خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي ٱلْحَيَٰوةِ ٱلدُّنْيَا وَيُشْهِدُ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ ٱلْخِصَامِ
٢٠٤
وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي ٱلأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ ٱلْحَرْثَ وَٱلنَّسْلَ وَٱللَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلفَسَادَ
٢٠٥
وَإِذَا قِيلَ لَهُ ٱتَّقِ ٱللَّهَ أَخَذَتْهُ ٱلْعِزَّةُ بِٱلإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ ٱلْمِهَادُ
٢٠٦
-البقرة

مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير

اعلم أنه تعالى لما بين أن الذين يشهدون مشاعر الحج فريقان: كافر وهو الذي يقول: { رَبَّنَا ءاتِنَا فِى ٱلدُّنْيَا } ومسلم وهو الذي يقول: { رَبَّنَا ءَاتِنَا فِى ٱلدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي ٱلأَخِرَةِ حَسَنَةً } [البقرة: 201] بقي المنافق فذكره في هذه الآية، وشرح صفاته وأفعاله، فهذا ما يتعلق بنظم الآية، والغرض بكل ذلك أن يبعث العباد على الطريقة الحسنة فيما يتصل بأفعال القلوب والجوارح، وأن يعلموا أن المعبود لا يمكن إخفاء الأمور عنه ثم اختلف المفسرون على قولين منهم من قال: هذه الآية مختصة بأقوام معينين ومنهم من قال: إنها عامة في حق كل من كان موصوفاً بهذه الصفة المذكورة في هذه الآية، أما الأولون فقد اختلفوا على وجوه:

فالرواية الأولى: أنها نزلت في الأخنس بن شريق الثقفي، وهو حليف لبني زهرة أقبل إلى النبـي صلى الله عليه وسلم وأظهر الإسلام، وزعم أنه يحبه ويحلف بالله على ذلك، وهذا هو المراد بقوله: { يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَيُشْهِدُ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا فِى قَلْبِهِ } غير أنه كان منافقاً حسن العلانية خبيث الباطن، ثم خرج من عند النبـي عليه السلام فمر بزرع لقوم من المسلمين فأحرق الزرع وقتل الحمر، وهو المراد بقوله: { وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِى ٱلأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ ٱلْحَرْثَ وَٱلنَّسْلَ } وقال آخرون المراد بقوله تعالى: { يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ } هو أن الأخنس أشار على بني زهرة بالرجوع يوم بدر وقال لهم: إن محمداً ابن أختكم، فإن يك كاذباً كفاكموه سائر الناس، وإن يك صادقاً كنتم أسعد الناس به قالوا: نعم الرأي ما رأيت، قال: فإذا نودي في الناس بالرحيل فإني أتخنس بكم فاتبعوني ثم خنس بثلثمائة رجل من بني زهرة عن قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسمي لهذا السبب أخنس، وكان اسمه: أبـي بن شريق، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعجبه، وعندي أن هذا القول ضعيف وذلك لأنه بهذا الفعل لا يستوجب الذم وقوله تعالى: { وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَيُشْهِدُ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا فِى قَلْبِهِ } مذكور في معرض الذم فلا يمكن حمله عليه بل القول الأول هو الأصح.

والرواية الثانية: في سبب نزول هذه الآية ما روي عن ابن عباس والضحاك أن كفار قريش بعثوا إلى النبـي صلى الله عليه وسلم أنا قد أسلمنا فابعث إلينا نفراً من علماء أصحابك، فبعث إليهم جماعة فنزلوا ببطن الرجيع، ووصل الخبر إلى الكفار، فركب منهم سبعون راكباً وأحاطوا بهم وقتلوهم وصلبوهم، ففيهم نزلت هذه الآية، ولذلك عقبه من بعد بذكر من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله منبهاً بذلك على حال هؤلاء الشهداء.

