خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ ٱللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ ٱلأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ ٱللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ
٩١
وَلاَ تَكُونُواْ كَٱلَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَىٰ مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ ٱللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ
٩٢
-النحل

مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير

اعلم أنه تعالى لما جمع كل المأمورات والمنهيات في الآية الأولى على سبيل الإجمال، ذكر في هذه الآية بعض تلك الأقسام، فبدأ تعالى بالأمر بالوفاء بالعهد وفي الآية مسائل:

المسألة الأولى: ذكروا في تفسير قوله: { بِعَهْدِ ٱللَّهِ } وجوهاً: الأول: قال صاحب «الكشاف»: عهد الله هي البيعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام لقوله: { { إِنَّ ٱلَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ ٱللَّهَ يَدُ ٱللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ } [الفتح: 10] أي ولا تنقضوا أيمان البيعة بعد توكيدها، أي بعد توثيقها باسم الله. الثاني: أن المراد منه كل عهد يلتزمه الإنسان باختياره قال ابن عباس: والوعد من العهد، وقال ميمون بن مهران من عاهدته وف بعهده مسلماً كان أو كافراً فإنما العهد لله تعالى. الثالث: قال الأصم: المراد منه الجهاد وما فرض الله في الأموال من حق. الرابع: عهد الله هو اليمين بالله، وقال هذا القائل: إنما يجب الوفاء باليمين إذا لم يكن الصلاح في خلافه، لأنه عليه السلام قال: " من حلف على يمين ورأى غيرها خيراً منها فليأت الذي هو خير ثم ليكفر " . الخامس: قال القاضي: العهد يتناول كل أمر يجب الوفاء بمقتضاه، ومعلوم أن أدلة العقل والسمع أوكد في لزوم الوفاء بما يدلان على وجوبه من اليمين ولذلك لا يصح في هذين الدليلين التغير والاختلاف، ويصح ذلك في اليمين وربما ندب فيه خلاف الوفاء.

ولقائل أن يقول: إنه تعالى قال: { وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ ٱللَّهِ إِذَا عَـٰهَدتُّمْ } فهذا يجب أن يكون مختصاً بالعهود التي يلتزمها الإنسان باختيار نفسه لأن قوله: { إِذَا عَـٰهَدتُّمْ } يدل على هذا المعنى وحينئذ لا يبقى المعنى الذي ذكره القاضي معتبراً ولأنه تعالى قال في آخر الآية: { وَقَدْ جَعَلْتُمُ ٱللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً } وهذا يدل على أن الآية واردة فيمن آمن بالله والرسول، وأيضاً يجب أن لا يحمل هذا العهد على اليمين، لأنا لو حملناه عليه لكان قوله بعد ذلك: { وَلاَ تَنقُضُواْ ٱلأَيْمَـٰنَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا } تكراراً لأن الوفاء بالعهد والمنع من النقض متقاربان، لأن الأمر بالفعل يستلزم النهي عن الترك إلا إذا قيل إن الوفاء بالعهد عام فدخل تحته اليمين، ثم إنه تعالى خص اليمين بالذر تنبيهاً على أنه أولى أنواع العهد بوجوب الرعاية، وعند هذا نقول الأولى أن يحمل هذا العهد على ما يلتزمه الإنسان باختياره ويدخل فيه المبايعة على الإيمان بالله وبرسوله ويدخل فيه عهد الجهاد، وعهد الوفاء بالملتزمات من المنذورات، والأشياء التي أكدها بالحلف واليمين، وفي قوله: { وَلاَ تَنقُضُواْ ٱلأَيْمَـٰنَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا } مباحث:

البحث الأول: قال الزجاج: يقال وكدت وأكدت لغتان جيدتان، والأصل الواو، والهمزة بدل منها.

البحث الثاني: قال أصحاب أبي حنيفةرحمه الله : يمين اللغو هي يمين الغموس، والدليل عليه أنه تعالى قال: { ولا تَنقُضُواْ ٱلأَيْمَـٰنَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا } فنهى في هذه الآية عن نقض الأيمان، فوجب أن يكون كل يمين قابلاً للبر والحنث، ويمين الغموس غير قابلة للبر والحنث فوجب أن لا تكون من الأيمان. واحتج الواحدي بهذه الآية على أن يمين اللغو هي قول العرب لا والله وبلى والله. قال إنما قال تعالى: { بَعْدَ تَوْكِيدِهَا } للفرق بين الأيمان المؤكدة بالعزم وبالعقد وبين لغو اليمين.

