خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

ٱللَّهُ نُورُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ ٱلْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ ٱلزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيۤءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَىٰ نُورٍ يَهْدِي ٱللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَآءُ وَيَضْرِبُ ٱللَّهُ ٱلأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلَيِمٌ
٣٥
-النور

مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير

اعلم أن الكلام في هذه الآية مرتب على فصول:

الفصل الأول في إطلاق اسم النور على الله تعالى

اعلم أن لفظ النور موضوع في اللغة لهذه الكيفية الفائضة من الشمس والقمر والنار على الأرض والجدران وغيرهما، وهذه الكيفية يستحيل أن تكون إلهاً لوجوه: أحدها: أن هذه الكيفية إن كانت عبارة عن الجسم كان الدليل الدال على حدوث الجسم دالاً على حدوثها، وإن كانت عرضاً فمتى ثبت حدوث جميع الأعراض القائمة به ولكن هذه المقدمة إنما تثبت بعد إقامة الدلالة على أن الحلول على الله تعالى محال وثانيها: أنا سواء قلنا النور جسم أو أمر حال في الجسم فهو منقسم، لأنه إن كان جسماً فلا شك في أنه منقسم، وإن كان حالاً فيه، فالحال في المنقسم منقسم، وعلى التقديرين فالنور منقسم وكل منقسم فإنه يفتقر في تحققه إلى تحقق أجزائه وكل واحد من أجزائه غيره، وكل مفتقر فهو في تحققه مفتقر إلى غيره، والمفتقر إلى الغير ممكن لذاته محدث بغيره، فالنور محدث فلا يكون إلهاً وثالثها: أن هذا النور المحسوس لو كان هو الله لوجب أن لا يزول هذا النور لامتناع الزوال على الله تعالى ورابعها: أن هذا النور المحسوس يقع بطلوع الشمس والكواكب. وذلك على الله محال وخامسها: أن هذه الأنوار لو كانت أزلية لكانت إما أن تكون متحركة أو ساكنة، لا جائز أن تكون متحركة لأن الحركة معناها الانتقال من مكان إلى مكان فالحركة مسبوقة بالحصول في المكان الأول. والأزلى يمتنع أن يكون مسبوقاً بالغير فالحركة الأزلية محال. ولا جائز أن تكون ساكنة لأن السكون لو كان أزلياً لكان ممتنع الزوال لكن السكون جائز الزوال، لأنا نرى الأنوار تنتقل من مكان إلى مكان فدل ذلك على حدوث الأنوار وسادسها: أن النور إما أن يكون جسماً أو كيفية قائمة بالجسم، والأول محال لأنا قد نعقل الجسم جسماً مع الذهول عن كونه نيراً ولأن الجسم قد يستنير بعد أن كان مظلماً فثبت الثاني لكن الكيفية القائمة بالجسم محتاجة إلى الجسم، والمحتاج إلى الغير لا يكون إلهاً، وبمجموع هذه الدلائل يبطل قول المانوية الذين يعتقدون أن الإله سبحانه هو النور الأعظم. وأما المجسمة المعترفون بصحة القرآن فيحتج على فساد قولهم بوجهين: الأول: قوله: { { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء } [الشورى: 11] ولو كان نوراً لبطل ذلك لأن الأنوار كلها متماثلة الثاني: أن قوله تعالى: { مَثَلُ نُورِهِ } صريح في أنه ليس ذاته نفس النور بل النور مضاف إليه. وكذا قوله: { يَهْدِي ٱللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ } فإن قيل قوله: { ٱللَّهُ نُورُ ٱلسَّمَـٰوَاتِ } يقتضي ظاهره أنه في ذاته نور. وقوله: { مَثَلُ نُورِهِ } يقتضي أن لا يكون هو في ذاته نوراً وبينهما تناقض، قلنا نظير هذه الآية قولك زيد كرم وجود، ثم تقول ينعش الناس بكرمه وجوده، وعلى هذا الطريق لا تناقض الثالث: قوله سبحانه وتعالى: { { وَجَعَلَ ٱلظُّلُمَـٰتِ وَٱلنُّورَ } [الأنعام: 1] وذلك صريح في أن ماهية النور مجعولة لله تعالى فيستحيل أن يكون الإله نوراً، فثبت أنه لا بد من التأويل، والعلماء ذكروا فيه وجوهاً: أحدها: أن النور سبب للظهور والهداية لما شاركت النور في هذا النور في هذا المعنى صح إطلاق اسم النور على الهداية وهو كقوله تعالى: { { ٱللَّهُ وَلِيُّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ يُخْرِجُهُم مّنَ ٱلظُّلُمَـٰتِ إِلَى ٱلنُّورِ } } [البقرة: 257].

وقوله: { { أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَـٰهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا } [الأنعام: 122] وقال: { { وَلَـٰكِن جَعَلْنَـٰهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا } [الشورى: 52] فقوله: { ٱللَّهُ نُورُ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضِ } أي ذو نور السموات والأرض والنور هو الهداية ولا تحصل إلا لأهل السموات، والحاصل أن المراد الله هادي أهل السموات والأرض وهو قول ابن عباس والأكثرين رضي الله عنهم وثانيها: المراد أنه مدبر السموات والأرض بحكمة بالغة وحجة نيرة فوصف نفسه بذلك كما يوصف الرئيس العالم بأنه نور البلد، فإنه إذا كان مدبرهم تدبيراً حسناً فهو لهم كالنور الذي يهتدى به إلى مسالك الطرق، قال جرير:

