس في هذا الأكل ضرر على حيوان ولا فيه إهانة لحق الله تعالى، فوجب أن يجب لقوله تعالى: { { وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى ٱلتَّهْلُكَةِ } [البقرة: 195].

المرتبة الثانية: أن يصير ذلك الفعل مباحاً ولا يصير واجباً، ومثاله ما إذا أكرهه على التلفظ بكلمة الكفر فههنا يباح له ولكنه لا يجب كما قررناه.

المرتبة الثالثة: أن لا يجب ولا يباح بل يحرم، وهذا مثل ما إذا أكرهه إنسان على قتل إنسان آخر أو على قطع عضو من أعضائه فههنا يبقى الفعل على الحرمة الأصلية، وهل يسقط القصاص عن المكره أم لا؟ قال الشافعيرحمه الله : في أحد قوليه يجب القصاص ويدل عليه وجهان. الأول: أنه قتله عمداً عدواناً فيجب عليه القصاص لقوله تعالى: { { يـأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلْقِصَاصُ فِي ٱلْقَتْلَى } [البقرة: 178]. والثاني: أجمعنا على أن المكره إذا قصد قتله فإنه يحل له أن يدفعه عن نفسه ولو بالقتل، فلما كان توهم إقدامه على القتل يوجب إهدار دمه، فلأن يكون عند صدور القتل منه حقيقة يصير دمه مهدراً كان أولى، والله أعلم.

المسألة الثامنة: من الأفعال ما يقبل الإكراه عليه كالقتل والتكلم بكلمة الكفر، ومنه ما لا يقبل الإكراه عليه قيل: وهو الزنا. لأن الإكراه يوجب الخوف الشديد وذلك يمنع من انتشار الآلة، فحيث دخل الزنا في الوجود علم أنه وقع بالاختيار لا على سبيل الإكراه.

المسألة التاسعة: قال الشافعيرحمه الله : طلاق المكره لا يقع، وقال أبو حنيفةرحمه الله : يقع، وحجة الشافعيرحمه الله : قوله: { لا إِكْرَاهَ فِى ٱلدّينِ } ولا يمكن أن يكون المراد نفي ذاته لأن ذاته موجودة فوجب حمله على نفي آثاره، والمعنى: أنه لا أثر له ولا عبرة به، وأيضاً قوله عليه السلام: " رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه " وأيضاً قوله عليه السلام: " لا طلاق في إغلاق " أي إكراه فإن قالوا: طلقها فتدخل تحت قوله: { { فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ } [البقرة: 230] فالجواب لما تعارضت الدلائل، وجب أن يبقى ما كان على ما كان على ما هو قولنا، والله أعلم.

المسألة العاشرة: قوله: { وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِٱلإِيمَـٰنِ } يدل على أن محل الإيمان هو القلب والذي محله القلب إما الاعتقاد، وإما كلام النفس، فوجب أن يكون الإيمان عبارة إما عن المعرفة وإما عن التصديق بكلام النفس، والله أعلم.

ثم قال تعالى: { وَلَـٰكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا } أي فتحه ووسعه لقبول الكفر وانتصب صدراً على أنه مفعول لشرح، والتقدير: ولكن من شرح بالكفر صدره، وحذف الضمير لأنه لا يشكل بصدر غيره إذ البشر لا يقدر على شرح صدر غيره فهو نكرة يراد بها المعرفة.

ثم قال: { فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مّنَ ٱللَّهِ } والمعنى أنه تعالى حكم عليهم بالعذاب ثم وصف ذلك العذاب فقال: { وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ }.

ثم قال تعالى: { ذٰلِكَ بِأَنَّهُمُ ٱسْتَحَبُّواْ ٱلْحَيَوٰةَ ٱلْدُّنْيَا عَلَىٰ ٱلأَخِرَةِ } أي رجحوا الدنيا على الآخرة، والمعنى: أن ذلك الارتداد وذلك الإقدام على الكفر لأجل أنه تعالى ما هداهم إلى الإيمان وما عصمهم عن الكفر. قال القاضي: المراد أن الله لا يهديهم إلى الجنة فيقال له هذا ضعيف، لأن قوله: { وَأَنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِى ٱلْقَوْمَ ٱلْكَـٰفِرِينَ } معطوف على قوله: { ذٰلِكَ بِأَنَّهُمُ ٱسْتَحَبُّواْ ٱلْحَيَوٰةَ ٱلْدُّنْيَا عَلَىٰ ٱلأَخِرَةِ } فوجب أن يكون قوله: { وَأَنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِى ٱلْقَوْمَ ٱلْكَـٰفِرِينَ } علة وسبباً موجباً لإقدامهم على ذلك الارتداد، وعدم الهداية يوم القيامة إلى الجنة ليس سبباً لذلك الارتداد، ولا علة له بل مسبباً عنه ومعلولاً له فبطل هذا التأويل، ثم أكد بيان أنه تعالى صرفهم عن الإيمان فقال: { أُولَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ طَبَعَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَـٰرِهِمْ } قال القاضي: الطبع ليس يمنع من الإيمان ويدل عليه وجوه: الأول: أنه تعالى ذكر ذلك في معرض الذم لهم، ولو كانوا عاجزين عن الإيمان به لما استحقوا الذم بتركه. والثاني: أنه تعالى أشرك بين السمع والبصر وبين القلب في هذا الطبع ومعلوم من حال السمع والبصر أن مع فقدهما قد يصح أن يكون مؤمناً فضلاً عن طبع يلحقهما في القلب. والثالث: وصفهم بالغفلة. ومن منع من الشيء لا يوصف بأنه غافل عنه، فثبت أن المراد بهذا الطبع السمة والعلامة التي يخلقها في القلب، وقد ذكرنا في سورة البقرة معنى الطبع والختم، وأقول هذه الكلمات مع التقريرات الكثيرة، ومع الجوابات القوية مذكورة في أول سورة البقرة وفي سائر الآيات فلا فائدة في الإعادة.

ثم قال تعالى: { وَأُولَـٰئِكَ هُمُ ٱلْغَـٰفِلُونَ } قال ابن عباس: أي عما يراد بهم في الآخرة.

ثم قال: { لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِى ٱلأَخِرَةِ هُمُ ٱلْخَـٰسِرونَ } واعلم أن الموجب لهذا الخسران هو أن الله تعالى وصفهم في الآيات المتقدمة بصفات ستة.

الصفة الأولى: أنهم استوجبوا غضب الله.

والصفة الثانية: أنهم استحقوا العذاب الأليم.

والصفة الثالثة: أنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة.

والصفة الرابعة: أنه تعالى حرمهم من الهداية.

والصفة الخامسة: أنه تعالى طبع على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم.

والصفة السادسة: أنه جعلهم من الغافلين عما يراد بهم من العذاب الشديد يوم القيامة فلا جرم لا يسعون في دفعها، فثبت أنه حصل في حقهم هذه الصفات الستة التي كل واحد منها من أعظم الأحوال المانعة عن الفوز بالخيرات والسعادات، ومعلوم أنه تعالى إنما أدخل الإنسان الدنيا ليكون كالتاجر الذي يشتري بطاعاته سعادات الآخرة، فإذا حصلت هذه الموانع العظيمة عظم خسرانه، فلهذا السبب قال: { لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِى ٱلأَخِرَةِ هُمُ ٱلْخَـٰسِرونَ } أي هم الخاسرون لا غيرهم، والمقصود التنبيه على عظم خسرانهم، والله أعلم.