القول الثاني: في الآية وهو اختيار أكثر المحققين من المفسرين، أن هذه الآية عامة في حق كل من كان موصوفاً بهذه الصفات المذكورة، ونقل عن محمد بن كعب القرظي، أنه جرى بينه وبين غيره كلام في هذه الآية، فقال إنها وإن نزلت فيمن ذكر فلا يمتنع أن تنزل الآية في الرجل ثم تكون عامة في كل من كان موصوفاً بتلك الصفات، والتحقيق في المسألة أن قوله: { وَمِنَ ٱلنَّاسِ } إشارة إلى بعضهم، فيحتمل الواحد ويحتمل الجمع، وقوله: { وَيُشْهِدُ ٱللَّهَ } لا يدل على أن المراد به واحد من الناس لجواز أن يرجع ذلك إلى اللفظ دون المعنى وهو جمع وأما نزوله على المسبب الذي حكيناه فلا يمتنع من العموم، بل نقول: فيها ما يدل على العموم، وهو من وجوه أحدها: أن ترتب الحكم على الوصف المناسب مشعر بالعلية، فلما ذم الله تعالى قوماً ووصفهم بصفات توجب استحقاق الذم، علمنا أن الموجب لتلك المذمة هو تلك الصفات، فيلزم أن كل من كان موصوفاً بتلك الصفات أن يكون مستوجباً للذم وثانيها: أن الحمل على العموم أكثر فائدة، وذلك لأنه يكون زجراً لكل المكلفين عن تلك الطريق المذمومة وثالثها: أن هذا أقرب إلى الإحتياط لأنا إذا حملنا الآية على العموم دخل فيه ذلك الشخص، وأما إذا خصصناه بذلك الشخص لم يثبت الحكم في غيره فثبت بما ذكرنا أن حمل الآية على العموم أولى، إذا عرفت هذا فنقول: اختلفوا في أن الآية هل تدل على أن الموصوف بهذه الصفات منافق أم لا، والصحيح أنها لا تدل على ذلك، لأن الله تعالى وصف هذا المذكور بصفات خمسة، وشيء منها لا يدل على النفاق فأولها قوله: { يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا } وهذا لا دلالة فيه على صفة مذمومة إلا من جهة الإيماء الحاصل بقوله: { في الحياة الدنيا } لأن الإنسان إذا قيل: إنه حلو الكلام فيما يتعلق بالدنيا أوهم نوعاً من المذمة وثانيها: قوله: { وَيُشْهِدُ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا فِى قَلْبِهِ } وهذ لا دلالة فيه على حالة منكرة، فإن أضمرنا فيه أن يشهد الله على ما في قلبه مع أن قلبه بخلاف ذلك فالكلام مع هذا الإضمار لا يدل على النفاق، لأنه ليس في الآية أن الذي يظهره للرسول من أمر الإسلام والتوحيد، فإنه يضمر خلافه حتى يلزم أن يكون منافقاً، بل لعل المراد أنه يضمر الفساد ويظهر ضده حتى يكون مرائياً وثالثها: قوله: { وَهُوَ أَلَدُّ ٱلْخِصَامِ } وهذا أيضاً لا يوجب النفاق ورابعها: قوله: { وَإِذْ تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِى ٱلأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا } والمسلم الذي يكون مفسداً قد يكون كذلك وخامسها: قوله: { وَإِذَا قِيلَ لَهُ ٱتَّقِ ٱللَّهَ أَخَذَتْهُ ٱلْعِزَّةُ بِٱلإثْمِ } فهذا أيضاً لا يقتضي النفاق، فعلمنا أن كل هذه الصفات المذكورة في الآية كما يمكن ثبوتها في المنافق يمكن ثبوتها في المرائي، فإذن ليس في الآية دلالة على أن هذا المذكور يجب أن يكون منافقاً إلا أن المنافق داخل في الآية، وذلك لأن كل منافق فإنه يكون موصوفاً بهذه الصفات الخمسة بل قد يكون الموصوف بهذه الصفات الخمسة غير منافق فثبت أنا متى حملنا الآية على الموصوف بهذه الصفات الخمسة دخل فيها المنافق والمرائي، وإذا عرفت هذه الجملة فنقول: الله تعالى وصف هذا المذكور بصفات خمسة.

الصفة الأولى:قوله: { يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا } والمعنى: يروقك ويعظم في قلبك ومنه الشيء العجيب الذي يعظم في النفس.

أما في قوله: { في الحياة الدنيا } ففيه وجوه أحدهما: أنه نظير قول القائل: يعجبني كلام فلان في هذه المسألة والمعنى: يعجبك قوله وكلامه عندما يتكلم لطلب مصالح الدنيا والثاني: أن يكون التقدير: يعجبك قوله وكلامه في الحياة الدنيا وإن كان لا يعجبك قوله وكلامه في الآخرة لأنه ما دام في الدنيا يكون جريء اللسان حلو الكلام، وأما في الآخرة فإنه تعتريه اللكنة والإحتباس خوفاً من هيبة الله وقهر كبريائه.

الصفة الثانية: قوله: { وَيُشْهِدُ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا فِى قَلْبِهِ } فالمعنى أنه يقرر صدقة في كلامه ودعواه بالاستشهاد بالله، ثم يحتمل أن يكون ذلك الاستشهاد بالحلف واليمين، ويحتمل أن يكون ذلك بأن يقول: الله يشهد بأن الأمر كما قلت، فهذا يكون استشهاداً بالله ولا يكون يميناً، وعامة القراء يقرؤن { وَيُشْهِدُ ٱللَّهَ } بضم الياء، أي هذا القائل يشهد الله على ما في ضميره، وقرأ ابن محيصن { يَشْهَدُ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا فِى قَلْبِهِ } بفتح الياء، والمعنى: أن الله يعلم من قلبه خلاف ما أظهره.

فالقراءة الأولى: تدل على كونه مرائياً وعلى أنه يشهد الله باطلاً على نفاقه وريائه.

وأما القراءة الثانية: فلا تدل إلا على كونه كاذباً، فأما على كونه مستشهداً بالله على سبيل الكذب فلا، فعلى هذا القراءة الأولى أدلى على الذم.

الصفة الثالثة: قوله تعالى: { وَهُوَ أَلَدُّ ٱلْخِصَامِ } وفيه مسائل:

المسألة الأولى: الألد: الشديد الخصومة، يقال: رجل ألد، وقوم لد، وقال الله تعالى: { { وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُّدّاً } [مريم: 97] وهو كقوله: { بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ } [الزخرف: 58] يقال: منه لد يلد، بفتح اللام في يفعل منه، فهو ألد، إذا كان خصماً، ولددت الرجل ألده بضم اللام، إذا غلبته بالخصومة، قال الزجاج اشتقاقه من لديدتي العنق وهما صفحتاه، ولديدي الوادي، وهما جانباه، وتأويله أنه في أي وجه أخذه خصمه من يمين وشمال في أبواب الخصومة غلب من خاصمه.

وأما { ٱلْخِصَامِ } ففيه قولان أحدهما: وهو قول خليل: إنه مصدر بمعنى المخاصمة، كالقتال والطعام بمعنى المقاتلة والمطاعنة، فيكون المعنى: وهو شديد المخاصمة، ثم في هذه الإضافة وجهان أحدهما: أنه بمعنى { فِى } والتقدير: ألد في الخصام والثاني: أنه جعل الخصام ألد على سبيل المبالغة.

والقول الثاني: أن الخصام جمع خصم، كصعاب وصعب، وضخام وضخم، والمعنى: وهو أشد الخصوم خصومة، وهذا قول الزجاج، قال المفسرون: هذه الآية نزلت في الأخنس بن شريق على ما شرحناه: وفيه نزل أيضاً قوله: { وَيْلٌ لّكُلّ هُمَزَةٍ } [الهمزة: 1] وقوله: { وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ * هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ } [القلم: 10، 11] ثم للمفسرين عبارات في تفسير هذه اللفظة، قال مجاهد { أَلَدُّ ٱلْخِصَامِ } معناه: طالب لا يستقيم، وقال السدي: أعوج الخصام وقال قتادة ألد الخصام معناه أنه جدل بالباطل، شديد القصوة في معصية الله، عالم اللسان جاهل العمل.

المسألة الثانية: تمسك المنكرون للنظر والجدل بهذه الآية، قالوا إنه تعالى ذم ذلك الإنسان بكونه شديداً في الجدل، ولولا أن هذه الصفة من صفات الذم، وإلا لما جاز ذلك وجوابه ما تقدم في قوله: { { وَلاَ جِدَالَ فِي ٱلْحَجّ } [البقرة: 197].

