اعلم أن الله تعالى لما أمر موسى عليه السلام بالذهاب إلى فرعون وكان ذلك تكليفاً شاقاً فلا جرم سأل ربه أموراً ثمانية، ثم ختمها بما يجري مجرى العلة لسؤال تلك الأشياء.
المطلوب الأول: قوله: { رَبِّ ٱشْرَحْ لِي صَدْرِي } واعلم أنه يقال شرحت الكلام أي بينته وشرحت صدره أي وسعته والأول يقرب منه لأن شرح الكلام لا يحصل إلا ببسطة. والسبب في هذا السؤال ما حكى الله تعالى عنه في موضع آخر وهو قوله:
{ { وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلاَ يَنطَلِقُ لِسَانِي } [الشعراء: 13] فسأل الله تعالى أن يبدل ذلك الضيق بالسعة، وقال: { رَبِّ ٱشْرَحْ لِي صَدْرِي } فأفهم عنك ما أنزلت علي من الوحي، وقيل: شجعني لأجترىء به على مخاطبة فرعون ثم الكلام فيه يتعلق بأمور. أحدها: فائدة الدعاء وشرائطه. وثانيها: ما السبب في أن الإنسان لا يذكر وقت الدعاء من أسماء الله تعالى إلا الرب. وثالثها: ما معنى شرح الصدر. ورابعها: بماذا يكون شرح الصدر. وخامسها: كيف كان شرح الصدر في حق موسى عليه السلام ومحمد صلى الله عليه وسلم. وسادسها: صفة صدر موسى عليه السلام هل كان منشرحاً أو لم يكن منشرحاً، فإن كان منشرحاً كان طلب شرح الصدر تحصيلاً للحاصل وهو محال، وإن لم يكن منشرحاً فهو باطل من وجهين. الأول: أنه سبحانه بين له فيما تقدم كل ما يتعلق بالأديان من معرفة الربوبية والعبودية وأحوال المعاد وكل ما يتعلق بشرح الصدر في باب الدين فقد حصل، ثم إنه سبحانه تلطف له بقوله: { { وَأَنَا ٱخْتَرْتُكَ فَٱسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى } [طه: 13] ثم كلمه على سبيل الملاطفة بقوله: { { وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يٰمُوسَىٰ } [طه: 17] ثم أظهر له المعجزات العظيمة والكرامات الجسيمة، ثم أعطاه منصب الرسالة بعد أن كان فقيراً وكل ما يتعلق به الإعزاز والإكرام فقد حصل، ولو أن ذرة من هذه المناصب حصلت لأدون الناس لصار منشرح الصدر فبعد حصولها لكليم الله تعالى يستحيل أن لا يصير منشرح الصدر. والثاني: أنه لما لم يصر منشرح الصدر بعد هذه الأشياء لم يجز من الله تعالى تفويض النبوة إليه فإن من كان ضيق القلب مشوش الخاطر لا يصلح للقضاء على ما قال عليه السلام: "لا يقضي القاضي وهو غضبان" فكيف يصلح للنبوة التي أقل مراتبها القضاء؟ فهذا مجموع الأمور التي لا بد من البحث عنها في هذه الآية. أما البحث الأول: وهو فائدة الدعاء وشرائطه فقد تقدم في تفسير قوله:
{ { رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } [البقرة: 286] إلا أنه نذكر منها ههنا بعض الفوائد المتعلقة بهذا الموضع فنقول: اعلم أن للكمال مراتب ودرجات وأعلاها أن يكون كاملاً في ذاته مكملاً لغيره، أما كونه كاملاً في ذاته فكل ما كان كذلك كان كماله من لوازم ذاته، وكل ما كان كذلك كان كاملاً في الأزل ولكنه يستحيل أن يكون مكملاً في الأزل لأن التكميل عبارة عن جعل الشيء كاملاً وذلك لا يتحقق إلا عند عدم الكمال، فإنه لو كان حاصلاً في الأزل لاستحال التأثير فيه، فإن تحصيل الحاصل محال وتكوين الكائن ممتنع فلا جرم أنه سبحانه، وإن كان كاملاً في الأزل إلا أنه يصير مكملاً فيما لا يزال، فإن قيل: إذا كان التكميل من صفات الكمال فحيث لم يكن مكملاً في الأزل فقد كان عارياً عن صفات الكمال فيكون ناقصاً وهو محال، قلنا: النقصان إنما يلزم لو كان ذلك ممكناً في الأزل لكنا بينا أن الفعل الأزلي محال فالتكميل الأزلي محال فعدمه لا يكون نقصاناً، كما أن قولنا: إنه لا يقدر على تكوين مثل نفسه لا يكون نقصاناً لأنه غير ممكن الوجود في نفسه، وكقولنا: إنه لا يعلم عدداً مفصلاً كحركات أهل الجنة لأن كل ما له عدد مفصل فهو متناه، وحركات أهل الجنة غير متناهية فلا يكون له عدد مفصل، فامتنع ذلك لا لقصور في العلم، بل لكونه في نفسه ممتنع الحصول. إذا ثبت هذا فنقول: إنه سبحانه وتعالى لما قصد إلى التكوين وكان الغرض منه تكميل الناقصين لأن الممكنات قابلة للوجود وصفة الوجود صفة كمال فاقتضت قدرة الله تعالى على التكميل وضع مائدة الكمال للممكنات فأجلس على المائدة بعض المعدومات دون البعض لأسباب. أحدها: أن المعدومات غير متناهية فلو أجلس الكل على مائدة الوجود لدخل ما لا نهاية له في الوجود. وثانيها: أنه لو أوجد الكل لما بقي بعد ذلك قادراً على الإيجاد لأن إيجاد الموجود محال، فكان ذلك وإن كان كمالاً للناقص لكنه يقتضي نقصان الكامل فإنه ينقلب القادر من القدرة إلى العجز. وثالثها: أنه لو دخل الكل في الوجود لما بقي فيه تمييز فلا يتميز القادر على الموجب والقدرة كمال والإيجاب بالطبع نقصان، فلهذه الأسباب أخرج بعض الممكنات إلى الوجود فإن قيل عليه سؤالان: أحدهما: أن الموجودات متناهية والمعدومات غير متناهية ولا نسبة للمتناهي إلى غير المتناهي، فتكون أيضاً الضيافة ضيافة للأقل، وأما الحرمان فإنه عدد لما لا نهاية له، وهذا لا يكون وجوداً. الثاني: أن البعض الذي خصه بهذه الضيافة إن كان لاستحقاق حصل فيه دون غيره فذلك الاستحقاق ممن حصل؟ وإن كان لا لهذا الاستحقاق كان ذلك عبثاً وهو محال كما قيل: يعطي ويمنع لا بخلاً ولا كرماً
وإنه لا يليق بأكرم الأكرمين. والجواب عن الكل أن هذه الشبهات إنما تدور في العقول والخيالات لأن الإنسان يحاول قياس فعله على فعلنا، وذلك باطل لأنه لا يسأل عما يفعل وهم يسألون. إذا عرفت هذا فهذا الوجود الفائض من نور رحمته على جميع الممكنات هو الضيافة العامة والمائدة الشاملة وهو المراد من قوله: { { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْء } [الأعراف: 156] ثم إن الموجودات انقسمت إلى الجمادات وإلى الحيوانات، ولا شك أن الجماد بالنسبة إلى الحيوان كالعدم بالنسبة إلى الوجود لأن الجماد لا خبر عنده من وجوده فوجوده بالنسبة إليه كالعدم وعدمه كالوجود، وأما الحيوان فهو الذي يميز بين الموجود والمعدوم ويتفاوتان بالنسبة إليه ولأن الجماد بالنسبة إلى الحيوان آلة لأن الحيوانات تستعمل الجمادات في أغراض أنفسها ومصالحها وهي كالعبد المطيع المسخر والحيوان كالمالك المستولي، فكانت الحيوانية أفضل من الجمادية فكما أن إحسان الله ورحمته اقتضيا وضع مائدة الوجود لبعض المعدومات دون البعض كذلك اقتضيا وضع مائدة الحياة لبعض الموجودات دون البعض، فلا جرم جعل بعض الموجودات أحياء دون البعض. والحياة بالنسبة إلى الجمادية كالنور بالنسبة إلى الظلمة والبصر بالنسبة إلى العمى والوجود بالنسبة إلى العدم، فعند ذلك صار بعض الموجودات حياً مدركاً للمنافي والملائم واللذة والألم والخير والشر، فمن ثم قالت الأحياء عند ذلك: يا رب الأرباب إنا وإن وجدنا خلعة الوجود وخلعة الحياة وشرفتنا بذلك، لكن ازدادت الحاجة لأنا حال العدم وحال الجمادية ما كنا نحتاج إلى الملائم والموافق وما كنا نخاف المنافي والمؤذي، ولما حصل الوجود والحياة احتجنا إلى طلب الملائم ودفع المنافي فإن لم تكن لنا قدرة على الهرب والطلب والدفع والجذب لبقينا كالزمن المقعد على الطريق عرضة للآفات وهدفاً لسهام البليات فأعطنا من خزائن رحمتك القدرة والقوة التي بها نتمكن من الطلب تارة والهرب أخرى، فاقتضت الرحمة التامة تخصيص بعض الأحياء بالقدرة كما اقتضت تخصيص بعض الموجودات بالحياة وتخصيص بعض المعدومات بالوجود. فقال القادرون عند ذلك: إلهنا الجواد الكريم إن الحياة والقدرة بلا عقل لا تكون إلا لأحد القسمين إما للمجانين المقيدين بالسلاسل والأغلال، وإما للبهائم المستعملة في حمل الأثقال وكل ذلك من صفات النقصان وأنت قد رقيتنا من حضيض النقصان إلى أوج الكمال فأفض علينا من العقل الذي هو أشرف مخلوقاتك وأعز مبدعاتك الذي شرفته بقولك: «بك أهين وبك أثيب وبك أعاقب» حتى تفوز من خزائن رحمتك بالخلع الكاملة والفضيلة التامة فأعطاهم العقل وبعث في أرواحهم نور البصيرة وجوهر الهداية فعند هذه الدرجة فازوا بالخلع الأربعة، الوجود والحياة والقدرة والعقل، فالعقل خاتم الكل والخاتم يجب أن يكون أفضل ألا ترى أن رسولنا صلى الله عليه وسلم لما كان خاتم النبيين كان أفضل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، والإنسان لما كان خاتم المخلوقات الجسمانية كان أفضلها فكذلك العقل لما كان خاتم الخلع الفائضة من حضرة ذي الجلال كان أفضل الخلع وأكملها، ثم نظر العقل في نفسه فرأى نفسه كالجفنة المملوءة من الجواهر النفيسة بل كأنها سماء مملوءة من الكواكب الزاهرة وهي العلوم الضرورية البديهية المركوزة في بدائه العقول وصرائح الأذهان، وكما أن الكواكب المركوزة في السموات علامات يهتدى بها في ظلمات البر والبحر، فكذلك الجواهر المركوزة في سماء العقل