وأنت لنا نور وغيث وعصمة

وهذا اختيار الأصم والزجاج وثالثها: المراد ناظم السموات والأرض على الترتيب الأحسن فإنه قد يعبر بالنور على النظام، يقال ما أرى لهذا الأمر نوراً ورابعها: معناه منور السموات والأرض ثم ذكروا في هذا القول ثلاثة أوجه: أحدها: أنه منور السماء بالملائكة والأرض بالأنبياء والثاني: منورها بالشمس والقمر والكواكب والثالث: أنه زين السماء بالشمس والقمر والكواكب وزين الأرض بالأنبياء والعلماء، وهو مروي عن أبي بن كعب والحسن وأبي العالية والأقرب هو القول الأول لأن قوله في آخر الآية: { يَهْدِي ٱللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ } يدل على أن المراد بالنور الهداية إلى العلم والعمل. واعلم أن الشيخ الغزاليرحمه الله صنف في تفسير هذه الآية الكتاب المسمى بمشكاة الأنوار، وزعم أن الله نور في الحقيقة بل ليس النور إلا هو، وأنا أنقل محصل ما ذكره مع زوائد كثيرة تقوي كلامه ثم ننظر في صحته وفساده على سبيل الإنصاف فقال: اسم النور إنما وضع للكيفية الفائضة من الشمس والقمر والنار على ظواهر هذه الأجسام الكثيفة، فيقال استنارت الأرض ووقع نور الشمس على الثوب ونور السراج على الحائط، ومعلوم أن هذه الكيفية إنما اختصت بالفضيلة والشرف لأن المرئيات تصير بسببها ظاهرة منجلية، ثم من المعلوم أنه كما يتوقف إدراك هذه المرئيات على كونها مستنيرة فكذا يتوقف على وجود العين الباصرة إذ المرئيات بعد استنارتها لا تكون ظاهرة في حق العميان فقد ساوى الروح الباصرة النور الظاهرة في كونه ركناً لا بد منه للظهور، ثم يرجح عليه في أن الروح الباصرة هي المدركة وبها الإدراك، وأما النور الخارج فليس بمدرك ولا به الإدراك بل عنده الإدراك، فكان وصف الإظهار بالنور الباصر أحق منه بالنور المبصر فلا جرم أطلقوا اسم النور على نور العين المبصرة فقالوا في الخفاش إن نور عينه ضعيف، وفي الأعمش إنه ضعف نور بصره. وفي الأعمى إنه فقد نور البصر. إذا ثبت هذا فنقول إن للإنسان بصراً وبصيرة فالبصر هو العين الظاهرة المدركة للأضواء والألوان، والبصيرة هي القوة العاقلة وكل واحد من الإدراكين يقتضي ظهور المدرك، فكل واحد من الإدراكين نور إلا أنهم عددوا لنور العين عيوباً لم يحصل شيء منها في نور العقلي، والغزاليرحمه الله ذكر منها سبعة، ونحن جعلناها عشرين الأول: أن القوة الباصرة لا تدرك نفسها ولا تدرك إدراكها ولا تدرك آلتها، أما أنها لا تدرك نفسها ولا تدرك إدراكها فلأن القوة الباصرة وإدراك القوة الباصرة ليسا من الأمور المبصرة بالعين الباصرة، وأما آلتها فهي العين، والقوة الباصرة بالعين لا تدرك العين، وأما القوة العاقلة فإنها تدرك نفسها وتدرك إدراكها وتدرك آلتها في الإدراك وهي القلب والدماغ، فثبت أن نور العقل أكمل من نور البصر الثاني: أن القوة الباصرة لا تدرك الكليات والقوة العاقلة تدركها، ومدرك الكليات وهو القلب أشرف من مدرك الجزئيات، أما أن القوة الباصرة لا تدرك الكليات فلأن القوة الباصرة لو أدركت كل ما في الوجود فهي ما أدركت الكل لأن الكل عبارة عن كل ما يمكن دخوله في الوجود في الماضي والحاضر والمستقبل، وأما أن القوة العاقلة تدرك الكليات فلأنا نعرف أن الأشخاص الإنسانية مشتركة في الإنسانية ومتمايزة بخصوصياتها، وما به المشاركة غير ما به الممايزة، فالإنسانية من حيث هي إنسانية أمر مغاير لهذه المشخصات فقد عقلنا الماهية الكلية، وأما أن إدراك الكليات أشرف فلأن إدراك الكليات ممتنع التغير، وإدراك الجزئيات واجب التغير، ولأن إدراك الكلي يتضمن إدراك الجزئيات الواقعة تحته، لأن ما ثبت للماهية ثبت لجميع أفرادها ولا ينعكس، فثبت أن الإدراك العقلي أشرف الثالث: الإدراك الحسي غير منتج والإدراك العقلي منتج فوجب أن يكون العقل أشرف، أما كون الإدراك الحسي غير منتج فلأن من أحس بشيء لا يكون ذلك الإحساس سبباً لحصول إحساس آخر له، بل لو استعمل له الحس مرة أخرى لأحس به مرة أخرى ولكن ذلك لا يكون إنتاج الإحساس لإحساس آخر، وأما أن الإدراك العقلي منتج فلأنا إذا عقلنا أموراً ثم ركبناها في عقولنا توسلنا بتركيبها إلى اكتساب علوم أخرى، وهكذا كل تعقل حاصل فإنه يمكن التوسل به إلى تحصيل تعقل آخر إلى ما لا نهاية له، فثبت أن الإدراك العقلي أشرف الرابع: الإدراك الحسي لا يتسع للأمور الكثيرة والإدراك العقلي، يتسع لها فوجب أن يكون الإدراك العقلي أشرف. أما أن الإدراك الحسي لا يتسع لها فلأن البصر إذا توالى عليه ألوان كثيرة عجز عن تمييزها، فأدرك لوناً كأنه حاصل من اختلاط تلك الألوان (و) السمع إذا توالت عليه كلمات كثيرة التبست عليه تلك الكلمات ولم يحصل التمييز، وأما أن الإدراك العقلي متسع لها فلأن كل من كان تحصيله للعلوم أكثر كانت قدرته على كسب الجديد أسهل، وبالعكس وذلك يوجب الحكم بأن الإدراك العقلي أشرف الخامس: القوة الحسية إذا أدركت المحسوسات القوية ففي ذلك الوقت تعجز عن إدراك الضعيفة، فإن من سمع الصوت الشديد ففي تلك الحالة لا يمكنه أن يسمع الصوت الضعيف والقوة العقلية لا يشغلها معقول عن معقول السادس: القوى الحسية تضعف بعد الأربعين، وتضعف عند كثرة الأفكار التي هي موجباً لاستيلاء النفس على البدن الذي هو موجب لخراب البدن، والقوى العقلية تقوى بعد الأربعين وتقوى عند كثرة الأفكار الموجبة لخراب البدن، فدل ذلك على استغناء القوة العقلية عن هذه الآلات واحتياج القوى الحسية إليها السابع: القوة الباصرة لا تدرك المرئي مع القرب القريب ولا مع البعد البعيد، والقوة العقلية لا يختلف حالها بحسب القرب والبعد، فإنها تترقى إلى ما فوق العرش وتنزل إلى ما تحت الثرى في أقل من لحظة واحدة، بل تدرك ذات الله وصفاته مع كونه منزهاً عن القرب والبعد والجهة فكانت القوة العقلية أشرف الثامن: القوة الحسية لا تدرك من الأشياء إلا ظواهرها فإذا أدركت الإنسان فهي في الحقيقة ما أدركت الإنسان لأنها ما أدركت إلا السطح الظاهر من جسمه، وإلا اللون القائم بذلك السطح، وبالاتفاق فليس الإنسان عبارة عن مجرد السطح واللون فالقوة الباصرة عاجزة عن النفوذ في الباطن، أما القوة العاقلة فإن باطن الأشياء وظاهرها بالنسبة إليها على السواء فإنها تدرك البواطن والظواهر وتغوص فيها وفي أجزائها، فكانت القوة العاقلة نوراً بالنسبة إلى الباطن والظاهر، أما القوة الباصرة فهي بالنسبة إلى الظاهر نور وبالنسبة إلى الباطن ظلمة، فكانت القوة العاقلة أشرف من القوة الباصرة التاسع: أن مدرك القوة العاقلة هو الله تعالى وجميع أفعاله، ومدرك القوة الباصرة هو الألوان والأشكال، فوجب أن تكون نسبة شرف القوة العاقلة إلى شرف القوة الباصرة كنسبة شرف ذات الله تعالى إلى شرف الألوان والأشكال العاشر: القوة العاقلة تدرك جميع الموجودات والمعدومات والماهيات التي هي معروضات الموجودات والمعدومات، ولذلك فإن أول حكمه أن الوجود والعدم لا يجتمعان ولا يرتفعان، وذلك مسبوق لا محالة بتصور مسمى الوجود ومسمى العدم فكأنه بهذين التصورين قد أحاط بجميع الأمور من بعض الوجوه. وأما القوة الباصرة فإنها لا تدرك إلا الأضواء والألوان وهما من أخس عوارض الأجسام والأجسام أخس من الجواهر الروحانية، فكان متعلق القوة الباصرة أخس الموجودات. وأما متعلق القوة العاقلة فهو جميع الموجودات والمعدومات فكانت القوة العاقلة أشرف. الحادي عشر: القوة العاقلة تقوى على توحيد الكثير وتكثير الواحد، والقوة الباصرة لا تقوى على ذلك. أما أن القوة العاقلة تقوى على توحيد الكثير، فذاك لأنها تضم الجنس إلى الفصل فيحدث منهما طبيعة نوعية واحدة، وأما أنها تقوى على تكثير الواحد فلأنها تأخذ الإنسان وهي ماهية واحدة فتقسمها إلى مفهوماتها وإلى عوارضها اللازمة وعوارضها المفارقة، ثم تقسم مقوماته إلى الجنس وجنس الجنس، والفصل وفصل الفصل، وجنس الفصل وفصل الجنس، إلى سائر الأجزاء المقومة التي لا تعد من الأجناس ولا من الفصول، ثم لا تزال تأتي بهذا لتقسيم في كل واحد من هذه الأقسام حتى تنتهي من تلك المركبات إلى البسائط الحقيقية، ثم تعتبر في العوارض اللازمة أن تلك العوارض مفردة أو مركبة ولازمة بوسائط أو بوسط، أو بغير وسط، فالقوة العاقلة كأنها نفذت في أعماق الماهيات وتغلغلت فيها وميزت كل واحد من أجزائها عن صاحبه، وأنزلت كل واحد منها في المكان اللائق به. فأما القوة الباصرة فلا تطلع على أحوال الماهيات، بل لا ترى إلا أمراً واحداً ولا تدري ما هو وكيف هو، فظهر أن القوة العاقلة أشرف الثاني عشر: القوة العاقلة تقوى على إدراكات غير متناهية، والقوة الحاسة لا تقوى على ذلك: بيان الأول من وجوه: الأول: القوة العاقلة يمكنها أن تتوصل بالمعارف الحاضرة إلى استنتاج المجهولات، ثم إنها تجعل تلك النتائج مقدمات في نتائج أخرى لا إلى نهاية، وقد عرفت أن القوة الحاسة لا تقوى على الاستنتاج أصلاً الثاني: أن القوة العاقلة تقوى على تعقل مراتب الأعداد ولا نهاية لها الثالث: أن القوة العاقلة يمكنها أن تعقل نفسها، وأن تعقل أنها عقلت وكذا إلى غير النهاية الرابع: النسب والإضافات غير متناهية وهي معقولة لا محسوسة فظهر أن القوة العاقلة أشرف الثالث عشر: الإنسان بقوته العاقلة يشارك الله تعالى في إدراك الحقائق وبقوته الحاسة يشارك البهائم، والنسبة معتبرة فكانت القوة العاقلة أشرف الرابع عشر: القوة العاقلة غنية في إدراكها العقلي عن وجود المعقول في الخارج، والقوة الحاسة محتاجة في إدراكها الحسي إلى وجود المحسوس في الخارج، والغني أشرف