الصفة الرابعة: قوله تعالى: { وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِى ٱلأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ ٱلْحَرْثَ وَٱلنَّسْلَ وَٱللَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلْفَسَادَ } اعلم أنه تعالى لما بين من حال ذلك الإنسان أنه حلو الكلام، وأنه يقرر صدق قوله بالاستشهاد بالله وأنه ألد الخصام، بين بعد ذلك أن كل ما ذكره باللسان فقلبه منطو على ضد ذلك فقال: { وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِى ٱلأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا } ثم في الآية مسائل:

المسألة الأولى: قوله تعالى: { وَإِذَا تَوَلَّىٰ } فيه قولان: أحدهما: معناه وإذا انصرف من عندك سعى في الأرض بالفساد، ثم هذا الفساد يحتمل وجهين أحدهما: ما كان من اتلاف الأموال بالتخريب والتحريق والنهب، وعلى هذا الوجه ذكروا روايات منها ما قدمنا أن الأخنس لما أظهر للرسول عليه السلام أنه يحبه وأنه على عزم أن يؤمن فلما خرج من عنده مر بزرع للمسلمين فأحرق الزرع وقتل الحمر، ومنها أنه لما انصرف من بدر مر ببني زهرة وكان بينه وبين ثقيف خصومة فبيتهم ليلاً وأهلك مواشيهم وأحرق زرعهم.

والوجه الثاني في تفسير الفساد: أنه كان بعد الإنصراف من حضرة النبـي عليه السلام يشتغل بإدخال الشبه في قلوب المسلمين، وباستخراج الحيل في تقوية الكفر، وهذا المعنى يسمى فساداً، قال تعالى: حكاية عن قوم فرعون حيث قالوا له: { أَتَذَرُ مُوسَىٰ وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِى ٱلأَرْضِ } [الأعراف: 127] أي يردوا قومك عن دينهم، ويفسدوا عليهم شريعتهم، وقال أيضاً: { إِنّى أَخَافُ أَن يُبَدّلَ دِينَكُـمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِى ٱلأَرْضِ ٱلْفَسَادَ } [غافر: 26] وقد ذكرنا في تفسير قوله تعالى: { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِى ٱلأَرْضِ } [البقرة: 11] ما يقرب من هذا الوجه، وإنا سمي هذا المعنى فساداً في الأرض لأنه يوقع الإختلاف بين الناس ويفرق كلمتهم ويؤدي إلى أن يتبرأ بعضهم من بعض، فتنقطع الأرحام وينسفك الدماء، قال تعالى: { { فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِى ٱلأَرْضِ وَتُقَطّعُواْ أَرْحَامَكُمْ } [محمد: 22] فأخبر أنهم أن تولوا عن دينه لم يحصلوا إلا على الفساد في الأرض، وقطع الارحام، وذلك من حيث قلنا وهو كثير في القرآن، واعلم أن حمل الفساد على هذا أولى من حمله على التخريب والنهب، لأنه تعالى قال: { وَيُهْلِكَ ٱلْحَرْثَ وَٱلنَّسْلَ } والمعطوف مغاير للمعطوف عليه لا محالة.

القول الثاني: في تفسير قوله: { وَإِذَا تَوَلَّىٰ } وإذا صار والياً فعل ما يفعله ولاة السوء من الفساد في الأرض بإهلاك الحرث والنسل، وقيل: يظهر الظلم حتى يمنع الله بشؤم ظلمه القطر فيهلك الحرث والنسل، والقول الأول أقرب إلى نظم الآية، لأن المقصود بيان نفاقه، وهو أنه عند الحضور يقول الكلام الحسن ويظهر المحبة، وعند الغيبة يسعى في إيقاع الفتنة والفساد.

المسألة الثانية: قوله: { سَعَىٰ فِى ٱلأَرْضِ } أي اجتهد في إيقاع القتال، وأصل السعي هو المشي بسرعة ولكنه مستعار لإيقاع الفتنة والتخريب بين الناس، ومنه يقال: فلان يسعى بالنميمة قال الله تعالى: { لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُواْ خِلَـٰلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ ٱلْفِتْنَةَ } [التوبة: 47].