كواكب زاهرة يهتدي بها السائرون في ظلمات عالم الأجسام إلى أنوار العالم الروحانية وفسحة السموات وأضوائها. فلما نظر العقل إلى تلك الكواكب الزاهرة والجواهر الباهرة رأى رقم الحدوث على تلك الجواهر وعلى جميع تلك الخلع فاستدل بتلك الأرقام على راقم، وبتلك النقوش على ناقش. وعند ذلك عرف أن النقاش بخلاف النقش والباني بخلاف البناء، فانفتح له من أعلى سماء عالم المحدثات روازن إلى أضواء لوائح عالم القدم وطالع عالم القدم الأزلية والجلال وكان العقل إنما نظر إلى أضواء عالم الأزلية من ظلمات عالم الحدوث والإمكان فغلبته دهشة أنوار الأزلية فعميت عيناه فبقي متحيراً فالتجأ بطبعه إلى مفيض الأنوار، فقال: { رَبِّ ٱشْرَحْ لِي صَدْرِي } فإن البحار عميقة والظلمات متكاثفة، وفي الطريق قطاع من الأعداء الداخلة والخارجة وشياطين الإنس والجن كثيرة فإن لم تشرح لي صدري ولم تكن لي عوناً في كل الأمور انقطعت، وصارت هذه الخلع سبباً لنيل الآفات لا للفوز بالدرجات. فهذا هو المراد من قوله: { رَبِّ ٱشْرَحْ لِي صَدْرِي } ثم قال: { وَيَسّرْ لِي أَمْرِي } وذلك لأن كل ما يصدر من العبد من الأفعال والأقوال والحركات والسكنات فما لم يصر العبد مريداً له استحال أن يصير فاعلاً له، فهذه الإرادة صفة محدثة ولا بد لها من فاعل وفاعلها إن كان هو العبد افتقر في تحصيل تلك الإرادة إلى إرادة أخرى، ولزم التسلسل بل لا بد من الانتهاء إلى إرادة يخلقها مدبر العالم فيكون في الحقيقة هو الميسر للأمور وهو المتمم لجميع الأشياء وتمام التحقيق أن حدوث الصفة لا بد له من قابل وفاعل فعبر عن استعداد القابل بقوله: { رَبِّ ٱشْرَحْ لي صَدْرِي } وعبر عن حصول الفاعل بقوله: { وَيَسّرْ لِي أَمْرِي } وفيه التنبيه على أنه سبحانه وتعالى هو الذي يعطي القابل قابليته والفاعل فاعليته، ولهذا كان السلف رضي الله عنهم يقولون: يا مبتدئاً بالنعم قبل استحقاقها. ومجموع هذين الكلامين كالبرهان القاطع على أن جميع الحوادث في هذا العالم واقعة بقضائه وقدره وحكمته وقدرته. ويمكن أن يقال أيضاً: كأن موسى عليه السلام قال: إلهي لا أكتفي بشرح الصدر ولكن أطلب منك تنفيذ الأمر وتحصيل الغرض فلهذا قال: { وَيَسّرْ لِي أَمْرِي } أو يقال: إنه سبحانه وتعالى لما أعطاه الخلع الأربع وهي الوجود والحياة والقدرة والعقل فكأنه قال له يا موسى أعطيتك هذه الخلع الأربع فلا بد في مقابلتها من خدمات أربع لتقابل كل نعمة بخدمة. فقال موسى عليه السلام: ما تلك الخدمات؟ فقال: وأقم الصلاة لذكري فإن فيها أنواعاً أربعة من الخدمة، القيام والقراءة والركوع والسجود فإذا أتيت بالصلاة فقد قابلت كل نعمة بخدمة، ثم إنه تعالى لما أعطاه الخلعة الخامسة وهي خلعة الرسالة قال: { رَبِّ ٱشْرَحْ لِي صَدْرِي } حتى أعرف أني بأي خدمة أقابل هذه النعمة فقيل له بأن تجتهد في أداء هذه الرسالة على الوجه المطلوب فقال موسى: يا رب إن هذا لا يتأتى مني مع عجزي وضعفي وقلة آلاتي وقوة خصمي فاشرح لي صدري ويسر لي أمري. الفصل الثاني: في قوله: { رَبِّ ٱشْرَحْ لِي صَدْرِي } اعلم أن الدعاء سبب القرب من الله تعالى وإنما اشتغل موسى بهذا الدعاء طلباً للقرب فنفتقر إلى بيان أمرين إلى بيان أن الدعاء سبب القرب ثم إلى بيان أن موسى عليه السلام طلب القرب بهذا الدعاء، أما بيان أن الدعاء سبب القرب فيدل عليه وجوه. الأول: أن الله تعالى ذكر السؤال والجواب في كتابه في عدة مواضع منها أصولية ومنها فروعية، أما الأصولية فأولها في البقرة: { { يَسْـئَلُونَكَ عَنِ ٱلأَهِلَّةِ قُلْ هِىَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَٱلْحَجّ } [البقرة: 189]. وثانيها: في بني إسرائيل { { وَيَسْـئَلُونَكَ عَنِ ٱلرُّوحِ قُلِ ٱلرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبّى } [الإسراء:85]. وثالثها: { { وَيَسْـئَلُونَكَ عَنِ ٱلْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبّى نَسْفاً } [طه: 105]. ورابعها: { { يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلسَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَـٰهَا } [النازعات: 42] وأما الفروعية فستة منها في البقرة على التوالي. أحدها: { { يَسْـئَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مّنْ خَيْرٍ فَلِلْوٰلِدَيْنِ وَٱلأَقْرَبِينَ } [البقرة: 215] وثانيها: { { يَسْـئَلُونَكَ عَنِ ٱلشَّهْرِ ٱلْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ } [البقرة: 217]. وثالثها: { { يَسْـئَلُونَكَ عَنِ ٱلْخَمْرِ وَٱلْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ } [البقرة: 219]. ورابعها: { { ويسـئَلونك ماذا ينفقون قل العفو } [البقرة: 219]. وخامسها: { { وَيَسْـئَلُونَكَ عَنِ ٱلْيَتَـٰمَىٰ قُلْ إصلاحٌ لهم خير } [البقرة: 220]. وسادسها: { { وَيَسْـئَلُونَكَ عَنِ ٱلْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى } [البقرة: 222]. وسابعها: { { يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلأَنفَالِ قُلِ ٱلأَنفَالُ لِلَّهِ وَٱلرَّسُولِ } [الأنفال: 1]. وثامنها: { { وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِى ٱلْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُواْ عَلَيْكُم مّنْهُ ذِكْراً } [الكهف: 83]. وتاسعها: { { وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِى وَرَبّى إِنَّهُ لَحَقٌّ } [يونس: 53]. وعاشرها: { { يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ ٱللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِى ٱلْكَلَـٰلَةِ } [النساء: 176]. والحادية عشر: { { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ } [البقرة: 186] إذا عرفت هذا فنقول جاءت هذه الأسئلة والأجوبة على صور مختلفة، فالأغلب فيها أنه سبحانه وتعالى لما ذكر السؤال قال لمحمد صلى الله عليه وسلم قل وفي صورة أخرى جاء الجواب بصيغة فقل مع فاء التعقيب وفي صورة ثالثة ذكر السؤال ولم يذكر الجواب، وهو قوله تعالى: { { يَسْـئَلُونَكَ عَنِ ٱلسَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَـٰهَا } [الأعراف: 187] وفي صورة رابعة ذكر الجواب ولم يذكر فيه لفظ قل ولا لفظ فقل وهو قوله تعالى: { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ } ولا بد لهذه الأشياء من الفائدة فنقول: أما الأجوبة الواردة بلفظ قل فلا إشكال فيها لأن قوله تعالى قل كالتوقيع المحدد في ثبوت نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وكالتشريف المحدد في كونه مخاطباً من الله تعالى بأداء الوحي والتبليغ. وأما الصورة الثانية وهي قوله: { { فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبّى نَسْفاً } [طه: 105] فالسبب أن قولهم: { { وَيَسْـئَلُونَكَ عَنِ ٱلْجِبَالِ } [طه: 105] سؤال إما عن قدمها أو عن وجوب بقائها وهذه المسألة من أمهات مسائل أصول الدين فلا جرم أمر الله تعالى محمداً صلى الله عليه وسلم أن يجيب بلفظ الفاء المفيد للتعقيب كأنه سبحانه قال يا محمد أجب عن هذا السؤال في الحال ولا تقتصر فإن الشك فيه كفر ولا تمهل هذا الأمر لئلا يقعوا في الشك والشبهة، ثم كيفية الجواب أنه قال: { فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبّى نَسْفاً } ولا شك أن النسف ممكن لأنه ممكن في حق كل جزء من أجزاء الجبل والحس يدل عليه فوجب أن يكون ممكناً في حق كل الجبل وذلك يدل على أنه ليس بقديم ولا واجب الوجود لأن القديم لا يجوز عليه التغير والنسف، فإن قيل: إنهم قالوا: أخبرنا عن إلهك أهو ذهب أو فضة أو حديد فقال: { { قُلْ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ } [الإخلاص: 1] ولم يقل فقل هو الله أحد مع أن هذه المسألة من المهمات قلنا إنه تعالى لم يحك في هذا الموضع سؤالهم وحرف الفاء من الحروف العاطفة فيستدعي سبق كلام فلما لم يوجد ترك الفاء بخلاف ههنا فإنه تعالى حكى سؤالهم فحسن عطف الجواب عليه بحرف الفاء. وأما الصورة الثالثة: فإنه تعالى لم يذكر الجواب في قوله: { يَسْـئَلُونَكَ عَنِ ٱلسَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَـٰهَا } فالحكمة فيه أن معرفة وقت الساعة على التعيين مشتملة على المفاسد التي شرحناها فيما سبق فلهذا لم يذكر الله تعالى ذلك الجواب وذلك يدل على أن من الأسئلة ما لا يجاب عنها. وأما الصورة الرابعة: وهي قوله: { فَإِنّي قَرِيبٌ } ولم يذكر في جوابه قل ففيه وجوه. أحدها: أن ذلك يدل على تعظيم حال الدعاء وأنه من أعظم العبادات فكأنه سبحانه قال: يا عبادي أنت إنما تحتاج إلى الواسطة في غير الدعاء