من المحتاج. الخامس عشر: هذه الموجودات الخارجية ممكنة لذواتها وأنها محتاجة إلى الفاعل، والفاعل لا يمكنه الإيجاد على سبيل الاتقان إلا بعد تقدم العلم، فإذن وجود هذه الأشياء في الخارج تابع للإدراك العقلي، وأما الإحساس بها فلا شك أنه تابع لوجودها في الخارج، فإذن القوة الحساسة تبع لتبع القوة العاقلة السادس عشر: القوة العاقلة غير محتاجة في العقل إلى الآلات بدليل أن الإنسان لو اختلت حواسه الخمس، فإنه يعقل أن الواحد نصف الاثنين، وأن الأشياء المساوية لشيء واحد متساوية. وأما القوة الحساسة فإنها محتاجة إلى آلات كثيرة، والغني أفضل من المحتاج، السابع عشر: الإدراك البصري لا يحصل إلا للشيء الذي في الجهات، ثم إنه غير متصرف في كل الجهات بل لا يتناول إلا المقابل أو ما هو في حكم المقابل، واحترزنا بقولنا في حكم المقابل عن أمور أربعة: الأول: العرض فإنه ليس بمقابل لأنه ليس في المكان، ولكنه في حكم المقابل لأجل كونه قائماً بالجسم الذي هو مقابل الثاني: رؤية الوجه في المرآة، فإن الشعاع يخرج من العين إلى المرآة، ثم يرتد منها إلى الوجه فيصير الوجه مرئياً، وهو من هذا الاعتبار كالمقابل لنفسه. الثالث: رؤية الإنسان قفاه إذا جعل إحدى المرآتين محاذية لوجهه والأخرى لقفاه. والرابع: رؤية ما لا يقابل بسبب انعطاف الشعاع في الرطوبات ما هو مشروح في كتاب المناظر وأما القوة العاقلة فإنها مبرأة عن الجهات، فإنها تعقل الجهة والجهة ليست في الجهة، ولذلك تعقل أن الشيء إما أن يكون في الجهة، وإما أن لا يكون في الجهة، وهذا الترديد لا يصح إلا بعد تعقل معنى قولنا ليس في الجهة. الثامن عشر: القوة الباصرة تعجز عند الحجاب، وأما القوة العاقلة فإنها لا يحجبها شيء أصلاً فكانت أشرف. التاسع عشر: القوة العاملة كالأمير، والحاسة كالخادم والأمير أشرف من الخادم، وتقرير (الفرق بين) الإمارة والخدمة مشهور. العشرون: القوة الباصرة قد تغلط كثيراً فإنها قد تدرك المتحرك ساكناً وبالعكس، كالجالس في السفينة، فإنه قد يدرك السفينة المتحركة ساكنة والشط الساكن متحركاً، ولولا العقل لما تميز خطأ البصر عن صوابه، والعقل حاكم والحس محكوم، فثبت بما ذكرنا أن الإدراك العقل أشرف من الإدراك البصري، وكل واحد من الإدراكين يقتضي الظهور الذي هو أشرف خواص النور، فكان الإدراك العقلي أولى بكونه نوراً من الإدراك البصري، وإذا ثبت هذا فنقول هذه الأنوار العقلية قسمان: أحدهما: واجب الحصول عند سلامة الأحوال وهي التعقلات الفطرية والثاني: ما يكون مكتسباً وهي التعقلات النظرية أما الفطرية فليست هي من لوازم جوهر الإنسان لأنه حال الطفولية لم يكن عالماً ألبتة فهذه الأنوار الفطرية إنما حصلت بعد أن لم تكن فلا بد لها من سبب وأما النظريات فمعلوم أن الفطرة الإنسانية قد يعتريها الزيغ في الأكثر وإذا كان كذلك فلا بد من هاد مرشد ولا مرشد فوق كلام الله تعالى وفوق إرشاد الأنبياء، فتكون منزلة آيات القرآن عند عين العقل بمنزلة نور الشمس عند العين الباصرة إذ به يتم الإبصار، فبالحري أن يسمى القرآن نوراً كما يسمى نور الشمس نوراً، فنور القرآن يشبه نور الشمس ونور العقل يشبه نور العين وبهذا يظهر معنى قوله: { { فَـئَامِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَٱلنّورِ ٱلَّذِي أَنزَلْنَا } [التغابن: 8] وقوله: { { قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مّن رَّبّكُمْ } [النساء: 174] { { وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً } [النساء: 174] وإذا ثبت أن بيان الرسول أقوى من نور الشمس وجب أن تكون نفسه القدسية أعظم في النورانية من الشمس، وكما أن الشمس في عالم الأجسام تفيد النور لغيره ولا تستفيده من غيره فكذا نفس النبي صلى الله عليه وسلم تفيد الأنوار العقلية لسائر الأنفس البشرية، ولا تستفيد الأنوار العقلية من شيء من الأنفس البشرية، فلذلك وصف الله تعالى الشمس بأنها سراج حيث قال: { { وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُّنِيراً } [الفرقان: 61] ووصف محمداً صلى الله عليه وسلم بأنه سراج منير، إذا عرفت هذا فنقول ثبت بالشواهد العقلية والنقلية أن الأنوار الحاصلة في أرواح الأنبياء مقتبسة من الأنوار الحاصلة في أرواح الملائكة قال تعالى: { { يُنَزّلُ ٱلْمَلَـٰئِكَةَ بِٱلْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَىٰ مَن يَشَآء مِنْ عِبَادِهِ } [النحل: 2] وقال: { { نَزَلَ بِهِ ٱلرُّوحُ ٱلأَمِينُ * عَلَىٰ قَلْبِكَ } [الشعراء: 193، 194] وقال: { { قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ ٱلْقُدُسِ مِن رَّبّكَ بِٱلْحَقّ } [النحل: 102] وقال تعالى: { { إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَىٰ * عَلَّمَهُ شَدِيدُ ٱلْقُوَىٰ } [النجم: 4، 5] والوحي لا يكون إلا بواسطة الملائكة فإذا جعلنا أرواح الأنبياء أعظم استنارة من الشمس فأرواح الملائكة التي هي كالمعادن لأنوار عقول الأنبياء لا بد وأن تكون أعظم من أنوار أرواح الأنبياء، لأن السبب لا بد وأن يكون أقوى من المسبب. ثم نقول ثبت أيضاً بالشواهد العقلية والنقلية أن الأرواح السماوية مختلفة فبعضها مستفيدة وبعضها مفيدة، قال تعالى في وصف جبريل عليه السلام: { { مُّطَـٰعٍ ثَمَّ أَمِينٍ } [التكوير: 21] وإذا كان هو مطاع الملائكة فالمطيعون لا بد وأن يكونوا تحت أمره وقال: { { وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ } [الصافات: 164] وإذا ثبت هذا فالمفيد أولى بأن يكون نوراً من المستفيد للعلة المذكورة ولمراتب الأنوار في عالم الأرواح مثال وهو أن ضوء الشمس إذا وصل إلى القمر ثم دخل في كوة بيت ووقع على مرآة منصوبة على حائط ثم انعكس منها إلى حائط آخر نصب عليه مرآة أخرى ثم انعكس منها إلى طست مملوء من الماء موضوع على الأرض انعكس منه إلى سقف البيت فالنور الأعظم في الشمس التي هي المعدن، وثانياً في القمر، وثالثاً ما وصل إلى المرآة الأولى، ورابعاً ما وصل إلى المرآة الثانية، وخامساً ما وصل إلى الماء، وسادساً ما وصل إلى السقف، وكل ما كان أقرب إلى المنبع الأول فإنه أقوى مما هو أبعد منه فكذا الأنوار السماوية لما كانت مرتبة لا جرم كان نور المفيد أشد إشراقاً من نور المستفيد، ثم تلك الأنوار لا تزال تكون مترقية حتى تنتهي إلى النور الأعظم والروح الذي هو أعظم الأرواح منزلة عند الله الذي هو المراد من قوله سبحانه: { { يَوْمَ يَقُومُ ٱلرُّوحُ وَٱلْمَلَـٰئِكَةُ صَفّاً } [النبأ: 38] ثم نقول لا شك أن هذه الأنوار الحسية إن كانت سفلية كانت كأنوار النيران أو علوية كانت كأنوار الشمس والقمر والكواكب، وكذا الأنوار العقلية سفلية كانت كالأرواح السفلية التي للأنبياء والأولياء أو علوية كالأرواح العلوية التي هي الملائكة، فإنها بأسرها ممكنة لذواتها والممكن لذاته يستحق العدم من ذاته والوجود من غيره، والعدم هو الظلمة الحاصلة والوجود هو النور، فكل ما سوى الله مظلم لذاته مستنير بإنارة الله تعالى وكذا جميع معارفها بعد وجودها حاصل من وجود الله تعالى، فالحق سبحانه هو الذي أظهرها بالوجود بعد أن كانت في ظلمات العدم وأفاض عليها أنوار المعارف بعد أن كانت في ظلمات الجهالة، فلا ظهور لشيء من الأشياء إلا بإظهاره، وخاصة النور إعطاء الإظهار والتجلي والانكشاف، وعند هذا يظهر أن النور المطلق هو الله سبحانه وأن إطلاق النور على غيره مجاز إذ كل ما سوى الله، فإنه من حيث هو هو ظلمة محضة لأنه من حيث إنه هو عدم محض، بل الأنوار إذا نظرنا إليها من حيث هي هي فهي ظلمات، لأنها من حيث هي هي ممكنات، والممكن من حيث هو هو معدوم، والمعدوم مظلم. فالنور إذا نظر إليه من حيث هو هو ظلمة، فأما إذا التفت إليها من حيث أن الحق سبحانه أفاض عليها نور الوجود فبهذا الاعتبار صارت أنواراً. فثبت أنه سبحانه هو النور. وأن كل ما سواه فليس بنور إلا على سبيل المجاز. ثم إنهرحمه الله تكلم بعد هذا في أمرين: الأول: أنه سبحانه لم أضاف النور إلى السموات والأرض؟ وأجاب فقال قد عرفت أن السموات والأرض مشحونة بالأنوار العقلية والأنوار الحسية، أما الحسية فما يشاهد في السموات من الكواكب والشمس والقمر وما يشاهد في الأرض من الأشعة المنبسطة على سطوح الأجسام حتى ظهرت به الألوان المختلفة، ولولاها لم يكن للألوان ظهور بل وجود، وأما الأنوار العقلية فالعالم الأعلى مشحون بها وهي جواهر الملائكة والعالم الأسفل مشحون بها وهي القوى النباتية والحيوانية والإنسانية وبالنور الإنساني السفلي ظهر نظام عالم السفل كما بالنور الملكي ظهور نظام عالم العلو، وهو المعنى بقوله تعالى: { { لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي ٱلأَرْضِ } [النور: 55] وقال: { { وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء ٱلأَرْضِ } [النمل: 62] فإذا عرفت هذا عرفت أن العالم بأسره مشحون بالأنوار الظاهرة البصرية والباطنية العقلية، ثم عرفت أن السفلية فائضة بعضها من بعض فيضان النور من السراج فإن السراج هو الروح النبوي، ثم إن الأنوار النبوية القدسية مقتبسة من الأرواح العلوية اقتباس السراج من النور، وأن العلويات مقتبسة بعضها من بعض وأن بينها ترتيباً في المقامات، ثم ترتقي جملتها إلى نور الأنوار ومعدنها ومنبعها الأول، وأن ذلك هو الله وحده لا شريك له، فإذن الكل نوره فلهذا قال: { ٱللَّهُ نُورُ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضِ }.

