خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

قَالَ رَبِّ ٱنصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ
٢٦
فَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ أَنِ ٱصْنَعِ ٱلْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَآءَ أَمْرُنَا وَفَارَ ٱلتَّنُّورُ فَٱسْلُكْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ ٱثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ ٱلْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي ٱلَّذِينَ ظَلَمُوۤاْ إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ
٢٧
فَإِذَا ٱسْتَوَيْتَ أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى ٱلْفُلْكِ فَقُلِ ٱلْحَمْدُ للَّهِ ٱلَّذِي نَجَّانَا مِنَ ٱلْقَوْمِ ٱلظَّالِمِينَ
٢٨
وَقُل رَّبِّ أَنزِلْنِي مُنزَلاً مُّبَارَكاً وَأَنتَ خَيْرُ ٱلْمُنزِلِينَ
٢٩
إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَاتٍ وَإِن كُنَّا لَمُبْتَلِينَ
٣٠
-المؤمنون

مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير

أما قوله: { رَبِّ ٱنصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ } ففيه وجوه: أحدها: أن في نصره إهلاكهم فكأنه قال أهلكهم بسبب تكذيبهم إياي وثانيها: انصرني بدل ما كذبوني كما تقول هذا بذاك أي بدل ذلك ومكانه، والمعنى أبدلني من غم تكذيبهم سلوة النصر عليهم وثالثها: انصرني بإنجاز ما وعدتهم من العذاب وهو ما كذبوه فيه حين قال لهم: { { إِنّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } [الأعراف: 59] ولما أجاب الله دعاءه قال: { فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ ٱصْنَعِ ٱلْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا } أي بحفظنا وكلئنا كأن معه من الله حافظاً يكلؤه بعينه لئلا يتعرض له ولا يفسد عليه مفسد عمله، ومنه قولهم: عليه من الله عين كالئة، وهذه الآية دالة على فساد قول المشبهة في تمسكهم بقوله عليه السلام: " إن الله خلق آدم على صورته " لأن ثبوت الأعين يمنع من ذلك، واختلفوا في أنه عليه السلام كيف صنع الفلك فقيل إنه كان نجاراً وكان عالماً بكيفية اتخاذها، وقيل إن جبريل عليه السلام علمه عمل السفينة ووصف له كيفية اتخاذها، وهذا هو الأقرب لقوله { بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا }.

أما قوله: { فَإِذَا جَاء أَمْرُنَا } فاعلم أن لفظ الأمر كما هو حقيقة في طلب الفعل بالقول على سبيل الاستعلاء، فكذا هو حقيقة في الشأن العظيم، والدليل عليه أنك إذا قلت هذا أمر بقي الذهن يتردد بين المفهومين وذلك يدل على كونه حقيقة فيهما وتمام تقريره مذكور في كتاب المحصول في الأصول، ومن الناس من قال: إنما سماه أمراً على سبيل التعظيم والتفخيم، مثل قوله: { { فقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ٱئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً } [فصلت:11].

أما قوله: { وَفَارَ ٱلتَّنُّورُ } فاختلفوا في التنور، فالأكثرون على أنه هو التنور المعروف. روي أنه قيل لنوح إذا رأيت الماء يفور من التنور فاركب أنت ومن معك في السفينة، فلما نبع الماء من التنور أخبرته امرأته فركب، وقيل كان تنور آدم وكان من حجارة فصار إلى نوح، واختلف في مكانه، فعن الشعبي في مسجد الكوفة عن يمين الداخل مما يلي باب كندة، وكان نوح عليه السلام عمل السفينة في وسط المسجد، وقيل بالشام بموضع يقال له عين وردة وقيل بالهند القول الثاني: أن التنور وجه الأرض عن ابن عباس رضي الله عنهما الثالث: أنه أشرف موضع في الأرض أي أعلاه عن قتادة والرابع: { وَفَارَ ٱلتَّنُّورُ } أي طلع للفجر عن علي عليه السلام، وقيل إن فوران التنور كان عند طلوع الفجر والخامس: هو مثل قولهم حمى الوطيس والسادس: أنه الموضع المنخفض من السفينة الذي يسيل الماء إليه عن الحسنرحمه الله والقول الأول هو الصواب لأن العدول عن الحقيقة إلى المجاز من غير دليل لا يجوز، واعلم أن الله تعالى جعل فوران التنور علامة لنوح عليه السلام حتى يركب عنده السفينة طلباً لنجاته ونجاة من آمن به من قومه.