أما في مقام الدعاء فلا واسطة بيني وبينك يدل عليه أن كل قصة وقعت لم تكن معرفتها من المهمات. قال لرسوله صلى الله عليه وسلم: اذكر لهم تلك القصة كقوله تعالى: { { وَٱتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ٱبْنَىْ ءَادَمَ بِٱلْحَقّ } [المائدة: 27]. { { وَٱتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ٱلَّذِى ءاتَيْنَـٰهُ ءايَـٰتِنَا فَٱنْسَلَخَ مِنْهَا } [الأعراف: 175]. { { وَٱذْكُرْ فِى ٱلْكِتَـٰبِ مُوسَىٰ } [مريم: 51]، { { وَٱذْكُرْ فِى ٱلْكِتَـٰبِ إِسْمَـٰعِيلَ } [مريم: 54]. { { وَٱذْكُرْ فِى ٱلْكِتَـٰبِ إِدْرِيسَ } [مريم: 56]. { { وَنَبّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ } [الحجر: 51]، ثم قال في قصة يوسف: { { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ ٱلْقَصَصِ } [يوسف: 3] وفي أصحاب الكهف: { { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نبَأَهُم بِٱلْحَقّ } [الكهف: 13]. وما ذاك إلا لما في هاتين القصتين من العجائب والغرائب، والحاصل كأنه سبحانه وتعالى قال: يا محمد إذا سئلت عن غيري فكن أنت المجيب، وإذا سئلت عني فاسكت أنت حتى أكون أنا القائل. وثانيها: أن قوله: { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي } يدل على أن العبد له [أن يسأل] وقوله: { فَإِنّي قَرِيبٌ } يدل على أن الرب قريب من العبد. وثالثها: لم يقل فالعبد مني قريب، بل قال أنا منه قريب، وهذا فيه سر نفيس فإن العبد ممكن الوجود فهو من حيث هو، هو في مركز العدم وحضيض الفناء، فكيف يكون قريباً، بل القريب هو الحق سبحانه وتعالى فإنه بفضله وإحسانه جعله موجوداً وقربه من نفسه فالقرب منه لا من العبد فلهذا قال: { فَإِنّي قَرِيبٌ }. ورابعها: أن الداعي ما دام يبقى خاطره مشغولاً بغير الله تعالى فإنه لا يكون داعياً لله تعالى فإذا فنى عن الكل وصار مستغرقاً بمعرفة الله الأحد الحق امتنع أن يبقى في مقام الفناء عن غير الله مع الالتفات إلى غير الله تعالى فلا جرم رفعت الواسطة من البين فما قال: فقل إني قريب بل قال: { فَإِنّي قَرِيبٌ } فثبت بما تقرر فضل الدعاء وأنه من أعظم القربات ثم من شأن العبد إذا أراد أن يتحف مولاه أن لا يتحفه إلا بأحسن التحف والهدايا فلا جرم أول ما أراد موسى أن يتحف الحضرة الإلهية بتحف الطاعات والعبادات أتحفها بالدعاء فلا جرم قال: { رَبِّ ٱشْرَحْ لِي صَدْرِي }. والوجه الثاني: في بيان فضل الدعاء قوله عليه السلام: " الدعاء مخ العبادة " ثم إن أول شيء أمر الله تعالى به موسى عليه السلام (العبادة) لأن قوله: { { إِنَّنِى أَنَا ٱللَّهُ } [طه: 14] إخبار وليس بأمر إنما الأمر قوله: { { فَٱعْبُدْنِى } [طه: 14] فلما كان أول ما أورد على موسى من الأوامر هو الأمر بالعبادة لا جرم أول ما أتحف به موسى عليه السلام حضرة الربوبية من تحف العبادة هو تحفة الدعاء فقال: { رَبّ ٱشْرَحْ لِى صَدْرِى }. والوجه الثالث: وهو أن الدعاء نوع من أنواع العبادة فكما أنه سبحانه وتعالى أمر بالصلاة والصوم فكذلك أمر بالدعاء ويدل عليه قوله تعالى: { { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ } [البقرة: 186]. { { وَقَالَ رَبُّكُـمْ ٱدْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ } [غافر: 60]. { { وَٱدْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا } [الأعراف: 56]. { { ٱدْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً } [الأعراف: 55]. { { هُوَ ٱلْحَىُّ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ فَـٱدْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدّينَ } [غافر: 65]. { { قُلِ ٱدْعُواْ ٱللَّهَ أَوِ ٱدْعُواْ ٱلرَّحْمَـٰنَ } [الإسراء: 110]. { { وَٱذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً } [الأعراف: 205] وقال صلى الله عليه وسلم: " ادعوا بياذا الجلال والإكرام " فبهذه الآيات عرفنا أن الدعاء عبادة قال بعض الجهال: الدعاء على خلاف العقل من وجوه: أحدها: أنه علام الغيوب يعلم ما في الأنفس وما تخفي الصدور، فأي حاجة بنا إلى الدعاء. وثانيها: أن المطلوب إن كان معلوم الوقوع فلا حاجة إلى الدعاء وإن كان معلوم اللاوقوع فلا فائدة فيه. وثالثها: الدعاء يشبه الأمر والنهي وذلك من العبد في حق المولى سوء أدب. ورابعها: المطلوب بالدعاء إن كان من المصالح فالحكيم لا يهمله وإن لم يكن من المصالح لم يجز طلبه. وخامسها: فقد جاء أن أعظم مقامات الصديقين الرضا بقضاء الله تعالى. وقد ندب إليه والدعاء ينافي ذلك لأنه اشتغال بالالتماس والطلب. وسادسها: قال عليه السلام رواية عن الله تعالى: " من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطى السائلين " فدل على أن الأولى ترك الدعاء والآيات التي ذكرتموها تقتضي وجوب الدعاء. وسابعها: أن إبراهيم عليه السلام لما ترك الدعاء واكتفى بقوله: " حسبي من سؤالي علمه بحالي " استحق المدح العظيم فدل على أن الأولى ترك الدعاء. والجواب عن الأول أنه ليس الغرض من الدعاء الإعلام بل هو نوع تضرع كسائر التضرعات. وعن الثاني: أنه يجري مجرى أن نقول للجائع والعطشان إن كان الشبع معلوم الوقوع فلا حاجة إلى الأكل والشرب وإن كان معلوم اللاوقوع فلا فائدة فيه. وعن الثالث: أن الصيغة وإن كانت صيغة الأمر إلا أن صورة التضرع والخشوع تصرفه عن ذلك. وعن الرابع: يجوز أن يصير مصلحة بشرط سبق الدعاء. وعن الخامس: أنه إذا دعا إظهاراً للتضرع ثم رضي بما قدره الله تعالى فذاك أعظم المقامات وهو الجواب عن البقية إذا ثبت أنه من العبادات، ثم إنه تعالى أمره بالعبادة وبالصلاة أمراً ورد مجملاً لا جرم شرع في أجل العبادات وهو الدعاء. الوجه الرابع: في فضل الدعاء أنه سبحانه لم يقتصر في بيان فضل الدعاء على الأمر به بل بين في آية أخرى أنه يغضب إذا لم يسأل فقال: { { فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَـٰكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ ٱلشَّيْطَـٰنُ مَا كَانُواّ يَعْمَلُونَ } [الأنعام: 43] وقال عليه السلام: " لا يقولون أحدكم اللهم اغفر لي إن شئت ولكن يجزم فيقول: اللهم اغفر لي" فلهذا السر جزم موسى عليه السلام بالدعاء وقال رب اشرح لي صدري. الوجه الخامس: في فضل الدعاء قوله تعالى: { { وَقَالَ رَبُّكُـمْ ٱدْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ } [غافر: 60] وفيه كرامة عظيمة لأمتنا لأن بني إسرائيل فضلهم الله تفضيلاً عظيماً فقال في حقهم: { { وَأَنّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى ٱلْعَـٰلَمِينَ } [البقرة: 47] وقال أيضاً: { { وآتاكم ما لم يؤت أحداً من العالمين } [المائدة: 20] ثم مع هذه الدرجة العظيمة قالوا لموسى عليه السلام: { { ٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيّنَ لَّنَا مَا هِىَ } [البقرة: 68] وأن الحواريين مع جلالتهم في قولهم: { { نَحْنُ أَنْصَارُ ٱللَّهِ } [آل عمران: 52] سألوا عيسى عليه السلام أن يسأل لهم مائدة تنزل من السماء ثم إنه سبحانه وتعالى رفع هذه الواسطة في أمتنا فقال مخاطباً لهم من غير واسطة: { { ٱدْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ } [غافر:60] وقال: { { وَٱسْأَلُواْ ٱللَّهَ مِن فَضْلِهِ } [النساء: 32] فلهذا السبب لما حصلت هذه الفضيلة لهذه الأمة وكان موسى عليه السلام قد عرفها لا جرم فقال: «اللهم اجعلني من أمة محمد صلى الله عليه وسلم» فلا جرم رفع يديه ابتداء فقال: { رَبِّ ٱشْرَحْ لِي صَدْرِي } واعلم أنه تعالى قال: { { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ } [البقرة: 186] ثم إنه تعالى جعل العباد على سبعة أقسام: أحدها: عبد العصمة: { { إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَـٰنٌ } [الحجر: 42] وموسى عليه السلام كان مخصوصاً بمزيد العصمة: { { وَٱصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي } [طه: 41] فلا جرم طلب زوائد العصمة فقال: { رَبِّ ٱشْرَحْ لِى صَدْرِى }. وثانيها: عبد الصفوة: { { وَسَلَـٰمٌ عَلَىٰ عِبَادِهِ ٱلَّذِينَ ٱصْطَفَى } [النمل: 59] وموسى عليه السلام كان مخصوصاً بمزيد الصفوة: { { يٰمُوسَىٰ إِنْى ٱصْطَفَيْتُكَ عَلَى ٱلنَّاسِ بِرِسَـٰلَـٰتِي وَبِكَلَـٰمِي } [الأعراف: 144] فلا جرم أراد مزيد الصفوة فقال: { رَبِّ ٱشْرَحْ لِي صَدْرِي }. وثالثها: عبد البشارة: { { فَبَشّرْ عِبَادِى * ٱلَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ ٱلْقَوْلَ فَيَـتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ } [الزمر: 