خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ
٣٣
وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّيۤ أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ
٣٤
قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَاناً فَلاَ يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَآ أَنتُمَا وَمَنِ ٱتَّبَعَكُمَا ٱلْغَالِبُونَ
٣٥
فَلَمَّا جَآءَهُم مُّوسَىٰ بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُواْ مَا هَـٰذَآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَـٰذَا فِيۤ آبَآئِنَا ٱلأَوَّلِينَ
٣٦
وَقَالَ مُوسَىٰ رَبِّيۤ أَعْلَمُ بِمَن جَآءَ بِٱلْهُدَىٰ مِنْ عِندِهِ وَمَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ ٱلدَّارِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ ٱلظَّالِمُونَ
٣٧
-القصص

مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير

اعلم أنه تعالى لما قال: { { فَذَانِكَ بُرْهَانَـٰنِ مِن رَّبّكَ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ } [القصص: 32] تضمن ذلك أن يذهب موسى بهذين البرهانين إلى فرعون وقومه، فعند ذلك طلب من الله تعالى ما يقوي قلبه ويزيل خوفه فقال: { رَبّ إِنّى قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ وَأَخِى هَـرُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنّى لِسَاناً } لأنه كان في لسانه حبسة، إما في أصل الخلقة، وإما لأجل أنه وضع الجمرة في فيه عندما نتف لحية فرعون.

أما قوله: { فَأَرْسِلْهِ مَعِىَ رِدْءاً يُصَدّقُنِي } ففيه أبحاث:

البحث الأول: الردء اسم ما يستعان به، فعل بمعنى مفعول به، كما أن الدفء اسم لما يدفأ به، يقال ردأت الحائط أردؤه إذا دعمته بخشب أو غيره لئلا يسقط.

البحث الثاني: قرأ نافع (رداً) بغير همز والباقون بالهمز، وقرأ عاصم وحمزة (يصدقني) برفع القاف، ويروى ذلك أيضاً عن أبي عمرو والباقون بجزم القاف وهو المشهور عن أبي عمرو، فمن رفع فالتقدير ردءاً مصدقاً لي، ومن جزم كان على معنى الجزاء، يعني أن أرسلته صدقني ونظيره قوله: { { فَهَبْ لِى مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً * يَرِثُنِى } [مريم: 5، 6] بجزم الثاء من يرثني. وروى السدي عن بعض شيوخه ردءاً كيما يصدقني.

البحث الثالث: الجمهور على أن التصديق لهرون، وقال مقاتل: المعنى كي يصدقني فرعون والمعنى أرسل معي أخي حتى يعاضدني على إظهار الحجة والبيان، فعند اجتماع البرهانين ربما حصل المقصود من تصديق فرعون.

البحث الرابع: ليس الغرض بتصديق هرون أن يقول له صدقت، أو يقول للناس صدق موسى، وإنما هو أن يلخص بلسانه الفصيح وجوه الدلائل، ويجيب عن الشبهات ويجادل به الكفار فهذا هو التصديق المفيد، ألا ترى إلى قوله: { وَأَخِى هَـرُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنّى لِسَاناً فَأَرْسِلْهِ مَعِىَ } وفائدة الفصاحة إنما تظهر فيما ذكرناه لا في مجرد قوله: صدقت.

البحث الخامس: قال الجبائي: إنما سأل موسى عليه السلام أن يرسل هرون بأمر الله تعالى وإن كان لا يدري هل يصلح هرون للبعثة أم لا؟ فلم يكن ليسأل مالا يأمن أن يجاب أو لا يكون حكمة، ويحتمل أيضاً أن يقال إنه سأله لا مطلقاً بل مشروطاً على معنى، إن اقتضت الحكمة ذلك كما يقوله الداعي في دعائه.

البحث السادس: قال السدي: إن نبيين وآيتين أقوى من نبي بواحد وآية واحدة. قال القاضي والذي قاله من جهة العادة أقوى، فأما من حيث الدلالة فلا فرق بين معجزة ومعجزتين ونبي ونبيين، لأن المبعوث إليه إن نظر في أيهما كان علم، وإن لم ينظر فالحالة واحدة، هذا إذا كانت طريقة الدلالة في المعجزتين واحدة، فإما إذا اختلفت وأمكن في إحداهما إزالة الشبهة ما لا يمكن في الأخرى، فغير ممتنع أن يختلفا ويصلح عند ذلك أن يقال إنهما بمجموعهما أقوى من إحداهما على ما قاله السدي، لكن ذلك لا يتأتى في موسى وهرون عليهما السلام، لأن معجزتهما كانت واحدة لا متغايرة.

أما قوله: { سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ } فاعلم أن العضد قوام اليد وبشدتها تشتد، يقال في دعاء الخير شد الله عضدك، وفي ضده فت الله في عضدك. ومعنى سنشد عضدك بأخيك سنقويك به، فإما أن يكون ذلك لأن اليد تشتد لشدة العضد والجملة تقوى بشدة اليد على مزاولة الأمور، وإما لأن الرجل شبه باليد في اشتدادها باشتداد العضد فجعل كأنه يد مشتدة بعضد شديدة.

