خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلْمَلإِ مِن بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَىۤ إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ٱبْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُواْ قَالُواْ وَمَا لَنَآ أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ ٱلْقِتَالُ تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ بِٱلظَّالِمِينَ
٢٤٦
-البقرة

مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير

القصـة الثانيـة

قصـة طالـوت

الملأ الأشراف من الناس، وهو اسم الجماعة، كالقوم والرهط والجيش، وجمعه أملاء، قال الشاعر:

وقال لها الأملاء من كل معشر وخير أقاويل الرجال سديدها

وأصلها من الملء، وهم الذين يملأون العيون هيبة ورواء، وقيل: هم الذين يملأون المكان إذا حضروا، وقال الزجاج: الملأ الرؤساء، سموا بذلك لأنهم يملأون القلوب بما يحتاج إليه، من قولهم: ملأ الرجل يملأ ملأة فهو ملىء.

قوله تعالى: { إِذْ قَالُواْ لِنَبِىّ لَّهُمُ ٱبْعَثْ لَنَا } في الآية مسائل:

المسألة الأولى: تعلق هذه الآية بما قبلها من حيث إنه تعالى لما فرض القتال بقوله: { وَقَـٰتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ } [البقرة: 244] ثم أمرنا بالإنفاق فيه لما له من التأثير في كمال المراد بالقتال ذكر قصة بني إسرائيل، وهي أنهم لما أمروا بالقتال نكثوا وخالفوا فذمهم الله تعالى عليه، ونسبهم إلى الظلم والمقصود منه أن لا يقدم المأمورون بالقتال من هذه الأمة على المخالفة، وأن يكونوا مستمرين في القتال مع أعداء الله تعالى.

المسألة الثانية: لا شك أن المقصود الذي ذكرناه حاصل، سواء علمنا أن النبـي من كان من أولئك، وأن أولئك الملأ من كانوا أو لم نعلم شيئاً من ذلك، لأن المقصود هو الترغيب في باب الجهاد وذلك لا يختلف، وإنما يعلم من ذلك النبـي ومن ذلك الملأ بالخبر المتواتر وهو مفقود، وأما خبر الواحد فإنه لا يفيد إلا الظن، ومنهم من قال: إنه يوشع بن نون بن افرايم بن يوسف، والدليل عليه قوله تعالى: { مِن بَعْدِ مُوسَىٰ } وهذا ضعيف لأن قوله: { مِن بَعْدِ مُوسَىٰ } كما يحتمل الاتصال يحتمل الحصول من بعد زمان، ومنهم من قال: كان اسم ذلك النبـي أشمويل من بني هرون واسمه بالعربية: إسماعيل، وهو قول الأكثرين، وقال السدي: هو شمعون، سمته أمه بذلك، لأنها دعت الله تعالى أن يرزقها ولداً فاستجاب الله تعالى دعاءها، فسمته شمعون، يعني سمع دعاءها فيه، والسين تصير شيناً بالعبرانية، وهو من ولد لاوى بن يعقوب عليه السلام.

المسألة الثالثة: قال وهب والكلبـي: إن المعاصي كثرت في بني إسرائيل، والخطايا عظمت فيهم، ثم غلب عليهم عدو لهم فسبـى كثيراً من ذراريهم، فسألوا نبيهم ملكاً تنتظم به كلمتهم ويجتمع به أمرهم، ويستقيم حالهم في جهاد عدوهم، وقيل تغلب جالوت على بني إسرائيل، وكان قوام بني إسرائيل بملك يجتمعون عليه يجاهد الأعداء، ويجري الأحكام، ونبـي يطيعه الملك، ويقيم أمر دينهم، ويأتيهم بالخبر من عند ربهم.

أما قوله: { نُّقَـٰتِلْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ } فاعلم أنه قرىء { نُّقَـٰتِلْ } بالنون والجزم على الجواب، وبالنون والرفع على أنه حال، أي ابعثه لنا مقدرين القتال، أو استئناف كأنه قيل: ما تصنعون بالملك، قالوا نقاتل، وقرىء بالياء والجزم على الجواب، وبالرفع على أنه صفة لقوله: { مَلَكًا } أما قوله: { قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلْقِتَالُ أَن لا تُقَـٰتِلُواْ } ففيه مسائل:

المسألة الأولى: قرأ نافع وحده { عَسَيْتُمْ } بكسر السين ههنا، وفي سورة محمد صلى الله عليه وسلم، واللغة المشهورة فتحها ووجه قراءة نافع ما حكاه ابن الأعرابـي أنهم يقولون: هو عسى بكذا وهذا يقوي { عَسَيْتُمْ } بكسر السين، ألا ترى أن عسى بكذا، مثل حري وشحيح وطعن أبو عبيدة في هذه القراءة فقال لو جاز ذلك لجاز { عَسَىٰ رَبُّكُمْ } أجاب أصحاب نافع عنه من وجهين الأول: أن الياء إذا سكنت وانفتح ما قبلها حصل في التلفظ بها نوع كلفة ومشقة، وليست الياء من { عَسَى } كذلك، لأنها وإن كانت في الكتابة ياء إلا أنها في اللفظ مدة، وهي خفيفة فلا تحتاج إلى خفة أخرى.