البحث الثالث: قوله: { وَلاَ تَنقُضُواْ ٱلأَيْمَـٰنَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا } عام دخله التخصيص، لأنا بينا أن الخبر دل على أنه متى كان الصلاح في نقض الأيمان جاز نقضها.

ثم قال: { وَقَدْ جَعَلْتُمُ ٱللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً } هذه واو الحال، أي لا تنقضوها وقد جعلتم الله كفيلاً عليكم بالوفاء، وذلك أن من حلف بالله تعالى فكأنه قد جعل الله كفيلاً بالوفاء بسبب ذلك الحلف.

ثم قال: { إِنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ } وفيه ترغيب وترهيب، والمراد فيجازيكم على ما تفعلون إن خيراً فخير وإن شراً فشر. ثم إنه تعالى أكد وجوب الوفاء، وتحريم النقض وقال: { وَلاَ تَكُونُواْ كَٱلَّتِى نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَـٰثًا } وفيه مسائل:

المسألة الأولى: في المشبه به قولان:

القول الأول: أنها امرأة من قريش يقال لها رايطة، وقيل ريطة، وقيل تلقب جعراء وكانت حمقاء تغزل الغزل هي وجواريها فإذا غزلت وأبرمت أمرتهن فنقضن ما غزلن.

والقول الثاني: أن المراد بالمثل الوصف دون التعين، لأن القصد بالأمثال صرف المكلف عنه إذا كان قبيحاً، والدعاء إليه إذا كان حسناً، وذلك يتم به من دون التعيين.

المسألة الثانية: قوله: { مِن بَعْدِ قُوَّةٍ } أي من به قوة الغزل بإبرامها وفتلها.

المسألة الثالثة: قوله: { أَنكَـٰثًا } قال الأزهري: واحدها: نكث وهو الغزل من الصوف والشعر يبرم وينسج فإذا أحكمت النسيجة قطعتها ونكثت خيوطها المبرمة ونفشت تلك الخيوط وخلطت بالصوف ثم غزلت ثانية، والنكث المصدر، ومنه يقال نكث فلان عهده إذا نقضه بعد إحكامه كما ينكث خيط الصوف بعد إبرامه.

المسألة الرابعة: في انتصاب قوله: { أَنكَـٰثًا } وجوه: الأول: قال الزجاج: أنكاثاً منصوب لأنه بمعنى المصدر لأن معنى نكثت نقضت ومعنى نقضت نكثت، وهذا غلط منه، لأن الأنكاث جمع نكث وهو اسم لا مصدر فكيف يكون قوله: { أَنكَـٰثًا } بمعنى المصدر؟ الثاني: قال الواحدي: أنكاثاً مفعول ثان كما تقول كسره أقطاعاً وفرقه أجزاء على معنى جعله أقطاعاً وأجزاء فكذا ههنا قوله: نقضت غزلها أنكاثاً أي جعلت غزلها أنكاثاً. الثالث: إن قوله: { أَنكَـٰثًا } حال مؤكدة.

المسألة الخامسة: قال ابن قتيبة: هذه الآية متصلة بما قبلها، والتقدير: وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها، فإنكم إن فعلتم ذلك كنتم مثل المرأة التي غزلت غزلاً وأحكمته فلما استحكم نقضته فجعلته أنكاثاً.

ثم قال تعالى: { تَتَّخِذُونَ أَيْمَـٰنَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ } قال الواحدي: الدخل والدغل الغش والخيانة. قال الزجاج: كل ما دخله عيب قيل هو مدخول وفيه دخل، وقال غيره: الدخل ما أدخل في الشيء على فساد.

ثم قال: { أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِىَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ } أربى أي أكثر من ربا الشيء يربو إذا زاد، وهذه الزيادة قد تكون في العدد وفي القوة وفي الشرف. قال مجاهد: كانوا يحالفون الحلفاء ثم يجدون من كان أعز منهم وأشرف فينقضون حلف الأولين ويحالفون هؤلاء الذين هم أعز، فنهاهم الله تعالى عن ذلك. وقوله: { أَن تَكُونَ } معناه أنكم تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم بسبب أن تكون أمة أربى من أمة في العدد والقوة والشرف. فقوله: { تَتَّخِذُونَ أَيْمَـٰنَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ } استفهام على سبيل الإنكار، والمعنى: أتتخذون أيمانكم دخلاً بينكم بسبب أن أمة أزيد في القوة والكثرة من أمة أخرى.

ثم قال تعالى: { إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ ٱللَّهُ بِهِ } أي بما يأمركم وينهاكم، وقد تقدم ذكر الأمر والنهي: { وَلَيُبَيّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } فيتميز المحق من المبطل بما يظهر من درجات الثواب والعقاب، والله أعلم.