17، 18] وكان موسى عليه السلام مخصوصاً بذلك: { { وَأَنَا ٱخْتَرْتُكَ فَٱسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى } [طه: 13] فأراد مزيد البشارة فقال: { رَبِّ ٱشْرَحْ لِي صَدْرِي }. ورابعها: عبد الكرامة: { { يٰعِبَادِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمُ } [الزخرف: 68] وموسى عليه السلام كان مخصوصاً بذلك: { { لاَ تَخَافَا إِنَّنِى مَعَكُمَا } [طه: 46] فأراد الزيادة عليها فقال: { رَبِّ ٱشْرَحْ لِي صَدْرِي }. وخامسها: عبد المغفرة: { { نَبّىء عِبَادِى أَنّى أَنَا ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ } [الحجر: 49]، وكان موسى عليه السلام مخصوصاً بذلك: { { رَبِّ ٱغْفِرْ لِي } [ص: 35] فغفر له فأراد الزيادة فقال: { رَبِّ ٱشْرَحْ لِي صَدْرِي }. وسادسها: عبد الخدمة: { { ٱعْبُدُواْ رَبَّكُمُ } [البقرة: 21] وموسى عليه السلام كان مخصوصاً بذلك: { وَٱصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي } فطلب الزيادة فيها فقال: { ٱشْرَحْ لِي صَدْرِي }. وسابعها: عبد القربة: { { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ ٱلدَّاعِ إِذَا دَعَانِ } [البقرة: 186] وموسى عليه السلام كان مخصوصاً بالقرب: { { وَنَـٰدَيْنَـٰهُ مِن جَانِبِ ٱلطُّورِ ٱلأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً } [مريم: 52] فأراد كمال القرب فقال: { رَبِّ ٱشْرَحْ لِي صَدْرِي }. الفصل الثالث: في قوله: { رَبِّ ٱشْرَحْ لِي صَدْرِي } وفيه وجوه: أحدها: أنه تعالى لما خاطبه بالأشياء الستة [التي] أحدها: معرفة التوحيد:
{ { إِنَّنِى أَنَا ٱللَّهُ لا إِلَـٰهَ إِلا أَنَاْ } [طه: 14]، وثانيها: أمره بالعبادة والصلاة: { { فاعبدني وأقم الصلاة لذكري } [طه: 14]، وثالثها: معرفة الآخرة: { { إِنَّ ٱلسَّاعَةَ ءَاتِيَةٌ } [طه: 15] ورابعها: حكمة أفعاله في الدنيا: { { وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يٰمُوسَىٰ } [طه: 17]، وخامسها: عرض المعجزات الباهرة عليه: { { لِنُرِيَكَ مِنْ ءَايَـٰتِنَا ٱلْكُبْرَىٰ } [طه: 23]، وسادسها: إرساله إلى أعظم الناس كفراً وعتواً فكانت هذه التكاليف الشاقة سبباً للقهر فأراد موسى عليه السلام جبر هذا القهر بالمعجز فعرفه أن كل من سأله قرب منه فقال: { رَبِّ ٱشْرَحْ لِي صَدْرِي } فأراد جبر القهر الحاصل من هذه التكاليف بالقرب منه فقال: { رَبِّ ٱشْرَحْ لِي صَدْرِي } أو يقال خاف شياطين الإنس والجن فدعا ليصل بسبب الدعاء إلى مقام القرب فيصير مأموناً من غوائل شياطين الجن والإنس. وثانيها: أن المراد أنه أراد الذهاب إلى فرعون وقومه فأراد أن يقطع طمع الخلق عن نفسه بالكلية فعرف أن من دعا ربه قربه له وقربه لديه فحينئذ تنقطع الأطماع بالكلية فقال: { رَبِّ ٱشْرَحْ لِي صَدْرِي }. وثالثها: الوجود كالنور والعدم كالظلمة وكل ما سوى الله تعالى فهو عدم محض فكل شيء هالك إلا وجهه فالكل كأنهم في ظلمات العدم وإظلال عالم الأجسام والإمكان فقال: { رَبِّ ٱشْرَحْ لِي صَدْرِي } حتى يجلس قلبي في بهي ضوء المعرفة وسادة شرح الصدر والجالس في الضوء لا يرى من كان جالساً في الظلمة فحين جلس في ضوء شرح الصدر لا يرى أحداً في الوجود فلهذا عقبه بقوله: { وَيَسّرْ لِي أَمْرِي } فإن العبد في مقام الاستغراق لا يتفرغ لشيء من المهمات. ورابعها: رب اشرح لي صدري فإن عين العين ضعيفة فأطلع يا إلهي شمس التوفيق حتى أرى كل شيء كما هو، وهذا في معنى قول محمد صلى الله عليه وسلم: " أرنا الأشياء كما هي " واعلم أن شرح الصدر مقدمة لسطوع الأنوار الإلهية في القلب والاستماع مقدمة الفهم الحاصل من سماع الكلام فالله تعالى أعطى موسى عليه السلام المقدمة الثانية وهي فاستمع لما يوحى فلا جرم نسج موسى على ذلك المنوال فطلب المقدمة الأخرى فقال: { رَبِّ ٱشْرَحْ لِي صَدْرِي } ولما آل الأمر إلى محمد صلى الله عليه وسلم قيل له: { { وَقُل رَّبّ زِدْنِى عِلْماً } [طه: 114] والعلم هو المقصود، فلما كان موسى عليه السلام كالمقدمة لمقدم محمد صلى الله عليه وسلم لا جرم أعطى المقدمة، ولما كان محمد كالمقصود لا جرم أعطى المقصود فسبحانه ما أدق حكمته في كل شيء. وسادسها: الداعي له صفتان: إحداهما: أن يكون عبداً للرب: { { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ } [البقرة: 186]. وثانيتهما: أن يكون الرب له: { { وَقَالَ رَبُّكُـمْ ٱدْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ } [غافر: 60] أضاف نفسه إلينا وما أضافنا إلى نفسه والمشتغل بالدعاء قد صار كاملاً من هذين الوجهين فأراد موسى عليه السلام أن يرتع في هذا البستان فقال: { رَبِّ ٱشْرَحْ لِي صَدْرِي }. وسابعها: أن موسى عليه السلام شرفه الله تعالى بقوله: { { وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً } [مريم: 52] فكأن موسى عليه السلام قال إلهي لما قلت: { وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً } صرت قريباً منك ولكن أريد قربك مني فقال يا موسى أما سمعت قولي: { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ } فأشتغل بالدعاء حتى أصير قريباً منك فعند ذلك: { قَالَ رَبِّ ٱشْرَحْ لِي صَدْرِي }. وثامنها: قال موسى عليه السلام: { رَبِّ ٱشْرَحْ لِي صَدْرِي } وقال لمحمد صلى الله عليه وسلم: { { أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ } [الشرح: 1] ثم إنه تعالى ما تركه على هذه الحالة بل قال: { { وَسِرَاجاً مُّنِيراً } [الأحزاب: 46] فانظر إلى التفاوت فإن شرح الصدر هو أن يصير الصدر قابلاً للنور والسراج المنير هو أن يعطي النور فالتفاوت بين موسى عليه السلام ومحمد صلى الله عليه وسلم كالتفاوت بين الآخذ والمعطي ثم نقول إلهنا إن ديننا وهي كلمة لا إله إلا الله نور، والوضوء نور، والصلاة نور، والقبر نور، والجنة نور، فبحق أنوارك التي أعطيتنا في الدنيا لا تحرمنا أنوار فضلك وإحسانك يوم القيامة. الفصل الرابع: في قوله: { رَبِّ ٱشْرَحْ لِي صَدْرِي } سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شرح الصدر فقال: نور يقذف في القلب، فقيل: وما أمارته فقال: التجافي عن دار الغرور والإنابة إلى دار الخلود والاستعداد للموت قبل النزول، ويدل على أن شرح الصدر عبارة عن النور قوله تعالى: { { أَفَمَن شَرَحَ ٱللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلَـٰمِ فَهُوَ عَلَىٰ نُورٍ مّن رَّبّهِ } [الزمر: 22] واعلم أن الله تعالى ذكر عشرة أشياء ووصفها بالنور، أحدها: وصف ذاته بالنور: { { ٱللَّهُ نُورُ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ } [النور: 35]. وثانيها: الرسول: { { قَدْ جَاءكُمْ مّنَ ٱللَّهِ نُورٌ وَكِتَـٰبٌ مُّبِينٌ } [المائدة: 15]. وثالثها: القرآن: { { وَٱتَّبَعُواْ ٱلنُّورَ ٱلَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ } [الأعراف: 157]. ورابعها: الإيمان: { { يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ ٱللَّهِ بِأَفْوٰهِهِمْ } [التوبة: 32]. وخامسها: عدل الله: { { وَأَشْرَقَتِ ٱلأَرْضُ بِنُورِ رَبّهَا } [الزمر: 69]. وسادسها: ضياء القمر: { { وَجَعَلَ ٱلْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً } [نوح: 16]، وسابعها: النهار: { { وَجَعَلَ ٱلظُّلُمَـٰتِ وَٱلنُّورَ } [الأنعام: 1]. وثامنها: البينات: { { إِنَّا أَنزَلْنَا ٱلتَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ } [المائدة: 44]. وتاسعها: الأنبياء: { { نُّورٌ عَلَىٰ نُورٍ } [النور: 35]. وعاشرها: المعرفة: { { مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ } [النور: 35] إذا ثبت هذا فنقول كأن موسى عليه السلام قال: { رَبِّ ٱشْرَحْ لِي صَدْرِي } بمعرفة أنوار جلالك وكبريائك. وثانيها: رب اشرح لي صدري، بالتخلق بأخلاق رسلك وأنبيائك. وثالثها: رب اشرح لي صدري، باتباع وحيك وامتثال أمرك ونهيك. ورابعها: رب اشرح لي صدري، بنور الإيمان والإيقان بإلهيتك. وخامسها: رب اشرح صدري بالإطلاع على أسرار عدلك في قضائك وحكمك. وسادسها: رب اشرح لي صدري بالإنتقال من نور شمسك وقمرك إلى أنوار جلال عزتك كما فعله إبراهيم عليه السلام حيث انتقل من الكوكب والقمر والشمس إلى حضرة العزة. وسابعها: رب اشرح لي صدري من مطالعة نهارك وليلك إلى مطالعة نهار فضلك وليل عدلك. وثامنها: رب اشرح لي صدري بالإطلاع على مجامع آياتك ومعاقد بيناتك في أرضك وسمواتك. وتاسعها: رب اشرح لي صدري في أن أكون خلف صور الأنبياء المتقدمين ومتشبهاً بهم في الإنقياد لحكم رب العالمين. وعاشرها: رب اشرح لي صدري بأن تجعل سراج الإيمان في قلبي كالمشكاة التي فيها المصباح، واعلم أن شرح الصدر عبارة عن إيقاد النور في القلب حتى يصير القلب كالسراج وذلك النور كالنار، ومعلوم أن من أراد أن يستوقد سراجاً احتاج إلى سبعة أشياء: زند وحجر وحراق وكبريت ومسرجة وفتيلة ودهن. فالعبد إذا طلب النور الذي هو شرح الصدر افتقر إلى هذه السبعة. فأولها: لا بد من زند المجاهدة: { { وَٱلَّذِينَ جَـٰهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } [العنكبوت: 69]. وثانيها: حجر التضرع: { { ٱدْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً } [الأعراف: 55]. وثالثها: حراق منع الهوى: { { وَنَهَى ٱلنَّفْسَ عَنِ ٱلْهَوَىٰ } [النازعات: 40]. ورابعها: كبريت الإنابة: { { وَأَنِـيبُواْ إِلَىٰ رَبّكُمْ } [الزمر: 54] ملطخاً رؤوس تلك الخشبات بكبريت توبوا إلى الله. وخامسها: مسرجة الصبر: { { وَٱسْتَعِينُواْ بِٱلصَّبْرِ وَٱلصَّلَوٰةِ } [البقرة: 45]. وسادسها: فتيلة الشكر: { { لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ } [إبراهيم: 7]. وسابعها: دهن الرضا: { { وَٱصْبِرْ لِحُكْمِ رَبّكَ } [الطور: 48] أي ارض بقضاء ربك فإذا صلحت هذه الأدوات فلا تعول عليها بل ينبغي أن لا تطلب المقصود إلا من حضرته: { { مَّا يَفْتَحِ ٱللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا } [فاطر: 2] ثم اطلبها بالخشوع والخضوع: { { وَخَشَعَتِ ٱلأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَـٰنِ فَلاَ تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً } [طه: 108] فعند ذلك ترفع يد التضرع وتقول: { رَبِّ ٱشْرَحْ لِي صَدْرِي } فهنالك تسمع؛ { { قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يٰمُوسَىٰ } [طه: 36] ثم نقول هذا النور الروحاني المسمى بشرح الصدر أفضل من الشمس الجسمانية لوجوه: أحدها: الشمس تحجبها غمامة وشمس المعرفة لا يحجبها السموات السبع: { { إِلَيْهِ يَصْعَدُ ٱلْكَلِمُ ٱلطَّيّبُ } [فاطر: 10]. وثانيها: الشمس تغيب ليلاً وتعود نهاراً قال إبراهيم عليه السلام: { { لا أُحِبُّ ٱلأَفِلِينَ } [الأنعام: 76] أما شمس المعرفة فلا تغيب ليلاً: { { إِنَّ نَاشِئَةَ ٱلَّيْلِ هِىَ أَشَدُّ وطئاً } [المزمل: 6] { { وَٱلْمُسْتَغْفِرِينَ بِٱلأَسْحَارِ } [آل عمران: 17] بل أكمل الخلع الروحانية تحصل في الليل: { { سُبْحَانَ ٱلَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلاً } [الإسراء: 1]. وثالثها: الشمس تفنى: { { إِذَا ٱلشَّمْسُ كُوّرَتْ } [التكوير: 1] وشمس المعرفة لا تفنى: { { سَلاَمٌ قَوْلاً مّن رَّبّ رَّحِيمٍ } [يس: 58]. ورابعها: الشمس إذا قابلها القمر انكسفت أما ههنا فشمس المعرفة وهي معرفة أشهد أن لا إله إلا الله ما لم يقابلها قمر أشهد أن محمداً رسول الله لم يصل نوره إلى عالم الجوارح. وخامسها: الشمس تسود الوجوه والمعرفة تبيضها: { { يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ } [آل عمران: 106]. وسادسها: الشمس تحرق والمعرفة تنجي من الحرق، جزياً مؤمن فإن نورك قد أطفأ لهبي. وسابعها: الشمس تصدع والمعرفة تصعد: { { إِلَيْهِ يَصْعَدُ ٱلْكَلِمُ ٱلطَّيّبُ } [فاطر: 10]. وثامنها: الشمس منفعتها في الدنيا والمعرفة منفعتها في العقبى: { { وَٱلْبَـٰقِيَاتُ ٱلصَّـٰلِحَاتُ خَيْرٌ } [الكهف: 46]. وتاسعها: الشمس في السماء زينة لأهل الأرض والمعرفة في الأرض زينة لأهل السماء. وعاشرها: الشمس فوقاني الصورة تحتاني المعنى وذلك يدل على الحسد مع التكبر، والمعارف الإلهية تحتانية الصورة فوقانية المعنى، وذلك يدل على التواضع مع الشرف. وحادي عشرها: الشمس تعرف أحوال الخلق وبالمعرفة يصل القلب إلى الخالق. وثاني عشرها: الشمس تقع على الولي والعدو والمعرفة لا تحصل إلا للولي فلما كانت المعرفة موصوفة بهذه الصفات النفيسة لا جرم قال موسى: { رَبِّ ٱشْرَحْ لِي صَدْرِي } وأما النكت: فإحداها: الشمس سراج استوقدها الله تعالى للفناء: { { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ } [الرحمن: 26] والمعرفة استوقدها للبقاء فالذي خلقها للفناء لو قرب الشيطان منها لاحترق: { { شِهَاباً رَّصَداً } [الجن: 9] والمعرفة التي خلقها للبقاء كيف يقرب منها الشيطان: { رَبِّ ٱشْرَحْ لِي صَدْرِي }. وثانيتها: استوقد الله الشمس في السماء وإنها تزيل الظلمة عن بيتك مع بعدها عن بيتك، وأوقد شمس المعرفة في قلبك أفلا تزيل ظلمة المعصية والكفر عن قلبك مع قربها منك. وثالثتها: من استوقد سراجاً فإنه لا يزال يتعهده ويمده والله تعالى هو الموقد لسراج المعرفة: { { وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ ٱلإيمَـٰنَ } [الحجرات: 7] أفلا يمده وهو معنى قوله: { رَبِّ ٱشْرَحْ لِي صَدْرِي }. ورابعتها: اللص إذا رأى السراج يوقد في البيت لا يقرب منه والله قد أوقد سراج المعرفة في قلبك فكيف يقرب الشيطان منه فلهذا قال: { رَبِّ ٱشْرَحْ لِي صَدْرِي }. وخامستها: المجوس أوقدوا ناراً فلا يريدون إطفاءها والملك القدوس أوقد سراج الإيمان في قلبك فكيف يرضى بإطفائه، واعلم أنه سبحانه وتعالى أعطى قلب المؤمن تسع كرامات، أحدها: الحياة: { { أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَـٰهُ } [الأنعام: 122] فلما رغب موسى عليه السلام في الحياة الروحانية قال: { رَبِّ ٱشْرَحْ لِي صَدْرِي } ثم النكتة أنه عليه السلام قال من أحيا أرضاً ميتة فهي له فالعبد لما أحيا أرضاً فهي له فالرب لما خلق القلب وأحياه بنور الإيمان فكيف يجوز أن يكون لغيره فيه نصيب: { { قُلِ ٱللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ } [الأنعام: 91] وكما أن الإيمان حياة القلب بالكفر موته: { { أَمْوٰتٌ غَيْرُ أَحْيَاء وَمَا يَشْعُرُونَ } [النحل: 21]. وثانيها: الشفاء: { { وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ } [التوبة: 14] فلما رغب موسى في الشفاء رفع الأيدي قال: { رَبِّ ٱشْرَحْ لِي صَدْرِي } والنكتة أنه تعالى لما جعل الشفاء في العسل بقي شفاء أبداً فههنا لما وضع الشفاء في الصدر فكيف لا يبقى شفاء أبداً. وثالثها: الطهارة: { { أُوْلَـئِكَ ٱلَّذِينَ ٱمْتَحَنَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَىٰ } [الحجرات: 3] فلما رغب موسى عليه السلام في تحصيل طهارة التقوى قال: { رَبِّ ٱشْرَحْ لِي صَدْرِي } والنكتة أن الصائغ إذا امتحن الذهب مرة فبعد ذلك لا يدخله في النار فههنا لما امتحن الله قلب المؤمن فكيف يدخله النار ثانياً ولكن الله يدخل في النار قلب الكافر: { { لِيَمِيزَ ٱللَّهُ ٱلْخَبِيثَ مِنَ ٱلطَّيّبِ } [الأنفال: 37]. ورابعها: الهداية ومن يؤمن بالله يهد قلبه فرغب موسى عليه السلام في طلب زوائد الهداية فقال: { رَبِّ ٱشْرَحْ لِي صَدْرِي } والنكتة أن الرسول يهدي نفسك والقرآن يهدي روحك والمولى يهدي قلبك فلما كانت الهداية من الكفر من محمد صلى الله عليه وسلم لا جرم تارة تحصل وأخرى لا تحصل: { { إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء } [القصص: 56] وهداية الروح لما كانت من القرآن فتارة تحصل وأخرى لا تحصل: { { يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا } [البقرة: 26] أما هداية القلب فلما كانت من الله تعالى فإنها لا تزول لأن الهادي لا يزول: { { وَيَهْدِي مَن يَشَاء إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [يونس: 25]. وخامسها: الكتابة: { { أُوْلَـئِكَ كَتَبَ فِى قُلُوبِهِمُ ٱلإيمَـٰنَ } [المجادلة: 22] فلما رغب موسى عليه السلام في تلك الكتابة قال: { رَبِّ ٱشْرَحْ لِي صَدْرِي } وفيه نكت: الأولى: أن الكاغدة ليس لها خطر عظيم وإذا كتب فيها القرآن لم يجز إحراقها فقلب المؤمن كتب فيه جميع أحكام ذات الله تعالى وصفاته فكيف يليق بالكريم إحراقه. الثانية: بشر الحافي أكرم كاغداً فيه اسم الله تعالى فنال سعادة الدارين فإكرام قلب فيه معرفة الله تعالى أولى بذلك. والثالثة: كاغد ليس فيه خط إذا كتب فيه اسم الله الأعظم عظم قدره حتى أنه لا يجوز للجنب والحائض أن يمسه بل قال الشافعيرحمه الله تعالى ليس له أن يمس جلد المصحف، وقال الله تعالى: { { لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ ٱلْمُطَهَّرُونَ } [الواقعة: 79] فالقلب الذي فيه أكرم المخلوقات: { { وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي ءَادَمَ } [الإسراء: 70] كيف يجوز للشيطان الخبيث أن يمسه والله أعلم. وسادسها: السكينة: { { هُوَ ٱلَّذِى أَنزَلَ ٱلسَّكِينَةَ فِى قُلُوبِ ٱلْمُؤْمِنِينَ } [الفتح: 4] فلما رغب موسى عليه السلام في طلب السكينة قال: { رَبِّ ٱشْرَحْ لِي صَدْرِي } والنكتة أن أبا بكر رضي الله عنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان خائفاً فلما نزلت السكينة عليه قال: لا تحزن فلما نزلت سكينة الإيمان فرجوا أن يسمعوا خطاب: { { أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ } [فصلت: 30] وأيضاً لما نزلت السكينة صار من الخلفاء: { { وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى ٱلأَرْضِ } [النور: 55] أي أن يصيروا خلفاء الله في أرضه. وسابعها: المحبة والزينة: { { وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ ٱلإيمَـٰنَ وَزِينَه فِي قُلُوبِكُمْ } [الحجرات: 7] والنكتة أن من ألقى حبة في أرض فإنه لا يفسدها ولا يحرقها فهو سبحانه وتعالى ألقى حبة المحبة في أرض القلب فكيف يحرقها. وثامنها: { { وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبُكُمْ } [الأنفال: 63] والنكتة أن محمداً صلى الله عليه وسلم ألف بين قلوب أصحابه ثم إنه ما تركهم [في] غيبة ولا حضور: " سلام علينا وعلى عباد الله الصالحين " فالرحيم كيف يتركهم. وتاسعها: الطمأنينة: { { أَلاَ بِذِكْرِ ٱللَّهِ تَطْمَئِنُّ ٱلْقُلُوبُ } [الرعد: 28] وموسى طلب الطمأنينة فقال: { رَبِّ ٱشْرَحْ لِي صَدْرِي } والنكتة أن حاجة العبد لا نهاية لها فلهذا لو أعطى كل ما في العالم من الأجسام فإنه لا يكفيه لأن حاجته غير متناهية والأجسام متناهية والمتناهي لا يصير مقابلاً لغير المتناهي بل الذي يكفي في الحاجة الغير المتناهية الكمال الذي لا نهاية له وما ذاك إلا للحق سبحانه وتعالى فلهذا قال: { أَلاَ بِذِكْرِ ٱللَّهِ تَطْمَئِنُّ ٱلْقُلُوبُ } ولما عرفت حقيقة شرح الصدر للمؤمنين فاعرف صفات قلوب الكافرين لوجوه: أحدها: فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم. وثانيها: ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم. وثالثها: في قلوبهم مرض. ورابعها: جعلنا قلوبهم قاسية. وخامسها: إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه. وسادسها: ختم الله على قلوبهم. وسابعها: أم على قلوب أقفالها. وثامنها: كلا بل ران على قلوبهم. وتاسعها: أولئك الذين طبع الله على قلوبهم. إلهنا وسيدنا بفضلك وإحسانك أغلق هذه الأبواب التسعة من خذلانك عنا واجبرنا بإحسانك وافتح لنا تلك الأبواب التسعة من إحسانك بفضلك ورحمتك إنك على ما تشاء قدير. الفصل الخامس: في حقيقة شرح الصدر، ذكر العلماء فيه وجهين: الأول: أن لا يبقى للقلب التفات إلى الدنيا لا بالرغبة ولا بالرهبة أما الرغبة فهي أن يكون متعلق القلب بالأهل والولد وبتحصيل مصالحهم ودفع المضار عنهم، وأما الرهبة فهي أن يكون خائفاً من الأعداء والمنازعين فإذا شرح الله صدره صغر كل ما يتعلق بالدنيا في عين همته، فيصير كالذباب والبق والبعوض لا تدعوه رغبة إليها ولا تمنعه رهبة عنها، فيصير الكل عنده كالعدم وحينئذ يقبل القلب بالكلية نحو طلب مرضاة الله تعالى، فإن القلب في المثال كينبوع من الماء والقوة البشرية لضعفها كالينبوع الصغير فإذا فرقت ماء العين الواحدة على الجداول الكثيرة ضعفت الكل فأما إذا انصب الكل في موضع واحد قوي فسأل موسى عليه السلام ربه أن يشرح له صدره بأن يوقفه على معايب الدنيا وقبح صفاتها حتى يصير قلبه نفوراً عنها فإذا حصلت النفرة توجه إلى عالم القدس ومنازل الروحانيات بالكلية. الثاني: أن موسى عليه السلام لما نصب لذلك المنصب العظيم احتاج إلى تكاليف شاقة منها ضبط الوحي والمواظبة على خدمة الخالق سبحانه وتعالى ومنها إصلاح العالم الجسداني فكأنه صار مكلفاً بتدبير العالمين والالتفات إلى أحدهما يمنع من الاشتغال بالآخر، ألا ترى أن المشتغل بالإبصار يصير ممنوعاً عن السماع والمشتغل بالسماع يصير ممنوعاً عن الإبصار والخيال، فهذه القوى متجاذبة متنازعة وأن موسى عليه السلام كان محتاجاً إلى الكل ومن استأنس بجمال الحق استوحش من جمال الخلق فسأل موسى ربه أن يشرح صدره بأن يفيض عليه كمالاً من القوة لتكون قوته وافية بضبط العالمين فهذا هو المراد من شرح الصدر. وذكر العلماء لهذا المعنى أمثلة. المثال الأول: اعلم أن البدن بالكلية كالمملكة والصدر كالقلعة والفؤاد كالقصر والقلب كالتخت والروح كالملك والعقل كالوزير والشهوة كالعامل الكبير الذي يجلب النعم إلى البلدة والغضب كالاسفهسالار الذي يشتغل بالضرب والتأديب أبداً والحواس كالجواسيس وسائر القوى كالخدم والعملة والصناع ثم إن الشيطان خصم لهذه البلدة ولهذه القلعة ولهذا الملك فالشيطان هو الملك والهوى والحرص وسائر الأخلاق الذميمة جنوده فأول ما أخرج الروح وزيره وهو العقل فكذا الشيطان أخرج في مقابلته الهوى فجعل العقل يدعو إلى الله تعالى والهوى يدعو إلى الشيطان ثم إن الروح أخرج الفطنة إعانة للعقل فأخرج الشيطان في مقابلة الفطنة الشهوة، فالفطنة توقفك على معايب الدنيا والشهوة تحركك إلى لذات الدنيا ثم إن الروح أمد الفطنة بالفكرة لتقوي الفطنة بالفكرة فتقف على الحاضر والغائب من المعائب على ما قال عليه السلام: " تفكر ساعة خير من عبادة سنة " فأخرج الشيطان في مقابلة الفكرة الغفلة ثم أخرج الروح الحلم والثبات فإن العجلة ترى الحسن قبيحاً والقبيح حسناً والحلم يوقف العقل على قبح الدنيا فأخرج الشيطان في مقابلته العجلة والسرعة فلهذا قال عليه السلام: " ما دخل الرفق في شيء إلا زانه ولا الخرق في شيء إلا شانه " ولهذا خلق السموات والأرض في ستة أيام ليتعلم منه الرفق والثبات فهذه هي الخصومة الواقعة بين الصنفين، وقلبك وصدرك هو القلعة. ثم إن لهذا الصدر الذي هو القلعة خندقاً وهو الزهد في الدنيا وعدم الرغبة فيها وله سور وهو الرغبة الآخرة ومحبة الله تعالى فإن كان الخندق عظيماً والسور قوياً عجز عسكر الشيطان عن تخريبه فرجعوا وراءهم وتركوا القلعة كما كانت وإن كان خندق الزهد غير عميق وسور حب الآخرة غير قوي قدر الخصم على استفتاح قلعة الصدر فيدخلها ويبيت فيها جنوده من الهوى والعجب والكبر والبخل وسوء الظن بالله تعالى والنميمة والغيبة فينحصر الملك في القصر ويضيق الأمر عليه فإذا جاء مدد التوفيق وأخرج هذا العسكر من القلعة انفسح الأمر وانشرح الصدر وخرجت ظلمات الشيطان ودخلت أنوار هداية رب العالمين وذلك هو المراد بقوله: { رَبّ ٱشْرَحْ لِي صَدْرِي }. المثال الثاني: اعلم أن معدن النور هو القلب واشتغال الإنسان بالزوجة والولد والرغبة في مصاحبة الناس والخوف من الأعداء هو الحجاب المانع من وصول نور شمس القلب إلى فضاء الصدر فإذا قوى الله بصيرة العبد حتى طالع عجز الخلق وقلة فائدتهم في الدارين صغروا في عينه ولا شك في أنهم من حيث هم عدم محض على ما قال تعالى: { { كُلُّ شَىْء هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ } [القصص: 88] فلا يزال العبد يتأمل فيما سوى الله تعالى إلى أن يشاهد أنهم عدم محض فعند ذلك يزول الحجاب بين قلبه وبين أنوار جلال الله تعالى وإذا زال الحجاب امتلأ القلب من النور فذلك هو انشراح الصدر. الفصل السادس: في الصدر إعلم أنه يجيء والمراد منه القلب:
{ { أَفَمَن شَرَحَ ٱللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلَـٰمِ } [الزمر: 22]، { رَبِّ ٱشْرَحْ لِي صَدْرِي }، { { وَحُصّلَ مَا فِي ٱلصُّدُورِ } [العاديات: 10]، { { يَعْلَمُ خَائِنَةَ ٱلأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي ٱلصُّدُورُ } [غافر: 19] وقد يجيء والمراد الفضاء الذي فيه الصدر: { { فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى ٱلأَبْصَـٰرُ وَلَـٰكِن تَعْمَىٰ ٱلْقُلُوبُ ٱلَّتِي فِي ٱلصُّدُورِ } [الحج: 46] واختلف الناس في أن محل العقل هل هو القلب أو الدماغ وجمهور المتكلمين على أنه القلب، وقد شرحنا هذه المسألة في سورة الشعراء في تفسير قوله: { { نَزَلَ بِهِ ٱلرُّوحُ ٱلأَمِينُ * عَلَىٰ قَلْبِكَ } [الشعراء: 193، 194] وقال بعضهم المواد أربعة: الصدر والقلب والفؤاد واللب فالصدر مقر الإسلام: { { أَفَمَن شَرَحَ ٱللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلَـٰمِ } [الزمر: 22] والقلب مقر الإيمان: { { وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ ٱلإيمَـٰنَ وَزِينَةٌ فِي قُلُوبِكُمْ } [الحجرات: 7] والفؤاد مقر المعرفة: { { مَا كَذَبَ ٱلْفُؤَادُ مَا رَأَىٰ } [النجم: 11]، { { إِنَّ ٱلسَّمْعَ وَٱلْبَصَرَ وَٱلْفُؤَادَ كُلُّ أُولـٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً } [الإسراء: 36] واللب مقر التوحيد: { { إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُو ٱلأَلْبَـٰبِ } [الرعد: 19] واعلم أن القلب أول ما بعث إلى هذا العالم بعث خالياً عن النقوش كاللوح الساذج وهو في عالم البدن كاللوح المحفوظ، ثم إنه تعالى يكتب فيه بقلم الرحمة والعظمة كل ما يتعلق بعالم العقل من نقوش الموجودات وصور الماهيات وذلك يكون كالسطر الواحد إلى آخر قيام القيامة لهذا العالم الأصغر وذلك هو الصورة المجردة والحالة المطهرة، ثم إن العقل يركب سفينة التوفيق ويلقيها في بحار أمواج المعقولات وعوالم الروحانيات فيحصل من مهاب رياح العظمة والكبرياء رخاء السعادة تارة ودبور الإدبار أخرى، فربما وصلت سفينة النظر إلى جانب مشرق الجلال فتسطع عليه أنوار الإلهية ويتخلص العقل عن ظلمات الضلالات، وربما توغلت السفينة في جنوب الجهالات فتنكسر وتغرق فحيثما تكون السفينة في ملتطم أمواج العزة يحتاج حافظ السفينة إلى التماس الأنوار والهدايات فيقول هناك: { رَبّ ٱشْرَحْ لِى صَدْرِى } واعلم أن العقل إذا أخذ في الترقي من سفل الإمكان إلى علو الوجوب كثر اشتغاله بمطالعة الماهيات ومقارفة المجردات والمفارقات، ومعلوم أن كل ماهية فهي إما هي معه أو هي له، فإن كانت هي معه امتلأت البصيرة من أنوار جلال العزة الإلهية فلا يبقى هناك مستطلعاً لمطالعة سائر الأنوار فيضمحل كل ما سواه من بصر وبصيرة، وإن وقعت المطالعة لما هو له حصلت هناك حالة عجيبة، وهي أنه لو وضعت كرة صافية من البلور فوقع عليها شعاع الشمس فينعكس ذلك الشعاع إلى موضع معين فذلك الموضع الذي إليه تنعكس الشعاعات يحترق فجميع الماهيات الممكنة كالبلور الصافي الموضوع في مقابلة شمس القدس ونور العظمة ومشرق الجلال، فإذا وقع للقلب التفات إليها حصلت للقلب نسبة إليها بأسرها فينعكس شعاع كبرياء الإلهية عن كل واحد منها إلى القلب فيحترق القلب، ومعلوم أنه كلما كان المحرق أكثر، كان الإحتراق أتم فقال: { رَبِّ ٱشْرَحْ لِي صَدْرِي } حتى أقوى على إدراك درجات الممكنات فأصل إلى مقام الاحتراق بأنوار الجلال، وهذا هو المراد بقوله عليه السلام: "أرنا الأشياء كما هي" فلما شاهد احتراقها بأنوار الجلال قال: "لا أحصى ثناء عليك" . الفصل السابع: في بقية الأبحاث إنما قال: { رَبِّ ٱشْرَحْ لِي صَدْرِي } ولم يقل رب اشرح صدري ليظهر أن منفعة ذلك الشرح عائدة إلى موسى عليه السلام لا إلى الله، وأما كيفية شرح صدر رسول الله صلى الله عليه وسلم والمفاضلة بينه وبين شرح صدر موسى عليه السلام فنذكره إن شاء الله في تفسير قوله:
{ { أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ } [الشرح: 1]، والله أعلم بالصواب. المطلوب الثاني: قوله: { وَيَسّرْ لِي أَمْرِي } والمراد منه عند أهل السنة خلقها وعند المعتزلة تحريك الدواعي والبواعث بفعل الألطاف المسهلة، فإن قيل: كل ما أمكن من اللطف فقد فعله الله تعالى فأي فائدة في هذا السؤال، قلنا يحتمل أن يكون هناك من الألطاف ما لا يحسن فعلها إلا بعد هذا السؤال ففائدة السؤال حسن فعل تلك الألطاف.
المطلوب الثالث: قوله: { وَٱحْلُلْ عُقْدَةً مّن لِّسَانِي * يَفْقَهُواْ قَوْلِي } وفيه مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أن النطق فضيلة عظيمة ويدل عليه وجوه. أحدها: قوله تعالى:
{ { خَلَقَ ٱلإِنسَـٰنَ * عَلَّمَهُ ٱلبَيَانَ } [الرحمن: 3، 4] ولم يقل وعلمه البيان لأنه لو عطفه عليه لكان مغايراً له، أما إذا ترك الحرف العاطف صار قوله: { عَلَّمَهُ ٱلبَيَانَ } كالتفسير لقوله: { خَلَقَ ٱلإِنسَـٰنَ } كأنه إنما يكون خالقاً للإنسان إذا علمه البيان، وذلك يرجع إلى الكلام المشهور من أن ماهية الإنسان هي الحيوان الناطق. وثانيها: اتفاق العقلاء على تعظيم أمر اللسان، قال زهير: لسان الفتى نصف ونصف فؤاده فلم يبق إلا صورة اللحم والدم
وقال علي: ما الإنسان لولا اللسان إلا بهيمة مهملة أو صورة ممثلة. والمعنى أنا لو أزلنا الإدراك الذهني والنطق اللساني لم يبق من الإنسان إلا القدر الحاصل في البهائم، وقالوا: المرء بأصغريه قلبه ولسانه. وقال صلى الله عليه وسلم: " المرء مخبوء تحت لسانه " . وثالثها: أن في مناظرة آدم مع الملائكة ما ظهرت الفضيلة إلا بالنطق حيث قال: { { يَـاءَادَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُم بِأَسْمَائِهِم قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِي أَعْلَمُ غَيْبَ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضِ } [البقرة: 33]. ورابعها: أن الإنسان جوهر مركب من الروح والقالب وروحه من عالم الملائكة فهو يستفيد أبداً صور المغيبات من عالم الملائكة ثم بعد تلك الاستفادة يفيضها على عالم الأجسام وواسطته في تلك الاستفادة هي الفكر الذهني وواسطته في هذه الإفادة هي النطق اللساني فكما أن تلك الواسطة أعظم العبادات حتى قيل: " تفكر ساعة خير من عبادة سنة " فكذلك الواسطة في الإفادة يجب أن تكون أشرف الأعضاء فقوله: { رَبِّ ٱشْرَحْ لِي صَدْرِي } إشارة إلى طلب النور الواقع في الروح، وقوله: { وَيَسّرْ لِي أَمْرِي } إشارة إلى تحصيل ذلك وتسهيل ذلك التحصيل، وعند ذلك يحصل الكمال في تلك الاستفادة الروحانية فلا يبقى بعد هذا إلا المقام البياني وهو إفاضة ذلك الكمال على الغير وذلك لا يكون إلا باللسان. فلهذا قال: { وَٱحْلُلْ عُقْدَةً مّن لِّسَانِي }. وخامسها: وهو أن العلم أفضل المخلوقات على ما ثبت والجود والإعطاء أفضل الطاعات، وليس في الأعضاء أفضل من اليد، فاليد لما كانت آلة في العطية الجسمانية قيل: «اليد العليا خير من اليد السفلى» فالعلم الذي هو خير من المال لما كانت آلة إعطائه اللسان وجب أن يكون أشرف الأعضاء، ولا شك أن اللسان هو الآلة في إعطاء المعارف فوجب أن يكون أشرف الأعضاء، ومن الناس من مدح الصمت لوجوه، أحدها: قوله عليه السلام: "الصمت حكمة وقليل فاعله" ويروى أن الإنسان تفكر أعضاؤه اللسان ويقلن اتق الله فينا فإنك إن استقمت استقمنا، وإن اعوججت اعوججنا. وثانيها: أن الكلام على أربعة أقسام منه ما ضرره خالص أو راجح، ومنه ما يستوي الضرر والنفع فيه ومنه ما نفعه راجح ومنه ما هو خالص النفع، أما الذي ضرره خالص أو راجح فواجب الترك، والذي يستوي الأمران فيه فهو عيب، فبقي القسمان الأخيران وتخليصهما عن زيادة الضرر عسر، فالأولى ترك الكلام. وثالثها: أن ما من موجود أو معدوم خالق أو مخلوق معلوم أو موهوم إلا واللسان يتناوله ويتعرض له بإثبات أو نفي، فإن كل ما يتناوله الضمير يعبر عنه اللسان بحق أو باطل، وهذه خاصية لا توجد في سائر الأعضاء، فإن العين لا تصل إلى غير الألوان، والصور والآذان لا تصل إلا إلى الأصوات والحروف، واليد لا تصل إلى غير الأجسام، وكذا سائر الأعضاء بخلاف اللسان فإنه رحب الميدان ليس له نهاية ولا حد فله في الخير مجال رحب وله في الشر بحر سحب، وإنه خفيف المؤنة سهل التحصيل بخلاف سائر المعاصي فإنه يحتاج فيها إلى مؤن كثيرة لا يتيسر تحصيلها في الأكثر فلذلك كان الأولى ترك الكلام. ورابعها: قالوا: ترك الكلام له أربعة أسماء الصمت والسكوت والإنصات والإصاخة، فأما الصمت فهو أعمها لأنه يستعمل فيما يقوى على النطق وفيما لا يقوى عليه ولهذا يقال: مال ناطق وصامت وأما السكوت فهو ترك الكلام ممن يقدر على الكلام والانصات سكوت مع استماع ومتى انفك أحدهما عن الآخر لا يقال له إنصات قال تعالى: { { فَٱسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ } [الأعراف: 204] والإصاخة استماع إلى ما يصعب إدراكه كالسر والصوت من المكان البعيد. واعلم أن الصمت عدم ولا فضيلة فيه بل النطق في نفسه فضيلة والرذيلة في محاورته ولولاه لما سأل كليم الله ذلك في قوله تعالى: { وَٱحْلُلْ عُقْدَةً مّن لِّسَانِي }. المسألة الثانية: اختلفوا في تلك العقدة التي كانت في لسان موسى عليه السلام على قولين، الأول: كان ذلك التعقد خلقة الله تعالى فسأل الله تعالى إزالته. الثاني: السبب فيه أنه عليه السلام حال صباه أخذ لحية فرعون ونتفها فهم فرعون بقتله وقال هذا هو الذي يزول ملكي على يده فقالت آسية: إنه صبي لا يعقل وعلامته أن تقرب منه التمرة والجمرة فقربا إليه فأخذ الجمرة فجعلها في فيه وهؤلاء اختلفوا فمنهم من قال لم تحترق اليد ولا اللسان لأن اليد آلة أخذ العصا وهي الحجة واللسان آلة الذكر فكيف يحترق ولأن إبراهيم عليه السلام لم يحترق بنار نمروذ وموسى عليه السلام لم يحترق حين ألقى في التنور فكيف يحترق هنا؟ ومنهم من قال: احترقت اليد دون اللسان لئلا يحصل حق المواكلة والممالحة. الثالث: احترق اللسان دون اليد لأن الصولة ظهرت باليد أما اللسان فقد خاطبه بقوله يا أبت. والرابع: احترقا معاً لئلا تحصل المواكلة والمخاطبة.