أما قوله: { فَٱسْلُكْ فِيهَا } أي أدخل فيها يقال سلك فيه أي دخل فيه وسلك غيره وأسلكه { مِن كُلّ زَوْجَيْنِ ٱثْنَيْنِ } أي من كل زوجين من الحيوان الذي يحضره في الوقت اثنين الذكر والأنثى لكي لا ينقطع نسل ذلك الحيوان، وكل واحد منهما زوج لا كما تقوله العامة من أن الزوج هو الاثنان، روي أنه لم يحمل إلا ما يلد ويبيض، وقرىء من كل بالتنوين، أي من كل أمة زوجين، واثنين تأكيد وزيادة بيان.

أما قوله: { وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ ٱلْقَوْلُ مِنْهُمْ } أي وأدخل أهلك ولفظ على إنما يستعمل في المضار. قال تعالى: { { لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا ٱكْتَسَبَتْ } [البقرة: 286] واعلم أن هذه الآية تدل على أمرين أحدهما: أنه سبحانه أمره بإدخال سائر من آمن به وإن لم يكن من أهله، وقيل المراد بأهله من آمن دون من يتصل به نسباً أو سبباً وهذا ضعيف. وإلا لما جاز استثناء قوله: { إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ ٱلْقَوْلُ } والثاني: أنه قال: { وَلاَ تُخَـٰطِبْنِي فِى ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ } يعني كنعان فإنه سبحانه لما أخبر بإهلاكهم وجب أن ينهاه عن أن يسأله في بعضهم لأنه إن أجابه إليه، فقد صير خبره الصدق كذباً، وإن لم يجبه إليه كان ذلك تحقيراً لشأن نوح عليه السلام فلذلك قال: { إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ } أي الغرق نازل بهم لا محالة.

أما قوله: { فَإِذَا ٱسْتَوَيْتَ أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى ٱلْفُلْكِ } قال ابن عباس رضي الله عنهما: كان في السفينة ثمانون إنساناً، نوح وامرأته سوى التي غرقت، وثلاثة بنين: سام وحام ويافث، وثلاث نسوة لهم، واثنان وسبعون إنساناً فكل الخلائق نسل من كان في السفينة.

أما قوله: { فَقُلِ ٱلْحَمْدُ للَّهِ ٱلَّذِى نَجَّانَا مِنَ ٱلْقَوْمِ ٱلظَّـٰلِمِينَ } ففيه مسائل:

المسألة الأولى: إنما قال: { فَقُلْ } ولم يقل فقولوا لأن نوحاً كان نبياً لهم وإماماً لهم، فكان قوله قولاً لهم مع ما فيه من الإشعار بفضل النبوة وإظهار كبرياء الربوبية، وأن رتبة تلك المخاطبة لا يترقى إليها إلا ملك أو نبي.