السؤال الثاني: فإذا كان الله النور فلم احتيج في إثباته إلى البرهان؟ أجاب فقال إن معنى كونه نور السموات والأرض معروف بالنسبة إلى النور الظاهر البصري، فإذا رأيت خضرة الربيع في ضياء النهار فلست تشك في أنك ترى الألوان فربما ظننت أنك لا ترى مع الألوان غيرها، فإنك تقول لست أرى مع الخضرة غير الخضرة إلا أنك عند غروب الشمس تدرك تفرقة ضرورية بين اللون حال وقوع الضوء عليه وعدم وقوعه عليه، فلا جرم تعرف أن النور معنى غير اللون يدرك مع الألوان إلا أنه كان لشدة اتحاده به لا يدرك ولشدة ظهوره يختفي وقد يكون الظهور سبب الخفاء، إذا عرفت هذا فاعلم أنه كما ظهر كل شيء للبصر بالنور الظاهر فقد ظهر كل شيء للبصيرة الباطنة بالله ونوره حاصل مع كل شيء لا يفارقه، ولكن بقي ههنا تفاوت وهو أن النور الظاهر يتصور أن يغيب بغروب الشمس، ويحجب فحينئذ يظهر أنه غير اللون، وأما النور الإلهي الذي به يظهر كل شيء لا يتصور غيبته بل يستحيل تغيره فيبقى مع الأشياء دائماً، فانقطع طريق الاستدلال بالتفرقة، ولو تصورت غيبته لانهدمت السموات والأرض ولأدرك عنده من التفرقة ما يحصل العلم الضروري به، ولكن لما تساوت الأشياء كلها على نمط واحد في الشهادة على وجود خالقها، وأن كل شيء يسبح بحمده لا بعض الأشياء، وفي جميع الأوقات لا في بعض الأوقات ارتفعت التفرقة وخفي الطريق، إذ الطريق الظاهر معرفة الأشياء بالأضداد فما لا ضد له ولا تغير له بتشابه أحواله، فلا يبعد أن يخفى ويكون خفاؤه لشدة ظهوره وجلائه، فسبحان من اختفى عن الخلق لشدة ظهوره واحتجب عنهم بإشراق نوره، واعلم أن هذا الكلام الذي رويناه عن الشيخ الغزاليرحمه الله كلام مستطاب ولكن يرجع حاصله بعد التحقيق إلى أن معنى كونه سبحانه نوراً أنه خالق للعالم وأنه خالق للقوى الدراكة، وهو المعنى من قولنا معنى كونه نور السموات والأرض أنه هادي أهل السموات والأرض، فلا تفاوت بين ما قاله وبين الذي نقلناه عن المفسرين في المعنى، والله أعلم.