المسألة الثالثة: اختلفوا في أنه عليه السلام لم طلب حل تلك العقدة على وجوه. أحدها: لئلا يقع في أداء الرسالة خلل ألبتة. وثانيها: لإزالة التنفير لأن العقدة في اللسان قد تفضي إلى الإستخفاف بقائلها وعدم الالتفات إليه. وثالثها: إظهاراً للمعجزة فكما أن حبس لسان زكريا عليه السلام عن الكلام كان معجزاً في حقه فكذا إطلاق لسان موسى عليه السلام معجز في حقه. ورابعها: طلب السهولة لأن إيراد مثل هذا الكلام على مثل فرعون في جبروته وكبره عسر جداً فإذا انضم إليه تعقد اللسان بلغ العسر إلى النهاية، فسأل ربه إزالة تلك العقدة تخفيفاً وتسهيلاً.
المسألة الرابعة: قال الحسنرحمه الله : إن تلك العقدة زالت بالكلية بدليل قوله تعالى:
{ { قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يٰمُوسَىٰ } [طه: 36] وهو ضعيف لأنه عليه السلام لم يقل واحلل العقدة من لساني بل قال: { وَٱحْلُلْ عُقْدَةً مّن لِّسَانِي } فإذا حل عقدة واحدة فقد آتاه الله سؤله، والحق أنه انحل أكثر العقد وبقي منها شيء قليل لقوله: حكاية عن فرعون { { أَمْ أَنَا خَيْرٌ مّنْ هَـٰذَا ٱلَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ } [الزخرف: 52] أي يقارب أن لا يبين وفي ذلك دلالة على أنه كان يبين مع بقاء قدر من الانعقاد في لسانه وأجيب عنه من وجهين. أحدهما: المراد بقوله: ولا يكاد يبين أي لا يأتي ببيان ولا حجة. والثاني: إن كاد بمعنى قرب ولو كان المراد هو البيان اللساني لكان معناه أنه لا يقارب البيان فكان فيه نفي البيان بالكلية وذلك باطل لأنه خاطب فرعون والجمع وكانوا يفقهون كلامه فكيف يمكن نفي البيان أصلاً بل إنما قال ذلك تمويهاً ليصرف الوجوه عنه قال أهل الإشارة إنما قال: { وَٱحْلُلْ عُقْدَةً مّن لِّسَانِي } لأن حل العقد كلها نصيب محمد صلى الله عليه وسلم وقال تعالى: { { وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ ٱلْيَتِيمِ إِلاَّ بِٱلَّتِي هِىَ أَحْسَنُ } [الأنعام: 152] فلما كان ذلك حقاً ليتيم أبي طالب لا جرم ما دار حوله، والله أعلم. المطلوب الرابع: قوله: { وَٱجْعَل لّي وَزِيراً مّنْ أَهْلِي } واعلم أن طلب الوزير إما أن يكون لأنه خاف من نفسه العجز عن القيام بذلك الأمر فطلب المعين أو لأنه رأى أن للتعاون على الدين والتظاهر عليه مع مخالصة الود وزوال التهمة مزية عظيمة في أمر الدعاء إلى الله ولذلك قال عيسى ابن مريم:
{ { مَنْ أَنصَارِي إِلَى ٱللَّهِ قَالَ ٱلْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ ٱللَّهِ } [آل عمران: 52] وقال لمحمد صلى الله عليه وسلم: { { حَسْبُكَ ٱللَّهُ وَمَنِ ٱتَّبَعَكَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } [الأنفال: 64] وقال عليه السلام: " إن لي في السماء وزيرين وفي الأرض وزيرين، فاللذان في السماء جبريل وميكائيل واللذان في الأرض أبو بكر وعمر " وههنا مسائل: المسألة الأولى: الوزير من الوزر لأنه يتحمل عن الملك أوزاره ومؤنه أو من الوزر وهو الجبل الذي يتحصن به لأن الملك يعتصم برأيه في رعيته ويفوض إليه أموره أو من الموازرة وهي المعاونة، والموازرة مأخوذة من إزار الرجل وهو الموضع الذي يشده الرجل إذا استعد لعمل أمر صعب قاله الأصمعي وكان القياس أزيراً فقلبت الهمزة إلى الواو.
المسألة الثانية: قال عليه السلام:
" إذا أراد الله بملك خيراً قيض له وزيراً صالحاً إن نسي ذكره وإن نوى خيراً أعانه وإن أراد شراً كفه " وكان أنوشروان يقول: لا يستغني أجود السيوف عن الصقل، ولا أكرم الدواب عن السوط، ولا أعلم الملوك عن الوزير. المسألة الثالثة: إن قيل الإستعانة بالوزير إنما يحتاج إليها الملوك أما الرسول المكلف بتبليغ الرسالة والوحي من الله تعالى إلى قوم على التعيين فمن أين ينفعه الوزير؟ وأيضاً فإنه عليه السلام سأل ربه أن يجعله شريكاً له في النبوة فقال: { وَأَشْرِكْهُ فِى أَمْرِي } فكيف يكون وزيراً. والجواب: عن الأول أن التعاون على الأمر والتظاهر عليه مع مخالصة الود وزوال التهمة له مزية عظيمة في تأثير الدعاء إلى الله تعالى فكان موسى عليه السلام واثقاً بأخيه هرون فسأل ربه أن يشد به أزره حتى يتحمل عنه ما يمكن من الثقل في الإبلاغ.
المطلوب الخامس: أن يكون ذلك الوزير من أهله أي من أقاربه.
المطلوب السادس: أن يكون الوزير الذي من أهله هو أخوه هـٰرون وإنما سأل ذلك لوجهين. أحدهما: أن التعاون على الدين منقبة عظيمة فأراد أن لا تحصل هذه الدرجة إلا لأهله، أو لأن كل واحد منهما كان في غاية المحبة لصاحبه والموافقة له، وقوله هـٰرون في انتصابه وجهان. أحدهما: أنه مفعول الجعل على تقدير اجعل هـٰرون أخي وزيراً لي. والثاني: على البدل من وزيراً وأخي نعت لهرون أو بدل، واعلم أن هـٰرون عليه السلام كان مخصوصاً بأمور منها الفصاحة لقوله تعالى عن موسى:
{ { وَأَخِي هَـٰرُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنّي لِسَاناً } [القصص: 34] ومنها أنه كان فيه رفق قال: { { يَبْنَؤُمَّ لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِى وَلاَ بِرَأْسِى } [طه: 94] ومنها أنه كان أكبر سناً منه. المطلوب السابع: قوله: { أشدد به أزري } وفيه مسائل:
المسألة الأولى: القراءة العامة: { ٱشْدُدْ بِهِ * وَأَشْرِكْهُ } على الدعاء وقرأ ابن عامر وحده: (اشْدُدْ، وَأَشْرِكْهُ ) على الجزاء والجواب، حكاية عن موسى عليه السلام أي أنا أفعل ذلك ويجوز لمن قرأ على لفظ الأمر أن يجعل { أَخي } مرفوعاً على الابتداء { وَٱشْدُدْ بِهِ } خبره ويوقف على هـٰرون.
المسألة الثانية: الأزر القوة وآزره قواه قال تعالى: { فَآزَرَهُ } أي أعانه قال أبو عبيدة { أَزْرِي } أي ظهري وفي كتاب الخليل: الأزر الظهر.
المسألة الثالثة: أنه عليه السلام لما طلب من الله تعالى أن جعل هرون وزيراً له طلب منه أن يشد به أزره ويجعله ناصراً له لأنه لا اعتماد على القرابة.
المطلوب الثامن: قوله: { وَأَشْرِكْهُ فِى أَمْرِي } والأمر ههنا النبوة، وإنما قال ذلك لأنه عليه السلام علم أنه يشد به عضده وهو أكبر منه سناً وأفصح منه لساناً ثم إنه سبحانه وتعالى حكى عنه ما لأجله دعا بهذا الدعاء فقال: { كَيْ نُسَبّحَكَ كَثِيراً * وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً } والتسبيح يحتمل أن يكون باللسان وأن يكون بالاعتقاد، وعلى كلا التقديرين فالتسبيح تنزيه الله تعالى في ذاته وصفاته وأفعاله عما لا يليق به، وأما الذكر فهو عبارة عن وصف الله تعالى بصفات الجلال والكبرياء ولا شك أن النفي مقدم على الإثبات، أما قوله تعالى: { إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيراً } ففيه وجوه: أحدها: إنك عالم بأنا لا نريد بهذه الطاعات إلا وجهك ورضاك ولا نريد بها أحداً سواك. وثانيها: { كُنتَ بِنَا بَصِيراً } لأن هذه الاستعانة بهذه الأشياء لأجل حاجتي في النبوة إليها. وثالثها: إنك بصير بوجوه مصالحنا فأعطنا ما هو أصلح لنا، وإنما قيد الدعاء بهذا إجلالاً لربه عن أن يتحكم عليه وتفويضاً للأمر بالكلية إليه.