خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

قَالَتْ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً
٢٠
قَالَ كَذٰلِكَ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلْنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْراً مَّقْضِيّاً
٢١
-مريم

مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير

وفيه مسائل:

المسألة الأولى: أنها إنما تعجبت بما بشرها جبريل عليه السلام لأنها عرفت بالعادة أن الولادة لا تكون إلا من رجل والعادات عند أهل المعرفة معتبرة في الأمور وإن جوزوا خلاف ذلك في القدرة فليس في قولها هذا دلالة على أنها لم تعلم أنه تعالى قادر على خلق الولد ابتداء وكيف وقد عرفت أنه تعالى خلق أبا البشر على هذا الحد ولأنها كانت منفردة بالعبادة ومن يكون كذلك لا بد من أن يعرف قدرة الله تعالى على ذلك.

المسألة الثانية: لقائل أن يقول قولها: { وَلَمْ يَمْسَسْنِى بَشَرٌ } يدخل تحته قولها: { وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً } فلماذا أعادتها ومما يؤكد هذا السؤال أن في سورة آل عمران قالت: { { رَبّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِى وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِى بَشَرٌ قَالَ كَذٰلِكَ ٱللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاء } [آل عمران: 47] فلم تذكر البغاء والجواب من وجوه: أحدها: أنها جعلت المس عبارة عن النكاح الحلال لأنه كناية عنه لقوله: { { مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ } [الأحزاب: 49] والزنا ليس كذلك إنما يقال فجر بها أو ما أشبه ذلك ولا يليق به رعاية الكنايات. وثانيها: أن إعادتها لتعظيم حالها كقوله: { { حَـٰفِظُواْ عَلَى ٱلصَّلَوٰتِ وٱلصَّلَوٰةِ ٱلْوُسْطَىٰ } [البقرة: 238] وقوله: { { وَمَلـئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَـٰلَ } [البقرة:98] فكذا ههنا إن من لم تعرف من النساء بزوج فأغلظ أحوالها إذا أتت بولد أن تكون زانية فأفرد ذكر البغاء بعد دخوله في الكلام الأول لأنه أعظم ما في بابه.

المسألة الثالثة: قال صاحب «الكشاف» البغي الفاجرة التي تبغي الرجال وهو فعول عند المبرد بغوي فأدغمت الواو في الياء، وقال ابن جني في كتاب «التمام» هو فعيل ولو كان فعولاً لقيل بغوا كما قيل نهوا عن المنكر.

المسألة الرابعة: أن جبريل عليه السلام أجابها بقوله: { قَالَ كَذٰلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَىَّ هَيّنٌ } وهو كقوله في آل عمران: { { كَذٰلِكَ ٱللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاء إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ } [آل عمران: 47] لا يمتنع عليه فعل ما يريد خلقه ولا يحتاج في إنشائه إلى الآلات والمواد.

المسألة الخامسة: الكناية في: { هُوَ عَلَىَّ هَيّنٌ } وفي قوله: { وَلِنَجْعَلَهُ ءايَةً لّلْنَّاسِ } تحتمل وجهين: الأول: أن تكون راجعة إلى الخلق أي أن خلقه علي هين ولنجعل خلقه آية للناس إذ ولد من غير ذكر ورحمة منا يرحم عبادنا بإظهار هذه الآيات حتى تكون دلائل صدقه أبهر فيكون قبول قوله أقرب. الثاني: أن ترجع الكنايات إلى الغلام وذلك لأنها لما تعجبت من كيفية وقوع هذا الأمر على خلاف العادة أعلمت أن الله تعالى جاعل ولدها آية على وقوع ذلك الأمر الغريب، فأما قوله تعالى: { وَرَحْمَةً مّنَّا } فيحتمل أن يكون معطوفاً على { وَلِنَجْعَلَهُ ءايَةً لّلْنَّاسِ } أي فعلنا ذلك: { وَرَحْمَةً مّنَّا } فعلنا ذلك ويحتمل أن يكون معطوفاً على الآية أي: ولنجعله آية ورحمة فعلنا ذلك.

المسألة السادسة: قوله: { وَكَانَ أَمْراً مَّقْضِيّاً } المراد منه أنه معلوم لعلم الله تعالى فيمتنع وقوع خلافه لأنه لو لم يقع لانقلب علم الله جهلاً وهو محال والمفضي إلى المحال محال فخلافه محال فوقوعه واجب وأيضاً فلأن جميع الممكنات منتهية في سلسلة القضاء والقدر إلى واجب الوجود والمنتهي إلى الواجب انتهاء واجباً يكون واجب الوجود وإذا كان واجب الوجود فلا فائدة في الحزن والأسف وهذا هو سر قوله عليه السلام: " من عرف سر الله في القدر هانت عليه المصائب " .