الفصل الثاني: في تفسير قوله عليه الصلاة والسلام: «إن لله سبعين حجاباً من نور وظلمة لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه كل ما أدرك بصره» وفي بعض الروايات سبعمائة وفي بعضها سبعون ألفاً، فأقول: لما ثبت أن الله سبحانه وتعالى متجل في ذاته لذاته كان الحجاب بالإضافة إلى المحجوب لا محالة والمحجوب لا بد وأن يكون محجوباً، إما بحجاب مركب من نور وظلمة، وإما بحجاب مركب من نور فقط، أو بحجاب مركب من ظلمة فقط، أما المحجوبون بالظلمة المحضة فهم الذين بلغوا في الاشتغال بالعلائق البدنية إلى حيث لم يلتفت خاطرهم إلى أنه هل يمكن الاستدلال بوجود هذه المحسوسات على وجود واجب الوجود أم لا؟ وذلك لأنك قد عرفت أن ما سوى الله تعالى من حيث هو هو مظلم، وإنما كان مستنيراً من حيث استفاد النور من حضرة الله تعالى، فمن اشتغل بالجسمانيات من حيث هي هي وصار ذلك الاشتغال حائلاً له عن الالتفات إلى جانب النور كان حجابه محض الظلمة، ولما كانت أنواع الاشتغال بالعلائق البدنية خارجة عن الحد والحصر فكذا أنواع الحجب الظلمانية خارجة عن الحد والحصر.

القسم الثاني: المحجوبوبن بالحجب الممزوجة من النور والظلمة

اعلم أن من نظر إلى هذه المحسوسات فإما أن يعتقد فيها أنها غنية عن المؤثر، أو يعتقد فيها أنها محتاجة، فإن اعتقد أنها غنية فهذا حجاب ممزوج من نور وظلمة أما النور: فلأنه تصور ماهية الاستغناء عن الغير، وذلك من صفات جلال الله تعالى وهو من صفات النور وأما الظلمة: فلأنه اعتقد حصول ذلك الوصف في هذه الأجسام مع أن ذلك الوصف لا يليق بهذا الوصف وهذا ظلمة، فثبت أن هذا حجاب ممزوج من نور وظلمة، ثم أصناف هذا القسم كثيرة، فإن من الناس من يعتقد أن الممكن غني عن المؤثر، ومنهم من يسلم ذلك لكنه يقول المؤثر فيها طبائعها أو حركاتها أو اجتماعها وافتراقها أو نسبتها إلى حركات الأفلاك أو إلى محركاتها وكل هؤلاء من هذا القسم.

القسم الثالث: الحجب النورانية المحضة

واعلم أنه لا سبيل إلى معرفة الحق سبحانه إلا بواسطة تلك الصفات السلبية والإضافية ولا نهاية لهذه الصفات ولمراتبها، فالعبد لا يزال يكون مترقياً فيها فإن وصل إلى درجة وبقي فيها كان استغراقه في مشاهدة تلك الدرجة حجاباً له عن الترقي إلى ما فوقها، ولما كان لا نهاية لهذه الدرجات كان العبد أبداً في السير والانتقال، وأما حقيقته المخصوصة فهي محتجبة عن الكل فقد أشرنا إلى كيفية مراتب الحجب، وأنت تعرف أنه عليه الصلاة والسلام إنما حصرها في سبعين ألفا تقريباً لا تحديداً فإنها لا نهاية لها في الحقيقة.