أما قوله: { وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَـٰناً فَلاَ يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا } فالمقصود أن الله تعالى آمنه مما كان يحذر فإن قيل بين تعالى أن السلطان هو بالآيات فكيف لا يصلون إليهما لأجل الآيات أو ليس فرعون قد وصل إلى صلب السحرة وإن كانت هذه الآيات ظاهرة، قلنا إن الآية التي هي قلب العصا حية كما أنها معجزة فهي أيضاً تمنع من وصول ضرر فرعون إلى موسى وهرون عليهما السلام، لأنهم إذا علموا أنه متى ألقاها صارت حية عظيمة وإن أراد إرسالها عليهم أهلكتهم زجرهم ذلك عن الإقدام عليهما فصارت مانعة من الوصول إليهما بالقتل وغيره وصارت آية ومعجزة فجمعت بين الأمرين، فأما صلب السحرة ففيه خلاف فمنهم من قال ما صلبوا وليس في القرآن ما يدل عليه وإن سلمنا ذلك ولكنه تعالى قال: { فَلاَ يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا } فالمنصوص أنهم لا يقدرون على إيصال الضرر إليهما وإيصال الضرر إلى غيرهما لا يقدح فيه، ثم قال: { أَنتُمَا وَمَنِ ٱتَّبَعَكُمَا ٱلْغَـٰلِبُونَ } والمراد إما الغلبة بالحجة والبرهان في الحال، أو الغلبة في الدولة والمملكة في ثاني الحال والأول أقرب إلى اللفظ.

أما قوله: { فَلَمَّا جَاءهُم مُّوسَىٰ بِـئَايَـٰتِنَا بَيّنَـٰتٍ } فقد بينا في سورة طه أنه كيف أطلق لفظ الآيات وهو جمع على العصا واليد.

أما قوله: { قَالُواْ مَا هَـٰذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّفْتَرًى } فقد اختلفوا في مفترى، فقال بعضهم المراد أنه إذا كان سحراً وفاعله يوهم خلافه فهو المفترى، وقال الجبائي المراد أنه منسوب إلى الله تعالى وهو من قبله فكأنهم قالوا هو كذب من هذا الوجه ثم ضموا إليه ما يدل على جهلهم وهو قولهم: { وَمَا سَمِعْنَا بِهَـٰذَا فِى ءابَائِنَا ٱلأَوَّلِينَ } أي ما حدثنا بكونه فيهم، ولا يخلو من أن يكونوا كاذبين في ذلك وقد سمعوا مثله، أو يريدوا أنهم لم يسمعوا بمثله في فظاعته، أو ما كان الكهان يخبرون بظهور موسى عليه السلام ومجيئه بما جاء به.

واعلم أن هذه الشبهة ساقطة لأن حاصلها يرجع إلى التقليد ولأن حال الأولين لا يخلو من وجهين، إما أن لا يورد عليهم بمثل هذه الحجة فحينئذ الفرق ظاهر أو أورد عليهم فدفعوه فحينئذ لا يجوز جعل جهلهم وخطئهم حجة، فعند ذلك قال موسى عليه السلام وقد عرف منهم العناد { رَبّى أَعْلَمُ بِمَن جَاء بِٱلْهُدَىٰ مِنْ عِندِهِ وَمَن تَكُونُ لَهُ عَـٰقِبَةُ ٱلدَّارِ } فإن من أظهر الحجة ولم يجد من الخصم اعتراضاً عليها وإنما لما وجد منه العناد صح أن يقول ربي أعلم بمن معه الهدى والحجة منا جميعاً ومن هو على الباطل ويضم إليه طريق الوعيد والتخويف وهو قوله: { وَمَن تَكُونُ لَهُ عَـٰقِبَةُ ٱلدَّارِ } من ثواب على تمسكه بالحق أو من عقاب وعاقبة الدار هي العاقبة المحمودة والدليل عليه قوله تعالى: { { أُوْلَـئِكَ لَهُمْ عُقْبَىٰ ٱلدَّارِ * جَنَّـٰتِ عَدْنٍ } [الرعد: 22، 23] وقوله: { { وَسَيَعْلَمُ ٱلْكُفَّـٰرُ لِمَنْ عُقْبَى ٱلدَّار } [الرعد: 42] والمراد بالدار الدنيا وعاقبتها وعقباها أن يختم للعبد بالرحمة والرضوان وتلقى الملائكة بالبشرى عند الموت فإن قيل العاقبة المحمودة والمذمومة كلتاهما يصح أن تسمى عاقبة الدار، لأن الدنيا قد تكون خاتمتها بخير في حق البعض وبشر في حق البعض الآخر، فلم اختصت خاتمتها بالخير بهذه التسمية دون خاتمتها بالشر؟ قلنا إنه قد وضع الله سبحانه الدنيا مجازاً إلى الآخرة وأمر عباده أن لا يعملوا فيها إلا الخير ليبلغوا خاتمة الخير وعاقبة الصدق، فمن عمل فيها خلاف ما وضعها الله له فقد حرف، فإذن عاقبتها الأصلية هي عاقبة الخير، وأما عاقبة السوء فلا اعتداد بها لأنها من نتائج تحريف الفجار، ثم إنه عليه السلام أكد ذلك بقوله: { إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ ٱلظَّـٰلِمُونَ } والمراد أنهم لا يظفرون بالفوز والنجاة والمنافع بل يحصلون على ضد ذلك وهذا نهاية في زجرهم عن العناد الذي ظهر منهم.