خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذٰلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً
٦٤
رَّبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَٱعْبُدْهُ وَٱصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً
٦٥
-مريم

مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير

اعلم أن في الآية إشكالاً وهو أو قوله: { { تِلْكَ ٱلْجَنَّةُ ٱلَّتِى نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيّاً } [مريم: 63] كلام الله وقوله: { وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبّكَ } كلام غير الله فكيف جاز عطف هذا على ما قبله من غير فصل. والجواب أنه إذا كانت القرينة ظاهرة لم يقبح كما أن قوله سبحانه: { { إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ } [البقرة: 117] هو كلام الله وقوله: { { وَإِنَّ ٱللَّهَ رَبّى وَرَبُّكُمْ } [آل عمران: 51] كلام غير الله وأحدهما معطوف على الآخر، واعلم أن ظاهر قوله تعالى: { وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبّكَ } خطاب جماعة لواحد وذلك لا يليق إلا بالملائكة الذين ينزلون على الرسول ويحتمل في سببه ما روي أن قريشاً بعثت خمسة رهط إلى يهود المدينة يسألونهم عن صفة محمد صلى الله عليه وسلم وهل يجدونه في كتابهم فسألوا النصارى فزعموا أنهم لا يعرفونه وقالت اليهود: نجده في كتابنا وهذا زمانه وقد سألنا رحمن اليمامة عن خصال ثلاث فلم يعرف فاسألوه عنهن فإن أخبركم بخصلتين منهما فاتبعوه، فاسألوه عن فتية أصحاب الكهف وعن ذي القرنين وعن الروح قال فجاءوا فسألوه عن ذلك لم يدر كيف يجيب فوعدهم أن يجيبهم بعد ذلك، ولم يقل إن شاء الله فاحتبس الوحي عنه أربعين يوماً وقيل خمسة عشر يوماً فشق عليه ذلك مشقة شديدة وقال المشركون ودعه ربه وقلاه، فنزل جبريل عليه السلام فقال له النبي صلى الله عليه وسلم أبطأت عني حتى ساء ظني واشتقت إليك قال إني كنت أشوق ولكني عبد مأمور إذا بعثت نزلت وإذا حبست احتبست فأنزل الله تعالى هذه الآية وأنزل قوله: { { وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَىْء إِنّى فَاعِلٌ ذٰلِكَ غَداً * إِلاَّ أَن يَشَاء ٱللَّهُ } [الكهف: 23، 24] وسورة الضحى ثم أكدوا ذلك بقولهم: { لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا } أي هو المدبر لنا في كل الأوقات الماضي والمستقبل وما بينهما أو الدنيا والآخرة وما بينهما فإنه يعلم إصلاح التدبير مستقبلاً وماضياً وما بينهما والغرض أن أمرنا موكول إلى الله تعالى يتصرف فينا بحسب مشيئته وإرادته وحكمته لا اعتراض لأحد عليه فيه وقال أبو مسلم قوله: { وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبّكَ } يجوز أن يكون قول أهل الجنة والمراد وما نتنزل الجنة إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا أي في الجنة مستقبلاً وما خلفنا مما كان في الدنيا وما بين ذلك أي ما بين الوقتين وما كان ربك نسياً لشيء مما خلق فيترك إعادته لأنه عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرة وقوله: { وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً } ابتداء كلام منه تعالى في مخاطبة الرسول صلى الله عليه وسلم ويتصل به: { رَبّ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ } أي بل هو { رَبّ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فَٱعْبُدْهُ } قال القاضي وهذا مخالف للظاهر من وجوه: أحدها: أن ظاهر التنزل نزول الملائكة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم لقوله بأمر ربك وظاهر الأمر بحال التكليف أليق، وثانيها: أنه خطاب من جماعة لواحد وذلك لا يليق بمخاطبة بعضهم لبعض في الجنة. وثالثها: أن ما في سياقه من قوله: { وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً * رَبّ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا } لا يليق إلا بحال التكليف ولا يوصف به الرسول صلى الله عليه وسلم فكأنهم قالوا للرسول وما كان ربك يا محمد نسياً يجوز عليه السهو حتى يضرك إبطاؤنا بالتنزل عليك إلى مثل ذلك ثم ههنا أبحاث:

البحث الأول: قال صاحب «الكشاف» التنزل على معنيين: أحدهما: النزول على مهل. والثاني: بمعنى النزول على الإطلاق والدليل عليه أنه مطاوع نزل ونزل يكون بمعنى أنزل وبمعنى التدريج واللائق بمثل هذا الموضع هو النزول على مهل والمراد أن نزولنا في الأحايين وقتاً بعد وقت ليس إلا بأمر الله تعالى.