الفصل الثالث في شرح كيفية التمثيل

اعلم أنه لا بد في التشبيه من أمرين: المشبه والمشبه به، واختلف الناس ههنا في أن المشبه أي شي هو؟ وذكروا وجوهاً: أحدها: وهو قول جمهور المتكلمين ونصره القاضي أن المراد من الهدى التي هي الآيات البينات، والمعنى أن هداية الله تعالى قد بلغت في الظهور والجلاء إلى أقصى الغايات وصارت في ذلك بمنزلة المشكاة التي تكون فيها زجاجة صافية. وفي الزجاجة مصباح يتقد بزيت بلغ النهاية في الصفاء، فإن قيل لم شبهه بذلك وقد علمنا أن ضوء الشمس أبلغ من ذلك بكثير، قلنا إنه سبحانه أراد أن يصف الضوء الكامل الذي يلوح وسط الظلمة لأن الغالب على أوهام الخلق وخيالاتهم إنما هو الشبهات التي هي كالظلمات وهداية الله تعالى فيما بينها كالضوء الكامل الذي يظهر فيما بين الظلمات، وهذا المقصود لا يحصل من ضوء الشمس لأن ضوءها إذا ظهر امتلأ العالم من النور الخالص، وإذا غاب امتلأ العالم من الظلمة الخالصة فلا جرم كان ذلك المثل ههنا أليق وأوفق، واعلم أن الأمور التي اعتبرها الله تعالى في هذا المثال مما توجب كمال الضوء فأولها: المصباح لأن المصباح إذا لم يكن في المشكاة تفرقت أشعته، أما إذا وضع في المشكاة اجتمعت أشعته فكانت أكثر إنارة، والذي يحقق ذلك أن المصباح إذا كان في بيت صغير فإنه يظهر من ضوئه أكثر مما يظهر في البيت الكبير وثانيها: أن المصباح إذا كان في زجاجة صافية فإن الأشعة المنفصلة عن المصباح تنعكس من بعض جوانب الزجاجة إلى البعض لما في الزجاجة من الصفاء والشفافية وبسبب ذلك يزداد الضوء والنور، والذي يحقق ذلك أن شعاع الشمس إذا وقع على الزجاجة الصافية تضاعف الضوء الظاهر حتى أنه يظهر فيما يقابله مثل ذلك الضوء، فإن انعكست تلك الأشعة من كل واحد من جوانب الزجاجة إلى الجانب الآخر كثرت الأنوار والأضواء وبلغت النهاية الممكنة وثالثها: أن ضوء المصباح يختلف بحسب اختلاف ما يتقد به، فإذا كان ذلك الدهن صافياً خالصاً كانت حالته بخلاف حالته إذا كان كدراً وليس في الأدهان التي توقد ما يظهر فيه من الصفاء مثل الذي يظهر في الزيت فربما يبلغ في الصفاء والرقة مبلغ الماء مع زيادة بياض فيه وشعاع يتردد في أجزائه ورابعها: أن هذا الزيت يختلف بحسب اختلاف شجرته، فإذا كانت لا شرقية ولا غربية بمعنى أنها كانت بارزة للشمس في كل حالاتها يكون زيتونها أشد نضجاً، فكان زيته أكثر صفاء وأقرب إلى أن يتميز صفوه من كدره لأن زيادة الشمس تؤثر في ذلك، فإذا اجتمعت هذه الأمور الأربعة وتعاونت صار ذلك الضوء خالصاً كاملاً فيصلح أن يجعل مثلاً لهداية الله تعالى وثانيها: أن المراد من النور في قوله: { وَٱلأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ } القرآن ويدل عليه قوله تعالى: { { قَدْ جَاءكُمْ مّنَ ٱللَّهِ نُورٌ } [المائدة: 15] وهو قول الحسن وسفيان بن عيينة وزيد بن أسلم وثالثها: أن المراد هو الرسول لأنه المرشد، ولأنه تعالى قال في وصفه: { { وَسِرَاجاً مُّنِيراً } [الأحزاب: 46] وهو قول عطاء، وهذان القولان داخلان في القول الأول، لأن من جملة أنواع الهداية إنزال الكتب وبعثة الرسل. قال تعالى في صفة الكتب: { { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِى مَا ٱلْكِتَـٰبُ وَلاَ ٱلإِيمَـٰنُ } [الشورى: 52] وقال في صفة الرسل: { { رُّسُلاً مُّبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى ٱللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ ٱلرُّسُلِ } [النساء: 165] ورابعها: أن المراد منه ما في قلب المؤمنين من معرفة الله تعالى ومعرفة الشرائع، ويدل عليه أن الله تعالى وصف الإيمان بأنه نور والكفر بأنه ظلمة، فقال: { { أَفَمَن شَرَحَ ٱللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلَـٰمِ فَهُوَ عَلَىٰ نُورٍ مّن رَّبّهِ } [الزمر: 22] وقال تعالى: { لّيُخْرِجَ ٱلنَّاسَ مِنَ ٱلظُّلُمَـٰتِ إِلَى ٱلنُّورِ } وحاصله أنه حمل الهدى على الاهتداء، والمقصود من التمثيل أن إيمان المؤمن قد بلغ في الصفاء عن الشبهات، والامتياز عن ظلمات الضلالات مبلغ السراج المذكور، وهو قول أبي ابن كعب وابن عباس، قال أبي: مثل نور المؤمن، وهكذا كان يقرأ، وقيل إنه كان يقرأ: مثل نور من آمن به، وقال ابن عباس: مثل نوره في قلب المؤمن وخامسها: ما ذكره الشيخ الغزاليرحمه الله وهو: أنا بينا أن القوى المدركة أنوار، ومراتب القوى المدركة الإنسانية خمسة أحدها: القوة الحساسة، وهي التي تتلقى ما تورده الحواس الخمس وكأنها أصل الروح الحيواني، وأوله إذ به يصير الحيوان حيواناً وهو موجود للصبي الرضيع وثانيها: القوة الخيالية وهي التي تستثبت ما أورده الحواس وتحفظه مخزوناً عندها لتعرضه على القوة العقلية التي فوقها عند الحاجة إليه. وثالثها: القوة العقلية المدركة للحقائق الكلية ورابعها: القوة الفكرية وهي التي تأخذ المعارف العقلية فتؤلفها تأليفاً فتستنتج من تأليفها علماً بمجهول وخامسها: القوة القدسية التي تختص بها الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وبعض الأولياء، وتتجلى فيها لوائح الغيب وأسرار الملكوت وإليه الإشارة بقوله تعالى: { { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِى مَا ٱلْكِتَـٰبُ وَلاَ ٱلإِيمَـٰنُ وَلَـٰكِن جَعَلْنَـٰهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَن نَشَاء مِنْ عِبَادِنَا } [والشورى: 52] وإذا عرفت هذه القوى فهي بجملتها أنوار، إذ بها تظهر أصناف الموجودات، وأن هذه المراتب الخمسة يمكن تشبيهها بالأمور الحسنة التي ذكرها الله تعالى وهي: المشكاة والزجاجة والمصباح والشجرة والزيت. أما الروح الحساس فإذا نظرت إلى خاصيته وجدت أنواره خارجة من عدة أثقب كالعينين والأذنين والمنخرين وأوفق مثال له من عالم الأجسام المشكاة وأما الثاني: وهو الروح الحيالي فنجد له خواص ثلاثة: الأولى: أنه من طينة العالم السفلي الكثيف لأن الشيء المتخيل ذو قدر وشكل وحيز، ومن شأن العلائق الجسمانية أن تحجب عن الأنوار العقلية المحضة التي هي التعقلات الكلية المجردة والثانية: أن هذا الخيال الكثيف إذا صفا ورق وهذب صار موازناً للمعاني العقلية ومؤدياً لأنوارها وغير حائل عن إشراق نورها، ولذلك فإن المعبر يستدل بالصور الخيالية على المعاني العقلية، كما يستدل بالشمس على الملك، وبالقمر على الوزير، وبمن يختم فروج الناس وأفواههم على أنه مؤذن يؤذن قبل الصبح والثالثة: أن الخيال في بداية الأمر محتاج إليه جداً ليضبط بها المعارف العقلية ولا تضطرب، فنعم المثالات الخيالية الجالبة للمعارف العقلية، وأنت لا تجد شيئاً في الأجسام يشبه الخيال في هذه الصفات الثلاثة إلا الزجاجة، فإنها في الأصل من جوهر كثيف ولكن صفا ورق حتى صار لا يحجب نور المصباح بل يؤديه على وجهه، ثم يحفظه على الانطفاء بالرياح العاصفة وأما الثالث: وهو القوة العقلية فهي القوية على إدراك الماهيات الكلية والمعارف الإلهية، فلا يخفى عليك وجه تمثيله بالمصباح، وقد عرفت هذا حيث بينا كون الأنبياء سرجاً منيرة وأما الرابع: وهو القوة الفكرية فمن خواصها أنها تأخذ ماهية واحدة، ثم تقسمها إلى قسمين كقولنا الموجود إما واجب وإما ممكن، ثم تجعل كل قسم مرة أخرى قسمين وهكذا إلى أن تكثر الشعب بالتقسيمات العقلية، ثم تقضي بالآخرة إلى نتائج وهي ثمراتها، ثم تعود فتجعل تلك الثمرات بذوراً لأمثالها حتى تتأدى إلى ثمرات لا نهاية لها، فبالحري أن يكون مثاله من هذا العالم الشجرة، وإذا كانت ثمارها مادة لتزايد أنوار المعارف ونباتها، فبالحري أن لا يمثل بشجرة السفرجل والتفاح، بل بشجرة الزيتون خاصة، لأن لب ثمرتها هو الزيت الذي هو مادة المصابيح، وله من بين سائر الأدهان خاصية زيادة الإشراق وقلة الدخان، وإذا كانت الماشية التي يكثر درها ونسلها والشجرة التي تكثر ثمرتها تسمى مباركة فالذي لا يتناهى إلى حد محدود أولى أن يسمى شجرة مباركة، وإذا كانت شعب الأفكار العقلية المحضة مجردة عن لواحق الأجسام، فبالحري أن تكون لا شرقية ولا غربية وأما الخامس: وهو القوة القدسية النبوية فهي في نهاية الشرف والصفاء، فإن القوة الفكرية تنقسم إلى ما يحتاج إلى تعليم وتنبيه وإلى ما لا يحتاج إليه، ولا بد من وجود هذا القسم قطعاً للتسلسل، فبالحري أن يعبر عن هذا القسم بكماله وصفائه وشدة استعداده بأنه يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار، فهذا المثال موافق لهذا القسم، ولما كانت هذه الأنوار مرتبة بعضها على بعض فالحس هو الأول وهو كالمقدمة للخيال والخيال كالمقدمة للعقل، فبالحري أن تكون المشكاة كالظرف للزجاجة التي هي كالظرف للمصباح وسادسها: ما ذكره أبو علي بن سينا فإنه نزل هذه الأمثلة الخمسة على مراتب إدراكات النفس الإنسانية، فقال لا شك أن النفس الإنسانية قابلة للمعارف الكلية والإدراكات المجردة، ثم إنها في أول الأمر تكون خالية عن جميع هذه المعارف فهناك تسمى عقلاً هيولياً وهي المشكاة وفي المرتبة الثانية: يحصل فيها العلوم البديهية التي يمكن التوصل بتركيباتها إلى اكتساب العلوم النظرية، ثم إن أمكنة الانتقال إن كانت ضعيفة فهي الشجرة، وإن كانت أقوى من ذلك فهي الزيت، وإن كانت شديدة القوة جداً فهي الزجاجة التي تكون كأنها الكوكب الدري، وإن كانت في النهاية القصوى وهي النفس القدسية التي للأنبياء فهي التي يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار وفي المرتبة الثالثة: يكتسب من العلوم الفطرية الضرورية العلوم النظرية إلا أنها لا تكون حاضرة بالفعل ولكنها تكون بحيث متى شاء صاحبها استحضارها قدر عليه وهذا يسمى عقلاً بالفعل وهذا المصباح وفي المرتبة الرابعة: أن تكون تلك المعارف الضرورية والنظرية حاصلة بالفعل ويكون صاحبها كأنه ينظر إليها وهذا يسمى عقلاً مستفاداً وهو نور على نور لأن الملكة نور وحصول ما عليه الملكة نور آخر، ثم زعم أن هذه العلوم التي تحصل في الأرواح البشرية، إنما تحصل من جوهر روحاني يسمى بالعقل الفعال وهو مدبر ما تحت كرة القمر وهو النار وسابعها: قول بعض الصوفية هو أنه سبحانه شبه الصدر بالمشكاة والقلب بالزجاجة والمعرفة بالمصباح، وهذا المصباح إنما توقد من شجرة مباركة وهي إلهامات الملائكة لقوله تعالى: { { يُنَزّلُ ٱلْمَلَـٰئِكَةَ بِٱلْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ } [النحل: 2] وقوله: { { نَزَلَ بِهِ ٱلرُّوحُ ٱلأَمِينُ * عَلَىٰ قَلْبِكَ } [الشعراء: 193، 194] وإنما شبه الملائكة بالشجرة المباركة لكثرة منافعهم، وإنما وصفها بأنها لا شرقية ولا غربية لأنها روحانية وإنما وصفهم بقوله: { يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيء وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ } لكثرة علومها وشدة إطلاعها على أسرار ملكوت الله تعالى والظاهر ههنا أن المشبه غير المشبه به وثامنها: قال مقاتل مثل نوره أي مثل نور الإيمان في قلب محمد صلى الله عليه وسلم كمشكاة فيها مصباح، فالمشكاة نظير صلب عبدالله والزجاجة نظير جسد محمد صلى الله عليه وسلم والمصباح نظير الإيمان في قلب محمد أو نظير النبوة في قلبه وتاسعها: قال قوم المشكاة نظير إبراهيم عليه السلام والزجاجة نظير إسماعيل عليه السلام والمصباح نظير جسد محمد صلى الله عليه وسلم والشجرة النبوة والرسالة وعاشرها: أن قوله مثل نوره يرجع إلى المؤمن وهو قول أبي بن كعب وكان يقرأها مثل نور المؤمن، وهو قول سعيد بن جبير والضحاك، واعلم أن القول الأول هو المختار لأنه تعالى ذكر قبل هذه الآية: { وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ ءَايَـٰتٍ مُّبَيّنَـٰتٍ } فإذا كان المراد بقوله: { مَثَلُ نُورِهِ } أي مثل هداه وبيانه كان ذلك مطابقاً لما قبله، ولأن لما فسرنا قوله: { ٱللَّهُ نُورُ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضِ } بأنه هادي أهل السموات والأرض فإذا فسرنا قوله: { مَثَلُ نُورِهِ } بأن المراد مثل هداه كان ذلك مطابقاً لما قبله.

