خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى فَٱكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِٱلْعَدْلِ وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ ٱللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ ٱلَّذِي عَلَيْهِ ٱلْحَقُّ وَلْيَتَّقِ ٱللَّهَ رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإن كَانَ ٱلَّذِي عَلَيْهِ ٱلْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِٱلْعَدْلِ وَٱسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ مِّن رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَٱمْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ ٱلشُّهَدَآءِ أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا ٱلأُخْرَىٰ وَلاَ يَأْبَ ٱلشُّهَدَآءُ إِذَا مَا دُعُواْ وَلاَ تَسْأَمُوۤاْ أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَو كَبِيراً إِلَىٰ أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ ٱللَّهِ وَأَقْومُ لِلشَّهَٰدَةِ وَأَدْنَىٰ أَلاَّ تَرْتَابُوۤاْ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَٰرَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوۤاْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ ٱللَّهُ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ
٢٨٢
-البقرة

مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير

إعلم أن في الآية مسائل:

المسألة الأولى: أن في كيفية النظم وجهين الأول: أن الله سبحانه لما ذكر قبل هذا الحكم نوعين من الحكم أحدهما: الإنفاق في سبيل الله وهو يوجب تنقيص المال والثاني: ترك الربا، وهو أيضاً سبب لتنقيص المال، ثم إنه تعالى ختم ذينك الحكمين بالتهديد العظيم، فقال: { وَٱتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى ٱللَّهِ } والتقوى تسد على الإنسان أكثر أبواب المكاسب والمنافع أتبع ذلك بأن ندبه إلى كيفية حفظ المال الحلال وصونه عن الفساد والبوار فإن القدرة على الإنفاق في سبيل الله، وعلى ترك الربا، وعلى ملازمة التقوى لا يتم ولا يكمل إلا عند حصول المال، ثم إنه تعال لأجل هذه الدقيقة بالغ في الوصية بحفظ المال الحلال عن وجوه التوي والتلف، وقد ورد نظيره في سورة النساء { وَلاَ تُؤْتُواْ ٱلسُّفَهَاء أَمْوٰلَكُمُ ٱلَّتِى جَعَلَ ٱللَّهُ لَكُمْ قِيَـٰماً } [النساء: 5] فحث على الاحتياط في أمر الأموال لكونها سبباً لمصالح المعاش والمعاد، قال القفالرحمه الله تعالى: والذي يدل على ذلك أن ألفاظ القرآن جارية في الأكثر على الاختصار، وفي هذه الآية بسط شديد، ألا ترى أنه قال: { إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَٱكْتُبُوهُ } ثم قال ثانياً: { وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُم كَاتِبٌ بِٱلْعَدْلِ } ثم قال ثالثاً: { وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَن يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ ٱللَّهُ } فكان هذا كالتكرار لقوله { وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُم كَاتِبٌ بِٱلْعَدْلِ } لأن العدل هو ما علمه الله، ثم قال رابعاً: { فَلْيَكْتُبْ } وهذا إعادة الأمر الأول، ثم قال خامساً: { وَلْيُمْلِلِ ٱلَّذِى عَلَيْهِ ٱلْحَقُّ } وفي قوله { وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُم كَاتِبٌ بِٱلْعَدْلِ } كفاية عن قوله { وَلْيُمْلِلْ ٱلَّذِى عَلَيْهِ ٱلْحَقُّ } لأن الكاتب بالعدل إنما يكتب ما يملى عليه، ثم قال سادساً: { وَلْيَتَّقِ ٱللَّهَ رَبَّهُ } وهذا تأكيد، ثم قال سابعاً: { وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً } فهذا كالمستفاد من قوله { وَلْيَتَّقِ ٱللَّهَ رَبَّهُ } ثم قال ثامناً: { ولا تسأموا أن تكتبوه صغيراً أو كبيراً إلى أجله } وهو أيضاً تأكيد لما مضى، ثم قال تاسعاً: { ذٰلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ ٱللَّهِ وَأَقْوَمُ للشَّهَـٰدَةَ وَأَدْنَى أَلاّ تَرْتَابُواْ } فذكر هذه الفوائد الثلاثة لتلك التأكيدات السالفة، وكل ذلك يدل على أنه لما حث على ما يجري مجرى سبب تنقيص المال في الحكمين الأولين بالغ في هذا الحكم في الوصية بحفظ المال الحلال، وصونه عن الهلاك والبوار ليتمكن الإنسان بواسطته من الانفاق في سبيل الله، والإعراض عن مساخط الله من الربا وغيره، والمواظبة على تقوى الله فهذا هو الوجه الأول من وجوه النظم، وهو حسن لطيف.

والوجه الثاني: أن قوماً من المفسرين قالوا: المراد بالمداينة السلم، فالله سبحانه وتعالى لما منع الربا في الآية المتقدمة أذن في السلم في جميع هذه الآية مع أن جميع المنافع المطلوبة من الربا حاصلة في السلم، ولهذا قال بعض العلماء: لا لذة ولا منفعة يوصل إليها بالطريق الحرام إلا وضعه الله سبحانه وتعالى لتحصيل مثل ذلك اللذة طريقاً حلالاً وسبيلاً مشروعاً فهذا ما يتعلق بوجه النظم.

