خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَعِبَادُ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَىٰ ٱلأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً
٦٣
وَالَّذِينَ يِبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً
٦٤
وَٱلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا ٱصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً
٦٥
إِنَّهَا سَآءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً
٦٦
وَٱلَّذِينَ إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً
٦٧
-الفرقان

مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير

اعلم أن قوله: { وَعِبَادُ ٱلرَّحْمَـٰنِ } مبتدأ خبره في آخر السورة كأنه قيل وعباد الرحمن الذين هذه صفاتهم أولئك يجزون الغرفة، ويجوز أن يكون خبره { ٱلَّذِينَ يَمْشُونَ }، واعلم أنه سبحانه خص اسم العبودية بالمشتغلين بالعبودية، فدل ذلك على أن هذه الصفة من أشرف صفات المخلوقات، وقرىء { وَعِبَادُ ٱلرَّحْمَـٰنِ } واعلم أنه سبحانه وصفهم بتسعة أنواع من الصفات:

الصفة الأولى: قوله: { ٱلَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَىٰ ٱلأَرْضِ هَوْناً } وهذا وصف سيرتهم بالنهار وقرىء { يَمْشُونَ } { هَوْناً } حال أو صفة للمشي بمعنى هينين أو بمعنى مشياً هيناً، إلا أن في وضع المصدر موضع الصفة مبالغة، والهون الرفق واللين ومنه الحديث " أحبب حبيبك هوناً ما " وقوله: " المؤمنون هينون لينون " والمعنى أن مشيهم يكون في لين وسكينة ووقار وتواضع، ولا يضربون بأقدامهم (ولا يخفقون بنعالهم) أشراً وبطراً، ولا يتبخترون لأجل الخيلاء كما قال: { { وَلاَ تَمْشِ فِى ٱلأَرْضِ مَرَحًا } [الإسراء: 37] وعن زيد بن أسلم التمست تفسير { هَوْناً } فلم أجد، فرأيت في النوم فقيل لي هم الذين لا يريدون الفساد في الأرض، وعن ابن زيد لا يتكبرون ولا يتجبرون ولا يريدون علواً في الأرض.

الصفة الثانية: قوله تعالى: { وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَـٰهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً } معناه لا نجاهلكم ولا خير بيننا ولا شر أي نسلم منكم تسليماً، فأقيم السلام مقام التسليم، ثم يحتمل أن يكون مرادهم طلب السلامة والسكوت، ويحتمل أن يكون المراد التنبيه على سوء طريقتهم لكي يمتنعوا، ويحتمل أن يكون مرادهم العدول عن طريق المعاملة، ويحتمل أن يكون المراد إظهار الحلم في مقابلة الجهل، قال الأصم: { قَالُواْ سَلاَماً } أي سلام توديع لا تحية، كقول إبراهيم لأبيه: { { سَلَـٰمٌ عَلَيْكَ } [مريم: 47] ثم قال الكلبي وأبو العالية نسختها آية القتال ولا حاجة إلى ذلك لأن الإغضاء عن السفهاء وترك المقابلة مستحسن في العقل والشرع وسبب لسلامة العرض والورع.

الصفة الثالثة: قوله: { وَالَّذِينَ يِبِيتُونَ لِرَبّهِمْ سُجَّداً وَقِيَـٰماً } واعلم أنه تعالى لما ذكر سيرتهم في النهار من وجهين: أحدهما: ترك الإيذاء، وهو المراد من قوله: { يَمْشُونَ عَلَىٰ ٱلأَرْضِ هَوْناً } والآخر تحمل التأذي، وهو المراد من قوله: { وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَـٰهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً } فكأنه شرح سيرتهم مع الخلق في النهار، فبين في هذه الآيات سيرتهم في الليالي عند الاشتغال بخدمة الخالق وهو كقوله: { { تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمْ عَنِ ٱلْمَضَاجِعِ } [السجدة: 16] ثم قال الزجاج: كل من أدركه الليل قيل بات وإن لم ينم كما يقال بات فلان قلقاً، ومعنى { يِبِيتُونَ لِرَبّهِمْ } أن يكونوا في لياليهم مصلين، ثم اختلفوا فقال بعضهم: من قرأ شيئاً من القرآن في صلاة وإن قل، فقد بات ساجداً وقائماً، وقيل ركعتين بعد المغرب وأربعاً بعد العشاء الأخيرة، والأولى أنه وصف لهم بإحياء الليل أو أكثره يقال فلان يظل صائماً ويبيت قائماً، قال الحسن يبيتون لله على أقدامهم ويفرشون له وجوههم تجري دموعهم على خدودهم خوفاً من ربهم.

الصفة الرابعة: قوله: { وَٱلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا ٱصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً } قال ابن عباس رضي الله عنهما يقولون في سجودهم وقيامهم هذا القول، وقال الحسن خشعوا بالنهار وتعبوا بالليل فرقاً من عذاب جهنم، وقوله: { غَرَاماً } أي هلاكاً وخسراناً ملحاً لازماً، ومنه الغريم لإلحاحه وإلزامه، ويقال فلان مغرم بالنساء إذا كان مولعاً بهن، وسأل نافع بن الأزرق ابن عباس عن الغرام فقال هو الموجع، وعن محمد بن كعب في { غَرَاماً } أنه سأل الكفار ثمن نعمه فما أدوها إليه فأغرمهم فأدخلهم النار، واعلم أنه تعالى وصفهم بإحياء الليل ساجدين وقائمين، ثم عقبه بذكر دعوتهم هذه إيذاناً بأنهم مع اجتهادهم خائفون مبتهلون إلى الله في صرف العذاب عنهم كقوله: { { وَٱلَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا ءاتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ } [المؤمنون: 60].