الفصل الرابع ـ في بقية المباحث المتعلقة بهذه الآية

وفيه مسائل:

المسألة الأولى: المشكاة الكوة في الجدار غير النافذة، هذا هو القول المشهور، وذكروا فيه وجوهاً أخر: أحدها: قال ابن عباس وأبو موسى الأشعري المشكاة القائم الذي في وسط القنديل الذي يدخل فيه الفتيلة، وهو قول مجاهد والقرظي والثاني: قال الزجاج هي ههنا قصبة القنديل من الزجاجة التي توضع فيها الفتيلة الثالث: قال الضحاك إنها الحلقة التي يعلق بها القنديل والأول هو الأصح.

المسألة الثانية: زعموا أن المشكاة هي الكوة بلغة الحبشة، قال الزجاج المشكاة من كلام العرب ومثلها المشكاة وهي الدقيق الصغير.

المسألة الثالثة: قال بعضهم هذه الآية من المقلوب، والتقدير مثل نوره كمصباح في مشكاة لأن المشبه به هو الذي يكون معدناً للنور ومنبعاً له وذلك هو المصباح لا المشكاة.

المسألة الرابعة: المصباح السراج وأصله من الضوء ومنه الصبح.

المسألة الخامسة: قرىء { زُجَاجَةٍ } الزجاجة بالضم والفتح والكسر، أما { دُرِّيٌّ } فقرىء بضم الدال وكسرها وفتحها، أما الضم ففيه ثلاثة أوجه: الأول: ضم الدال وتشديد الراء والياء من غير همز وهو القراءة المعروفة، ومعناه أنه يشبه الدر لصفائه ولمعانه، وقال عليه الصلاة والسلام: " إنكم لترون أهل الدرجات العلى كما ترون الكوكب الدري في أفق السماء " الثاني: أنه كذلك إلا أنه بالمد والهمزة وهو قراءة حمزة وعاصم في رواية أبي بكر وصار بعض أهل العربية إلى أنه لحن قال سيبويه وهذا أضعف اللغات وهو مأخوذ من الضوء والتلألؤ وليس بمنسوب إلى الدر، قال أبو علي وجه هذه القراءة أنه فعيل من الدرء بمعنى الدفع وأنه صفة وأنه في الصفة مثل المرىء في الاسم والثالث: ضم الدال وتخفيف الراء والياء من غير مد ولا همز، أما الكسر ففيه وجهان: الأول: درىء بكسر الدال وتشديد الراء والمد والهمز، وهي قراءة أبي عمرو والكسائي قال الفراء هو فعيل من الدرء وهو الدفع كالسكير والفسيق فكان ضوأه يدفع بعضه بعضاً من لمعانه الثاني: بكسر الدال وتشديد الراء من غير همز ولا مد وهي قراءة ابن خليد وعتبة بن حماد عن نافع، أما الفتح ففيه وجوه أربعة: الأول: بفتح الدال وتشديد الراء والمد والهمز عن الأعمش الثاني: بفتح الدال وتشديد الراء من غير مد ولا همز عن الحسن ومجاهد وقتادة الثالث: بفتح الدال وتخفيف الراء مهموزاً من غير مد ولا ياء عن عاصم الرابع: كذلك إلا أنه غير مهموز وبياء خفيفة بدل الهمزة، أما قوله: { توقد } القراءة المعروفة توقد بالفتحات الأربعة مع تشديد القاف بوزن تفعل وعن الحسن ومجاهد وقتادة كذلك إلا أنه يضم الدال، وذكر صاحب «الكشاف» يوقد بفتح الياء المنقوطة من تحت بنقطتين والواو والقاف وتشديدها ورفع الدال قال وحذف التاء لاجتماع حرفين زائدين وهو غريب، وعن سعيد بن جبير بياء مضمومة وإسكان الواو وفتح القاف مخففة ورفع الدال وعن نافع وحفص كذلك إلا أنه بالتاء، وعن عاصم بياء مضمومة وفتح الواو وتشديد القاف وفتحها، وعن أبي عمرو كذلك إلا أنه بالتاء، وعن طلحة توقد بتاء مضمومة وواو ساكن وكسر القاف وتخفيفها.

المسألة السادسة: قوله: { كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرّيٌّ } أي ضخم مضيء ودراري النجوم عظامها، واتفقوا على أن المراد به كوكب من الكواكب المضيئة كالزهرة والمشتري والثوابت التي في العظم الأول.