المسألة الثانية: التداين تفاعل من الدين، ومعناه داين بعضكم بعضاً، وتداينتم تبايعتم بدين، قال أهل اللغة: القرض غير الدين، لأن القرض أن يقرض الإنسان دراهم، أو دنانير، أو حباً، أو تمراً، أو ما أشبه ذلك، ولا يجوز فيه الأجل والدين يجوز فيه الأجل، ويقال من الدين أدان إذا باع سلعته بثمن إلى أجل، ودان يدين إذا أقرض، ودان إذا استقرض وأنشد الأحمر:

ندين ويقضي الله عنا وقد نرى مصارع قوم لا يدينون ضيقا

إذا عرفت هذا فنقول: في المراد بهذه المداينة أقوال: قال ابن عباس: أنها نزلت في السلف لأن النبي صلى الله عليه وسلم قدم المدينة وهم يسلفون في التمر السنتين والثلاث، فقال صلى الله عليه وسلم: "من أسلف فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم" ثم أن الله تعالى عرف المكلفين وجه الاحتياط في الكيل والوزن والأجل، فقال: { إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَٱكْتُبُوهُ }.

والقول الثاني: أنه القرض وهو ضعيف لما بينا أن القرض لا يمكن أن يشترط فيه الأجل والدين المذكور في الآية قد اشترط فيه الأجل.

والقول الثالث: وهو قول أكثر المفسرين: أن البياعات على أربعة أوجه أحدها: بيع العين بالعين، وذلك ليس بمداينة ألبتة والثاني: بيع الدين بالدين وهو باطل، فلا يكون داخلاً تحت هذه الآية، بقي هنا قسمان: بيع العين بالدين، وهو ما إذا باع شيئاً بثمن مؤجل وبيع الدين بالعين وهو المسمى بالسلم، وكلاهما داخلان تحت هذه الآية، وفي الآية سؤالات:

السؤال الأول: المداينة مفاعلة، وحقيقتها أن يحصل من كل واحد منهما دين، وذلك هو بيع الدين بالدين وهو باطل بالاتفاق.

والجواب: أن المراد من تداينتم تعاملتم، والتقدير: إذا تعاملتم بما فيه دين.

السؤال الثاني: قوله { تَدَايَنتُم } يدل على الدين فما الفائدة بقوله { بِدَيْنٍ }.

الجواب من وجوه الأول: قال ابن الأنباري: التداين يكون لمعنيين أحدهما: التداين بالمال، والآخر التداين بمعنى المجازاة، من قولهم: كما تدين تدان، والدين الجزاء، فذكر الله تعالى الدين لتخصيص أحد المعنيين الثاني: قال صاحب «الكشاف»: إنما ذكر الدين ليرجع الضمير إليه في قوله { فَٱكْتُبُوهُ } إذ لو لم يذكر ذلك لوجب أن يقال: فاكتبوا الدين، فلم يكن النظم بذلك الحسن الثالث: أنه تعالى ذكره للتأكيد، كقوله تعالى: { { فَسَجَدَ ٱلْمَلَـٰئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ } [الحجر: 30] [صۤ: 73] { { وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ } [الأنعام: 38] الرابع: فإذا تداينتم أي دين كان صغيراً أو كبيراً، على أي وجه كان، من قرض أو سلم أو بيع عين إلى أجل الخامس: ما خطر ببالي أنا ذكرنا أن المداينة مفاعلة، وذلك إنما يتناول بيع الدين بالدين وهو باطل، فلو قال: إذا تداينتم لبقي النص مقصوراً على بيع الدين بالدين وهو باطل، أما لما قال: { إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ } كان المعنى: إذا تداينتم تداينا يحصل فيه دين واحد، وحينئذ يخرج عن النص بيع الدين بالدين، ويبقى بيع العين بالدين، أو بيع الدين بالعين فإن الحاصل في كل واحد منهما دين واحد لا غير.

السؤال الثالث: المراد من الآية: كلما تداينتم بدين فاكتبوه، وكلمة { إِذَا } لا تفيد العموم فلم قال: { تَدَايَنتُم } ولم يقل كلما تداينتم.

الجواب: أن كلمة { إِذَا } وإن كانت لا تقتضي العموم، إلا أنها لا تمنع من العموم وهٰهنا قام الدليل على أن المراد هو العموم، لأنه تعالى بيّن العلة في الأمر بالكتبة في آخر الآية، وهو قوله { ذٰلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ ٱللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَـٰدَةِ وَأَدْنَى ألاّ تَرْتَابُواْ } والمعنى إذا وقعت المعاملة بالدين ولم يكتب، فالظاهر أنه تنسى الكيفية، فربما توهم الزيادة، فطلب الزيادة وهو ظلم، وربما توهم النقصان فترك حقه من غير حمد ولا أجر، فأما إذا كتب كيفية الواقعة أمن من هذه المحذورات فلما دلّ النص على أن هذا هو العلة، ثم إن هذه العلة قائمة في الكل، كان الحكم أيضاً حاصلاً في الكل.

أما قوله تعالى: { إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى } ففيه سؤالان:

السؤال الأول: ما الأجل؟.

الجواب: الأجل في اللغة هو الوقت المضروب لانقضاء الأمد، وأجل الإنسان هو الوقت لانقضاء عمره، وأجل الدين لوقت معين في المستقبل، وأصله من التأخير، يقال: أجل الشيء يأجل أجولا إذا تأخر، والآجل نقيض العاجل.

السؤال الثاني: المداينة لا تكون إلا مؤجلة فما الفائدة في ذكر الأجل بعد ذكر المداينة؟.

الجواب: إنما ذكر الأجل ليمكنه أن يصفه بقوله { مُّسَمًّى } والفائدة في قوله { مُّسَمًّى } ليعلم أن من حق الأجل أن يكون معلوماً، كالتوقيت بالسنة والشهر والأيام، ولو قال: إلى الحصاد، أو إلى الدِّياس، أو إلى قدوم الحاج، لم يجز لعدم التسمية.

