خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَٱللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ فِي ٱلْرِّزْقِ فَمَا ٱلَّذِينَ فُضِّلُواْ بِرَآدِّي رِزْقِهِمْ عَلَىٰ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَآءٌ أَفَبِنِعْمَةِ ٱللَّهِ يَجْحَدُونَ
٧١
-النحل

مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير

اعلم أن هذا اعتبار حال أخرى من أحوال الإنسان، وذلك أنا نرى أكيس الناس وأكثرهم عقلاً وفهماً يفنى عمره في طلب القدر القليل من الدنيا ولا يتيسر له ذلك، ونرى أجهل الخلق وأقلهم عقلاً وفهماً تنفتح عليه أبواب الدنيا، وكل شيء خطر بباله ودار في خياله فإنه يحصل له في الحال، ولو كان السبب جهد الإنسان وعقله لوجب أن يكون الأعقل أفضل في هذه الأحوال، فلما رأينا أن الأعقل أقل نصيباً، وأن الأجهل الأخس أوفر نصيباً، علمنا أن ذلك بسبب قسمة القسام، كما قال تعالى: { { أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا } [الزخرف: 32] وقال الشافعيرحمه الله تعالى:

ومن الدليل على القضاء وكونه بؤس اللبيب وطيب عيش الأحمق

واعلم أن هذا التفاوت غير مختص بالمال بل هو حاصل في الذكاء والبلادة والحسن والقبح والعقل والحمق والصحة والسقم والاسم الحسن والاسم القبيح، وهذا بحر لا ساحل له وقد كنت مصاحباً لبعض الملوك في بعض الأسفار، وكان ذلك الملك كثير المال والجاه، وكانت الجنائب الكثيرة تقاد بين يديه، وما كان يمكنه ركوب واحد منها، وربما حضرت الأطعمة الشهية والفواكه العطرة عنده، وما كان يمكنه تناول شيء منها، وكان الواحد منا صحيح المزاج قوي البنية كامل القوة، وما كان يجد ملء بطنه طعاماً، فذلك الملك وإن كان يفضل على هذا الفقير في المال، إلا أن هذا الفقير كان يفضل على ذلك الملك في الصحة والقوة، وهذا باب واسع إذا اعتبره الإنسان عظم تعجبه منه.

أما قوله: { فَمَا ٱلَّذِينَ فُضِّلُواْ بِرَآدّى رِزْقِهِمْ عَلَىٰ مَا مَلَكَتْ أَيْمَـٰنُهُمْ } ففيه قولان:

القول الأول: أن المراد من هذا الكلام تقرير ما سبق في الآية المتقدمة من أن السعادة والنحوسة لا يحصلان إلا من الله تعالى، والمعنى أن الموالي والمماليك أنا رازقهم جميعاً فهم في رزقي سواء فلا يحسبن الموالي أنهم يردون على مماليكهم من عندهم شيئاً من الرزق، وانما ذلك رزقي أجريته إليهم على أيديهم وحاصل القول فيه أن المقصود منه بيان أن الرازق هو الله تعالى وأن المالك لا يرزق العبد بل الرازق للعبد والمولى هو الله تعالى، وتحقيق القول أنه ربما كان العبد أكمل عقلاً وأقوى جسماً وأكثر وقوفاً على المصالح والمفاسد من المولى، وذلك يدل على أن ذلة ذلك العبد وعزة ذلك المولى من الله تعالى كما قال: { { تُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء } [آل عمران: 26].

والقول الثاني: أن المراد من هذه الآية الرد على من أثبت شريكاً لله تعالى، ثم على هذا القول ففيه وجهان: الأول: أن يكون هذا رداً على عبدة الأوثان والأصنام، كأنه قيل: إنه تعالى فضل الملوك على مماليكهم، فجعل المملوك لا يقدر على ملك مع مولاه، فلما لم تجعلوا عبيدكم معكم سواء في الملك، فكيف تجعلون هذه الجمادات معي سواء في المعبودية، والثاني: قال ابن عباس رضي الله عنهما: نزلت هذه الآية في نصارى نجران حين قالوا: إن عيسى ابن مريم ابن الله، فالمعنى أنكم لا تشركون عبيدكم فيما ملكتم فتكونوا سواء، فكيف جعلتم عبدي ولداً لي وشريكاً في الإلهية؟

ثم قال تعالى: { فَهُمْ فِيهِ سَوَآءٌ } معنى الفاء في قوله: { فَهُمْ } حتى، والمعنى: فما الذين فضلوا بجاعلي رزقهم لعبيدهم، حتى تكون عبيدهم فيه معهم سواء في الملك.

ثم قال: { أَفَبِنِعْمَةِ ٱللَّهِ يَجْحَدُونَ } وفيه مسألتان:

المسألة الأولى: قرأ عاصم في رواية أبي بكر: { يَجْحَدُونَ } بالتاء على الخطاب لقوله: { خَلَقَكُمْ وَفَضَّلَ بَعْضُكُمْ } والباقون بالياء لقوله: { فَهُمْ فِيهِ سَوَآءٌ } واختاره أبو عبيدة وأبو حاتم لقرب الخبر عنه، وأيضاً فظاهر الخطاب أن يكون مع المسلمين، والمسلمون لا يخاطبون بجحد نعمة الله تعالى.

المسألة الثانية: لا شبهة في أن المراد من قوله: { أَفَبِنِعْمَةِ ٱللَّهِ يَجْحَدُونَ } الإنكار على المشركين الذين أورد الله تعالى هذه الحجة عليهم.

فإن قيل: كيف يصيرون جاحدين بنعمة الله عليهم بسبب عبادة الأصنام؟

قلنا: فيه وجهان:

الوجه الأول: أنه لما كان المعطي لكل الخيرات هو الله تعالى فمن أثبت لله شريكاً فقد أضاف إليه بعض تلك الخيرات فكان جاحداً لكونها من عند الله تعالى، وأيضاً فإن أهل الطبائع وأهل النجوم يضيفون أكثر هذه النعم إلى الطبائع وإلى النجوم، وذلك يوجب كونهم جاحدين لكونها من الله تعالى.

والوجه الثاني: قال الزجاج: المراد أنه تعالى لما قرر هذه الدلائل وبينها وأظهرها بحيث يفهمها كل عاقل، كان ذلك إنعاماً عظيماً منه على الخلق، فعند هذا قال: { أَفَبِنِعْمَةِ ٱللَّهِ } في تقريره هذه البيانات وإيضاح هذه البينات { يَجْحَدُونَ }.

المسألة الثالثة: الباء في قوله: { أَفَبِنِعْمَةِ ٱللَّهِ } يجوز أن تكون زائدة لأن الجحود لا يعدى بالباء كما تقول: خذ الخطام وبالخطام، وتعلقت زيداً وبزيد، ويجوز أن يراد بالجحود الكفر فعدي بالباء لكونه بمعنى الكفر، والله أعلم.