خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

ذَلِكَ مِمَّآ أَوْحَىٰ إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ ٱلْحِكْمَةِ وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهاً آخَرَ فَتُلْقَىٰ فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَّدْحُوراً
٣٩
أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بِٱلْبَنِينَ وَٱتَّخَذَ مِنَ ٱلْمَلاۤئِكَةِ إِنَاثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً
٤٠
-الإسراء

مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير

اعلم أنه تعالى جمع في هذه الآية خمسة وعشرين نوعاً من التكاليف. فأولها: قوله: { { وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهًا ءاخَرَ } [الإسراء: 22] وقوله: { { وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّـٰهُ } [الإسراء: 23] مشتمل على تكليفين: الأمر بعبادة الله تعالى، والنهي عن عبادة غير الله، فكان المجموع ثلاثة. وقوله: { { وَبِٱلْوٰلِدَيْنِ إِحْسَـٰناً } [الإسراء: 23] هو الرابع، ثم ذكر في شرح ذلك الإحسان خمسة أخرى وهي: قوله: { { فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا * وَٱخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ ٱلذُّلّ مِنَ ٱلرَّحْمَةِ وَقُل رَّبّ ٱرْحَمْهُمَا } [الإسراء: 23، 24] فيكون المجموع تسعة، ثم قال: { وَءاتِ ذَا ٱلْقُرْبَىٰ حَقَّهُ وَٱلْمِسْكِينَ وَٱبْنَ ٱلسَّبِيلِ } وهو ثلاثة فيكون المجموع إثني عشر. ثم قال: { { وَلاَ تُبَذّرْ تَبْذِيرًا } [الإسراء: 26] فيصير ثلاثة عشر. ثم قال: { وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ٱبْتِغَاء رَحْمَةٍ مّن رَّبّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُورًا } وهو الرابع عشر ثم قال: { { وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ } [الإسراء: 28، 29] إلى آخر الآية وهو الخامس عشر، ثم قال: { { وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ } [الإسراء: 31] وهو السادس عشر، ثم قال: { وَلاَ تَقْتُلُواْ ٱلنَّفْسَ ٱلَّتِى حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلاَّ بِٱلْحَقّ } وهو السابع عشر ثم قال: { وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيّهِ سُلْطَـٰناً } وهو الثامن عشر، ثم قال: { { فَلاَ يُسْرِف فّى ٱلْقَتْلِ } [الإسراء: 33] وهو التاسع عشر، ثم قال: { { وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ } [الإسراء: 34] وهو العشرون. ثم قال: { وَأَوْفُوا ٱلْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ } وهو الحادي والعشرون، ثم قال: { { وَزِنُواْ بِٱلْقِسْطَاسِ ٱلْمُسْتَقِيمِ } [الإسراء: 35] وهو الثاني والعشرون، ثم قال: { { وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } [الإسراء: 36] وهو الثالث والعشرون، ثم قال: { { وَلاَ تَمْشِ فِى ٱلأَرْضِ مَرَحًا } [الإسراء: 37] وهو الرابع والعشرون، ثم قال: { وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهًا ءاخَرَ } وهو الخامس والعشرون، فهذه خمسة وعشرون نوعاً من التكاليف بعضها أوامر وبعضها نواه جمعها الله تعالى في هذه الآيات وجعل فاتحتها قوله: { { وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهًا ءاخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَّخْذُولاً } [الإسراء: 22] وخاتمتها قوله: { { وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهًا ءاخَرَ فَتُلْقَىٰ فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَّدْحُورًا }

إذا عرفت هذا فنقول: ههنا فوائد:

الفائدة الأولى: قوله: { ذٰلِكَ } إشارة إلى كل ما تقدم ذكره من التكاليف وسماها حكمة، وإنما سماها بهذا الاسم لوجوه: أحدها: أن حاصلها يرجع إلى الأمر بالتوحيد وأنواع الطاعات والخيرات والإعراض عن الدنيا والإقبال على الآخرة، والعقول تدل على صحتها. فالأتي بمثل هذه الشريعة لا يكون داعياً إلى دين الشيطان بل الفطرة الأصلية تشهد بأنه يكون داعياً إلى دين الرحمن، وتمام تقرير هذا ما نذكره في سورة الشعراء في قوله: { { هَلْ أُنَبّئُكُمْ عَلَىٰ مَن تَنَزَّلُ ٱلشَّيَـٰطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَىٰ كُلّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ } [الشعراء: 221، 222]. وثانيها: أن الأحكام المذكورة في هذه الآيات شرائع واجبة الرعاية في جميع الأديان والملل ولا تقبل النسخ والإبطال، فكانت محكمة وحمكة من هذا الاعتبار. وثالثها: أن الحكمة عبارة عن معرفة الحق لذاته والخير لأجل العمل به، فالأمر بالتوحيد عبارة عن القسم الأول وسائر التكاليف عبارة عن تعليم الخيرات حتى يواظب الإنسان عليها ولا ينحرف عنها، فثبت أن هذه الأشياء المذكورة في هذه الآيات عين الحكمة، وعن ابن عباس: أن هذه الآيات كانت في ألواح موسى عليه الصلاة والسلام: أولها: { { وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهًا ءاخَرَ } [الإسراء:22] قال تعالى: { { وَكَتَبْنَا لَهُ فِى ٱلأَلْوَاحِ مِن كُلّ شَيْء مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لّكُلّ شَيْء } [الأعراف: 145].