أما قوله تعالى: { فَٱكْتُبُوهُ } فاعلم أنه تعالى أمر في المداينة بأمرين أحدهما: الكتبة وهي قوله هٰهنا { فَٱكْتُبُوهُ } الثاني: الإشهاد وهو قوله { فَٱسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ مّن رّجَالِكُمْ } وفيه مسألتان:

المسألة الأولى: فائدة الكتبة والإشهاد أن ما يدخل فيه الأجل، تتأخر فيه المطالبة ويتخلله النسيان، ويدخل فيه الجحد، فصارت الكتابة كالسبب لحفظ المال من الجانبين لأن صاحب الدين إذا علم أن حقه قد قيد بالكتابة والإشهاد يحذر من طلب الزيادة، ومن تقديم المطالبة قبل حلول الأجل، ومن عليه الدين إذا عرف ذلك يحذر عن الجحود، ويأخذ قبل حلول الأجل في تحصيل المال، ليتمكن من أدائه وقت حلول الدين، فلما حصل في الكتابة والإشهاد هذه الفوائد لا جرم أمر الله به، والله أعلم.

المسألة الثانية: القائلون بأن ظاهر الأمر للندب لا إشكال عليهم في هذه، وأما القائلون بأن ظاهره للوجوب فقد اختلفوا فيه، فقال قوم بالوجوب وهو مذهب عطاء، وابن جريج والنخعي واختيار محمد بن جرير الطبري، وقال النخعي يشهد ولو على دستجة بقل، وقال آخرون: هذا الأمر محمول على الندب، وعلى هذا جمهور الفقهاء المجتهدين، والدليل عليه أنا نرى جمهور المسلمين في جميع ديار الإسلام يبيعون بالأثمان المؤجلة من غير كتابة ولا إشهاد، وذلك إجماع على عدم وجوبهما، ولأن في إيجابهما أعظم التشديد على المسلمين، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "بعثت بالحنيفية السهلة السمحة" وقال قوم: بل كانت واجبة، إلا أن ذلك صار منسوخاً بقوله { { فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ ٱلَّذِى ٱؤْتُمِنَ أَمَـٰنَتَهُ } [البقرة: 283] وهذا مذهب الحسن والشعبي والحكم وابن عيينة، وقال التيمي: سألت الحسن عنها فقال: إن شاء أشهد وإن شاء لم يشهد، ألا تسمع قوله تعالى: { فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا } واعلم أنه تعالى لما أمر بكتب هذه المداينة اعتبر في تلك الكتبة شرطين:

الشرط الأول: أن يكون الكاتب عدلاً وهو قوله { وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُم كَاتِبٌ بِٱلْعَدْلِ } واعلم أن قوله تعالى: { فَٱكْتُبُوهُ } ظاهره يقتضي أنه يجب على كل أحد أن يكتب، لكن ذلك غير ممكن، فقد لا يكون ذلك الإنسان كاتباً، فصار معنى قوله { فَٱكْتُبُوهُ } أي لا بد من حصول هذه الكتبة، وهو كقوله تعالى: { وَٱلسَّارِقُ وَٱلسَّارِقَةُ فَٱقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء } [المائدة: 38] فإن ظاهره وإن كان يقتضي خطاب الكل بهذا الفعل، إلا أنا علمنا أن المقصود منه أنه لا بد من حصول قطع اليد من إنسان واحد، إما الإمام أو نائبه أو المولى، فكذا هٰهنا ثم تأكد هذا الذي قلناه بقوله تعالى: { وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُم كَاتِبٌ بِٱلْعَدْلِ } فإن هذا يدل على أن المقصود حصول هذه الكتبة من أي شخص كان.

أما قوله { بِٱلْعَدْلِ } ففيه وجوه الأول: أن يكتب بحيث لا يزيد في الدين ولا ينقص منه، ويكتبه بحيث يصلح أن يكون حجة له عند الحاجة إليه الثاني: إذا كان فقيهاً وجب أن يكتب بحيث لا يخص أحدهما بالاحتياط دون الآخر، بل لا بد وأن يكتبه بحيث يكون كل واحد من الخصمين آمنا من تمكن الآخر من إبطال حقه الثالث: قال بعض الفقهاء: العدل أن يكون ما يكتبه متفقاً عليه بين أهل العلم ولا يكون بحيث يجد قاض من قضاة المسلمين سبيلاً إلى إبطاله على مذهب بعض المجتهدين الرابع: أن يحترز عن الألفاظ المجملة التي يقع النزاع في المراد بها، وهذه الأمور التي ذكرناها لا يمكن رعايتها إلا إذا كان الكاتب فقيهاً عارفاً بمذاهب المجتهدين، وأن يكون أديباً مميزاً بين الألفاظ المتشابهة، ثم قال: { وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَن يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ ٱللَّهُ } وفيه مسائل:

المسألة الأولى: ظاهر هذا الكلام نهى لكل من كان كاتباً عن الامتناع عن الكتبة، وإيجاب الكتبة على كل من كان كاتباً، وفيه وجوه الأول: أن هذا على سبيل الارشاد إلى الأولى لا على سبيل الإيجاب، والمعنى أن الله تعالى لما علمه الكتبة، وشرّفه بمعرفة الأحكام الشرعية، فالأولى أن يكتب تحصيلاً لمهم أخيه المسلم شكراً لتلك النعمة، وهو كقوله تعالى: { { وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ ٱللَّهُ إِلَيْكَ } [القصص: 77] فإنه ينتفع الناس بكتابته كما نفعه الله بتعليمها.

والقول الثاني: وهو قول الشعبي: أنه فرض كفاية، فإن لم يجد أحداً يكتب إلا ذلك الواحد وجب الكتبة عليه، فإن وجد أقواماً كان الواجب على واحد منهم أن يكتب.

والقول الثالث: أن هذا كان واجباً على الكاتب، ثم نسخ بقوله تعالى: { وَلاَ يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ }.