المسألة الثالثة: من فسر الفساد بالتخريب قال: إنه تعالى ذكره أولاً على سبيل الإجمال، وهو قوله: { لِيُفْسِدَ فِيهَا } ثم ذكره ثانياً على سبيل التفصيل فقال: { وَيُهْلِكَ ٱلْحَرْثَ وَٱلنَّسْلَ } ومن فسر الإفساد بإلقاء الشبهة قال: كما أن الدين الحق أمر أن أولهما العلم، وثانيهما العمل، فكذا الدين الباطل أمران أولهما الشهبات، وثانيهما فعل المنكرات، فههنا ذكر تعالى أولاً من ذلك الإنسان اشتغاله بالشبهات، وهو المراد بقوله: { لِيُفْسِدَ فِيهَا } ثم ذكر ثانياً إقدامه على المنكرات، وهو المراد بقوله: { وَيُهْلِكَ ٱلْحَرْثَ وَٱلنَّسْلَ } ولا شك في أن هذا التفسير أولى ثم من قال سبب نزول الآية أن الأخنس مر بزرع للمسلمين فأحرق الزرع وقتل الحمر قال: المراد بالحرث الزرع، وبالنسل تلك الحمر، والحرث هو ما يكون منه الزرع، قال تعالى: { { أَفَرَءيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ أأنتم تَزْرَعُونَهُ } [الواقعة: 63] وهو يقع على كل ما يحرث ويرزع من أصناف النبات، وقيل: إن الحرث هو شق الأرض، ويقال لما يشق به: محرث، وأما النسل فهو على هذا التفسير نسل الدواب، والنسل في اللغة: الولد، واشتقاقه يحتمل أن يكون من قولهم: نسل ينسله إذا خرج فسقط، ومنه نسل ريش الطائر، ووبر البعير، وشعر الحمار، إذا خرج فسقط، والقطعة منها إذا سقطت نسالة، ومنه قوله تعالى: { إِلَىٰ رَبّهِمْ يَنسِلُونَ } [يس: 51] أي يسرعون، لأنه أسرع الخروج بحدة، والنسل الولد لخروجه من ظهر الأب وبطن الأم وسقوطه، والناس نسل آدم، وأصل الحرف من النسول وهو الخروج، وأما من قال: إن سبب نزول الآية: أن الأخنس بيت على قوم ثقيف وقتل منهم جمعاً، فالمراد بالحرث: إما النسوان لقوله تعالى: { { نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ } [البقرة: 223] أو الرجال وهو قول قوم من المفسرين الذين فسروا الحرث بشق الأرض، إذ الرجال هم الذين يشقون أرض التوليد، وأما النسل فالمراد منه الصبيان.

واعلم أنه على جميع الوجوه فالمراد بيان أن ذلك الفساد فساد عظيم لا أعظم منه لأن المراد منها على التفسير الأول. إهلاك النبات والحيوان، وعلى التفسير الثاني: إهلاك الحيوان بأصله وفرعه، وعلى الوجهين فلا فساد أعظم منه، فإذن قوله: { وَيُهْلِكَ ٱلْحَرْثَ وَٱلنَّسْلَ } من الألفاظ الفصيحة جداً الدالة مع اختصارها على المبالغة الكثيرة ونظيره في الاختصار ما قاله في صفة الجنة { وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ ٱلأَنْفُسُ وَتَلَذُّ ٱلأَعْيُنُ } [الزخرف: 71] وقال: { أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَـٰهَا } [النازعات: 31].

فإن قيل: أفتدل الآية على أنه يهلك الحرث والنسل، أو تدل على أنه أراد ذلك؟.

قلنا: إن قوله: { سَعَىٰ فِى ٱلأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا } دل على أن غرضه أن يسعى في ذلك، ثم قوله: { وَيُهْلِكَ ٱلْحَرْثَ وَٱلنَّسْلَ } إن عطفناه على الأول لم تدل الآية على وقوع ذلك، فإن تقدير الآية هكذا: سعى في الأرض ليفسد فيها، وسعى ليهلك الحرث والنسل، وإن جعلناه كلاماً مبتدأ منقطعاً عن الأول، دل على وقوع ذلك، والأول أولى، وإن كانت الأخبار المذكورة في سبب نزول الآية دلت على أن هذه الأشياء قد وقعت ودخلت في الوجود.