والجواب الثاني: هب أن القياس يقتضي جواز { عَسَىٰ رَبُّكُمْ } إلا أنا ذكرنا أنهما لغتان، فله أن يأخذ باللغتين فيستعمل إحداهما في موضع والأخرى في موضع آخر.

المسألة الثانية: خبر { هَلْ عَسَيْتُمْ } وهو قوله: { أَن لا تُقَـٰتِلُواْ } والشرط فاصل بينهما، والمعنى هل قاربتم أن تقاتلوا بمعنى أتوقع جبنكم عن القتال فأدخل { هَلُ } مستفهماً عما هو متوقع عنده ومظنون، وأراد بالاستفهام التقرير، وثبت أن المتوقع كائن له، وأنه صائب في توقعه كقوله تعالى: { هَلْ أَتَىٰ عَلَى ٱلإِنسَـٰنِ حِينٌ مّنَ ٱلدَّهْرِ } معناه التقرير، ثم إنه تعالى ذكر أن القوم قالوا: { وَمَا لَنَا أَن لا نُّقَـٰتِلْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ } وهذا يدل على ضمان قوي خصوصاً واتبعوا ذلك بعلة قوية توجب التشدد في ذلك، وهو قولهم: { وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَـٰرِنَا وَأَبْنَائِنَا } لأن من بلغ منه العدو هذا المبلغ فالظاهر من أمره الاجتهاد في قمع عدوه ومقاتلته.

فإن قيل: المشهور أنه يقال: مالك تفعل كذا؟ ولا يقال: مالك أن تفعل كذا؟ قال تعالى: { مَالَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً } [نوح: 13] وقال: { وَمَا لَكُمْ لاَ تُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ } [الحديد: 8].

والجواب من وجهين: الأول: وهو قول المبرد: أن { مَا } في هذه الآية جحد لا استفهام كأنه قال: ما لنا نترك القتال، وعلى هذا الطريق يزول السؤال.

الوجه الثاني: أن نسلم أن { مَا } ههنا بمعنى الاستفهام، ثم على هذا القول وجوه الأول: قال الأخفش: أن ههنا زائدة، والمعنى: ما لنا لا نقاتل وهذا ضعيف، لأن القول بثبوت الزيادة في كلام الله خلاف الأصل الثاني: قال الفراء: الكلام ههنا محمول على المعنى، لأن قولك: مالك لا تقاتل معناه ما يمنعك أن تقاتل؟ فلما ذهب إلى معنى المنع حسن إدخال أن فيه قال تعالى: { مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ } [صۤ: 75] وقال: { مَـٰلِكَ أَن لا تَكُونَ مَعَ ٱلسَّـٰجِدِينَ } [الحجر: 32] الثالث: قال الكسائي: معنى { وَمَا لَنَا أَن لا نُّقَـٰتِلْ } أي شيء لنا في ترك القتال؟ ثم سقطت كلمة { فِى } ورجح أبو علي الفارسي، قول الكسائي على قول الفراء، قال: وذلك لأن على قول الفراء لا بد من إضمار حرف الجر، والتقدير: ما يمنعنا من أن نقاتل، إذا كان لا بد من إضمار حرف الجر على القولين، ثم على قول الكسائي يبقى اللفظ مع هذا الإضمار على ظاهره، وعلى قول الفراء لا يبقى، فكان قول الكسائي لا محالة أولى وأقوى.

أما قوله: { فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ ٱلْقِتَالُ تَوَلَّوْاْ } فاعلم أن في الكلام محذوفاً تقديره: فسأل الله تعالى ذلك فبعث لهم ملكاً وكتب عليهم القتال فتولوا.

أما قوله: { إِلاَّ قَلِيلاً مّنْهُمُ } فهم الذين عبروا منهم النهر وسيأتي ذكرهم، وقيل: كان عدد هذا القليل ثلثمائة وثلاثة عشر على عدد أهل بدر { وَٱللَّهُ عَلِيمٌ بِٱلظَّـٰلِمينَ } أي هو عالم بمن ظلم نفسه حين خالف ربه ولم يف بما قيل من ربه، وهذا هو الذي يدل على تعلق هذه الآية بقوله قبل ذلك: { وَقَـٰتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ } فكأنه تعالى أكد وجوب ذلك بأن ذكر قصة بني إسرائيل في الجهاد وعقب ذلك بأن من تقدم على مثله فهو ظالم والله أعلم بما يستحقه الظالم وهذا بين في كونه زجراً عن مثل ذلك في المستقبل وفي كونه بعثاً على الجهاد، وأن يستمر كل مسلم على القيام بذلك، والله أعلم.