والقول الرابع: أن متعلق الإيجاب هو أن يكتب كما علمه الله، يعني أن بتقدير أن يكتب فالواجب أن يكتب على ما علمه الله، وأن لا يخل بشرط من الشرائط، ولا يدرج فيه قيداً يخل بمقصود الإنسان، وذلك لأنه لو كتبه من غير مراعاة هذه الشروط اختل مقصود الإنسان، وضاع ماله، فكأنه قيل له: إن كنت تكتب فاكتبه عن العدل، واعتبار كل الشرائط التي اعتبرها الله تعالى.

المسألة الثانية: قوله { كَمَا عَلَّمَهُ ٱللَّهُ } فيه احتمالان الأول: أن يكون متعلقاً بما قبله، ولا يأب كاتب عن الكتابة التي علمه الله إياها، ولا ينبغي أن يكتب غير الكتابة التي علمه الله إياها ثم قال بعد ذلك: فليكتب تلك الكتابة التي علمه الله إياها.

والاحتمال الثاني: أن يكون متعلقاً بما بعده، والتقدير: ولا يأب كاتب أن يكتب، وهٰهنا تم الكلام، ثم قال بعده { كَمَا عَلَّمَهُ ٱللَّهُ فَلْيَكْتُبْ } فيكون الأول أمراً بالكتابة مطلقاً ثم أردفه بالأمر بالكتابة التي علمه الله إياها، والوجهان ذكرهما الزجاج.

الشرط الثاني في الكتابة: قوله تعالى: { وَلْيُمْلِلِ ٱلَّذِى عَلَيْهِ ٱلْحَقُّ } وفيه مسألتان؛

المسألة الأولى: أن الكتابة وإن وجب أن يُختارَ لها العالمُ بكيفية كَتْب الشروط والسجلات لكن ذلك لا يتم إلا بإملاء من عليه الحق فليدخل في جملة إملائه اعترافه بما عليه من الحق في قدره وجنسه وصفته وأجله إلى غير ذلك، فلأجل ذلك قال تعالى: { وَلْيُمْلِلِ ٱلَّذِى عَلَيْهِ ٱلْحَقُّ }.

المسألة الثانية: الأملال والإملاء لغتان، قال الفرّاء: أمللت عليه الكتاب لغة أهل الحجاز وبني أسد، وأمليت لغة تميم وقيس، ونزل القرآن باللغتين قال تعالى في اللغة الثانية { { فَهِىَ تُمْلَىٰ عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً } [الفرقان: 5].

ثم قال: { وَلْيَتَّقِ ٱللَّهَ رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً } وهذا أمر لهذا المملى الذي عليه الحق بأن يقر بمبلغ المال الذي عليه ولا ينقص منه شيئاً.

ثم قال تعالى: { وَإِن كَانَ ٱلَّذِى عَلَيْهِ ٱلْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِٱلْعَدْلِ } والمعنى أن من عليه الدين إذا لم يكن إقراره معتبراً فالمعتبر هو إقرار وليّه.

ثم في الآية مسائل:

المسألة الأولى: إدخال حرف { أَوْ } بين هذه الألفاظ الثلاثة، أعني السفيه، والضعيف، ومن لا يستطيع أن يمل يقتضي كونها أموراً متغايرة، لأن معناه أن الذي عليه الحق إذا كان موصوفاً بإحدى هذه الصفات الثلاث فليملل وليه بالعدل، فيجب في الثلاثة أن تكون متغايرة، وإذا ثبت هذا وجب حمل السفيه على الضعيف الرأي ناقص العقل من البالغين، والضعيف على الصغير والمجنون والشيخ الخرف، وهم الذين فقدوا العقل بالكلية، والذي لا يستطيع لأن يمل من يضعف لسانه عن الإملاء لخرس، أو جهله بماله وما عليه، فكل هؤلاء لا يصح منهم الإملاء والإقرار، فلا بد من أن يقوم غيرهم مقامهم، فقال تعالى: { فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِٱلْعَدْلِ } والمراد ولي كل واحد من هؤلاء الثلاثة، لأن ولي المحجور السفيه، وولي الصبي: هو الذي يقر عليه بالدين، كما يقرب بسائر أموره، وهذا هو القول الصحيح، وقال ابن عباس ومقاتل والربيع: المراد بوليه ولي الدين يعني أن الذي له الدين يملي وهذا بعيد، لأنه كيف يقبل قول المدعي، وإن كان قوله معتبراً، فأي حاجة بنا إلى الكتابة والإشهاد.

النوع الثاني: من الأمور التي اعتبرها الله تعالى في المداينة الإشهاد، وهو قوله تعالى: { وَٱسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ مّن رّجَالِكُمْ } واعلم أن المقصود من الكتابة هو الاستشهاد لكي يتمكن بالشهود عند الجحود من التوصل إلى تحصيل الحق، وفي الآية مسائل:

المسألة الأولى: { استشهدوا } أي أشهدوا يقال: أشهدت الرجل واستشهدته، بمعنى: والشهيدان هما الشاهدان، فعيل بمعنى فاعل.

المسألة الثانية: الإضافة في قوله { مّن رّجَالِكُمْ } فيه وجوه الأول: يعني من أهل ملتكم وهم المسلمون والثاني: قال بعضهم: يعني الأحرار والثالث: { مّن رّجَالِكُمْ } الذين تعتدونهم للشهادة بسبب العدالة.