المسألة الثانية: قال قتادة علمكم الله أن تقولوا عند ركوب السفينة { { بِسْمِ ٱللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا } [هود: 41] وعند ركوب الدابة { { سُبْحَـٰنَ ٱلَّذِى سَخَّرَ لَنَا هَـٰذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ } [الزخرف: 13] وعند النزول { وَقُل رَّبّ أَنزِلْنِي مُنزَلاً مُّبَارَكاً وَأَنتَ خَيْرُ ٱلْمُنزِلِينَ } [المؤمنون: 29] قال الأنصاري: وقال لنبينا { { وَقُل رَّبّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِى مُخْرَجَ صِدْقٍ } [الإسراء: 80] وقال: { { فَإِذَا قَرَأْتَ ٱلْقُرْءانَ فَٱسْتَعِذْ بِٱللَّهِ مِنَ ٱلشَّيْطَـٰنِ } [النحل: 98] كأنه سبحانه أمرهم أن لا يكونوا عن ذكره وعن الاستعاذة به في جميع أحوالهم غافلين.

المسألة الثالثة: هذه مبالغة عظيمة في تقبيح صورتهم حيث أتبع النهي عن الدعاء لهم الأمر بالحمد على إهلاكهم والنجاة منهم كقوله تعالى: { { فَقُطِعَ دَابِرُ ٱلْقَوْمِ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ وَٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } [الأنعام: 45] وإنما جعل سبحانه استواءهم على السفينة نجاة من الغرق لأنه سبحانه كان عرفه أنه بذلك ينجيه ومن تبعه، فيصح أن يقول: { نَجَّانَا } من حيث جعله آمناً بهذا الفعل ووصف قومه بأنهم الظالمون لأن الكفر منهم ظلم لأنفسهم لقوله: { { إِنَّ ٱلشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [لقمان: 13] ثم إنه سبحانه بعد أن أمره بالحمد على إهلاكهم أمره بأن يدعو لنفسه فقال: { وَقُل رَّبّ أَنزِلْنِى مُنزَلاً مُّبَارَكاً } وقرىء { مُنزَلاً } بمعنى إنزالاً أو موضع إنزال كقوله ليدخلنهم مدخلاً يرضونه. واختلفوا في المنزل على قولين: أحدهما: أن المراد هو نفس السفينة فمن ركبها خلصته مما جرى على قومه من الهلاك والثاني: أن المراد أن ينزله الله بعد خروجه من السفينة من الأرض منزلاً مباركاً والأول أقرب لأنه أمر بهذا الدعاء في حال استقراره في السفينة، فيجب أن يكون المنزل ذلك دون غيره. ثم بين سبحانه بقوله: { وَأَنتَ خَيْرُ ٱلْمُنزِلِينَ } أن الإنزال في الأمكنة قد يقع من غير الله كما يقع من الله تعالى وإن كان هو سبحانه خير من أنزل لأنه يحفظ من أنزله في سائر أحواله ويدفع عنه المكاره بحسب ما يقتضيه الحكم والحكمة، ثم بين سبحانه أن فيما ذكره من قصة نوح وقومه لآيات ودلالات وعبراً في الدعاء إلى الإيمان والزجر عن الكفر فإن إظهار تلك المياه العظيمة ثم الإذهاب بها لا يقدر عليه إلا القادر على كل المقدورات، وظهور تلك الواقعة على وفق قول نوح عليه السلام يدل على المعجز العظيم وإفناء الكفار وبقاء الأرض لأهل الدين والطاعة من أعظم أنواع العبر.

أما قوله: { وَإِن كُنَّا لَمُبْتَلِينَ } فيمكن أن يكون المراد، وإن كنا لمبتلين فيما قبل، ويحتمل أن يكون وإن كنا لمبتلين فيما بعد، وهذا هو الأقرب لأنه كالحقيقة في الاستقبال، وإذا حمل على ذلك احتمل وجوهاً: أحدها: أن يكون المراد المكلفين في المستقبل أي فيجب فيمن كلفناه أن يعتبر بهذا الذي ذكرناه وثانيها: أن يكون المراد لمعاقبين لمن سلك في تكذيب الأنبياء مثل طريقة قوم نوح وثالثها: أن يكون المراد كما نعاقب من كذب بالغرق وغيره فقد نمتحن بالغرق من لم يكذب على وجه المصلحة لا على وجه التعذيب، لكي لا يقدر أن كل الغرق يجري على وجه واحد.