المسألة الرابعة: قرأ بعضهم { وَيُهْلِكَ ٱلْحَرْثَ وَٱلنَّسْلَ } على أن الفعل للحرث والنسل، وقرأ الحسن بفتح اللام من يهلك وهي لغة نحو: أبى يأبى، وروي عنه { وَيُهْلِكَ } على البناء للمفعول.

المسألة الخامسة: استدلت المعتزلة على أن الله تعالى لا يريد القبائح بقوله تعالى: { وَٱللَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلْفَسَادَ } قالوا: والمحبة عبارة عن الإرادة، والدليل عليه قوله تعالى: { { إِنَّ ٱلَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ ٱلْفَـٰحِشَةُ } [النور: 19] والمراد بذلك أنهم يريدون، وأيضاً نقل عن الرسول عليه السلام أنه قال: "إن الله أحب لكم ثلاثاً وكره لكم ثلاثاً، أحب لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وأن تناصحوا من ولاة أمركم وكره لكم القيل والقال وإضاعة المال وكثرة السؤال" فجعل الكراهة ضد المحبة، ولولا أن المحبة عبارة عن الإرادة وإلا لكانت الكراهة ضداً للإرادة، وأيضاً لو كانت المحبة غير الإرادة لصح أن يحب الفعل وإن كرهه، لأن الكراهة على هذا القول إنما تضاد الإرادة دون المحبة، قالوا: وإذا ثبت أن المحبة نفس الإرادة فقوله: { وَٱللَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلْفَسَادَ } جار مجرى قوله والله لا يريد الفساد كقوله: { وَمَا ٱللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لّلْعِبَادِ } [غافر: 31] بل دلالة هذه الآية أقوى لأنه تعالى ذكر ما وقع من الفساد من هذا المنافق ثم قال: { وَٱللَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلْفَسَادَ } إشارة إليه فدل على أن ذلك الواقع وقع لا بإرادة الله تعالى وإذا ثبت أنه تعالى لا يريد الفساد وجب أن لا يكون خالقاً له لأن الخلق لا يمكن إلا مع الإرادة فصارت هذه الآية دالة على مسألة الإرادة ومسألة خلق الأفعال والأصحاب أجابوا عنه بوجهين الأول: أن المحبة غير الإرادة بل المحبة عبارة عن مدح الشيء وذكر تعظيمه والثاني: إن سلمنا أن المحبة نفس الإرادة، ولكن قوله: { وَٱللَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلْفَسَادَ } لا يفيد العموم لأن الألف واللام الداخلين في اللفظ لا يفيدان العموم ثم الذي يهدم قوة هذا الكلام وجهان الأول: أن قدرة العبد وداعيته صالحة للصلاح والفساد فترجح الفساد على الصلاح، إن وقع لا لعلة لزم نفي الصانع، وإن وقع لمرجح فذلك المرجح لا بد وأن يكون من الله وإلا لزم التسلسل، فثبت أن الله سبحانه هو المرجح لجانب الفساد على جانب الصلاح فكيف يعقل أن يقال: إنه لا يريده والثاني: أنه عالم بوقوع الفساد فإن أراد أن لا يقع الفساد لزم أن يقال: إنه أراد أن يقلب علم نفسه جهلاً وذلك محال.

الصفة الخامسة: قوله تعالى: { وَإِذَا قِيلَ لَهُ ٱتَّقِ ٱللَّهَ أَخَذَتْهُ ٱلْعِزَّةُ بِٱلإثْمِ } وفيه مسائل:

المسألة الأولى: قال الواحدي: قوله تعالى: { وَإِذَا قِيلَ لَهُ ٱتَّقِ ٱللَّهَ أَخَذَتْهُ ٱلْعِزَّةُ } معناه أن رسول الله دعاه إلى ترك هذه الأفعال فدعاه الكبر والأنفة إلى الظلم.