المسألة الثالثة: شرائط الشهادة كثيرة مذكورة في كتب الفقه، ونذكر هٰهنا مسألة واحدة وهي أن عند شريح وابن سيرين وأحمد تجوز شهادة العبد، وعند الشافعي وأبي حنيفة رضي الله عنهما لا تجوز، حجة شريح أن قوله تعالى: { وَٱسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ مّن رّجَالِكُمْ } عام يتناول العبيد وغيرهم، والمعنى المستفاد من النص أيضاً دال عليه، وذلك لأن عقل الإنسان ودينه وعدالته تمنعه من الكذب، فإذا شهد عند اجتماع هذه الشرائط تأكد به قول المدعي، فصار ذلك سبباً في إحياء حقه، والعقل والدين والعدالة لا تختلف بسبب الحرية والرق، فوجب أن تكون شهادة العبيد مقبولة، حجة الشافعي وأبي حنيفة رضي الله عنهما قوله تعالى: { وَلاَ يَأْبَ ٱلشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُواْ } فهذا يقتضي أنه يجب على كل من كان شاهداً الذهاب إلى موضع أداء الشهادة،ويحرم عليه عدم الذهاب إلى أداء الشهادة، فلما دلّت الآية على أن كل من كان شاهداً وجب عليه الذهاب والإجماع دل على أن العبد لا يجب عليه الذهاب، فوجب أن لا يكون العبد شاهداً، وهذا الاستدلال حسن.

وأما قوله تعالى: { وَٱسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ مّن رّجَالِكُمْ } فقد بينا أن منهم من قال: واستشهدوا شهيدين من رجالكم الذين تعتدونهم لأداء الشهادة، وعلى هذا التقدير فلم قلتم أن العبيد كذلك.

ثم قال تعالى: { فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَٱمْرَأَتَانِ } وفي ارتفاع رجل وامرأتان أربعة أوجه الأول: فليكن رجل وامرأتان والثاني: فليشهد رجل وامرأتان والثالث: فالشاهد رجل وامرأتان والرابع: فرجل وامرأتان يشهدون كل هذه التقديرات جائز حسن، ذكرها علي بن عيسىرحمه الله .

ثم قال: { مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ ٱلشُّهَدَاء } وهو كقوله تعالى في الطلاق { { وَأَشْهِدُواْ ذَوَى عَدْلٍ مّنكُمْ } [الطلاق: 2] واعلم أن هذه الآية تدل على أنه ليس كل أحد صالحاً للشهادة والفقهاء قالوا: شرائط قبول الشهادة عشرة أن يكون حراً بالغاً مسلماً عدلاً عالماً بما شهد به ولم يجر بتلك الشهادة منفعة إلى نفسه ولا يدفع بها مضرة عن نفسه، ولا يكون معروفاً بكثرة الغلط، ولا بترك المروأة، ولا يكون بينه وبين من يشهد عليه عداوة.

ثم قال: { أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكّرَ إِحْدَاهُمَا ٱلأُخْرَىٰ } والمعنى أن النسيان غالب طباع النساء لكثرة البرد والرطوبة في أمزجتهن واجتماع المرأتين على النسيان أبعد في العقل من صدور النسيان على المرأة الواحدة فأقيمت المرأتان مقام الرجل الواحد حتى أن إحداهما لو نسيت ذكرتها الأخرى فهذا هو المقصود من الآية ثم فيها مسائل:

المسألة الأولى: قرأ حمزة { أَن تَضِلَّ } بكسر إن { فَتُذَكّرَ } بالرفع والتشديد، ومعناه: الجزاء موضع { تَضِلَّ } جزم إلا أنه لا يتبين في التضعيف { فَتُذَكّرَ } رفع لأن ما بعد الجزاء مبتدأ وأما سائر القراء فقرؤا بنصب { أن } وفيه وجهان أحدهما: التقدير: لأن تضل، فحذف منه الخافض والثاني: على أنه مفعول له، أي إرادة أن تضل.

فإن قيل: كيف يصح هذا الكلام والإشهاد للإذكار لا الإضلال.

قلنا: هٰهنا غرضان أحدهما: حصول الإشهاد، وذلك لا يأتي إلا بتذكير إحدى المرأتين الثانية والثاني: بيان تفضيل الرجل على المرأة حتى يبين أن إقامة المرأتين مقام الرجل الواحد هو العدل في القضية، وذلك لا يأتي إلا في ضلال إحدى المرأتين، فإذا كان كل واحد من هذين الأمرين أعني الإشهاد، وبيان فضل الرجل على المرأة مقصوداً، ولا سبيل إلى ذلك إلا بضلال إحداهما وتذكر الأخرى، لا جرم صار هذان الأمران مطلوبين، هذا ما خطر ببالي من الجواب عن هذا السؤال وقت كتبه هذا الموضع وللنحويين أجوبة أخرى ما استحسنتها والكتب مشتملة عليها، والله أعلم.

المسألة الثانية: الضلال في قوله { أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا } فيه وجهان أحدهما: أنه بمعنى النسيان، قال تعالى: { وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } أي ذهب عنهم الثاني: أن يكون ذلك من ضل في الطريق إذا لم يهتد له، والوجهان متقاربان، وقال أبو عمرو: أصل الضلال في اللغة الغيبوبة.

المسألة الثالثة: قرأ نافع وابن عامر وعاصم والكسائي { فَتُذَكّرَ } بالتشديد والنصب، وقرأ حمزة بالتشديد والرفع، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بالتخفيف والنصب، وهما لغتان ذكر وأذكر نحو نزل وأنزل، والتشديد أكثر استعمالاً، قال تعالى: { فَذَكّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكّرٌ } [الغاشية: 21] ومن قرأ بالتخفيف فقد جعل الفعل متعدياً بهمزة الأفعال، وعامة المفسرين على أن هذا التذكير والإذكار من النسيان إلا ما يروى عن سفيان بن عيينة أنه قال في قوله { فَتُذَكّرَ إِحْدَاهُمَا ٱلأُخْرَىٰ } أن تجعلها ذكراً يعني أن مجموع شهادة المرأتين مثل شهادة الرجل الواحد، وهذا الوجه منقول عن أبي عمرو بن العلاء، قال: إذا شهدت المرأة ثم جاءت الأخرى فشهدت معها أذكرتها، لأنهما يقومان مقام رجل واحد وهذا الوجه باطل باتفاق عامة المفسرين، ويدل على ضعفه وجهان الأول: أن النساء لو بلغن ما بلغن، ولم يكن معهن رجل لم تجز شهادتهن، فإذا كان كذلك فالمرأة الثانية ما ذكرت الأولى.