البحث الثاني: ذكروا في قوله: { مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذٰلِكَ } وجوهاً: أحدها: له ما قدامنا وما خلفنا من الجهات وما نحن فيه فلا نتمالك أن ننتقل من جهة إلى جهة ومن مكان إلى مكان إلا بأمره ومشيئته فليس لنا أن ننقلب من السماء إلى الأرض إلا بأمره. وثانيها: له ما بين أيدينا ما سلف من أمر الدنيا وما خلفنا ما يستقبل من أمر الآخرة وما بين ذلك وما بين النفختين وهو أربعون سنة. وثالثها: ما مضى من أعمارنا وما غبر من ذلك والحال التي نحن فيها. ورابعها: ما قبل وجودنا وما بعد فنائنا. وخامسها: الأرض التي بين أيدينا إذا نزلنا والسماء التي وراءنا وما بين السماء والأرض وعلى كل التقديرات فالمقصود أنه المحيط بكل شيء لا تخفى عليه خافية ولا يعزب عنه مثقال ذرة فكيف نقدم على فعل إلا بأمره وحكمه.

البحث الثالث: قوله: { وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً } أي تاركاً لك كقوله: { { مَا وَعْدَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَىٰ } [الضحى: 3] أي ما كان امتناع النزول إلا لامتناع الأمر به ولم يكن ذلك عن ترك الله لك وتوديعه إياك، أما قوله: { رَبّ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا } فالمراد أن من يكون رباً لها أجمع لا يجوز عليه النسيان إذ لا بد من أن يمسكها حالاً بعد حال وإلا بطل الأمر فيهما وفيمن يتصرف فيهما، واحتج أصحابنا بهذه الآية على أن فعل العبد خلق الله تعالى، لأن فعل العبد حاصل بين السماء والأرض. والآية دالة على أنه رب لكل شيء حصل بينهما، قال صاحب «الكشاف»: رب السموات والأرض بدل من ربك ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف أي هو رب السموات والأرض فاعبده واصطبر لعبادته فهو أمر للرسول صلى الله عليه وسلم بالعبادة والمصابرة على مشاق التكاليف في الأداء والإبلاغ وفيما يخصه من العبادة فإن قيل لم لم يقل واصطبر على عبادته بل قال واصطبر لعبادته قلنا: لأن العبادة جعلت بمنزلة القرن في قولك للمحارب اصطبر لقرنك أي اثبت له فيما يورد عليك من شداته. والمعنى أن العبادة تورد عليك شدائد ومشاق فاثبت لها ولا تهن ولا يضق صدرك من إلقاء أهل الكتاب إليك الأغاليط عن احتباس الوحي عنك مدة وشماتة المشركين بك، أما قوله تعالى: { هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً } فالظاهر يدل على أنه تعالى جعل علة الأمر بالعبادة والأمر بالمصابرة عليها أنه لا سمي له، والأقرب هو كونه منعماً بأصول النعم وفروعها وهي خلق الأجسام والحياة والعقل وغيرها فإنه لا يقدر على ذلك أحد سواه سبحانه، فإذا كان هو قد أنعم عليك بغاية الإنعام وجب أن تعظمه بغاية التعظيم وهي العبادة، ومن الناس من قال: المراد أنه سبحانه ليس له شريك في اسمه وبينوا ذلك من وجهين: الأول: أنهم وإن كانوا يطلقون لفظ الإله على الوثن فما أطلقوا لفظ الله على شيء سواه وعن ابن عباس رضي الله عنهما لا يسمى بالرحمن غيره. الثاني: هل تعلم من سمى باسمه على الحق دون الباطل؟ لأن التسمية على الباطل في كونها غير معتد بها كلا تسمية، والقول الأول هو الصواب، والله أعلم.