والفائدة الثانية: من فوائد هذه الآية أنه تعالى بدأ في هذه التكاليف بالأمر بالتوحيد، والنهي عن الشرك وختمها بعين هذا المعنى، والمقصود منه التنبيه على أن أول كل عمل وقول وفكر وذكر يجب أن يكون ذكر التوحيد، وآخره يجب أن يكون ذكر التوحيد، تنبيهاً على أن المقصود من جميع التكاليف هو معرفة التوحيد والاستغراق فيه، فهذا التكرير حسن موقعه لهذه الفائدة العظيمة ثم إنه تعالى ذكر في الآية الأولى أن الشرك يوجب أن يكون صاحبه مذموماً مخذولاً، وذكر في الآية الأخيرة أن الشرك يوجب أن يلقي صاحبه في جهنم ملوماً مدحوراً، فاللوم والخذلان يحصل في الدنيا، وإلقاؤه في جهنم يحصل يوم القيامة ويجب علينا أن نذكر الفرق بين المذموم المخذول، وبين الملوم المدحور. فنقول: أما الفرق بين المذموم وبين الملوم، فهو أن كونه مذموماً معناه: أن يذكر له أن الفعل الذي أقدم عليه قبيح ومنكر، فهذا معنى كونه مذموماً، وإذا ذكر له ذلك فبعد ذلك يقال له لم فعلت مثل هذا الفعل، وما الذي حملك عليه، وما استفدت من هذا العمل إلا إلحاق الضرر بنفسك، وهذا هو اللوم. فثبت أن أول الأمر هو أن يصير مذموماً، وآخره أن يصير ملوماً، وأما الفرق بين المخذول وبين المدحور فهو أن المخذول عبارة عن الضعيف يقال: تخاذلت أعضاؤه أي ضعفت، وأما المدحور فهو المطرود. والطرد عبارة عن الاستخفاف والإهانة قال تعالى: { { وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً } [الفرقان:69] فكونه مخذولاً عبارة عن ترك إعانته وتفويضه إلى نفسه، وكونه مدحوراً عبارة عن إهانته والاستخفاف به، فثبت أن أول الأمر أن يصير مخذولاً، وآخره أن يصير مدحوراً، والله أعلم بمراده.

وأما قوله: { أَفَأَصْفَـٰكُمْ رَبُّكُم بِٱلْبَنِينَ وَٱتَّخَذَ مِنَ ٱلْمَلَـئِكَةِ إِنَاثًا } فاعلم أنه تعالى لما نبه على فساد طريقة من أثبت لله شريكاً ونظيراً نبه على طريقة من أثبت له الولد وعلى كمال جهل هذه الفرقة، وهي أنهم اعتقدوا أن الولد قسمان؛ فأشرف القسمين البنون، وأخسهما البنات. ثم إنهم أثبتوا البنين لأنفسهم مع علمهم بنهاية عجزهم ونقصهم وأثبتوا البنات لله مع علمهم بأن الله تعالى هو الموصوف بالكمال الذي لا نهاية له والجلال الذي لا غاية له، وذلك يدل على نهاية جهل القائل بهذا القول ونظيره قوله تعالى: { { أَمْ لَهُ ٱلْبَنَـٰتُ وَلَكُمُ ٱلْبَنُونَ } [الطور: 39] وقوله: { { أَلَكُمُ ٱلذَّكَرُ وَلَهُ ٱلأنثَىٰ } [النجم: 21] وقوله: { أَفَأَصْفَـٰكُمْ } يقال أصفاه بالشيء إذا آثر به، ويقال للضياع التي يستخصها السلطان بخاصية الصوافي. قال أبو عبيدة في قوله: { أَفَأَصْفَـٰكُمْ } أفخصكم، وقال المفضل: أخلصكم. قال النحويون هذه الهمزة همزة تدل على الإنكار على صيغة السؤال عن مذهب ظاهر الفساد لا جواب لصاحبه إلا بما فيه أعظم الفضيحة.

ثم قال تعالى: { إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيمًا } وبيان هذا التعظيم من وجهين: الأول: أن إثبات الولد يقتضي كونه تعالى مركباً من الأجزاء والأبعاض، وذلك يقدح في كونه قديماً واجب الوجود لذاته. وذلك عظيم من القول ومنكر من الكلام. والثاني: أن بتقدير ثبوت الولد فقد جعلتم أشرف القسمين لأنفسكم وأخس القسمين لله. وهذا أيضاً جهل عظيم.