الوجه الثاني: أن قوله { فَتُذَكّرَ } مقابل لما قبله من قوله { أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا } فلما كان الضلال مفسر بالنسيان كان الإذكار مفسراً بما يقابل النسيان.

ثم قال تعالى: { وَلاَ يَأْبَ ٱلشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُواْ } وفيه مسائل:

المسألة الأولى: في هذه الآية وجوه الأول: وهو الأصح: أنه نهى الشاهد عن الامتناع عن أداء الشهادة عند احتياج صاحب الحق إليها والثاني: أن المراد تحمل الشهادة على الإطلاق، وهو قول قتادة واختيار القفال، قال: كما أمر الكاتب أن لا يأبى الكتابة، كذلك أمر الشاهد أن لا يأبى عن تحمل الشهادة، لأن كل واحد منهما يتعلق بالآخر، وفي عدمهما ضياع الحقوق الثالث: أن المراد تحمل الشهادة إذا لم يوجد غيره الرابع: وهو قول الزجاج: أن المراد بمجموع الأمرين التحمل أولاً، والأداء ثانياً، واحتج القائلون بالقول الأول من وجوه الأول: أن قوله { وَلاَ يَأْبَ ٱلشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُواْ } يقتضي تقديم كونهم شهداء، وذلك لا يصح إلا عند أداء الشهادة، فأما وقت التحمل فإنه لم يتقدم ذلك الوقت كونهم شهداء.

فإن قيل: يشكل هذا بقوله { وَٱسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ مّن رّجَالِكُمْ } وكذلك سماه كاتباً قبل أن يكتب.

قلنا: الدليل الذي ذكرناه صار متروكاً بالضرورة في هذه الآية فلا يجوز أن نتركه لعلة ضرورة في تلك الآية والثاني: أن ظاهر قوله { وَلاَ يَأْبَ ٱلشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُواْ } النهي عن الامتناع، والأمر بالفعل، وذلك للوجوب في حق الكل، ومعلوم أن التحمل غير واجب على الكل، فلم يجز حمله عليه، وأما الأداء بعد التحمل فإنه واجب على الكل، ومتأكد بقوله تعالى: { وَلاَ تَكْتُمُواْ ٱلشَّهَـٰدَةَ } فكان هذا أولى الثالث: أن الأمر بالإشهاد يفيد أمر الشاهد بالتحمل من بعض الوجوه، فصار الأمر بتحمل الشهادة داخلاً في قوله { وَٱسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ مّن رّجَالِكُمْ } فكان صرف قوله { وَلاَ يَأْبَ ٱلشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُواْ } إلى الأمر بالأداء حملاً له على فائدة جديدة، فكان ذلك أولى، فقد ظهر بما ذكرنا دلالة الآية على أنه يجب على الشاهد أن لا يمتنع من إقامة الشهادة إذا دعي إليها.

واعلم أن الشاهد إما أن يكون متعيناً، وإما أن يكون فيهم كثرة، فإن كان متعيناً وجب عليه أداء الشهادة، وإن كان فيهم كثرة صار ذلك فرضاً على الكفاية.

المسألة الثانية: قد شرحنا دلالة هذه الآية على أن العبد لا يجوز أن يكون شاهداً فلا نعيده الثالثة: قال الشافعي رضي الله عنه: يجوز القضاء بالشاهد واليمين، وقال أبو حنيفة رضي الله عنه: لا يجوز، واحتج أبو حنيفة بهذه الآية فقال: إن الله تعالى أوجب عند عدم شهادة رجلين شهادة الرجل والمرأتين على التعيين، فلو جوزنا الاكتفاء بالشاهد واليمين لبطل ذلك التعيين، وحجة الشافعي رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قضى بالشاهد واليمين، وتمام الكلام فيه مذكور في خلافيات الفقه.

واعلم أنه تعالى لما أمر عند المداينة بالكتبة أولاً، ثم بالإشهاد ثانياً، أعاد ذلك مرة أخرى على سبيل التأكيد، فأمر بالكتبة، فقال: { ولا تسأموا أن تكتبوه صغيراً أو كبيراً إلى أجله } وفيه مسائل:

المسألة الأولى: السآمة الملال والضجر، يقال: سئمت الشيء سأماً وسآمة، والمقصود من الآية البعث على الكتابة قل المال أو كثر، فإن القليل من المال في هذا الاحتياط كالكثير، فإن النزاع الحاصل بسبب القليل من المال ربما أدى إلى فساد عظيم ولجاج شديد، فأمر تعالى في الكثير والقليل بالكتابة، فقال: { وَلاَ تسأموا } أي ولا تملوا فتتركوا ثم تندموا.

فإن قيل: فهل تدخل الحبة والقيراط في هذا الأمر؟.

قلنا: لا لأن هذا محمول على العادة، وليس في العادة أن يكتبوا التافه.

المسألة الثانية: { أن } في محل النصب لوجهين: إن شئت جعلته مع الفعل مصدراً فتقديره: ولا تسأموا كتابته، وإن شئت بنزع الخافض تقديره: ولا تسأموا من أن تكتبوه إلى أجله.

المسألة الثالثة: الضمير في قوله { أَن تَكْتُبُوهُ } لا بد وأن يعود إلى المذكورر سابقاً، وهو هٰهنا إما الدين وإما الحق.

المسألة الرابعة: قرىء { وَلاَ يسأموا أن يكتبوه } بالياء فيهما.