واعلم أن هذا التفسير ضعيف، لأن قوله: { وَإِذَا قِيلَ لَهُ ٱتَّقِ ٱللَّهَ أَخَذَتْهُ ٱلْعِزَّةُ } ليس فيه دلالة إلا على أنه متى قيل له هذا القول أخذته العزة، فإما أن هذا القول قيل أو ما قيل فليس في الآية دلالة عليه فإن ثبت ذلك برواية وجب المصير إليه وإن كنا نعلم أنه عليه السلام كان يدعوا الكل إلى التقوى من غير تخصيص.

المسألة الثانية: أنه تعالى حكى عن هذا المنافق جملة من الأفعال المذمومة أولها: اشتغاله بالكلام الحسن في طلب الدنيا وثانيها: استشهاده بالله كذباً وبهتاناً وثالثها: لجاجه في إبطال الحق وإثبات الباطل ورابعها: سعيه في الفساد وخامسها: سعيه في إهلاك الحرث والنسل وكل ذلك فعل منكر قبيح وظاهر قوله: { إِذَا قِيلَ لَه ٱتَّقِ ٱللَّهَ } فليس بأن ينصرف إلى بعض هذه الأمور أولى من بعض، فوجب أن يحمل على الكل فكأنه قيل: اتق الله في إهلاك الحرث والنسل وفي السعي بالفساد، وفي اللجاج الباطل، وفي الإستشهاد بالله كذلك، وفي الحرص على طلب الدنيا فإنه ليس رجوع النهي إلى البعض أولى من بعض.

المسألة الثالثة: قوله: { أَخَذَتْهُ ٱلْعِزَّةُ بِٱلإثْمِ } فيه وجوه أحدها: أن هذا مأخوذ من قولهم أخذت فلاناً بأن يعمل كذا، أي ألزمته ذلك وحكمت به عليه، فتقدير الآية: أخذته العزة بأن يعمل الإثم، وذلك الإثم هو ترك الإلتفات إلى هذا الواعظ وعدم الإصغاء إليه وثانيها: { أَخَذَتْهُ ٱلْعِزَّةُ } أي لزمته يقال: أخذته الحمى أي لزمته، وأخذه الكبر، أي اعتراه ذلك، فمعنى الآية إذا قيل له اتق الله لزمته العزة الحاصلة بالإثم الذي في قلبه، فإن تلك العزة إنما حصلت بسبب ما في قلبه من الكفر والجهل وعدم النظر في الدلائل، ونظيره قوله تعالى: { بَلِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فِى عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ } [ص: 2] والباء ههنا في معنى اللام، يقول الرجل: فعلت هذا بسببك ولسببك، وعاقبته بجنايته ولجنايته.

أما قوله تعالى: { فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ } قال المفسرون: كافيه جهنم جزاء له وعذاباً يقال: حسبك درهم أي كفاك وحسبنا الله، أي كافينا الله، وأما جهنم فقال يونس وأكثر النحويين: هي اسم للنار التي يعذب الله بها في الآخرة وهي أعجمية وقال آخرون. جهنم اسم عربـي سميت نار الآخرة بها لبعد قعرها، حكى عن رؤبة أنه قال: ركية جهنام بريد بعيدة القعر.

أما قوله تعالى: { وَلَبِئْسَ ٱلْمِهَادُ } ففيه وجهان الأول: أن المهاد والتمهيد: التوطئة، وأصله من المهد، قال تعالى: { { وَٱلأَرْضَ فَرَشْنَـٰهَا فَنِعْمَ ٱلْمَـٰهِدُونَ } [الذاريات: 48] أي الموطئون الممكنون، أي جعلناها ساكنة مستقرة لا تميد بأهلها ولا تنبو عنهم وقال تعالى: { فَلأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ } [الروم:44] أي يفرشون ويمكنون والثاني: أن يكون قوله: { وَلَبِئْسَ ٱلْمِهَادُ } أي لبئس المستقر كقوله: { { جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ ٱلْقَرَارُ } [إبراهيم: 29] وقال بعض العلماء: المهاد الفراش للنوم، فلما كان المعذب في النار يلقى على نار جهنم جعل ذلك مهاداً له وفراشاً.