أما قوله تعالى: { إِنَّهَا سَاءتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً } فقوله: { سَاءتْ } في حكم بئست وفيها ضمير مبهم تفسيره (مستقراً)، والمخصوص بالذم محذوف معناه ساءت مستقراً ومقاماً هي (وهذا الضمير هو الذي ربط الجملة باسم إن وجعلها خبراً، لها، ويجوز أن يكون ساءت بمعنى أحزنت، وفيها ضمير اسم إن) ومستقراً حال أو تمييز، فإن قيل دلت الآية على أنهم سألوا الله تعالى أن يصرف عنهم عذاب جهنم لعلتين: إحداهما أن عذابها كان غراماً، وثانيهما: أنها ساءت مستقراً ومقاماً، فما الفرق بين الوجهين؟ وأيضاً فما الفرق بين المستقر والمقام؟ قلنا المتكلمون ذكروا أن عقاب الكافر يجب أن يكون مضرة خالصة عن شوائب النفع دائمة، فقوله: { إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً } إشارة إلى كونه مضرة خالصة عن شوائب النفع، وقوله: { إِنَّهَا سَاءتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً } إشارة إلى كونها دائمة، ولا شك في المغايرة، أما الفرق بين المستقر والمقام فيحتمل أن يكون المستقر للعصاة من أهل الإيمان فإنهم يستقرون في النار ولا يقيمون فيها، وأما الإقامة فللكفار، واعلم أن قوله: { إِنَّهَا سَاءتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً } يمكن أن يكون من كلام الله تعالى ويمكن أن يكون حكاية لقولهم.

الصفة الخامسة: قوله: { وَٱلَّذِينَ إِذَا أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً } قرىء { يَقْتُرُواْ } بكسر التاء وضمها ويقتروا بضم الياء وتخفيف القاف وكسر التاء وأيضاً بضم الياء وفتح القاف وكسر التاء وتشديدها وكلها لغات. والقتر والإقتار والتقتير التضييق الذي هو نقيض الإسراف، والإسراف مجاوزة الحد في النفقة. وذكر المفسرون في الإسراف والتقتير وجوهاً: أحدها: وهو الأقوى أنه تعالى وصفهم بالقصد الذي هو بين الغلو والتقصير وبمثله أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله: { { وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ ٱلْبَسْطِ } [الإسراء: 29] وعن وهيب بن الورد قال لعالم: ما البناء الذي لا سرف فيه؟ قال: ما سترك عن الشمس وأكنك من المطر، فقال له فما الطعام الذي لا سرف فيه؟ قال ما سد الجوعة، فقال له في اللباس، قال ما ستر عورتك ووقاك من البرد، وروي أن رجلاً صنع طعاماً في إملاك فأرسل إلى الرسول عليه السلام فقال: " حق فأجيبوا " ثم صنع الثانية فأرسل إليه فقال: " حق فمن شاء فليجب وإلا فليقعد " ثم صنع الثالثة فأرسل إليه فقال: " رياء ولا خير فيه " وثانيها: وهو قول ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك أن الإسراف الإنفاق في معصية الله تعالى، والإقتار منع حق الله تعالى، قال مجاهد: لو أنفق رجل مثل أبي قبيس ذهباً في طاعة الله تعالى لم يكن سرفاً ولو أنفق صاعاً في معصية الله تعالى كان سرفاً، وقال الحسن لم ينفقوا في معاصي الله ولم يمسكوا عما ينبغي، وذلك قد يكون في الإمساك عن حق الله، وهو أقبح التقتير، وقد يكون عما لا يجب، ولكن يكون مندوباً مثل الرجل الغني الكثير المال إذا منع الفقراء من أقاربه وثالثها: المراد بالسرف مجاوزة الحد في التنعم والتوسع في الدنيا، وإن كان من حلال، فإن ذلك مكروه لأنه يؤدي إلى الخيلاء، والإقتار هو التضييق فالأكل فوق الشبع بحيث يمنع النفس عن العبادة سرف وإن أكل بقدر الحاجة فذاك إقتار، وهذه الصفة صفة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا لا يأكلون طعاماً للتنعم واللذة، ولا يلبسون ثوباً للجمال والزينة، ولكن كانوا يأكلون ما يسد جوعهم ويعينهم على عبادة ربهم، ويلبسون ما يستر عوراتهم ويصونهم من الحر والبرد، وههنا مسألتان:

المسألة الأولى: القوام قال ثعلب: القوام بالفتح العدل والاستقامة، وبالكسر ما يدوم عليه الأمر ويستقر، قال صاحب «الكشاف»: القوام العدل بين الشيئين لاستقامة الطرفين واعتدالهما، ونظير القوام من الاستقامة السواء من الاستواء، وقرىء { قَوَاماً } بالكسر وهو ما يقام به الشيء، يقال أنت قوامنا، يعني ما يقام به الحاجة لا يفضل عنه ولا ينقص.

المسألة الثانية: المنصوبان أعني { بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً } جائز أن يكونا خبرين معاً، وأن يجعل بين ذلك لغواً وقواماً مستقراً، وأن يكون الظرف خبراً وقواماً حالاً مؤكدة، قال الفراء: وإن شئت جعلت { بَيْنَ ذٰلِكَ } اسم كان، كما تقول كان دون هذا كافياً، تريد أقل من ذلك، فيكون معنى { بَيْنَ ذٰلِكَ }، أي كان الوسط من ذلك قواماً، أي عدلاً، وهذا التأويل ضعيف، لأن القوام هو الوسط فيصير التأويل، وكان الوسط وسطاً وهذا لغو.