ثم قال تعالى: { ذٰلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ ٱللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَـٰدَةِ وَأَدْنَى أَن لا تَرْتَابُواْ } اعلم أن الله تعالى بيّن أن الكتابة مشتملة على هذه الفوائد الثلاث:

الفائدة الأولى: قوله { ذٰلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ ٱللَّهِ } وفي قوله { ذٰلِكُمْ } وجهان الأول: أنه إشارة إلى قوله { أَن تَكْتُبُوهُ } لأنه في معنى المصدر، أي ذلك الكتب أقسط والثاني: قال القفالرحمه الله : ذلٰكم الذي أمرتكم به من الكتب والإشهاد لأهل الرضا ومعنى { أَقْسَطُ عِندَ ٱللَّهِ } أعدل عند الله، والقسط اسم، والإقساط مصدر، يقال: أقسط فلان في الحكم يقسط إقساطاً إذا عدل فهو مقسط، قال تعالى: { إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُقْسِطِينَ } [الممتحنة: 8] [الحجرات: 9] ويقال: هو قاسط إذا جار، قال تعالى: { { وَأَمَّا ٱلْقَـٰسِطُونَ فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً } [الجن: 15] وإنما كان هذا أعدل عند الله، لأنه إذا كان مكتوباً كان إلى اليقين والصدق أقرب، وعن الجهل والكذب أبعد، فكان أعدل عند الله وهو كقوله تعالى: { ٱدْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ ٱللَّهِ } [الأحزاب: 5] أي أعدل عند الله، وأقرب إلى الحقيقة من أن تنسبوهم إلى غير آبائهم.

والفائدة الثانية: قوله { أَقْوَمُ لِلشَّهَـٰدَةِ } معنى { أَقْوَمُ } أبلغ في الاستقامة، التي هي ضد الاعوجاج، وذلك لأن المنتصب القائم، ضد المنحني المعوج.

فإن قيل: مم بنى أفعل التفضيل؟ أعني: أقسط وأقوم.

قلنا: يجوز على مذهب سيبويه أن يكونا مبنيين من أقسط وأقام، ويجوز أن يكون أقسط من قاسط، وأقوم من قويم.

واعلم أن الكتابة إنما كانت أقوم للشهادة، لأنها سبب للحفظ والذكر، فكانت أقرب إلى الاستقامة، والفرق بين الفائدة الأولى والثانية أن الأولى: تتعلق بتحصيل مرضاة الله تعالى، والثانية: بتحصيل مصلحة الدنيا، وإنما قدمت الأولى على الثانية إشعاراً بأن الدين يجب تقديمه على الدنيا.

والفائدة الثالثة: هي قوله { وَأَدْنَى أَن لا تَرْتَابُواْ } يعني أقرب إلى زوال الشك والارتياب عن قلوب المتداينين، والفرق بين الوجهين الأولين، وهذا الثالث الوجهين الأولين يشيران إلى تحصيل المصلحة، فالأول: إشارة إلى تحصيل مصلحة الدين، والثاني: إشارة إلى تحصيل مصلحة الدنيا وهذا الثالث: إشارة إلى دفع الضرر عن النفس وعن الغير، أما عن النفس فإنه لا يبقى في الفكر أن هذا الأمر كيف كان، وهذا الذي قلت هل كان صدقاً أو كذباً، وأما دفع الضرر عن الغير فلأن ذلك الغير ربما نسبه إلى الكذب والتقصير فيقع في عقاب الغيبة والبهتان، فما أحسن هذه الفوائد وما أدخلها في القسط، وما أحسن ما فيها من الترتيب.

ثم قال تعالى: { إِلا أَن تَكُونَ تِجَـٰرَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ } وفيه مسائل:

المسألة الأولى: { إِلا } فيه وجهان أحدهما: أنه استثناء متصل والثاني: أنه منقطع، أما الأول ففيه وجهان الأول: أنه راجع إلى قوله تعالى: { إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَٱكْتُبُوهُ } وذلك لأن البيع بالدين قد يكون إلى أجل قريب، وقد يكون إلى أجل بعيد، فلما أمر بالكتبة عند المداينة، استثنى عنها ما إذا كان الأجل قريباً، والتقدير: إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه إلا أن يكون الأجل قريباً، وهو المراد من التجارة الحاضرة والثاني: أن هذا استثناء من قوله { ولا تسأموا أن تكتبوه صغيراً أو كبيراً } وأما الاحتمال الثاني، وهو أن يكون هذا استثناءً منقطعاً فالتقدير: لكنه إذا كانت التجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح أن لا تكتبوها، فهذا يكون كلاماً مستأنفاً، وإنما رخص تعالى في ترك الكتبة والإشهاد في هذا النوع من التجارة، لكثرة ما يجري بين الناس، فلو تكلف فيها الكتبة والإشهاد لشق الأمر على الخلق، ولأنه إذا أخذ كل واحد من المتعاملين حقه من صاحبه في ذلك المجلس، لم يكن هناك خوف التجاحد، فلم يكن هناك حاجة إلى الكتبة والإشهاد.

المسألة الثانية: قوله { أَن تَكُونَ } فيه قولان أحدهما: أنه من الكون بمعنى الحدوث والوقوع كما ذكرناه في قوله { وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ } والثاني: قال الفرّاء: إن شئت جعلت { كَانَ } ههنا ناقصة على أن الاسم تجارة حاضرة، والخبر تديرونها، والتقدير: إلا أن تكون تجارة حاضرة دائرة بينكم.