المسألة السابعة: قوله: { مِن شَجَرَةٍ مُّبَـٰرَكَةٍ } أي من زيت شجرة مباركة أي كثيرة البركة والنفع، وقيل هي أول شجرة نبتت بعد الطوفان وقد بارك فيها سبعون نبياً، منهم الخليل، وقيل المراد زيتون الشام، لأنها هي الأرض المباركة فلهذا جعل الله هذه شجرة مباركة.

المسألة الثامنة: اختلفوا في معنى وصف الشجرة بأنها لا شرقية ولا غربية على وجوه: أحدها: قال الحسن إنها شجرة الزيت من الجنة إذ لو كانت من شجر الدنيا لكانت إما شرقية أو غربية وهذا ضعيف لأنه تعالى إنما ضرب المثل بما شاهدوه وهم ما شاهدوا شجرة الجنة وثانيها: أن المراد شجرة الزيتون في الشام لأن الشام وسط الدنيا فلا يوصف شجرها بأنها شرقية أو غربية وهذا أيضاً ضعيف لأن من قال الأرض كرة لم يثبت المشرق والمغرب موضعين معينين بل لكل بلد مشرق ومغرب على حدة، ولأن المثل مضروب لكل من يعرف الزيت، وقد يوجد في غير الشام كوجوده فيها وثالثها: أنها شجرة تلتف بها الأشجار فلا تصيبها الشمس في شرق ولا غرب، ومنهم من قال هي شجرة يلتف بها ورقها التفافاً شديداً فلا تصل الشمس إليها سواء كانت الشمس شرقية أو غربية، وليس في الشجر ما يورق غصنه من أوله إلى آخره مثل الزيتون والرمان، وهذا أيضاً ضعيف لأن الغرض صفاء الزيت وذلك لا يحصل إلا بكمال نضج الزيتون وذلك إنما يحصل في العادة بوصول أثر الشمس إليه لا بعدم وصوله ورابعها: قال ابن عباس المراد الشجرة التي تبرز على جبل عال أو صحراء واسعة فتطلع الشمس عليها حالتي الطلوع والغروب، وهذا قول ابن عباس وسعيد بن جبير وقتادة واختيار الفراء والزجاج، قالا ومعناه لا شرقية وحدها ولا غربية وحدها ولكنها شرقية وغربية وهو كما يقال فلان لا مسافر ولا مقيم إذا كان يسافر ويقيم، وهذا القول هو المختار لأن الشجرة متى كانت كذلك كان زيتها في نهاية الصفاء وحينئذ يكون مقصود التمثيل أكمل وأتم وخامسها: المشكاة صدر محمد صلى الله عليه وسلم والزجاجة قلبه والمصباح ما في قلبه صلى الله عليه وسلم من الدين، توقد من شجرة مباركة، يعني واتبعوا ملة أبيكم إبراهيم صلوات الله عليه فالشجرة هي إبراهيم عليه السلام، ثم وصف إبراهيم فقال لا شرقية ولا غربية أي لم يكن يصلي قبل المشرق ولا قبل المغرب كاليهود والنصارى بل كان عليه الصلاة والسلام يصلي إلى الكعبة.

المسألة التاسعة: وصف الله تعالى زيتها بأنه يكاد يضيء ولو لم تمسسه نار لأن الزيت إذا كان خالصاً صافياً ثم رؤي من بعيد يرى كأن له شعاعاً، فإذا مسه النار ازداد ضوءً على ضوء، كذلك يكاد قلب المؤمن يعمل بالهدى قبل أن يأتيه العلم، فإذا جاءه العلم ازداد نوراً على نور وهدى على هدى، قال يحيى بن سلام قلب المؤمن يعرف الحق قبل أن يبين له لموافقته له، وهو المراد من قوله عليه الصلاة والسلام: " اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله " وقال كعب الأحبار المراد من الزيت نور محمد صلى الله عليه وسلم أي يكاد نوره يبين للناس قبل أن يتكلم، وقال الضحاك يكاد محمد صلى الله عليه وسلم يتكلم بالحكمة قبل الوحي، وقال عبدالله بن رواحة:

لو لم تكن فيه آيات مبينة كانت بديهته تنبيك بالخبر

المسألة العاشرة: قوله تعالى: { نُّورٌ عَلَىٰ نُورٍ } المراد ترادف هذه الأنوار واجتماعها، قال أبي بن كعب: المؤمن بين أربع خلال إن أعطي شكر وإن ابتلي صبر وإن قال صدق وإن حكم عدل، فهو في سائر الناس كالرجل الحي الذي يمشي بين الأموات يتقلب في خمس من النور، كلامه نور وعمله نور ومدخله نور ومخرجه نور ومصيره إلى النور يوم القيامة، قال الربيع سألت أبا العالية عن مدخله ومخرجه فقال سره وعلانيته.

المسألة الحادية عشرة: قال الجبائي دلت الآية على أن كل من جهل فمن قبله أتى وإلا فالأدلة واضحة ولو نظروا فيها لعرفوا، قال أصحابنا هذه الآية صريح مذهبنا فإنه سبحانه بعد أن بين أن هذه الدلائل بلغت في الظهور والوضوح إلى هذا الحد الذي لا يمكن الزيادة عليه، قال: { يَهْدِي ٱللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ } يعني وضوح هذه الدلائل لا يكفي ولا ينفع ما لم يخلق الله الإيمان ولا يمكن أن يكون المراد من قوله: { يَهْدِي ٱللَّهُ } إيضاح الأدلة والبيانات لأنا لو حملنا النور على إيضاح الأدلة لم يجز حمل الهدى عليه أيضاً، وإلا لخرج الكلام عن الفائدة، فلم يبق إلا حمل الهدى ههنا على خلق العلم أجاب أبو مسلم بن بحر عنه من وجهين: الأول: أن قوله: { يَهْدِي ٱللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ } محمول على زيادات الهدى الذي هو كالضد للخذلان الحاصل للضال الثاني: أنه سبحانه يهدي لنوره الذي هو طريق الجنة من يشاء وشبهه بقوله: { { يَسْعَىٰ نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَـٰنِهِم بُشْرَاكُمُ ٱلْيَوْمَ جَنَّـٰتٌ } [الحديد: 12] وزيف القاضي عبد الجبار هذين الجوابين أما الأول: فلأن الكلام المتقدم هو في ذكر الآيات المنزلة فإذا حلمناه على الهدى دخل الكل فيه وإذا حملناه على الزيادة لم يدخل فيه إلا البعض، وإذا حمل على طريق الجنة لا يكون داخلاً فيه أصلاً إلا من حيث المعنى لا من حيث اللفظ ولما زيف هذين الجوابين، قال الأولى أن يقال إنه تعالى هدى بذلك البعض دون البعض وهم الذين بلغهم حد التكليف.

واعلم أن هذا الجواب أضعف من الجوابين الأولين، لأن قوله: { يَهْدِي ٱللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ } يفهم منه أن هذه الآيات مع وضوحها لا تكفي، وهذا لا يتناول الصبي والمجنون فسقط ما قالوه.

المسألة الثانية عشرة: قوله تعالى: { وَيَضْرِبُ ٱللَّهُ ٱلأَمْثَالَ لِلنَّاسِ } والمراد للمكلفين من الناس وهو النبي ومن بعث إليه، فإنه سبحانه ذكر ذلك في معرض النعمة العظيمة، واستدلت المعتزلة به فقالوا إنما يكون ذلك نعمة عظيمة لو أمكنهم الانتفاع به، ولو كان الكل بخلق الله تعالى لما تمكنوا من الانتفاع به، وجوابه ما تقدم، ثم بين أنه سبحانه { بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } وذلك كالوعيد لمن لا يعتبر ولا يتفكر في أمثاله ولا ينظر في أدلته فيعرف وضوحها وبعدها عن الشبهات.