المسألة الثالثة: قرأ عاصم { تِجَـٰرَةً } بالنصب، والباقون بالرفع، أما القراءة بالنصب فعلى أنه خبر كان، ولا بد فيه من إضمار الاسم، وفيه وجوه أحدها: التقدير: إلا أن تكون التجارة تجارة حاضرة كتبة الكتاب، ومنه قول الشاعر:

بني أسد هل تعلمون بلاءناإذا كان يوما ذا كواكب أشهبا

أي إذا كان اليوم وثانيها: أن يكون التقدير: إلا أن يكون الأمر والشأن تجارة وثالثها: قال الزجاج: التقدير إلا أن تكون المداينة تجارة حاضر، قال أبو علي الفارسي: هذا غير جائز لأن المداينة لا تكون تجارة حاضرة، ويمكن أن يجاب عنه بأن المداين إذا كانت إلى أجل ساعة، صح تسميتها بالتجارة الحاضرة، فإن من باع ثوباً بدرهم في الذمة بشرط أن تؤدي الدرهم في هذه الساعة كان ذلك مداينة وتجارة حاضرة، وأما القراءة بالرفع، فالوجه فيها ما ذكرناه في المسألة الثانية والله أعلم.

المسألة الرابعة: التجارة عبارة عن التصرف في المال سواء كان حاضراً أو في الذمة لطلب الربح، يقال: تجر الرجل يتجر تجارة فهو تاجر، واعلم أنه سواء كانت المبايعة بدين أو بعين، فالتجارة تجارة حاضرة، فقوله { إِلا أَن تَكُونَ تِجَـٰرَةً حَاضِرَةً } لا يمكن حمله على ظاهره، بل المراد من التجارة ما يتجر فيه من الإبدال، ومعنى إدارتها بينهم معاملتهم فيها يداً بيد، ثم قال: { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن لا تَكْتُبُوهَا } [البقرة: 282] معناه: لا مضرة عليكم في ترك الكتابة، ولم يرد الإثم عليكم لأنه لو أراد الإثم لكانت الكتابة المذكورة واجبة عليهم، ويأثم صاحب الحق بتركها، وقد ثبت خلاف ذلك وبيان أنه لا مضرة عليهم في تركها ما قدمناه.

ثم قال تعالى: { وَأَشْهِدُواْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ } وأكثر المفسرين قالوا: المراد أن الكتابة وإن رفعت عنهم في التجارة إلا أن الاشهاد ما رفع عنهم، لأن الإشهاد بلا كتابة أخف مؤنة، ولأن الحاجة إذا وقعت إليها لا يخاف فيها النسيان.

واعلم أنه لا شك أن المقصود من هذا الأمر الإرشاد إلى طريق الاحتياط.

ثم قال تعالى: { وَلاَ يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ } واعلم أنه يحتمل أن يكون هذا نهياً للكاتب والشهيد عن إضرار من له الحق، أما الكاتب فبأن يزيد أو ينقص أو يترك الاحتياط، وأما الشهيد فبأن لا يشهد أو يشهد بحيث لا يحصل معه نفع، ويحتمل أن يكون نهياً لصاحب الحق عن إضرار الكاتب والشهيد، بأن يضرهما أو يمنعهما عن مهماتهما والأول: قول أكثر المفسرين والحسن وطاوس وقتادة، والثاني: قول ابن مسعود وعطاء ومجاهد.

واعلم أن كلا الوجهين جائز في اللغة، وإنما احتمل الوجهين بسبب الإدغام الواقع في { لا يُضَارَّ } أحدهما: أن يكون أصله لا يضارر، بكسر الراء الأولى، فيكون الكاتب والشهيد هما الفاعلان للضرار والثاني: أن يكون أصله لا يضارر بفتح الراء الأولى، فيكون هما المفعول بهما الضرار ونظير هذه الآية التي تقدمت في هذه السورة، وهو قوله { لاَ تُضَارَّ وٰلِدَةٌ بِوَلَدِهَا } وقد أحكمنا بيان هذا اللفظ هناك، والدليل على ما ذكرنا من احتمال الوجهين قراءة عمر رضي الله عنه { وَلاَ يضارر } بالإظهار والكسر، وقراءة ابن عباس { وَلاَ يضارر } بالإظهار والفتح، واختار الزجاج القول الأول، واحتج عليه بقوله تعالى بعد ذلك { وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ } قال: وذلك لأن اسم الفسق بمن يحرف الكتابة، وبمن يمتنع عن الشهادة حتى يبطل الحق بالكلية أولى منه بمن أضر الكاتب والشهيد، ولأنه تعالى قال فيمن يمتنع عن أداء الشهادة { { وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ ءَاثِمٌ قَلْبُهُ } [البقرة: 283] والإثم والفاسق متقاربان، واحتج من نصر القول الثاني بأن هذا لو كان خطاباً للكاتب والشهيد لقيل: وإن تفعلا فإنه فسوق بكم، وإذا كان هذا خطاباً للذين يقدمون على المداينة فالمنهيون عن الضرار هم والله أعلم.

ثم قال: { وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ } وفيه وجهان أحدهما: يحتمل أنه يحمل على هذا الموضع خاصة والمعنى: فإن تفعلوا ما نهيتكم عنه من الضرار والثاني: أنه عام في جميع التكليف، والمعنى: وإن تفعلوا شيئاً مما نهيتكم عنه أو تتركوا شيئاً مما أمرتكم به فإنه فسوق بكم، أي خروج عن أمر الله تعالى وطاعته.

ثم قال تعالى: { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ } يعني فيما حذر منه هٰهنا، وهو المضارة، أو يكون عاماً، والمعنى اتقوا الله في جميع أوامره ونواهيه.

ثم قال: { وَيُعَلّمُكُمُ ٱللَّهُ } والمعنى: أنه يعلمكم ما يكون إرشاداً واحتياطاً في أمر الدنيا، كما يعلمكم ما يكون إرشاداً في أمر الدين { وَٱللَّهُ بِكُلّ شَيْء عَلِيمٌ } إشارة إلى كونه سبحانه وتعالى عالماً بجميع مصالح الدنيا والآخرة.